قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ [المائدة: ٣٩]، أي: " فمن تاب مِن بعد سرقته" (١).
قال مقاتل: " يقول: من تاب من بعد سرقته" (٢).
قال ابن كثير: " أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله" (٣).
قال ابن عباس: " يقول: الحدُّ" (٤).
قال مجاهد: " يقول: «الحد كفارة عنه» (٥). قال ابن عطية: " وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة" (٦).
وقال الشافعي: إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب" (٧).
وقال السمعاني: "الصحيح أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال: ﴿جزاء بما كسبا﴾ فلا بد من التوبة بعده، وتوبته: الندم على ما مضى، والعزم على تركه في المستقبل" (٨).
قال البغوي: " فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين، ولا بد من التوبة بعده، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما صرف من المال عند أكثر أهل العلم" (٩).
قال الراغب: " قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد، ورجى له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رجي له الغفران، ولم يسقط عنه الحد" (١٠).
قال السمرقندي: " والظلم في هذا الوجه يرجع إلى النقصان؛ لأن السارق ينقص مال المسروق، ويجوز أن يكون سمى الله السارق ظالما لأنه يدخل الضرر على من لا يستحقه، وكل ضرر غير مستحق ولا معقب نفعا ظلم، وقد سمي أيضا ظالما؛ لظلمه لنفسه" (١١).
قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: ٣٩]، أي: " وأصلح في كل أعماله" (١٢).
قال مقاتل: " وأصلح العمل فيما بقي" (١٣).
قال الزمخشري: " بالتفصى عن التبعات" (١٤).
قال الراغب: " واشترط إصلاح العمل تنبيها أن التوبة باللفظ غير مغنية ما لم يضامها ما يحققها من الفعل" (١٥).
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٣٩]، أي: " فإن الله يقبل توبته" (١٦).
قال الواحدي: أي: " يعود عليه بالرَّحمة" (١٧).
قال السعدي "أي: فيغفر لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب" (١٨).
قال الثعلبي: " هذا ما بينه وبين الله تعالى فأما القطع فواجب" (١٩).
قال ابن كثير: " فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: "متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها " (٢٠).
قال الزمخشري: أي: "ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه من يشاء من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقطه عن المسلم، لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] " (٢١).
قال ابن عطية: " المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تاب من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله وأصلح أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق فإن الله يتوب عليه ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه" (٢٢).
عن أبي هريرة؛ أن رسول الله ﷺ أتي بسارق قد سرق شملة فقال: "ما إخَاله سرق"! فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به". فقطع فأتي به، فقال: "تب إلى الله". فقال: تبت إلى الله. فقال: "تاب الله عليك" (٢٣).
عن عائشة-رضي الله عنها-: "أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت، في عهد النبي ﷺ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله ﷺ فقال «أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ » فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله ﷺ فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال «أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها»، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (٢٤).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٩]، أي: " إن الله غفور لعباده، رحيم بهم" (٢٥).
قال مقاتل: " إن الله غفور لذنبه رحيم به" (٢٦).
قال الراغب: "جعل علة قبول توبته كونه تعالى غفورا رحيما" (٢٧).
الفوائد:
١ - بيان أن التائب من السراق إذا اصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته.
٢ - إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
(٢) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٤.
(٣) تفسير ابن كثير: ٣/ ١١٠.
(٤) تفسير الطبري (١١٩١٦): ص ١٠/ ٢٩٩.
(٥) تفسير مجاهد: ٣٠٨، وتفسير الطبري: ١٠/ ٢٩٩.
(٦) المحرر الوجيز: ٢/ ١٩٠.
(٧) المحرر الوجيز: ٢/ ١٩٠.
(٨) تفسير السمعاني: ٢/ ٣٧.
(٩) تفسير البغوي: ٢/ ٥٠.
(١٠) تفسير الراغب الاصفهاني: ٤/ ٣٤٨.
(١١) تفسير السمرقندي: ٣٢٦.
(١٢) التفسير الميسر: ١١٤.
(١٣) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٤.
(١٤) الكشاف: ١/ ٦٣٢.
(١٥) تفسير الراغب الاصفهاني: ٤/ ٣٤٨.
(١٦) التفسير الميسر: ١١٤.
(١٧) والوجيز: ٣١٩.
(١٨) تفسير السعدي: ٢٣٠.
(١٩) تفسير الثعلبي: ٤/ ٦٢.
(٢٠) تفسير ابن كثير: ٣/ ١١٠.
(٢١) الكشاف: ١/ ٦٣٢.
(٢٢) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٩.
(٢٣) سنن الدارقطني (٣/ ١٠٢) ورواه الحاكم في المستدرك (٤/ ٣٨١) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان به موصولا وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي.
(٢٤) صحيح مسلم (حدود حديث ٩) وصحيح البخاري (حدود باب ١٢).
(٢٥) التفسير الميسر: ١١٤.
(٢٦) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٤.
(٢٧) تفسير الراغب الاصفهاني: ٤/ ٣٤٨.