قال مقاتل: "نزلت في أبي لبابة: اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصاري من بني عمرو بن عوف. وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه (١) أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان حليفا لهم" (٢).
قال ابن عطية: " وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي ﷺ في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله ﷺ عنه، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة" (٣).
قال ابن عطية: " وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة... وظاهر حديث بيت المدارس (٤) أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي ﷺ مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم" (٥).
وقال القرطبي: " وقيل إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم وهذا أصح الأقوال" (٦).
وقال ابن كثير: " والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه،

(١) وكانت هذه الإشارة معناها أن محمدا-صلى الله عليه وسلم- سيحكم فيكم بالقتل والذبح.
(٢) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٤، ومقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء.
(٣) المحرر الوجيز: ٢/ ١٩١.
(٤) يقصد رواية ابي هريرة، انظر: تفسير الطبري (١١٩٢١): ص ١٠/ ٣٠٣ - ٣٠٤. وفيه: " أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله ﷺ المدينة، وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد ﷺ فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله ﷺ حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، فقال: يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم! فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور وقد روى بعض بني قريظة، أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله ﷺ حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله ﷺ المسألةَ، يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله جل وعز: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ".
(٥) المحرر الوجيز: ٢١٩١.
(٦) تفسير القرطبي: ٦/ ١٧٦.


الصفحة التالية
Icon