والثاني: أن التخيير ثابت، وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع وهذا قول عامر الشعبي (١)، وإبراهيم النخعي (٢).
قال الزجاج: " أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي - ﷺ - مخير بها في الحكم بين أهل الذمة" (٣).
قال ابن عطية: " وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله" (٤).
قال الإمام الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله ﷺ من ذلك في هذه الآية.
وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ﴾ [سورة المائدة: ٤٩]، والنسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾، أنه ناسخٌ قوله: ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط.
وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر ولم يكن عن رسول الله ﷺ خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر" (٥).
الفوائد:
١ - أن الرشوة سُحْتٌ وحرام وباطل، والآية فيها على أن الرشوة عند اليهود أيضا حرام ولولا حرمته عندهم ما عَيَّرَهم الله بقوله: ﴿أكالون للسحت﴾، وهو حرام عند جميع أهل الكتاب.
والرشوة وباء خطير، إذا فشت في المجتمع خرب نظامه، واستطال الأشرار على الأخيار، وأهين الحق، فهي سحت وباطل، وهي من أعظم الحرام- والعياذ بالله-.
٢ - ومنها أن الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني العام، قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة، آية: ٢٥٦].
والأوضاع المدنية والأحوال الشخصية للأقليات، تحكمها شريعة الإسلام إن هم تحاكموا إلينا، قال تعالى: ﴿فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة، آية: ٤٢]، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي ـ عندهم ـ لأصل إلهي: كما سياتي في الآية التالية: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [المائدة، آية: ٤٣].

(١) انظرك تفسير ابن ابي حاتم (٦٣٩٠): ص ٤/ ١١٣٦.
(٢) انظرك تفسير ابن ابي حاتم (٦٣٩٠): ص ٤/ ١١٣٦.
(٣) معاني القرآن: ٢/ ١٧٧.
(٤) المحرر الوجيز: ٢/ ١٩٤.
(٥) تفسير الطبري: ١٠/ ٣٣٣ - ٣٣٤.


الصفحة التالية
Icon