به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي، وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي - أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته " (١).
قال الجصاص: " قوله تعالى: ﴿وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا، وأنه صار بمبعث النبي ﷺ شريعة لنا لم ينسخ; لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ، وأنها حكم الله بعد مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-" (٢).
وفي قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٤٣]، ثلاثة أقوال (٣):
أحدها: حكم الله بالرجم، لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا. وهذا قول الحسن (٤)، والسدي (٥)، واختيار الواحدي (٦).
والثاني: حكم الله بالقود، لأنهم اختصموا في ذلك. وهذا قول قتادة (٧).
والثالث: حكم الله بالرجم للمحصن والمحصنة، والإيمان بمحمد ﷺ والتصديق له. وهذا قول مقاتل بن حيان (٨).
قال الجصاص: " وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود... فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته، وإنما طلبوا الرخصة; ولذلك قال: ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾، يعني: هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة. ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين " (٩).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [المائدة: ٤٣]، أي: "ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان" (١٠).
قال مقاتل بن حيان: " يعني: يتولون عن الحق" (١١)، "بعد البيان" (١٢).
قال الزمخشري: أي: " ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به" (١٣).
قال مكي: " أي: [ثم] يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته" (١٤).

(١) تفسير الطبري: ١٠/ ٣٣٦ - ٣٣٧.
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ٥٤٧.
(٣) انظر: النكت والعيون: ٢/ ٤١.
(٤) انظر: أحكام القرآن للجصاص: ٢/ ٥٤٧.
(٥) انظر تفسير الطبري (١٢٠٠٥): ص ١٠/ ٣٣٧.
(٦) انظر: الوجيز: ٣٢٠.
(٧) انظر: الطبري (١٢٠٠٤): ص ١٠/ ٣٣٧.
(٨) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٦٣٩٥): ص ٤/ ١١٣٧.
(٩) أحكام القرآن: ٢/ ٥٤٧.
(١٠) صفوة التفاسير: ٣١٨
(١١) أخرجه ابن ابي حاتم (٦٣٩٦): ص ٤/ ١١٣٧.
(١٢) أخرجه ابن ابي حاتم (٦٣٩٧): ص ٤/ ١١٣٧.
(١٣) الكشاف: ١/ ٦٣٦.
(١٤) الهداية إلى بلوغ النهاية: ٣/ ١٧٢٥.


الصفحة التالية
Icon