قال المراغي: " أي: أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين- موسى ومن بعده من أنبياء بنى إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا أي لليهود خاصة، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها" (١).
قال الزمخشري: " المعنى: يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبى وعيسى، للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد" (٢).
قال السعدي: " ﴿يحكم بها﴾ بين الذين هادوا، أي: اليهود في القضايا والفتاوى ﴿النبيون الذين أسلموا﴾ لله وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم، وهم صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار" (٣).
وفي قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة: ٤٤]، وجوه (٤):
أحدها: أنهم جماعة أنبياء منهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
والثاني: المراد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وحده وإن ذكر بلفظ الجمع.
والثالث: وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة.
وفي الذي يحكم به من التوراة قولان (٥):
أحدهما: أنه أراد رجم الزاني المحصن، والقود من القاتل العامد.
والقول الثاني: أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ.
قال الماوردي: وقوله: " ﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾، يعني: على الذين هادوا، وهم اليهود" (٦).
وقد اختلفت آراء اللغويين والمفسرين في أصل الكلمة التي اشتقت منها كلمة «يهود»، وسبب تسمية اليهود بهذا الاسم، وذكروا وجوها (٧):
أحدها: أنها من (هاد) بمعنى رجع، سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل.
والثاني: أنما سميت اليهود (يهود)، من أجل قولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [سورة الأعراف: ١٥٦]، أي: تبنا، قاله ابن جريج (٨)، والهائد (٩): التائب، قال الشاعر (١٠):
إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
(٢) الكشاف: ١/ ٦٣٧.
(٣) تفسير السعدي: ٢٣٢.
(٤) انظر: النكت والعيون: ٢/ ٤١، وتفسير القرطبي: ٦/ ١٨٨.
(٥) انظر: النكت والعيون: ٢/ ٤٢.
(٦) النكت والعيون: ٢/ ٤٢.
(٧) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ١٤٣، وتفسير القرطبي: ١/ ٤٣٣، والمحرر الوجيز: ١/ ١٥٧، والدر المصون: ١/ ٤٠٥، واللباب في علوم الكتاب: ٢/ ١٣٣، واللسان، مادة: "هود"،
وتفسير القرطبي: ١/ ٤٣٢ - ٤٣٣.
(٨) أنظر: تفسير الطبري (١٠٩٤): ص ٢/ ١٤٣.
(٩) قيل: (هود): جمع هائد كعوذ جمع عائذ وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف وعلى القول بالجمعية يكون أسم كان مفردا عائدا على من بإعتبار لفظها وجمع الخبر بإعتبار معناها وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه. (انظر: التحرير والتنوير: ١/ ٣٥٩).
(١٠) البيت ورد في تفسير القرطبي: ١/ ٤٣٣، ولم أتعرف على قائله.