..................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكأنه قيل: فإذا أفضتم فأفيضوا مما شرع الله لكم، واذكروه كما أمركم. إلا أنه قَدَّم وأتى بكلمة (ثم) للدلالة على تفاوت ما بين الإفاضتين المستفادتين من تقييد (١) الإفاضة المطلقة المذكورة سابقا بقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ﴾ فإنه يدل على: لتكن إفاضتكم من عرفات، ولا تكن من المزدلفة.
وإنما دل كلمة (ثم) هنا على التباعد بين الإفاضتين؛ لأن التراخي بين مطلق الشاء ومقيده بحالة، فيرجع التفاوت إلى قسمين.
وهذا المعنى غير ما اعتبره في قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٢) فإنه لتفضيل المعطوف على المعطوف عليه في المرتبة (٣).
وفيما نحن فيه لتمييز أحد القسمين عن الآخر في: كون أحدهما صوابا والآخر خطأ.
والتطبيق بين المثال والممثل له: باعتبار أن في كلٍ منهما كلمة (ثم) للتفاوت بين ما دخلت عليه، [وبين متعلق الجملة الأخرى.
ففي المثال: بين ما دخلت عليه] (٤) وهو: الإحسان إلى غير الكريم، وبين الإحسان إلى الكريم، المدلول عليه: بأحسن إلى الناس، مع معاضدة قوله: إلى غير كريم.
_________
(١) إذا كان المطلق: هو المتعري عن الصفة والشرط والاستثناء، نحو: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المجادلة: ٣]، فالمقيد: هو ما فيه أحد هذه الثلاثة، نحو: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢].
والقيّد: إما حرف أو كلمة أو جملة أو شبه جملة يحدِّد ويبيِّن المعنى ويزيد فيه شيئًا جديدًا.
ينظر: الكليات - فصل الميم (١/ ٨٤٨)، معجم اللغة العربية المعاصرة - مادة قيد (٣/ ١٨٨٣).
(٢) سورة: البلد، الآية: ١٧.
(٣) أي: تَرَاخِي المعطوف - الذي هو الْإِيمَانِ - وَتَبَاعُدُهُ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ، عَنِ المعطوف عليه - الذي هو الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ -؛ لِأَنَّ دَرَجَةَ ثَوَابِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرَجَةِ ثَوَابِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. ينظر: تفسير الكشاف (٤/ ٧٥٧)، مفاتيح الغيب (٣١/ ١٧١).
وللعلماء آراء أخرى لمعنى (ثم) في هذه الآية منها:
أنها للتَّرْتِيب فِي الْأَخْبَار، أَي: ثمَّ أخْبركُم أَن هَذَا لمن كَانَ مُؤمنا.
وَيجوز أَن تكون بمَعْنى الدوام: ثمَّ دَامَ على الْإِيمَان حَتَّى الْوَفَاةِ.
وَيجوز أَن تكون (ثم) بِمَعْنى الْوَاو الَّتِي بِمَعْنى (مَعَ) أَي: مَعَ ذَلِك كَانَ من الَّذين آمنُوا.
ينظر: تفسير القرطبي (٢٠/ ٧١)، الكليات (١/ ٣٢٥).
(٤) ما بين المعقوفتين سقط من ب.