تعالى يقول: إن المؤمن من لم تتوجه رغباته إلا إلى خالقه، فهو مع جناب الحق عبد خاضع، ومع الناس حر خالص.
ولما ابتدأ سبحانه وتعالى في هذه السورة بأسماء الذات، ثم دل عليها بأسماء الأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماءً إلى أنه الأول والآخر، ثم ندب إلى اعتقاد العجز والاستشعار بالافتقار، والاعتصام بحوله وقوته اقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال، فقال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ قال علّامة خوارزم في "الكشاف": معنى طلب الهداية وهم مهتدون، طلب زيادة الهدى بمنح الألطاف، كقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧] ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩] وعن علي وأُبيّ رضي الله عنهما: (ثبتنا) (١)، وصيغة الأمر والدعاء واحدة، لأن كل واحد منهما طلب، وإنما يتفاوتان في الرتبة، انتهى.
وكلامه كلام مدقق، أخذ بمعصم البَلاغة، فانقادت إليه لكنّها لم تكشف له الحجاب عن جميل محيّاها، وإن شئت التمتع بنظرة من ذلك الجمال الباهر، فقل: إن آخر كل سورة له مناسبة وتعلق بأول السورة التي بعدها، وآخر سورة الناس التي هي آخر القرآن في الترتيب، له مناسبة بسورة الفاتحة التي هي أوله.
ولما طلب الله تعالى من عبده في سورة الناس الاستعاذة من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس، ثم عمم ذلك الموسوس، فقال: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ وقف العبد وقفة المنتبه، وعلم أن له أعداء من الجن والناس، لا يريدون منه أن يكون منفصلًا عنهم تاركًا لسبيلهم، فإذا رأوه على الصراط المستقيم، احتالوا كل لحظة في رجوعه عنه، وجدّوا في جذبه إلى طريق المغضوب عليهم والضالين، فهو ملعبة للأهواء، وللنفس الأمارة بالسوء، وأراد الخلاص من هذا الأمر الملم به، فلم يجد مرشدًا حقيقيًا إلا مَنْ أمره

(١) أي تفسير اهدنا (ثبتنا).


الصفحة التالية
Icon