إلى بيانه وإيضاحه، وتوجهت رغبات السالكين في ذلك إليه تعالى، فبين لهم تعالى في أوائل السورة التي تليها، أن الهدى المسؤول عنه هو ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ثم وصفه بأوصافه اللائقة به وبأنه ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، ثم ندد بالمرتابين، وبأنه ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فكأنه قال: ذلك الصراط المستقيم الذي تطلبونه، هو هذا الكتاب.
وثانيهما: أن اسم الإشارة، راجع إلى ما نزل من القرآن، قبل نزول هذه السورة، وقد يسمَّى بعض القرآن قرآنًا مجازًا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] وقال تعالى حاكيًا عن الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١)﴾ [الجن: ١] وهم لم يسمعوا إلا بعضه، والأقرب في إعراب هذه الجملة، أن يجعل ﴿ذا﴾ مبتدأ خبره ﴿الْكِتَابُ﴾، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو "الكتاب" صفته، والخبر ما بعده.
وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، ومنه حديث الحسن بن علي مرفوعًا: "دع ما يريبك إلى ما لا يُريبك" (١)، ثم أطلق الريب على الشك لأنه يقلق النفس، ويزيل الطمأنينة، والمعنى: أن العاقل إذا تأمل براهينه السّاطعة، وآياته الواضحة، لا يبقى عنده ريب في أنه من عند الله تعالى، وأنه بالغ حد الإعجاز، وليس الأمر ههنا على سبيل الفرض، بل هو على سبيل القطع واليقين، فإن العرب مع بلوغهم النهاية في الفصاحة، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور، إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، فالمقصود نفي الريب عنه في حد ذاته، لا نفي أن أحدًا لا يرتاب فيه، وهذا كقولك: إن العسل لا ريب في أنه حلو، فهو في حد ذاته حلو بلا ريب، ولكن قد يأتي صاحب فم مريض فيجده مرًّا، فتكون الآفة من الفم لا من العسل.
ثم إن قراءة نصب ريب التي هي المشهورة، توجب ارتفاع الريب بالكلية، لأن هذا التركيب يدل على نفي الماهية، ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفرادها، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، والدليل

(١) هو في "صحيح الجامع الصغير" للألباني، ترتيب زهير الشاويش. رقم (٣٣٨٨).


الصفحة التالية
Icon