بالغيب، وبما بعده، وبعبارة أخصر، إن أردت التفاوت في درجات التقوى، فهذا صحيح، لأن التقوى لها درجات بعضها أعلى من بعض، قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] وإن أردت غير ذلك من أنواع الزندقة، ككون الولي هو من يتصرف في الكون كيف شاء، وأنه أعلى مقامًا من الأنبياء والرسل، وأنه يشارك الله في أفعاله المنفرد بها، فقد خالفت صريح الكتاب العزيز، وافتريت على الله وعلى رسله وأنبيائه، وأتيت بصفة لا يوجد أحد في الكون متصف بها، فأنكرت الولاية من حيث هي، لأن وجود شخص بأوصاف مستحيلة مستحيل، وسجلت على نفسك بالكذب لأنك تدعي الولاية، ولم تتصف بشروطها التي وصفت، وكذلك ادعيت الولاية لبعض من تعتقدها فيهم عندك، ثم إنك نفيتها عنهم بشروطك التي اشترطتها، فما أشد انسلاخك عن العلم، وغرقك في بحر الجهل، فارتد مبهوتًا.
وفي قوله: ﴿هدى للمتقين﴾ إشارة إلى أنهم المهتدون به، والمنتفعون بنصبه، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر فيه من أفراد البشر، كما قال تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ (١)، فالناظرون فيه، منهم من يكون على قلبه غطاء التعامي المورث عن الآباء والأجداد، أو يكون منطمس البصيرة، لا يفقه الحق ولا يمكنه أن يرجع إليه، فهؤلاء لا يهتدون به، وإن كان هو في الحقيقة هدىً، ومنهم من منّ الله عليه بصقال العقل، فاستعمله في تدبر الآيات، والدلائل، والنظر في المعجزات، وتعرف النبوات، فجعل هذا الكتاب إمامًا له، وهاديًا في كل طريق يريد سلوكه، وكلما أشكل عليه أمر في سيره رجع إليه، فاقتبس من أنواره، فكان له كالغذاء الصالح لحفظ الصحة.
فالدواء المذكور، كما أنه يحفظ صحة الجسم، كذلك الهداية والعرفان المستفادان من القرآن، كل منهما صالح لحفظ صحة الروح، وكما أن الدواء المذكور لا يجلب نفعًا إلا إذا كانت الصحة حاصلة، كذلك هدى القرآن، لا ينفع إلا إذا كانت العقول سليمة، وأما العقول المريضة، فإن دواء الصحة لا ينفعها، وإلى هذا السر أشار تعالى بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ

(١) سورة البقرة: الآية ١٨٥، وسورة آل عمران: الآية ٤، وسورة الأنعام: الآية ٩١.


الصفحة التالية
Icon