خزائننا، وهو لنا دونهم، ينفقون في مرضاتنا، مما هو لازم لهم، من الزكاة، والحج، والجهاد، والنفقات الواجبة، ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها؛ والمراد من هذه الأفعال، إيجاد حقائقها على الدوام، لأن المضارع، وهو قوله: ﴿ينفقون﴾ هنا، قد لا يلاحظ به زمان معين، من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، قاله: "أبو حيان" في تفسيره في سورة الحج. وعمم بعض المفسرين في قوله: ﴿ومما رزقناهم﴾ فجعله شاملًا لجميع النعم الظاهرة، كالمال، والباطنة كالعلم، والجاه وحسن الأخلاق، فقال: ومما خصصناهم به من أنواع المعرفة، يفيضون على غيرهم. وهو معنى حسن وتعميم لطيف.
ولما وصفهم بإيمان جملة، أشار إلى بعض تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولًا أوليًا فقال:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
الإيمان إذا عدي بالباء كان معناه التصديق، وهنا يراد به التصديق مع المعرفة، لأنه خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشك، ولا يؤمَنُ أن يكون كاذبًا، فهو إلى الذم أقرب، والآية متصلة بما قبلها اتصال الصفات بعضها ببعض، والصفات إذا تكررت جاز توسط العاطف بينها، قال الشاعر:

إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام وليثِ الكتيبة في المزدَحَمْ (١)
فعطف الصفات بالواو، والمعنى: أن المتقين هم الجامعون بين تلك الصفات، وعلى هذا، فهذه الآية بيان للإجمال الواقع في قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، لأن الايمان بالكتب المنزلة، يندرج تحت الإيمان بالغيب، وأيضًا فإن الإيمان بما أُنزل إلى النبي - ﷺ -، وبما أنزل من قبله، مشترك بين المؤمنين قاطبة، فلا وجه لقول بعض المفسرين: أراد بالذين يؤمنون مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومما يُبْعِدُ، أَنَّا لا نعلم أن هذه الآية
(١) هو في "تفسير الكشاف" ١/ ١٠٢.


الصفحة التالية
Icon