من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدي بها إلا العلماء؟ ".
ولما لم يكن الهدى دالًا على الفلاح بدلالة الالتزام، عطف عليه قوله: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾، أي: أن أصحاب تلك الرتبة هم أهل الظفر بالمطلوب، كأنهم هم الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، ولم تستغلق عليهم، وفي تكرير ﴿أولئك﴾، إشارة إلى أنه كما يثبت لهم الأثرة، وهي التقدم بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الأثرتين في تميزهم بها عن غيرهم، بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حياتها، وأنت خبير بأن أرباب تلك المرتبة، الموصوفين بالصفات المتقدمة اتصافًا كاملًا، هم المخصوصون بالفلاح، ولا يختص بذلك، إلا أولو النباهة والذكاء، الذين ينفون عن كتاب الله انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الضالين، وهؤلاء لا يخلو منهم زمان، ولا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، كما أخبرت بذلك الأحاديث الصحيحة، وأتباعهم هم المفلحون أيضًا، لأن السائر بسير المفلح مفلح، وهؤلاء هم الأبدال.
وقد روى ابن ماجه عن أبي عنبة الخولاني- بالنون بعد العين-، وكان قد صلى إلى القبلتين مع رسول الله - ﷺ -، أنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته" (١) ومعناه: لا يزال الله يوجد في أهل هذا الدين ولدًا ينبته إنباتًا كما قال: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾ [نوح: ١٧]، وهذا الولد يستعمل أهل الدين في طاعته، أي: في طاعة الدين، والدّين إنما هو الإيمان بالغيب، وفعل ما عطف عليه في هذه الآية، وحكى "ابن مفلح" في كتابه "الآداب الشرعية الكبرى" عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه قال في شرح "لا يزال الله يغرس" إلى آخره، هم: أصحاب الحديث. ونص أحمد على أن لله أبدالًا في الأرض، وقال أيضًا عنهم: إن لم يكونوا، يعني: الأبدال، هؤلاء