وأن يقرأ "يَكذبون" بفتح الياء، ليكون الوعيد منه لهم، على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أعمالهم، وذميم أخلاقهم، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم، ولك أن تأخذ هذه القاعدة وتسير بها في تفسير كل ما رأيته من هذا النمط، ليتضح لك دقائق الختام من ملاءمته للبدء، كان جعل "يُكذبون" بضم الياء، من "كَذَّب" بتشديد الذال المعجمة، على معنى الدلالة على قوة الكذب، وعظمه، كما يدل بين المشدد والياء، على كمال ظهور الشيء واتضاحه كأنه قيل: يكذبون كذبًا عظيمًا، أو جعل "يكذبون" بمعنى الكثرة، في الفاعل، كقولهم: "مَوَّت الإبل"، بتشديد الواو، استقام المعنى، وعاد التكذيب إلى كذبهم الذي كذبوه في أول الخبر.
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم، أتبعه من وصف الظاهر ما يدل على الباطن، فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادعوا الصلاح العام فقال:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)﴾.
والمعطوف بالواو هنا، يصح أن يكون معطوفًا على "يكذبون"، ويكون المعنى: ﴿ولهم عداب أليم بما كانوا يكذبون﴾، وبالذي ﴿إذا قيل لهم لا تفسدوا﴾، ومعناه: أن العذاب الأليم الذي وُعدوا به، مسبب عن كذبهم، وعن فسادهم في الأرض، لما في تينك الخصلتين من القبح الواجب على كل عاقل أن يحترز عنه، والصناعة النحوية لا تمنعك من عطفه على ﴿آمنا﴾، ويكون المعنى: ومن الناس ناس إذا قيل لهم لا تفسدوا، وعلى هذا الوجه تكون الآيات على نمط تعديد قبائحهم، وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالًا، وقصدًا، ودلالتها على أن لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم، فما ظنك بسائرها، ولطافة هذا المعنى لم ترتق إلى درجة حسن المعنى الأول، ولا إلى لطافته، حيث إنه لم يجعل المفسدين في الأرض مشاركين لمن قبلهم في العذاب الأليم، بخلاف المعنى الثاني، فإنه جعلهم مشتركين فيه.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته، وعن كونه منتفعًا به، ونقيضه الصلاح، وهو: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، كما قال الله تعالى


الصفحة التالية
Icon