الله وقد كتبه عنه الصحابة كل بحسب معرفته لا كما أمر بذلك رسول الله الذي كانت معجزته أن يكون قارئًا لا كاتبًا ولم يرد عنه أنه ﷺ كان يعلم الناس قواعد الكتابة أو أن هذا الخط كان توقيفيًا عن رسول الله فلم يرو عنه ﷺ حديث واحد بهذا على كثرة ما رُوِيَ عنه في مختلف المواضيع بل إن سيدنا عثمان لما أمر بجمع المصاحف وتوحيدها اختلف زيد بن ثابت ومن معه مرة في كتابة كلمة (التابوت) أيكتبونها بالتاء أو بالهاء؟ فرفعوا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فقال: اكتبوها بالتاء، الأمر الذي يدل على أن هذا الرسم ليس توقيفيًا عن رسول الله وإلا لقال لهم زيد بصفته كاتب وحي رسول الله إن النبي أرني بكتابتها بالتاء أو لقال عثمان لزيد اكتبها بالكيفية التي أملاها عليك رسول الله، بل إن المصاحف التي أرسلها سيدنا عثمان بعد ذلك إلى المدن لم تكن برسم واحد، وغير هذا فالمصحف لم يكن في الأصل منقوطًا ولا مشكولًا، وأول من شكله أبو السود الدؤلي وأول من أمر بنقطه الحجاج بن يوسف الثقفي خوفًا من الخطأ والتصحيف فيه، كما أثبت هذا وتكلم فيه بإسهاب علم من أعلام الخط في الحجاز اليوم هو الأستاذ «محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي» في كتابه (تاريخ القرآن) وغرائب رسمه وحكمه، الأمر الذي جعلني أعتقد بضرورة طبعه وفق القواعد الحديثة المفهومة في هذا العصر ليسهل على كل قارئ تلاوته، ولهذا بادرت بطبعه بالخط الإملائي ووضعت الشرح في الأطراف ممزوجًا بألفاظ القرآن نفسها لزيادة الإيضاح، ونحوت فيه نحوًا جديدًا يحقق الغاية التي من أجلها أنزل وهي: بث روح التدين في النفوس وإن كنت اعتقد أن بعض المشايخ الذين لا يهمهم فهم الناس للقرآن والنطق به نطقًا صحيحًا بقدر ما يهمهم اتباع ما قاله مشايخهم من ضرورة المحافظة على رسمه العثماني وما قاله كبار المفسرين سوف لا ترضيه هذه الجرأة التي أقدمت عليها ابتغاء مرضاة الله بل ربما حارب هذا التفسير من أجلها والله المستعان. وبعد أن أتممت طبع الأجزاء الثلاثة من هذا التفسير (عم وتبارك وقد سمع) رأيت أن أعيد طبع الأجزاء الأولى وما بعدها بالترتيب إلى النهاية على النمط الأخير، مع شيء من التعديلات التي فتح الله بها علي وأرجو أن أكون قد وفقت بطريقتي هذه لإيضاح معاني القرآن وتبسيطه تبسيطًا لا يجعل لأحد من قارئيه عذرًا في عدم فهمه، والقرآن بعد هذا كفيل باستنارة العقول وجذب القلوب إلى الله، وهدايتها إلى سواء السبيل. فالقرآن من شأنه أن يكشف عن البصر والبصيرة وينقي السر والسريرة، ويدفع
مرضاة الله، بل هو الحق من ربك الذي قضى به من قبل ولا دخل للرغائب فيما أراده مولاك ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ وقرئ ﴿يعملون﴾ أي من بعد هذا، وسيجزي الممتثل بالثواب، والمخالف بالعقاب ﴿ومن حيث خرجت﴾ وإلى أي بلد يممت ﴿فول وجهك شطر المسجد الحرام﴾ فاحرص أن تجتهد في معرفة سمت القبلة بالأدلة والعلامات ليكون اتجاهك ثابتًا إلى المسجد الحرام ﴿وحيث ما كنتم﴾ وأينما حللتم ﴿فولوا وجوهكم شطره﴾ إما يقينًا أو ظنًّا ﴿لئلا﴾ وقرئ ﴿ليلا﴾ بحذف الهمزة ﴿يكون للناس عليكم حجة﴾ أي لئلا تختلف وجهاتكم فيتخذ الناس من ذلك عليكم حجة، إذ يقولون إن قبلة اليهود صخرة بيت المقدس، وقبلة النصارى جهة المشرق وكلاهما معلومة؛ أما هؤلاء فمضطربون في قبلتهم ﴿إلا الذين﴾ وقرئ ﴿لا الذين﴾ ﴿ظلموا منهم﴾ أي المعاندين من أهل الكتاب فإنهم يترجحون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وليست بحجة ﴿فلا تخشوهم﴾ فلا يهمكم طعونهم ما دمتم قد سهلتم السبيل إلى معرفة القبلة ﴿واخشوني﴾ بحرصكم جميعًا على التوجه إليها تنفيذًا لأوامري ﴿ولأتم نعمتي عليكم﴾ لتنعموا من الله بنعمة من أجلّ النعم هي وحدة الاتجاه ﴿ولعلكم﴾ بهذا ﴿تهتدون﴾ إلى ما يقتضيه هذا الاتحاد في الاتجاه إلى القبلة من ضرورة العمل المشترك لحمايتها وصيانتها من الرجس الحسي والمعنوي، بحيث يجد الطائفون والعاكفون والمصلون حيالها كامل حريتهم الدينية ﴿كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم﴾ كما أنعمنا عليكم من قبل بجعل الرسالة فيكم ببعثة هذا النبي العربي الذي عهدنا إليه أن ﴿يتلو عليكم آياتنا﴾ التي من شأنها أن تؤثر في القلوب وتجتذبها إلى باريها ﴿ويزكيكم﴾ يطهركم من سيئ الأخلاق، وضعف النفوس، وأعمال الجاهلية، ويخرجكم من ظلمات الجهل إلى نور الهداية، ﴿ويعلمكم الكتاب﴾ وهو القرآن وما فيه من دراسات واسعة، وثقافة كاملة ﴿والحكمة﴾ التي تضمنها القرآن من أسرار الشريعة وسائر أحكامها بسيرته وسنته المحمدية ﴿ويعلمكم﴾ كيف يمكن أن تدركوا بقوة الفكر ﴿ما لم تكونوا تعلمون﴾ من العلوم والصناعات، والفنون، وأسرار الكائنات، والمخترعات ﴿فاذكروني﴾ أي فتأملوا في الآيات الدالة على قدرتي وعظمتي في كل ما هو مشاهد لكم من الأشياء لتعترفوا لي بتوحيد الربوبية
ما بين أيديهم وما خلفهم) فماذا يقول الشفيع في شفاعته؟ (ولا يحيطون بشيء من علمه) أي وهم لا يدركون ما يعلم الله من أسرار عباده الخفية التي توجب الجزاء، أو تستدعي العقاب (إلا بما شاء) من الأمر الذي يشاء الله إعلامهم به من تعلق إرادته بالعفو عمن يريد من عباده لمحض الرحمة أو لسبب خفي سابق صادر منه كالتوبة أو وجود الصلة وحسن النية وتوفر الثقة، فيأذن الله لمن شاء بالشفاعة لهم بطلب الرحمة والغفران، ولقد وعد الله نبيه بهذه الشفاعة ولهذا روى في الحديث: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» كما روي عنه أن جميع الرسل يوم القيامة يحجمون عن الشفاعة إلا هو ﷺ فإن الله يلهمه من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبله فيأتي ويقع ساجدًا لربه تحت العرش ويتلو ما فتح الله به عليه فيقال له ارفع رأسك أسأل تعط واشفع تشفع. (وسع كرسيه) قاعدة ملكه (السموات والأرض) لعظمته وسمو مكانته، فهما وما فيهما تحت قبضته، وفي حراسته (ولا يؤوده) أي لا يشق عليه (حفظهما) بالحالة التي أنشئتا من أجلها وعلى مقتضى النظم التي رسمت لهما في سيرهما حرصًا عليهما وما فيهما من المخلوقات ورحمة منه وإشفاقًا وتفضلًا وإحسانًا، فهو أرحم بعباده من جميع الراحمين دون حاجة إلى شفاعة الشافعين (وهو العلي) الذي تتضاءل أمام عليائه سيئات الأعمال وعظائم الذنوب (العظيم) صاحب القدرة والإرادة العامة النافذة من غير شريك، ولا منازع فهو المنفرد بالألوهية والوحدانية، فليس من المنطق الصحيح، ولا من العقل الراجح أن يتقاعس الإنسان عن أداء الواجبات ويمعن في ارتكاب المحرمات اعتمادًا على شفاعة الشفعاء لنيل الرضا والغفران.
بعد أن ذكر الله المؤمنين في الآية السابقة بذاته العلية ليخلصوا له العبادة وينتهوا عن كل ما يؤدي إلى الشرك من الأمل في غير الله وانتظار النفع من سواه حتى ولو بطريق الشفاعة، أراد أن يفهمهم حقيقة أخرى هي أن عدل الله الذي لم يسمح بشفاعة أحد في حكمه لم يكره الناس على اتباع دينه بل جعل الناس أحرارًا فيما يتخيرون فقال (لا إكراه في الدين) أي لا يمكن ولا يتصور أن يكون في الدين إكراه لأن الإيمان هو أساس الدين وهو عبارة عن اليقين وإقناع النفس، ويستحيل أن يكون هذا بالإلزام والإكراه وإنما يكون بالدليل والبرهان، ولما كان الإسلام قائمًا على أساس الحجج والآيات بعيدًا عن التأثير بخوارق العادات. قال تعالى: بعد نفي الإكراه (قد تبين) ظهر الآن بما جئت به أيها الرسول من شريعة الإسلام (الرشد من الغي) والصواب من الخطأ فلم يعد
يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَاءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)
الذي جعل لكل من الجنسين استعدادًا خاصًّا يؤهله لأعمال خاصة يؤديها في الحياة فإذا ما حاول أي جنس منهما الاشتغال بأعمال الآخر، فإنه لا يضر إلا نفسه، ويؤدي ذلك إلى الفوضى وفساد المجتمع، وها نحن نرى بأعيننا مصداق كلام الله ونتيجة تجاوز كل من الرجل والمرأة حدود ما تخصص له من الأعمال، ومشاركة المرأة الرجل في الجندية ولبسها لبسة الجنود فقد شغل النساء بالوظائف وأصبح الكثير منهن عوانس وخلت الدور من سيدات يشرفن على تربية أولادهن وتلقينهن الفضيلة ومكارم الأخلاق ﴿ولكل﴾ من الرجال والنساء الذين جعلنا لهم نصيبًا مما اكتسبوا ﴿جعلنا﴾ منهم ﴿موالي﴾ أصحاب ولاية ﴿مما ترك﴾ أي المال الذي يتركه الميت من دون أن يكون لهم أي كسب في ذلك وهم ﴿الوالدان والأقربون﴾ أي جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج فهذا مما يعينهم على تأمين حاجاتهم في الحياة ﴿والذين عقدت أيمانكم﴾ أي: من اعتقدتموهم من ـ ملك اليمين ـ ﴿فآتوهم نصيبهم﴾ الذي فرضه الله لهم والذي يستحقونه بحكم الولاء، عند فقدان العصبة الخاصة. روى الترمذي عن ابن عباس وحسنه إن رجلًا أعتق عبدًا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله ﷺ ميراثه للغلام المعتق ﴿إن الله كان على كل شيء﴾ من تصرفاتكم في أموال التركات ﴿شهيدًا﴾ فلا تحاولوا أن تخفوا عن صاحب حق حقه إذا لم يكن يدري به أو لا يعلم بمقدار ما يخصه فالشاهد عليكم اليوم هو القاضي بينكم يوم القيامة.
بعد أن نهى الله الرجال والنساء من أن يتمنى كل منهما أن يكون له ما للآخرين من فضائل خشية أن يزاحمه في أعماله التي تخصص لها بطبيعة تكوينه فتعم الفوضى ويختل النظام العام أشار إلى ما هو أدعى من ذلك وأعظم وزرًا لما يؤدي إليه من إشعال نار
(وَإِسْمَاعِيلَ) ابن إبراهيم الأكبر الذي هو جد خاتم النبيين محمد ﷺ (وَإِسْحَاقَ) الابن الثاني لإبراهيم (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق نافلة إبراهيم واشتهر بلقب إسرائيل (وَالْأَسْبَاطِ) جمع سبط وهو ولد الولد وهم اثني عشر سبطاً أبناء يعقوب وهم أول أنبياء بني إسرائيل (وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) وكلهم من الأنبياء المعترف بنبوتهم (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) الزبور كل كتاب غليظ الكتابة وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب السماوية ويختلف عنها في طريقة التنزيل ولعل الملك كان يأتي إليه ويسلمه نصوصا مكتوبة يستطيع هو وحده فهم ما حواها ولذا سمي زبوراً (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل تنزيل هذه الآية (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كالذين أرسلوا إلى الهند والصين واليابان وأوربة وأمريكا وغيرها من الأمم التي لا تعلمها ولا يعلم بها قومك فلا حاجة إلى ذكرهم لئلا يكذبوك أيضا في أمرها مع أن الرسالة إليهم من عند الله ثابتة من قوله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقوله (إنا أرسلناك بالحق بشير ونذيرا) (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) أي كلاما مسموعاً مفهوما متبادلا من وراء حجاب إذا قال الله تعالى (إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) وهذا إتمام لبيان ضروب الوحي الثلاث التي أثبتها الله في كتابه بقوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء) (رُسُلًا) أي وقد كان كل أولئك رسلاً
<١٢>
من قبل الله (مُبَشِّرِينَ) من آمن وعمل صالحاً بالأجر العظيم (وَمُنْذِرِينَ) من كفر وأجرم بالعذاب الأليم (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي لئلا يدافعون عن كفرهم وإجرامهم بالجهل وقصر نظرهم عن الإيمان بوجود الله ووحدانيته وعدم علمهم بما يرضيه ويغضبه وقد فسدت تلك الحجة بإرسال الرسل (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي فإذا أصر اليهود على إنكارهم لما أوحي به إليك وجحدوا فحسبك أن الله يشهد بما أنزل إليك (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي بحسب ما يعلمه من شؤون
آمنوا} بالله من الأحياء والميتين ﴿وعملوا الصالحات﴾ التي دعاهم الله لإتيانها ﴿جناح﴾ أي إثم فلا يؤاخذون عليه ﴿فيما طعموا﴾ أي أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها ﴿إذا ما اتقوا﴾ في ذلك العهد ما كان محرمًا عليهم ﴿وآمنوا﴾ بما أنزل الله من آيات ﴿وعملوا الصالحات﴾ التي أمر الله بها من الصلاة والصيام والجهاد ﴿ثم اتقوا﴾ ما حرمه الله بعد ذلك من الخمر والميسر عند العلم به ﴿وآمنوا﴾ بأن ذلك لم يكن إلا لخير الإنسان ومصلحته ﴿ثم اتقوا﴾ الوقوع في الإثم من كل أمر لم يرد فيه نص صريح ﴿وأحسنوا﴾ بترك ما أشتبه عليهم أمره خوفًا من الله ﴿والله يحب المحسنين﴾ أعمالهم وهم الذين يراعون في جميع تصرفاتهم وجه الله والتقرب إليه.
لقد افتتح الله هذه السورة بقوله: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم﴾ ثم نهى سبحانه عباده المؤمنين عن تحريم الطيبات وحضهم على أكل ما حل وطاب ثم استثنى من ذلك ما كانوا يستطيبونه من الخمر والميسر وقال: إنهما رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه ثم أراد أن يشعرهم بأنه إذا كان هناك ما هو حلال وطيب بلا جدال وحرمه الله عليهم في وقت معين فليس من حقهم أن يعصوا أمره بل عليهم أن يعلموا أنه لا بد وأن يكون لذلك من حكمة بينها سبحانه وتعالى بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم﴾ أي ليختبر طاعتكم من معصيتكم ﴿الله بشيء من الصيد﴾ أي صيد البر في حال إحرامكم أو في أرض الحرم ﴿تناله أيديكم ورماحكم﴾ أي يدنو منكم ويصبح ميسورًا عليكم. قال مقاتل بن حيان أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم بشكل لم يروا مثله قط فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون كما نهى بني إسرائيل عن صيد البحر في يوم السبت ﴿ليعلم الله﴾ علم تسجيل للواقع الثابت الذي يجزي الله بمقتضاه ﴿من يخافه بالغيب﴾ فلا يقدم على الصيد ولا يحتال للحصول عليه بوسائل أخرى كما فعل بنو إسرائيل ﴿فمن اعتدى بعد ذلك﴾ البيان والإشعار بأن الغاية منه إنما هي الاختبار وفشل فيه ﴿فله عذاب أليم﴾ لأنه لم يبال باختبار الله له وسجل على نفسه أنه ممن لا يخاف الله بالغيب كما يخاف من سيطرة الحكام ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد﴾ من كل ما يؤكل لحمه أما ما لا يحل أكله فلا يسمى صيدًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم. الغراب والحدأة
وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق" وهنا توعد الله المجرمين الماكرين الذين قضت سنته أن يكونوا أكابر وزعماء في كل قرية استفحل فيها الفساد بقوله: ﴿سيصيب الذين أجرموا صغار﴾ أي ذل وهو أن جزاء الكبر والطغيان ﴿عند الله﴾ أي في الحقيقة وواقع الأمر وإن كانوا في نظر الناس عظماء لأن عظمتهم لم تقم على أساس مستمد من تأييد الله بل على المكر والخداع والفساد الذي لا يلبث أن ينهار ﴿وعذاب شديد بما كانوا يمكرون﴾ أي جزاء مكرهم وسوء سياستهم وقد ظهر لنا أثر هذا الصغار أو العذاب اللذين توعد الله بهما المجرمين في أذناب الاستعمار من الملوك المزيفين والوزراء المأجورين الذين قبلوا أن يكونوا أداة في أيدي المستعمرين ينفذون سياستهم ويحققون مآربهم لقاء ما منحوه لهم من مراكز عالية وألقاب ضخمة أكسبتهم ذلًّا وصغارًا في نظر المجتمع ولم تغنهم من عذاب الله شيئًا بل نالوا جزاءهم على أيدي أبناء الشعب في الدنيا قبل الآخرة فقد قضت سنة الله في الخلق أن يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾.
بعد أن بين الله حقيقة الضلال وكيف يجلبه الإنسان لنفسه تمشيًا مع سننه في خلقه وما يبدو من أقوال المجرمين وإصرارهم على الكفر والضلال أخذ يفصل موقفه جل جلاله حيالهم فأكد أنه لن يعاجلهم بالعذاب حتى يشعرهم بما هم عليه من هدى أو ضلال بما سنه من سنن في معاملتهم لا تخفى عليهم ليتنبهوا ويعرفوا إن كانوا على هدى فيحمدوا الله أم على ضلال فيرجعوا إلي عن ضلالهم فقال ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجًا كأنما يصعد في السماء﴾ لقد اتخذ المفسرون من هذا دليلًا على أن الهدى والضلال كلاهما عائدان إلى ما يقضي به الله على الإنسان من أول عهده بالحياة بمحض الإرادة أي الرغبة المتعلقة بذات الله منذ الأزل الأمر الذي سبب زلل الكثير من الناس الذين قالوا إذا كان الهادي والمضل هو الله ولا قدرة للعبد على الوقوف أمام إرادته تعالى فلا بد أن يكون الناس مسيرين لا مخيرين وليس من العدل حسابهم وعقابهم وحاول المفسرون أن يحلوا هذا الإشكال بمختلف التأويلات عند تفسيرهم لهذه الآية وما شابههما من الآيات فلم يوفقوا لإقناع النفوس المتحيرة خصوصًا في عصر هذا وكان مما فتح الله به علي في هذا الباب هو أن الإرادة غير المشيئة وهي بمعنى الرغبة المضمرة الخفية في النفس يقال أراد الشيء إذا عزم عليه أو عني به قبل أن ينفذه ومتى تجاوزت ذلك إلى حد التعبير عنها بالقول كانت طلبًا وأمرًا أو إلى حد التنفيذ بالفعل كانت مشيئة وعلى هذا فإن إرادة الله الحقيقية سر من أسراره الخفية التي لا يعلم بها ولا
بعد أن نبه الله الأفكار إلى أن عذاب الاستئصال الذي أصاب من تقدم من الأمم كان قائمًا ************ فيحذروا أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم وجه الخطاب إلى النبي ﷺ مكاشفًا له عن السبب الرئيسي في ضلال أولئك القوم وما أصابهم من العذاب وما سيكون أيضًا سببًا رئيسيًا في كفر الكافرين إلى يوم الدين فقال ﴿تلك القرى﴾ التي مر ذكرها وتقادم العهد عليها من قوم نوح إلى شعيب ﴿نقص عليك﴾ الآن ﴿من أنبائها﴾ أي نذكر لك من أخبارها ما فيه العظة والعبرة لقومك ﴿ولقد جاءتهم﴾ أي أهل تلك القرى ﴿رسلهم بالبينات﴾ الدالة على صدق دعوتهم أي إن كل رسول جاء قومه بما أعذر به إليهم ﴿فما كانوا ليؤمنوا﴾ بالله وبما جاء من عنده بعد رؤية المعجزات ﴿بما كذبوا من قبل﴾ أي بسبب إصرارهم على ما جبلوا عليه من تكذيب الرسل وعدم تصديقهم لكل أمر لم تتسع له مداركهم قبل بعثة الرسل تمسكًا بتقليد الآباء فيما توارثوه عنهم من العقائد وسيئ الأعمال ﴿كذلك﴾ أي ومن أجل هذه العلة من الإصرار على تقليد الآباء برغم توافر البينات ﴿يطبع الله على قلوب الكافرين﴾ أي اقتضت سنة الله في أخلاق الأمم أن يأنس الكافر بما كان عليه آباؤه حتى يتمكن حبه في قلبه ويصبح عقيدة له يدافع عنها ولا يقبل فيها نقدًا ولا بحثًا شأنه في ذلك كشأن المعدن الخام إذا صهر وذاب وطبع عليه نقش ثم جمد فإنه لا يقبل نقشًا آخر إلا أن يعاد صهره ونقشه من جديد وهذا أمر يستدعي الرسل وخلفاءهم أن يبذلوا جهودًا جبارة في سبيل الدعوة إلى الله وبيان فضل الشرائع التي جاءت من عنده حتى يقضوا على ما وقر في أذهان الناس من أثر التقاليد وطبعها بطابع الدين ﴿وما وجدنا لأكثرهم﴾ أي أكثر المصرين على تقليد الآباء ﴿من عهد﴾ يؤخذ عليهم من رسلهم بالإيمان والعمل الصالح فيفون به بل إنهم لا يلبثون غير قليل حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه إذ الطبع يغلب التطبع وإلى هذا أشار ﷺ بقوله: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قالوا اليهود والنصارى؟ قال: فمن» أي فمن غيرهم.
﴿وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾ أي أن الشأن الذي وجدنا عليه أكثرهم هو التمكن من الفسوق استجابة لداعي الفطرة وجريًا وراء تقليد الآباء وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» بما يلقيان له من تقليد آبائهم، وها نحن نعاني اليوم الويلات من جراء تقليد علماء اليوم للأئمة الأربعة وغيرهم تقليدًا أعمى دون
@دين يقرر مبدأ في الحكم قد
#ثبتت مزاياه مع الأوقات
@هو أن يكون الحكم بين الناس (للد
#ستور) من وضع العلي الذات
@لا للجماعة أو لفرد منهم
#بل ليس من رأي مع الآيات
@وعلى كبار القوم نصب خليفة
#لينفذ الأحكام بالحكمات
@ويكون ثم كمستبد عادل
#يقضي بأمر الله في النسمات
@ويتابعوه السير في أعماله
#كتتابع المأموم في الصلوات
@أما احتكام الناس فيما بينهم
#للرأي أو لتكاثر الأصوات
@فمخالف للشرع وهو معطل
#حق الإمام مظهر الشركات
@وهو السبيل إلى انقسام الرأي في
#جل الأمور وموجب الفرقات
@فتناول الأيدي لأمر واحد
#مما يعرضه إلى الضيعات
@وتعدد الربان يغرق مركبًا
#في البحر عند تنازع السلطات
@وتضارب الأفكار يوجب ضيعة
#للشيء عند تهيؤ الفرصات
حسنًا يضاعفه لكم ويغفر لكم} فعليهم أن يجعلوها خالصة لوجهه الكريم: ﴿وأن الله هو التواب﴾ أي كثير التوبة وكثرة التوبة دليل على كثرة العصيان من الشخص الواحد الذي يمنعه الخوف من ربه أن يصر على ذنبه وفي هذا إشارة إلى أن من واجب الإنسان أن يرجع إلى ربه بالتوبة كلما صدر منه ذنب وإن عظم فقد ورد في الحديث القدسي عن الله جلت قدرته قوله: «وما غضبت على أحد كغضبي على مذنب أذنب ذنبًا فاستعظمه في جنب عفوي» وقد قال تعالى في وصف المتقين: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾ وفي الحديث: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة»: ﴿الرحيم﴾ لكل من شعر بضعفه وعجزه عن مغالبة شهوته ومقاومة إبليس في وسوسته فرجع إلى مولاه سأله الغفران وشموله برحمته التي وسعت كل شيء: ﴿وقل﴾ أيها الرسول للراجين رحمتي: ﴿اعملوا﴾ فإنما خلقتكم للعمل لا للبطالة والكسل فالعمل وسيلة الرزق في هذه الحياة وهو أيضًا سبيل نيل الثواب في الآخرة متى كان في سبيل نفع عباد الله: ﴿فسيرى الله عملكم﴾ فإن كان في طاعته أجرتم وإن كان في معصيته أثمتم: ﴿ورسوله﴾ الذي يتولى توجيهكم إلى صالح الأعمال: ﴿والمؤمنون﴾ الذين يشهدون لكم بالخير فيحق لكم الثواب عند الله فقد ورد في الحديث قال: «مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا فقال وجبت فقال عمر رضي الله عنه ما وجبت يا رسول الله فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض».: ﴿وستردون إلى عالم الغيب والشهادة﴾ بالبعث بعد الموت: ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ ومن خير أو شر تلقون جزاءه كما وعد: ﴿وآخرون﴾ غير الذين اعترفوا بذنوبهم من العصاة الذين لا يعترفون بعصيانهم ويقلدون العلماء فيما يقولون ويحسبون لجهلهم أو حسن نيتهم أنهم يحسنون صنعًا بتقليدهم للعلماء في العقائد والأحكام الشرعية من غير تدبر ويصدقون قولهم: «من قلد عالمًا لقي الله سالمًا» كما هو شأن عامة المسلمين في عصرنا هذا فهؤلاء قال الله في حقهم إنهم: ﴿مرجون﴾ وقرئ «مرجئون» أي أن الله أجل الحكم عليهم: ﴿لأمر الله﴾ أي أنه تعالى سينظر في أمرهم يوم القيامة: ﴿إما يعذبهم﴾ لأن الله جل وعلا قد أمرهم بتدبر آيات الله والعمل بكتابه وسنة رسوله ونهاهم عن التقليد فأبوا إلا إهمال العمل بكتابه وتقليد الأئمة حتى فيما يخالف نصوص القرآن: {وإما يتوب
@ويبث في النفس الغرور وإنه
#هو ما يجر المرء للهلكات
@والله قد قسم المعايش في الحيا
#ة وفضل الأفراد في الدرجات
@ليكون في هذا السبيل تنافس
#وتسابق للفوز بالغايات
@إذ أنه لولا التفاضل ما سعى
#أحد لنيل الرزق والرفعات
@بل لم يكن لجهوده من لذة
#تنسيه ما يلقى من النكبات
@ولقد جزى المولى الذي نسب الـ
#ـغنى لعلومه بالخسف والنقمات
@وأقام منه عبرة للمبتغيـ
#ـن مكانه من قاصري النظرات
@من يفرحون بهذه الدنيا ويغـ
#ـترون بالأموال والرتبات
@ناسين مانحها وقاسمها فلا
#يرضون بالحسنى ولا الحسنات
@والكانزين المال حبًّا فيه من
#دون الإله مقسم الثروات
@والمنفقين لمالهم في غير ما
#من أجله نالوه من نفقات
@والمانعين المال عن إجرائه
#مجراه من فضل ومن صدقات
وزيهم وعددهم فأكرم مثواهم: ﴿وهم له منكرون﴾ أي يستنكرون هذا العطف منه عليهم ولا يعلمون له سببًا ولم يدر بخلدهم قط أن يكون هو أخاهم الذي نبذوه من قبل خصوصًا لما هو عليه من مظاهر الترف وعظمة الحكم: ﴿فلما جهزهم بجهازهم﴾ أي هيأ لهم ما طلبوه منه: ﴿قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم﴾ وهو يقصد من هذا أن يذكرهم بنفسه وينبههم إلى أنه يعرف كل شيء عنهم ومع ذلك فإنهم لم يتذكروه: ﴿ألا ترون أني أوفي الكيل﴾ أي أتمه ولا أبخسه: ﴿وأنا خير المنزلين﴾ أي المضيفين لضيوفه: ﴿فإن لم تأتوني به﴾ عند عودتكم للحصول على الميرة مرة أخرى: ﴿فلا كيل لكم عندي﴾ أي فسوف لا أسمح لكم بأخذ شيء من الأقوات من بلادي: ﴿ولا تقربون﴾ أي لا تحوموا حول دائرتي ولا تطمعوا في ضيافتي فلم يلفت قوله هذا نظرهم ولم يفكروا في الأسباب التي حملته على التأكيد عليهم بإحضار أخيهم معهم ولا ماذا يريد من إحضاره إليه بل ربما صادف هذا هوًى في نفوسهم من أجل الخلاص منه لحب والده له: ﴿قالوا سنراود عنه أباه﴾ أي سنجتهد ونحتال على أبيه لننتزعه من يده ونأتي به إليك لتفعل فيه ما تشاء: ﴿وإنا لفاعلون﴾ ذلك لا محالة بأي طريقة كانت: ﴿وقال﴾ يوسف: ﴿لفتيانه﴾ وقرئ «لفتيته» أي غلمانه الكيالين: ﴿اجعلوا بضاعتهم﴾ التي جاءوا بها ودفعوها ثمنًا للطعام من مصنوعات فلسطين: ﴿في رحالهم﴾ الرحال ما يستصحبه المسافر من الزاد والمتاع بمعنى دسوها في أمتعتهم: ﴿لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم﴾ أي لعلهم عند مشاهدة بضاعتهم في رحالهم يقع في قلوبهم أنها جاءت سهوًا: ﴿لعلهم يرجعون﴾ أي فيحملهم ذلك على التعجيل بالرجوع إليه لمعرفة السبب في ذلك أو لرد المال لصاحبه فهم من نسل الأنبياء الذين لا يستحلون ما حرم الله ولأجل أن يدرك والده من طلبه ابنه وإعادة البضاعة إليه ما يطمئنه بأنه لا يقصد به السوء فلا يثقل عليه إرساله معهم.
لقد عاد إخوة يوسف وهم يفكرون في الحيلة التي يؤثرون بها على والدهم حتى ينتزعوا أخاهم بنيامين من يده وفاءً بتعهداتهم ليوسف فلم يجدوا طريقة أقوى من الكذب عليه وإفهامه بأنه لا سبيل لنيل الغلال من مصر إلا بإثبات وجود سائر أفراد العائلة: ﴿فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل﴾ إلا أن يحضر جميع أبنائك: ﴿فأرسل معنا أخانا نكتل﴾ فذلك شرط اشترط علينا لا مناص من الرضوخ له وإلا فإنا سنحرم من الزاد وأنت أعلم بمبلغ حاجتنا إليه: ﴿وإنا له﴾ أي لأخينا: ﴿لحافظون﴾ من أن يناله أي مكروه: ﴿قال﴾ يعقوب جوابًا على قول أبنائه: {هل
من الأشياء التي يحتاج إليها كل حي في الوجود: ﴿إلا عندنا﴾ وفي قبضتنا وتحت أمرنا: ﴿خزائنه﴾ جمع خزانة وهي اسم للمكان أو المستودع الذي تجمع وتحفظ فيها نفائس الأشياء ثم توزع منها بمعنى أنه تعالى هو الخازن لجواهر سائر المواد الأولية لكل شيء: ﴿وما ننزله﴾ أي وما نهب ونعطي كما في قوله تعالى: ﴿وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج﴾ وقوله: ﴿وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾.
﴿إلا بقدر معلوم﴾ أي إلا وفق سنن مضطردة معروفة فهو مقسم الأرزاق الذي يعطي لكل أمة ما تعتاده من أنواع المأكولات والمشروبات وأدوات الزينة بمقدار معين ووقت محدود بحسب ما تقتضيه مصلحة العباد واختلاف البلاد والأوقات. مما يدل على عظيم قدرة الله وبالغ حكمته: ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾ أي لتحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع صار مطرًا كما تحمل لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث حتى يتكون من ذلك الثمر ومختلف الفواكه: ﴿فأنزلنا من السماء﴾ نشأ من تلك الرياح: ﴿فاسقيناكموه﴾ أي فجمعنا في بطون الأرض وجعلناه معدًا لسقياكم: ﴿وما أنتم له بخازنين﴾ أي ولستم بقادرين على خزنه في الغدران والآبار والعيون بعد إنزاله من السماء لتستخرجوه منها وتنتفعوا به متى شئتم بل نحن الذين اخترناه ولولانا لغار في الأرض فالأرض من طبيعتها ابتلاع الماء والماء من شأنه الغور فيها وإن في ذلك لآية من أعظم آيات الله لقوم يعقلون: ﴿وإنا نحن نحيي﴾ أي نهب الحياة لبعض الأجسام من حيوان ونبات: ﴿ونميت﴾ أي ننزع منها الحياة: ﴿ونحن الوارثون﴾ أي الباقون بعد فناء الخلق أجمعين المالكون حق التصرف في كل ما تحت تصرف سائر العباد.: ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم﴾ أي من تقدم منكم ولادة وموتا وأحصيناهم: ﴿ولقد علمنا المستأخرين﴾ أي من يخرج من أصلابكم لا يخفى علينا شيء من أمرهم: ﴿وإن ربك هو يحشرهم﴾ أي يجمعهم يوم القيامة وهو الذي قدر الحشر فلا بد منه: ﴿إنه حكيم﴾ لم يفعل ذلك إلا لحكمه هي نيل الجزاء: ﴿عليم﴾ بأعمالهم التي يستحقون عليها الثواب أو العقاب.
بعد أن ذكر الله من أدلة وحدانيته: مده تعالى للأرض وما سنه من سنن لتأمين معاش الناس على ظهرهم وأنه هو مانح الحياة والموت وإليه مردهم أخذ يوضح حقيقة أصل الإنسان فقال: ﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ في الأصل ومبدأ تكوينه: ﴿من صلصال﴾ أي شيء مادي هو الطين
حسنًا يضاعفه لكم ويغفر لكم} فعليهم أن يجعلوها خالصة لوجهه الكريم: ﴿وأن الله هو التواب﴾ أي كثير التوبة وكثرة التوبة دليل على كثرة العصيان من الشخص الواحد الذي يمنعه الخوف من ربه أن يصر على ذنبه وفي هذا إشارة إلى أن من واجب الإنسان أن يرجع إلى ربه بالتوبة كلما صدر منه ذنب وإن عظم فقد ورد في الحديث القدسي عن الله جلت قدرته قوله: «وما غضبت على أحد كغضبي على مذنب أذنب ذنبًا فاستعظمه في جنب عفوي» وقد قال تعالى في وصف المتقين: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾ وفي الحديث: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة»: ﴿الرحيم﴾ لكل من شعر بضعفه وعجزه عن مغالبة شهوته ومقاومة إبليس في وسوسته فرجع إلى مولاه سأله الغفران وشموله برحمته التي وسعت كل شيء: ﴿وقل﴾ أيها الرسول للراجين رحمتي: ﴿اعملوا﴾ فإنما خلقتكم للعمل لا للبطالة والكسل فالعمل وسيلة الرزق في هذه الحياة وهو أيضًا سبيل نيل الثواب في الآخرة متى كان في سبيل نفع عباد الله: ﴿فسيرى الله عملكم﴾ فإن كان في طاعته أجرتم وإن كان في معصيته أثمتم: ﴿ورسوله﴾ الذي يتولى توجيهكم إلى صالح الأعمال: ﴿والمؤمنون﴾ الذين يشهدون لكم بالخير فيحق لكم الثواب عند الله فقد ورد في الحديث قال: «مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا فقال وجبت فقال عمر رضي الله عنه ما وجبت يا رسول الله فقال: هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض».: ﴿وستردون إلى عالم الغيب والشهادة﴾ بالبعث بعد الموت: ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ ومن خير أو شر تلقون جزاءه كما وعد: ﴿وآخرون﴾ غير الذين اعترفوا بذنوبهم من العصاة الذين لا يعترفون بعصيانهم ويقلدون العلماء فيما يقولون ويحسبون لجهلهم أو حسن نيتهم أنهم يحسنون صنعًا بتقليدهم للعلماء في العقائد والأحكام الشرعية من غير تدبر ويصدقون قولهم: «من قلد عالمًا لقي الله سالمًا» كما هو شأن عامة المسلمين في عصرنا هذا فهؤلاء قال الله في حقهم إنهم: ﴿مرجون﴾ وقرئ «مرجئون» أي أن الله أجل الحكم عليهم: ﴿لأمر الله﴾ أي أنه تعالى سينظر في أمرهم يوم القيامة: ﴿إما يعذبهم﴾ لأن الله جل وعلا قد أمرهم بتدبر آيات الله والعمل بكتابه وسنة رسوله ونهاهم عن التقليد فأبوا إلا إهمال العمل بكتابه وتقليد الأئمة حتى فيما يخالف نصوص القرآن: {وإما يتوب
فلان» ولم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي ﷺ الكراهة في وجوههم ووجد المنافقون من هذا منفذًا للإفساد بين المسلمين وقالوا لهم ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأينا من العدل أن يقيم قومًا أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ويجلس مع من جاء بعدهم فأراد الله جل جلاله أن يلقي على المؤمنين درسًا في أدب المجالسة وكرم الأخلاق وإيثار الآخرين بكل فضيلة ويدعوهم إلى الإقلاع عن بعض تقاليد الجاهلية فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾ وفي قراءة «المجلس» بالإفراد أي وسعوا لغيركم مكانًا معكم فيها: ﴿فَافْسَحُوا﴾ أي فلبوا هذا الطلب واجلسوا من كان في حاجة إلى الجلوس: ﴿يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ﴾ أي يوسع الله لكم في كل ما تحتاجون الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة كما وسعتم لإخوانكم: ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا﴾ أي قوموا وتخلوا عن مقاعدكم لإخوانكم: ﴿فَانشُزُوا﴾ فإن من كمال الخلق أن يؤثر المرء أخاه على نفسه بكل فضيلة: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ بالله لم يخالفوا هذا الأمر الإلهي: ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بأسرار التشريع إذا أدركوا ما في هذا الأمر من محاربة النفس والقضاء على غرورها وأنانيتها وكبريائها فلم يجدوا في أنفسهم غضاضة أو استياء من الإذعان له: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ عند الله فيقدر ما يخضع الإنسان نفسه لأوامر ربه ورسوله بقدر ما يسمو وترتفع درجته عنده، ذلك لأن إبليس لم يعص ربه إلا عندما تملكه الغرور بنفسه فأبى أن يطيع ربه ويسجد لآدم وقال: ﴿أأسجد لمن خلقت طينًا﴾: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾.
﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فهو سبحانه يرفع في الدرجات بقدر ما يعلمه من أعمال العباد الظاهرة والخفية. ثم أنه بمناسبة النهي عن النجوى وعلى ذكر أدب المجالسة ومحاربة النفس شرع الله للناس وسيلة لمناجاة رسوله في كل ما يهمهم وهي أن يسبق المناجاة التقرب إلى الله بالتخلي عن جانب المادة التي يتكالب الناس عادة على جمعها لما في ذلك من تزكية للنفس وتطهير لها مما اجترحت من السيئات فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ تنفقونها في سبيل الله لتطيب بها نفوسكم وتزكوا أنفاسكم ويكون لنجواكم قبول عند الله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في دينكم لأن الصدقة لله أشبه بالهدية يقدمها القادم من السفر لمن سيفد عليه: ﴿وَأَطْهَرُ﴾ لأنفسكم لأنها تعبر عن مبلغ احتقاركم للمادة في سبيل رضوان الله وحسن مثوبته
خالقها وحارسها: ﴿إنه بكل شيء بصير﴾ أي مالك لقوة البصر الذي يهبها لمن يشاء فلا يخفى عليه شيء من جميع المرئيات حتى يعجزه إمساك الطير ونجاة من يريد له النجاة: ﴿أم من هذا﴾ صاحب السلطان المطلق من آلهتكم: ﴿الذي﴾ يملك من القوى ما يجعلكم تعتقدون أنه بشخصه كأنه: ﴿هو جند لكم﴾ يقف دونكم و ﴿ينصركم﴾ على أعدائكم: ﴿من دون الرحمن﴾ أي من غير حاجة إلى معونة الرحمن: ﴿إن الكافرون﴾ الذين يعتمدون على قواهم المادية ولا يعتقدون أن المؤثر الحقيقي في كل شيء إنما هو الله وحده: ﴿إلا في غرور﴾ لتصورهم بأنهم بما أوتوا من قوى مادية يستطيعون نصر أنفسهم مكذبين قول الله تعالى: ﴿وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم﴾.
﴿أم من هذا﴾ الإله القادر: ﴿الذي﴾ يمكنه أن يخلق لكم من وسائل العيش ومقومات الحياة مثل ما خلقه الله لكم بحيث: ﴿يرزقكم إن أمسك﴾ الله: ﴿رزقه﴾ عنكم بحبس المطر أو تحجر التراب حتى لا يصلح للزرع ونحو ذلك: ﴿بل لجوا﴾ أي الكافرون بمعنى اضطربوا حول هذه النقطة فهم لا يثقون بأن آلهتهم تستطيع أن ترزقهم إذا أمسك الله عنهم رزقه ولا يستطيعون أن يعترفوا بهذه الحقيقة فيتخلوا عن العقائد التي توارثوها عن آبائهم فلا يسعهم إلا أن يعرضوا عن دعوة الحق ويظلوا: ﴿في عتو﴾ استكبار: ﴿ونفور﴾ تباعد بمعنى أنهم يلزمون جانب الإصرار على الكفر واحتقار الداعي إلى الحق والإعراض عنه وهذا منهم منتهى الحماقة: ﴿أفمن يمشي مكبًا على وجهه﴾ المكب الكثير النظر إلى الأرض بمعنى هل الذي يسير في الحياة مطأطئ الرأس لا ينظر إلا ما تحت نظره وموضع قدميه فيضل الطريق ويكون عرضة للتعثر والوقوع في المهالك وهذا مثل للكافر الذي يعتمد على نفسه وعقله ويرفض هداية ربه: ﴿أهدى﴾ أكثر علمًا بما يوصل إلى المطلوب: ﴿أم من يمشي سويًا﴾ أي معتدل القامة ينظر إلى بعيد وهو: ﴿على صراط﴾ أي طريق: ﴿مستقيم﴾ لا اعوجاج فيه وفق خطة رسمها له رب العزة العليم بطبيعة الأرض وأسهل الطرق لبلوغ الغاية: ﴿قل﴾ إن الذي أدعوكم إلى عبادته: ﴿هو الذي أنشأكم﴾ من العدم فهو أعلم بما ينفعكم وما يضركم: ﴿وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ وسائل للهداية: ﴿قليلًا ما تشكرون﴾ الله مانحها لكم، وشكرها إنما يكون باستغلالها والاستفادة منها إلى أقصى الدرجات بتلقي العلم وإجالة النظر في جميع الكائنات والتحليق بالفكر في ما هو في فوق المحسوسات والاتصال بمالك الأرض والسموات لا أن تعطلوها بحصر أنظاركم فيها هو تحت سمعكم
وقال ثانيًا: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ والوتد هو ما يدق في الأرض ليربط إليه حبل الخيمة لتحفظ توازنها ولا تميد بسكانها.
وقال ثالثًا: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾: أي أنواعًا متقابلين من ذكر وأنثى وخشن وناعم وطويل وقصير إذ يقول تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾، وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان فيتعبد الفاضل بالشكر ويتعبد المفضول بالصبر وتعرف حقيقة كل بضده.
وقال رابعًا: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾: السبات قطع الحركة أي جعلنا نومكم متقطعًا بقدر الحاجة أو بالقدر الذي يقطع العمل فتحصل الراحة وهذا من نعم الله إذ النوم الدائم مرض من الأمراض.
وقال خامسًا: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾: بظلامه: ﴿لِبَاسًا﴾: يساعد الإنسان على إخفاء ما لا يحب أن يطلع عليه غيره ويحول دونه ودون منغصات العيش مما يراه المرء ويسمعه في وضح النهار.
وقال سادسًا: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ﴾ بنوره الوضاء: ﴿مَعَاشًا﴾: أي زمانًا ومكانًا لالتماس العيش.
وسابعًا قوله: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾: أي سبع سموات محكمة قوية الخلق لا تصدع فيها ولا ثقوب.
وقال ثامنًا: ﴿وَجَعَلْنَا﴾ من الشمس التي لا ينكر أحد وجودها: ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾: يجمع بين الضوء والحرارة التي لا غنى للإنسان عنها.
وقال تاسعًا: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ وهي السحائب التي تعصرها الرياح فتمطر: ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾: أي شديد الانصباب والسيلان.
﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾ أي بالماء كل شيء ينبت من الأرض.
﴿حَبًّا وَنَبَاتًا﴾: أي من الحبوب والخضروات والحشائش: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ أي من الورود والزهر وكل ذي ساق من الأشجار الملتفة الأغصان، ولا شك أن من خلق كل هذه العجائب من لا شيء لا يعجزه أن يعيدها بعد فنائها من أي شكل يريد، أما متى يكون هذا؟ فقد أوضحه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ الذي يفصل بين هذه الموجودات المشاهدة وبين غيرها من الأشياء غير المرئية: ﴿كَانَ﴾: في تقدير الله: ﴿مِيقَاتًا﴾ حدًّا موقتًا بين الحياتين الدنيا التي هي دار


الصفحة التالية
Icon