إفك الأفاكين ودس الدساسين من الزنادقة والملحدين فبالقرآن تتحد القلوب ويزول ما بينها من ضغائن، وتتجافى النفوس عن الرذائل والتعصب الممقوت أجل إن القرآن بأسلوبه الحكيم صالح لكل زمان ومكان. والتدبر والتفكير فيه مما يأخذ بزمام القارئ الكريم إلى إيجاد أسمى المعاني وأرقى الأساليب ويؤديان إلى الوقوف على أسراره الإلهية، وحكمه الربانية، والقرآن هو السبيل الوحيد للهداية والخير العام وهو العلاج الناجع لإصلاح المجتمع، ونشر ألوية السلام في العالم أجمع، إذ هو الدستور السماوي الذي وحد الله به كلمة العرب وجمع شملهم وألف بين قلوبهم وأعلا ذكرهم في الخافقين، وبتعاليمه دانت لهم الشعوب، ونشروا حضارتهم في كل مكان، وبفضله يمكن للعرب اليوم أن يستعيدوا مجدهم ويقهروا أعداءهم ويسودوا العالم، ولا غرو فالعرب هم حماة الإسلام الذين نزل القرآن بلغتهم واختار الله خاتم رسله منهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وقد رُوِيَ عنه ﷺ «إذا عز العرب عز الإسلام». ولم يعزوا ولن يعزوا إلا عن طريق نشر رسالة الإسلام التي وحدت صفوفهم وألفت ذات بينهم والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾.
عبد الحميد الخطيب
سورة الفاتحة
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (٧)﴾.
هذه السورة مكية، آياتها سبع، وهي أول سورة نزلت كاملة من القرآن، وقد أمر النبي ﷺ بجعلها أول القرآن الكريم وانعقد الإجماع على ذلك. أما أول آية نزلت من القرآن فهي من سورة ﴿العلق﴾ وإنما سميت هذه السورة ﴿الفاتحة﴾ لأن النبي ﷺ أمر أن يفتتح بها القرآن، ولأنها مشتملة على مجمل ما في القرآن، وهو بمثابة تفصيل الأصول الكلية والمقاصد العمومية والقضايا الدينية الشرعية الحكمية، ولما تضمنه من العظات والعبر، من القصص والأحداث التي وقعت في الأمم الخالية الماضية.
﴿أذكركم﴾ أسهل لكم سبيل الاستفادة من جميع المخلوقات بما أهب لكم من قوة الفكر، وحسن التدبير، وإسباغ النعم عليكم ﴿واشكروا لي﴾ أي خصوني بالشكر والحمد والعبادة لتحققوا بهذا معنى توحيد الألوهية ﴿ولا تكفرون﴾ ولا تشركوا معي غيري في الحمد على النعم، لأنه لا يعطي، ولا يمنع، ولا ينفع، ولا يضر أحد في الوجود سواي؛ وقد ورد في الحديث «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على نعم الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله» وهذا هو القسم الأول من حق الله على العباد. وقد دلتنا هذه الآيات على ما يأتي:
﴿١﴾ أن استقبال القبلة لم يكن ركنًا من أركان الدين التي لا تتغير كتوحيد الله والإيمان بالبعث، بل إنه من الفروع التي تختلف باختلاف الأمم، والواجب فيها الاتباع المحض كأمثالها من الفروع كعدد الركعات والسجود.
﴿٢﴾ أن الدين الإسلامي يأمر باتباع الحق وتجنب الباطل، وألا يخشى المؤمن فيهما لومة لائم.
﴿٣﴾ أن التفكير في آلاء الله مما يقتضي توحيد الربوبية، وأن الحمد والثناء يوجب الاعتراف بتوحيد الألوهية لرب البرية.
بعد أن أوجب الله على العباد ذكره وشكره بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ونهاهم عن الشرك بالله بإثبات التأثير لأحد سواه، رسم لهم سبيل السعادة في الحياة حيث قال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بوحدانية الله وربوبيته ولم يشركوا به أحدًا ﴿واستعينوا﴾ على قضاء مصالحكم وبلوغ أمانيكم بما يأتي: أولًا ﴿بالصبر﴾ على تحمل كل ألم نفساني وجسماني باعتباره من سنن الله؛ وقد قضت سنة الله في خلقه أن الصبر مفتاح الفرج، وأن من صبر ظفر، ومن تأنى نال ما يتمنى ﴿و﴾ ثانيًا ﴿الصلاة﴾ باعتبارها هي أكمل وسائل الدعاء، وقد أخذ الله على نفسه عهدًا بأن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه على شريطة أن يكون مذعنًا بقدرته سبحانه وتعالى على تحقيق الأمر
الدين بحاجة إلى إجبار الناس على الدخول فيه (فمن يكفر بالطاغوت) فالذي يجحد الضلالات أيا كان مصدرها لما يشعر فيها من خطأ فاحش ويخشى ما يترتب عليها من الحرمان من اتباع الحق الذي فيه النجاة وهو الإيمان، فلم يستسلم للعادات والتقاليد التي جرى عليها الآباء، ولم ينزل بها الله من سلطان (ويؤمن بالله) فلا يعبد إلا إياه، ولا يرجو غيره، ولا يخاف سواه (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) أي فقد اعتصم بأوثق العرى التي لا يخشى عليها من القطع لأن ذلك هو أساس الدين الإسلامي (والله سميع) لأقوال العباد (عليم) بما في قلوبهم (الله ولي الذين آمنوا) أي فمن كان صادقًا في دعوى الإيمان بالله والكفر بالطاغوت تولاه الله برعايته السامية والذين يتولاهم الله (يخرجهم) ينقذهم بحسن توفيقه وإرشاده (من الظلمات) التي هي طريق الغواية مما يزينه لهم إبليس وجنوده (الى النور) أي الحق من دين الإسلام، فلن يضلوا ولن يفتنوا في دينهم إلى أن يلاقوا ربهم (والذين كفروا) بالله ظاهرًا وباطنًا أو باطنًا فقط (أولياؤهم الطاغوت) رءوس الضلال الذين يجرونهم إلى مهاوي جهنم، وهم الذين اتبعوهم وأطاعوهم من دون الله وهؤلاء من شأنهم أنهم (يخرجونهم) بإغوائهم وتغريرهم وبدعهم (من النور) أي يحرمونهم من الاستفادة بالهدي الإلهي (إلى الظلمات) وهي مهاوي الضلال كالشرك واتباع الأهواء (أولئك) الذين كفروا بالله واتبعوا الطاغوت (أصحاب النار) الذين خلقت النار من أجلهم لمعاقبتهم ولذلك (هم فيها) يوم القيامة (خالدون) دائمون إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على الكفر بالله وإتباع الطاغوت.
بعد أن أخبر الله في الآية السابقة أن ولايته للمؤمنين من شأنها أن تخرجهم من الظلمات إلى النور وولاية غيره للكافرين من شأنها أن تخرجهم من النور إلى الظلمات أقام سبحانه على ذلك ثلاثة شواهد تدل على مبلغ تثبيت الله لمن يتولاه وتأييده بالحجج القوية التي يخذل بها خصمه ويجعله يتردى في ظلمات الشكوك والأوهام التي تؤدي به إلى مهاوي الهلاك والدمار باستسلامه لولاية الطاغوت، وأول تلك الشواهد قوله: (ألم تر إلى) لفت النظر بصيغة الاستفهام إلى نبي الله محمد عن أمر (الذي حاج إبراهيم) جادل إبراهيم عليه السلام وهو نمروذ بن كنعان أحد الملوك بأرض العراق (في ربه) في أمر ربه وهو ضمير عائد على رب إبراهيم عليه السلام حيث ادعى لنفسه الربوبية بسبب (أن آتاه الله الملك) فبغى في الأرض بغير الحق وتملكه الغرور والكبرياء، فطغى
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (١٧٨) مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ
البغض والعداء بين عنصري الرجل والمرأة الذين ما خلقا إلا ليتعاونا في هذه الحياة وليكون كل منهما بمثابة جزء منهم للآخر، وذلك الأمر هو تنازع السلطة والنفوذ بينهما ومن أجل هذا أتبع الله الآية السابقة بما يشعر الفريقين بما اقتضته سنة الله في خلقه من قيام الرجل على المرأة وبين لهما الأسباب الداعية لذلك مع ذكر ما هنا لك من حقوق وواجبات يجب على الجميع مراعاتها بما يضع حدًّا للفوضى ولا يدع مجالًا للتنافس والتجاوز على الحقوق فقال تعالى: ﴿الرجال﴾ بفطرتهم وأساس تكوينهم ﴿قوامون على النساء﴾ فقد قضت سنة الله في خلقه حتى في الحيوان الأعجم أن يسيطر الذكر على الأنثى وتخضع الأنثى للذكر وتتبعه، ويمتاز الرجل عن الذكر في سائر الحيوان بأمرين اثنين أحدهما: فطري وآخر: كسبي، فأما الأول فقد أشار إليه تعالى بقوله: ﴿بما فضل الله به بعضهم﴾ وهو نوع الرجل ﴿على بعض﴾ هو نوع المرأة لا جميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء فقد تفضل المرأة زوجها على العلم والعمل والتقوى، بل وفي القوة العقلية والبدنية والقدرة على الكسب في بعض الأفراد ذلك لأن الله قد أنعم على عنصر الرجل بقوة الجسم وخشونته وصفاء الذهن وسعة الخيار مما يجعله قادرًا على وفرة الإنتاج وتحمل الصعاب وحسن التصرف في إدارة الشئون ولذا كان أهلًا للسيطرة وأحرى بالقيام على المرأة التي خلقت ضعيفة البنية ناعمة الجسم لا تستطيع تحمل المشاق ولا تقدر على مواجهة الخطوب في الملمات ولها من آلامها الجسدية في حالة الحمل والولادة ومن تشتيت أفكارها في حالة تربية البنين ما يسبب لها ضعف الذاكرة والاندفاع مع العاطفة، وأما الأمر الثاني فهو ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿وبما أنفقوا من أموالهم﴾ في سبيل تأمين راحتهن وإسعادهن والدفاع عنهن حيث كلفهم الله بالإنفاق عليهن رحمة بضعفهن ولما يعلمه تعالى من عدم قدرتهن على الاستمرار في مزاولة سائر الأعمال لما
خلقه ما يصلحهم وما يضرهم على مدى الأزمان (وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ) تصديق ما أوحي به إليك لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين منهم وأنت تراه وتتلقى عنه (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي ما دام المنزل للكتاب هو شاهد بإنزاله فلا حاجة إلى شهادة الملائكة فضلاً عن أولئك المنكرين للوحي من اليهود شهدوا أم لم يشهدوا في حد سواء.
بعد أن بين الله السبب في مقاومة اليهود للرسل وتعنتهم في الطلبات التي يقترحونها عليهم وهو عدم إيمانهم بأمر الوحي بتاتاً مع أنه أمر ثابت أخذ جل وعلا يملي على رسوله ما اقتضته مشيئة الله في غير المؤمنين من البشر عامة على اختلاف معتقداتهم دون أن يخص اليهود أو النصارى مثلاً بحكم خاص إذ الأحكام الإلهية إنما تنصب على الناس بحسب معتقداتهم وأعمالهم خيراً كانت أو شراً على اعتبار أجناسهم وأشخاصهم ولذا قسمهم الله إلى قسمين لا ثالث لهما فهم إما أن لا يؤمنوا بوجود الله أصلاً أو يؤمنوا به ولكنهم يشركون معه غيره من حيوان أو جماد بأي صورة من الصور حتى باسم التقرب منه أو الشفاعة لديه ولذا قال تعالى عن القسم الأول (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وأنكروا وجوده وخلقه لهذا الكون وما فيه ونسبوا كل شيء إلى أعمال الطبيعة وحكم الاستمرار فلا رب ولا إله كالشيوعيين والطبيعيين مثلا (وَصَدُّوا)
<١٣>
بعقيدتهم ومزاعمهم هذه التي ينشرونها بين الناس
(عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الموصل إلى مرضاته فلم يعد أحد من أتباعهم يفكر في الهداية أو الرجوع إلى الله فلا جرم أن هؤلاء (قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) أي أوغلوا في الكفر فهم لم يستعملوا عقولهم قط فيما خلقت له وإلا فإن نظرة بسيطة إلى حقائق هذه الموجودات تحملهم من غير شك على الرجوع عن ذلك الضلال فهم أشد ضلالاً من الكافرين وأسوأ عذابا يوم القيامة وقد نظمت فيهم بعض أبيات أثبتها فيما يلي
@وفؤادي يكاد ينفث سما
#في أناس لنفسهم قد أساءوا
والحية والعقرب والكلب العقور» وفي رواية والسبع الضاري ﴿وأنتم حرم﴾ لقد سبق هذا التحريم من قبل وذكر هنا توطئة لبيان ما يجب على المحرم المعتدي بالصيد من الجزاء والكفارة في الدنيا حيث قال ﴿ومن قتله منكم متعمدا فجزاء﴾ بالرفع والتنوين وقرئ من غير تنوين وخفض لام مثل ﴿مثل ما قتل من النعم﴾ أي ومن قتل شيئًا من الصيد وهو محرم متعمدًا فعليه الجزاء أن يفدي من الأنعام مثل الذي قتله في الشكل إن كان له ما يماثله أو في القيمة إن لم يمكن تحقيق المماثلة ﴿يحكم به﴾ أي بتعيين هذا المثل ﴿ذوا عدل منكم﴾ أي من أهل ملتكم بأن يقررا أن هذا النوع من الأنعام يوازي هذا النوع من الصيد. روى الدارقطني عن جابر أن النبي ﷺ قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق - وهي الأنثى من المعز قبل استكمالها السنة - وفي اليربوع جفرة - وهي الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر» ﴿هديًا بالغ الكعبة﴾ أي أن ذلك الجزاء المترتب على قاتل الصيد يجب أن يكون هديًا يصل إلى الكعبة بمعنى يذبح في أرض الحرم ﴿أو كفارة﴾ بالرفع والتنوين وقرئ بالإضافة إلى ما بعدها وهو ﴿طعام مساكين﴾ أي بقيمة ذلك المثل لكل مسكين مد ﴿أو عدل ذلك﴾ الهدي أو قيمته ﴿صيامًا﴾ أي يصوم بدل كل مد يومًا ﴿ليذوق وبال أمره﴾ أي ليدرك مبلغ جرمه وسوء عاقبة مخالفته لأوامر الله واستحلاله ما حرم الله فلا يعود لمثل ذلك مرة أخرى ﴿عفا الله عما سلف﴾ قبل التحريم فلا يؤاخذ الله عليه ولا يلزمكم التحلل منه بكفارة أو صوم ﴿ومن عاد﴾ ثانية إلى قتل الصيد بعد علمه بالتحريم والجزاء عليه ﴿فينتقم الله منه﴾ في الآخرة على إصراره على مخالفة أمره حيث لم يردعه ما ناله من جزاء في هذه الحياة ﴿والله عزيز﴾ لا ينال ولا يغالب ﴿ذو انتقام﴾ أي صاحب عقوبة بمعنى أنه تعالى قد شرع لكل مخالفة جزاء يؤاخذ الناس بمقتضاه ﴿أحل لكم صيد البحر﴾ المراد به الماء الكثير مما يشمل الأنهار والآبار والبرك ﴿وطعامه﴾ أي وما يستخرج منه صالحًا للطعام بمعنى الأكل فيدخل في ذلك ما قذفه البحر إلى الساحل ميتًا وما انحسر عنه وقت الجزر ﴿متاعًا﴾ أي أن الله أحله ليكون متعة ﴿لكم وللسيارة﴾ أي للمقيمين والمسافرين في كل وقت بخلاف ما قيد الله به بني إسرائيل في أن يكون متاعًا في غير يوم السبت ﴿وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا﴾ أي حتى ولو لم تقتلوه ويدخل في ذلك ما يصيده المحرم إذا كان لأجله أو بأمره أو إعانته وإذنه أما ما يصيده غير المحرم لنفسه أو لمثله فيجوز للمجرم أن
بأسرارها أحد سواه وفقًا لما جاء في القرآن على لسان عيسى عليه السلام قوله ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب﴾ وتنقسم في ظاهرها إلى قسمين إرادة كونية نظامية ثابتة وهي التي سبقت مشيئته تعالى بخلق جميع الكائنات وما سن لها من نظام تسير عليها ويؤاخذ الله الناس بمقتضاها وهذه تشمل ما يحبه تعالى وما يغضبه من عمل فصله لهم وأرشدهم إلى سبله وطريق الوصول إليه في كتبه وعن طريق رسله وقد أشار إليه بقوله: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ وقوله ﴿والله لا يحب الفساد﴾ وقوله ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ وقوله ﴿وما الله يريد ظلمًا للعالمين﴾ وإرادة أمرية تنفيذية وهي إنما تتعلق بتطبيق نظام المشيئة على الناس ورحمة من يستحق الرحمة منهم وفق ما أخبرنا به الرسول بقوله «من وعده الله على عمل ثوابًا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار» كما بين الله ذلك لموسى عليه السلام بقوله: ﴿قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ أي أن العذاب لا يكون إلا وفق دستور المشيئة الذي أعلنه الله لعباده وصرح به في قوله ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها وهم لا يظلمون﴾ وأما الرحمة فإنها غير مقيدة وقد وعد الله بها من ذكر وقد أشار الله إلى هذه الإرادة الأمرية التنفيذية بقوله: ﴿إنما قولنا لشيء إذ أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ أي متى أردنا إنفاذ مقتضى القدر أو الرحمة نأمر به فينفذ، وكان من عظيم فضل الله أن سن سبحانه وتعالى لهذه الإرادة دستورًا فصله في هذه الآية ليعلم به الجميع بقوله: ﴿فمن يرد الله أن يهديه﴾ بعد الضلال من أولئك الذين سبق ذكرهم من المجرمين الذين ضلوا وتوعدهم الله بالعذاب فإنه لا يكله الله إلى نفسه بل يتغمده برحمته ﴿ويشرح صدره للإسلام﴾ بمعنى يحبب إليه تدبر كلام الله الذي هو سبيل الهداية إذ يقول تعالى عنه إنه ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الإسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور﴾ فيسلم ويكون من الناجين من عذابه بحسب دستور الله ووعده بالرحمة سئل رسول الله عن معنى هذا الشرح فقال «نور يقذف في القلب قالوا فهل لذلك من علامة قال نعم هي الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت» ﴿ومن يريد أن يضله﴾ لقد استنتج بعض الفقهاء من هذا أن من حقه تعالى أن يضل من يريد ضلاله من المهتدين أي يجعل له الضلال غريزة وطبعًا أو يلجئه إليه إلجاء ويكرهه عليه إكراهًا فيكون إعراضه عن الحق والخير وإقباله على الباطل والشر كحركة الدم في الجسد وعمل المعدة في الهضم وهذا
العلم بدليلهم من الكتاب والسنة مما كان سببًا في تأخر المسلمين الأمر الذي لم يأذن به الأئمة أنفسهم حيث قال أبو حنيفة: «لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه» وفي رواية «حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا وإذا قلت قولًا مخالفًا لكتاب الله وخبر الرسول فاتركوا قولي» ولهذا فإني أستطيع أن أؤكد أن عدم تدبر العلماء لآيات الله التي أمروا بتدبرها واكتفاءهم في تفسير القرآن على مجرد الإعراب والبحث عن الألفاظ والأحكام الفقهية على ضوء ما قاله مشايخهم لا ما جاء في الكتاب والسنة وحصر المراد بالآيات في دائرة من نزلت في حقهم من الكافرين دون تطرق إلى ما يقتضيه الواجب من استخراج العبر من بين ثناياها وتحذير الناس مما كان سببًا في هلاك من هلك من الأمم السابقة وإقناعهم بأن ذنوب الأمم لا تغتفر وسنن الله فيهم لا تتبدل كل ذلك هو الذي أدى إلى تقلص خوف الله في القلوب وانغماس الناس في الشهوات حتى حل بهم ما حل من محن وويلات وإني إذ أقول هذا لا أقصد الطعن في المسلمين عمومًا ولكني أستعرض وأطبق حديث رسول الله ﷺ القائل: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» وإني إذ أنحي باللائمة على العلماء فإنما أشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» ولا أعني من العلماء إلا أمثال واحد من أئمة المساجد المقلدين زارني يومًا مع صديق لي وقدم نفسه إليّ بأنه هو الذي حطم القاديانية بقلمه حتى حاولوا شراء سكوته عنهم بآلاف الليرات ثم قال إنه جاء معترضًا على تفسيري في عدة مواضع أولها تفسيرك شجرة آدم بشجرة السلالة البشرية مع أنه لم يقل بذلك أحد من العلماء السابقين فأجبته ولماذا لم تعترض عليهم عندما قالوا إنها التفاح أو الحنطة هل كان لديهم حديث بذلك عن رسول الله أم أنه أبيح لهم أن يتكلموا بالحدس والتخمين ما لا يباح لنا أن نقوله وندعمه بأدلة من الكتاب والسنة فسكت وقال إنه يعترض أيضًا عليّ فيما جنحت إليه من إعادة الضمير إلى اسم الموصول لا إلى الله في قوله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ فأجبته بما أجبت به من سبقه إلى الاعتراض فأظهر قناعته وخرج على أن يعود إلي مرة أخرى كلما أشكل عليه أمر من الأمور ثم ظهر لي أنه من دعاة التفرقة بين المسلمين بتعصبهم لأقوال أئمتهم ومعاداتهم لكل من يخالفهم ولو كان على صواب وأنه من مدعي العلم المخرفين الذين تعودوا الاصطياد في الماء العكر ممن كبر عليه أن أدعوا الناس في
@وتخالف الأحزاب يوجب فرقة
#وتشاحنًا يفضي إلى الذلات
@وتواكل الأفراد ينتج دائمًا
#تقصيرهم وإضاعة الأوقات
القوانين الوضعية
@وكذاك ما قد سن من نظم تخا
#لف شرعنا وتعارض الآيات
@من وضع جمع قد يكونوا مخط
#ـئين الرأي أو هم قاصروا النظرات
@مما توهم أن في تنفيذه
#إصلاح أمر الناس عن خبرات
@فضلاله وقصوره باد لكل
#مفكر قد أمعن الفكرات
@فالناس مهما دبروا أو قرروا
#لا يدركون حقائق الخيرات
@ووسائل الإصلاح أم كيف السبيـ
#ـل إلى النجاح بأقرب الطرقات
@أو ما به يقضي على أصل الشرو
#ر وسيئ الأعمال والعادات
@وإذا فرضنا أنهم علموا فكيـ
#ـف تطبق الأحكام بالدقات
@بين الأنام وكلها محصورة
#في ظاهر الأعمال والكلمات
@أما الخفاء وما يدبر فيه من
عليهم} بمعنى يتجاوز عن سيئاتهم بمحض رحمته التي وسعت كل شيء لما يعلمه جل شأنه من بساطتهم وحسن نيتهم: ﴿والله عليم﴾ بمن يستحق العذاب أو يستدعي الرحمة: ﴿حكيم﴾ في إرجائه أمر هؤلاء إليه جل جلاله ليكون هذا سبيلًا لدخول الهم والخوف إلى القلوب فيدعوهم إلى الاعتراف بذنوبهم ليدخلوا في عداد من ترجى لهم التوبة والرحمة من الله.
بعد أن أخبر رسوله بأن بين المسلمين من هم مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم وهذا قد يشمل بعض المنافقين أردف ذلك ببيان ما يجب على الرسول حيال مكايدهم ضد الإسلام فقال: ﴿والذين﴾ وفي قراءة بغير واو: ﴿اتخذوا مسجدًا﴾ هم جماعة من منافقي أهل المدينة بنوا لهم مسجدًا بالقرب من مسجد قباء زعموا أنه لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية وطلبوا من الرسول ﷺ أن يأتي إليهم فيصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر إلى تبوك ووعدهم بذلك أثناء عودته من هناك فلما قفل راجعًا إلى المدينة وفكر في البر بوعده للقوم نزل عليه جبريل يبلغه أمر ربه بعدم الصلاة فيه، ووضح له الأسباب الداعية لذلك وكشف له عن نوايا القوم ومقاصدهم التي تجلت في بنائهم لذلك المسجد والتي يجب أن تلاحظ وتتقى عند بناء المساجد في سائر الأوقات وهي أربعة المقصد الأول قوله: ﴿ضرارًا﴾ أي أنهم إنما بنوا مسجدهم بالقرب من مسجد قباء لمضارة المؤمنين ومضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه وإلا فلا داعي لهذا التعدد، المقصد الثاني: ﴿وكفرًا﴾ أي ليكون منه وسيلة لتمكين المنافقين من ترك الصلاة مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد وللتشاور بينهم في الكيد لرسول الله، المقصد الثالث: ﴿وتفريقًا بين المؤمنين﴾ أي أن يكون الاجتماع في هذا المسجد سبيلًا لتفرق كلمة المسلمين مع أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الجماعة ويعتبر المساجد بيوتًا له إلا ليجتمعوا فيها ويتعارفوا ويتحابوا وتجتمع كلمتهم وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كانت بقدر حاجة المؤمنين في كل حي، المقصد الرابع: ﴿وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل﴾ أي أن يكون وكرًا يجتمع فيه أعداء الله ورسوله الأقدمون للتجسس على المؤمنين الصادقين المجتمعين في مسجد قباء، هذه هي الأسباب الحقيقية لبناء المنافقين لمسجدهم فصلها الله لرسوله وأخبره أنهم سينفون ذلك بكل شدة حيث قال: ﴿وليحلفن﴾ بالله: ﴿إن أردنا﴾ ببناء هذا المسجد: ﴿إلا الحسنى﴾ أي الغاية الحميدة وهي الرفق
@والمبتغين به سبيلًا ليس ير
#ضي خالق الإبريز والفضات
@ظنًّا بأن المال حق من حقو
#قهم وقد نالوه بالخبرات
@لا حق فيه لغيرهم إذ ليس للـ
#ـمولى به شيء من المنات
@والله قال بأنه هو باسط الأ
#رزاق قاسمها على النسمات
@وهو الذي بالشكر سوف يزيدها
#ويزيلها بالكفر بالنعمات
@وهو الذي ما عنده خير لمن
#هو مؤمن بالله والميقات
@يرجو بفعل الصالحات ثواب مو
#لاه ولا يغتر بالشهوات
@بل لا يريد بهذه الدنيا العلو
#ولا الفساد ويرقب الرحمات
@والله صبر في العباد طوائفًا
#الفقر يفسدها بلا مريات
@إذ لا تطيق الصبر في البلوى وتجـ
#ـهل حكمة الخلاق في البلوات
@وكذلك أخرى بالغنى تطغى وتفـ
#ـسد بل وتنكر بارئ النسمات
@وبمقتضى ذا العلم وزع بينهم
#أرزاقهم بالعدل والحكمات
آمنكم عليه} الآن: ﴿إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل﴾ أي إنكم ذكرتم لي مثل هذا القول في يوسف وضمنتم لي حفظه ولم تفوا بتعهدكم ثم ها أنتم ترددون على مسامعي ذلك اللفظ بعينه فهل يكون أماني الآن إلا كما كان هناك ولم يكن اعتمادي آنذاك إلا على الله إذ الأمان الحقيقي لا يكون إلا بالله: ﴿فالله خير حافظًا﴾ وقرئ: ﴿حفظًا﴾ بغير ألف يعني خير منكم حفظًا: ﴿وهو أرحم الراحمين﴾ الذي يرثى لضعفي ولوعتي لفقد يوسف وهو المسئول أن يجمعني به كرمًا منه وفضلًا: ﴿ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم﴾ فتهللوا فرحًا وجاؤوا إلى أبيهم يؤيدون له دعواهم قائلين: ﴿يا أبانا ما نبغي﴾ برهانًا يدلك على صدق قولنا بمنع الكيل عنا وضرورة إرسال أخينا معنا أكثر من أن نطلعك على واقع الأمر وهو: ﴿هذه بضاعتنا ردت إلينا﴾ ولم تقبل منا إلا أن نحضر أخانا معنا فما علينا إلا أن نذهب به لنصدق في قولنا: ﴿ونمير أهلنا﴾ أي نحضر الميرة وهي الطعام لأهلنا: ﴿ونحفظ أخانا﴾ أي نهتم بصيانته من كل ما يسوؤه: ﴿ونزداد﴾ باستصحاب أخينا معنا: ﴿كيل بعير﴾ فإنهم يعطون لكل رجل حمل بعير: ﴿ذلك كيل يسير﴾ أي إعطاء كل رجل حمل بعير هو أقل ما نحتاج إليه. وعندئذ اقتنع يعقوب بصدق أبنائه واضطر أن يأذن لهم بأخذ بنيامين ولكنه أخذ عليهم عهدًا بالعناية به والسهر على حراسته: ﴿قال لن أرسله معكم حتى تأتوني موثقًا من الله لتأتنني به﴾ أي لترجعوه إلي كما تسلمتموه مني.
﴿إلا أن يحاط بكم﴾ أي إلا أن تحول ظروف قاهرة دونكم جميعًا بمعنى أن تهلكوا دونه ولا ترجعوا من غيره: ﴿فلما آتوه موثقهم﴾ أي عهدهم: ﴿قال﴾ يعقوب مهددًا ومخوفًا لهم من بطش الله: ﴿الله على ما نقول وكيل﴾ عني في مراقبتكم فإن وفيتم بالعهد جازاكم بأحسن الجزاء وإن غدرتم فيه كافأكم بأشد العقوبات.
بعد أن أخذ يعقوب العهد على أبنائه أن يأتوه بأخيهم إلا أن يهلكوا جميعًا دونه أمرهم باتقاء العين التي هي من أسباب الهلاك في نظره: ﴿وقال يا بني لا تدخلوا﴾ المدينة متجمعين: ﴿من باب واحد﴾ خوفًا عليكم من أعين الحاسدين لما تنالونه من أعظم قسط لكثرة عددكم فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه كان يعوذ الحسن والحسين منها فيقول «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» ويقول «هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل
اليابس الذي يصلصل ويصوت إذا نقر وهو غير مطبوخ وإذا طبخ يسمى فخارًا: ﴿من حمأ﴾ وهو الطين الذي يتغير ويسود من مجاورة الماء: ﴿مسنون﴾ أي مصور ومفرغ على هيئة الإنسان: ﴿والجان خلقناه من قبل﴾ من قبل خلق الإنسان: ﴿من نار السموم﴾ السموم الريح الحارة التي تنفذ من المسام وتؤثر تأثير السم في الجسم فتميت الإنسان أي أنها لم تخلق من شيء مادي بل خلقت من حرقة من ريح السموم وقد ورد في الصحيح عن رسول الله ﷺ قوله «خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من نار وخلق آدم مما وصف لكم» وهنا أراد الله جل جلاله أن يبين لرسوله كيف تم ذلك الخلق ومن أين جاءت إليه الحياة وبم استحق التفضيل على من سواه فقال: ﴿وإذا قال ربك﴾ أي واذكر أيها الرسول لقومك قول الله: ﴿للملائكة﴾ قبل خلقه للإنسان: ﴿إني خالق﴾ فيما سيأتي: ﴿بشرًا﴾ أي جسمًا كثيفًا ذا بشرة تلمس بخلاف الملائكة والجن فإنه ليس لهم أجسام تلمس كأجسام البشر: ﴿من صلصال من حمأ مسنون﴾ أي من أشياء مادية وضيعة: ﴿فإذا سويته﴾ أي جعلته مستوي الخلقة بالصورة الإنسانية التي أريدها له: ﴿ونفخت فيه﴾ النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها ويراد به الامتلاء: ﴿من روحي﴾ ومن هذا نفهم أن الروح في ذاتها ليست شيئًا ماديًا ولا جوهرًا نورانيًا يسري في الجسم كسريان الماء في العود أو الدهن في الزيتون كما يقوله بعض العلماء بل هي كما أخبرنا القرآن: ﴿من أمر ربي﴾ أي مشتقة من الأمر الإلهي كما نفهم أن النفخ لم يكن إلا عبارة عن تعلق قدرة الله وتسلط إشعاع من قوته تعالى الخفية إلى الجسم المادي فتدب فيه الحياة وتكسبه الحركة والنمو كتسلط التيار الكهربائي من المستودع العام في الأسلاك الممتدة إلى البطارية لتملأها قوة بحيث تصير محلًا للإضاءة دون أن يحل فيها أي شيء مادي: ﴿فقعوا له ساجدين﴾ أي خروا له سجدًا سجود إجلال وتقدير باعتباره مظهرًا للقوة التي تسلطت عليه وجعلته إنسانًا ومظهرًا للقدرة الإلهية: ﴿فسجد الملائكة﴾ للبشر بعد أن دبت فيه الحياة وتجلت فيه قدرة الله: ﴿كلهم أجمعون﴾ دفعة واحدة لم يتخلف أحد منهم: ﴿إلا إبليس﴾ استنتج أكثر من المفسرين من هذا الاستثناء أن إبليس كان من الملائكة بل قالوا إنه كان طاووس الملائكة أي من رؤسائهم وأنه ما ترك شبرًا إلا سجد لله فيه وصدقهم الناس إلى يومنا هذا، وما كان لهم أن يقولوا ذلك ويصروا عليه حتى بعد قول الله: ﴿فسجد الملائكة كلهم أجمعون﴾ وبعد ما وصف
عليهم} بمعنى يتجاوز عن سيئاتهم بمحض رحمته التي وسعت كل شيء لما يعلمه جل شأنه من بساطتهم وحسن نيتهم: ﴿والله عليم﴾ بمن يستحق العذاب أو يستدعي الرحمة: ﴿حكيم﴾ في إرجائه أمر هؤلاء إليه جل جلاله ليكون هذا سبيلًا لدخول الهم والخوف إلى القلوب فيدعوهم إلى الاعتراف بذنوبهم ليدخلوا في عداد من ترجى لهم التوبة والرحمة من الله.
بعد أن أخبر رسوله بأن بين المسلمين من هم مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم وهذا قد يشمل بعض المنافقين أردف ذلك ببيان ما يجب على الرسول حيال مكايدهم ضد الإسلام فقال: ﴿والذين﴾ وفي قراءة بغير واو: ﴿اتخذوا مسجدًا﴾ هم جماعة من منافقي أهل المدينة بنوا لهم مسجدًا بالقرب من مسجد قباء زعموا أنه لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية وطلبوا من الرسول ﷺ أن يأتي إليهم فيصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر إلى تبوك ووعدهم بذلك أثناء عودته من هناك فلما قفل راجعًا إلى المدينة وفكر في البر بوعده للقوم نزل عليه جبريل يبلغه أمر ربه بعدم الصلاة فيه، ووضح له الأسباب الداعية لذلك وكشف له عن نوايا القوم ومقاصدهم التي تجلت في بنائهم لذلك المسجد والتي يجب أن تلاحظ وتتقى عند بناء المساجد في سائر الأوقات وهي أربعة المقصد الأول قوله: ﴿ضرارًا﴾ أي أنهم إنما بنوا مسجدهم بالقرب من مسجد قباء لمضارة المؤمنين ومضادة لهم في الاجتماع للصلاة فيه وإلا فلا داعي لهذا التعدد، المقصد الثاني: ﴿وكفرًا﴾ أي ليكون منه وسيلة لتمكين المنافقين من ترك الصلاة مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد وللتشاور بينهم في الكيد لرسول الله، المقصد الثالث: ﴿وتفريقًا بين المؤمنين﴾ أي أن يكون الاجتماع في هذا المسجد سبيلًا لتفرق كلمة المسلمين مع أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الجماعة ويعتبر المساجد بيوتًا له إلا ليجتمعوا فيها ويتعارفوا ويتحابوا وتجتمع كلمتهم وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كانت بقدر حاجة المؤمنين في كل حي، المقصد الرابع: ﴿وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل﴾ أي أن يكون وكرًا يجتمع فيه أعداء الله ورسوله الأقدمون للتجسس على المؤمنين الصادقين المجتمعين في مسجد قباء، هذه هي الأسباب الحقيقية لبناء المنافقين لمسجدهم فصلها الله لرسوله وأخبره أنهم سينفون ذلك بكل شدة حيث قال: ﴿وليحلفن﴾ بالله: ﴿إن أردنا﴾ ببناء هذا المسجد: ﴿إلا الحسنى﴾ أي الغاية الحميدة وهي الرفق
ويراد بها هنا محاربة النفس وتخلي المرء عن بعض ما هو في حاجة إليه أوجابنا من ثروته التي أنعم الله بها عليه لوجه الله: ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا﴾ شيئًا تتصدقون به: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي لا حرج عليكم إذ أن هذه الصدقة لم تشرع إلا لتكون محكًا لاختبار مدى حبكم لله وخروجكم عن بعض الأموال العزيزة لديكم من أجله، وأن في حرصكم على مناجاة الرسول وسؤاله عن أمر دينكم ودنياكم مع تخلفكم عن تقديم الصدقة ما يدل على عجزكم عنها وسيكتفي الله بهذا القدر منكم دون مناقشة لأن من صفاته جل وعلا الرحمة والمغفرة: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ أي فلا يعقل أن تبخلوا في سبيل مناجاة رسولكم: ﴿أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ مع أنه لم يحدد لكم مقدارها بل قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة»،: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي وحيث إنكم لم تفعلوه ولم تقدموا هذه الصدقة: ﴿وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ بمعنى وقد تسامح الله فقبل منكم هذا العذر على علاته: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أي فعليكم أن لا تقصروا في أداء ما فرضه الله عليكم من واجب الصلاة: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ المفروضة على أموالكم ولا تترددوا في إخراجها عن طيب نفس: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ بمعنى تجنبوا المعاصي ما ظهر منها وما بطن: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وسوف ينبئكم ويجزيكم وفق دستوره الذي أعلنه لكم، ومن هذا يتضح أن حكم الله في تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول لم ينسخ بالآية التي بعدها أو بموجب الزكاة كما رآه المفسرون، وحيث أن مناجاة الرسول هي بمثابة مناجاة الله لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ فإنه يستدل على مفهوم هذه الآية الحض على تقديم الصدقة لله كلما دعا الداعي لمناجاته تعالى في كل أمر يهم الإنسان أن يناله من مولاه والله أعلم.
بعد أن أكد الله لرسوله كمال علمه بأسرار العباد وفصل ما تناجى به اليهود من الإثم والعداون ومعصية الرسول ما يلبسونه عليه في التحية وما يداخلهم نحوه من شكوك أخذ ينبهه إلى فريق آخر مِن مَن حوله كان ﷺ يحسن الظن بهم ويعتبرهم من المؤمنين الصادقين بحسب ما يبدو من ظاهرهم بينما هم في الواقع غير ذلك إنهم قوم منافقون يظهرون غير ما يبطنون فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ تولى الشيء لزمه وتولى فلانًا اتخذه وليًّا أي حليفًا أو نصيرًا يركن إليه: ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم﴾ وهم كل من لا يؤمن بالله ويراد بهم هنا اليهود الذين جاء ذكرهم في الآيات السابقة لأنهم هم الذين عارضوا جميع الأنبياء السابقين وكادوا للإسلام من أول عهده
وبصركم من المرئيات وفي حدود المادة الضيقة: ﴿قل هو الذي ذرأكم﴾ ذرأ الأرض بذرها أي ألقى فيها بذور الزرع بمعنى وضع أصولكم: ﴿في الأرض﴾ فنبتم في بطون أمهاتكم كما ينبت الزرع في الأرض: ﴿وإليه تحشرون﴾ أي تجمعون يوم القيامة: ﴿ويقولون﴾ أي الكفار دائمًا عندما ينذرون بالحشر: ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ بمعنى أنهم يستعجلونه بدلًا من أن يخافوا دنوه لئلا يحيق بهم ما أنذروا به: ﴿قل إنما العلم﴾ بتحديد وقته: ﴿عند الله﴾ وهو واقع لا محالة: ﴿وإنما أنا نذير﴾ منه لكم: ﴿مبين﴾ أي لمجرد التبيين لا للسيطرة عليكم وإرغامكم على تقبل الهداية: ﴿فلما رأوه﴾ أي المحشر الموعودين به: ﴿زلفة﴾ أي قريبًا نظرًا لأنه لم يجدد موعده فقد يكون بين عشية وضحاها وقد يكون أكثر فكل آت قريب: ﴿سيئت﴾ أي قبحت: ﴿وجوه الذين كفروا﴾ بمعنى داخلهم الخوف والفزع وبدا ذلك على ملامحهم: ﴿وقيل﴾ أي قال بعضهم لبعض: ﴿هذا الذي كنتم به تدعون﴾ أي تطلبون وتستعجلون وقوعه بمعنى أنهم تصوروا العذاب ماثلًا أمام أعينهم ومع ذلك لم يؤمنوا بل أخذوا يدعون على الرسول بالهلاك والموت لأن نذير سوء في زعمهم فأوحى الله لنبيه قوله: ﴿قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا﴾ أي وماذا يهمكم من أمري وأتباعي سواء هلكنا أم رحمنا فهذا لا يعنيكم: ﴿فمن يجير﴾ ينقذ ويقي: ﴿الكافرين من عذاب أليم﴾ أي ولكن المهم هو أن تبحثوا عن ذلك الإله الذي يستطيع أن يجيركم مما أنذرتم به على فرض صحته: ﴿قل هو الرحمن﴾ الذي يجير المستجيرين: ﴿آمنا به﴾ فلم نشرك به سواه ولم ندع غيره: ﴿وعليه توكلنا﴾ فوضنا أمرنا إليه ونحن نعتقد أنه لن يصيبنا إلا ما كتبه لنا لا ما تدعون به علينا من الهلاك: ﴿فستعلمون﴾ وفي قراءة «فسيعلمون» بالياء بدل التاء: ﴿من هو في ضلال مبين﴾ أي من منا كان ضالًا ضلالًا ظاهرًا: ﴿قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا﴾ أي ابتلعته الأرض وحرمتم منه: ﴿فمن يأتيكم بماء معين﴾ أي جار ظاهر تراه العيون فلن يحيروا جوبًا وتقوم الحجة عليهم إلى الأبد.
الجزاء، وذلك اليوم هو الذي تنتهي فيه كل هذه العوالم الظاهرة ويستأنف فيها الحياة من جديد وهو: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾: وهو البوق الذي يكبر الصوت فيسمع من مكان بعيد: ﴿فَتَأْتُونَ﴾ من فوركم أحياء عند سماعه: ﴿أَفْوَاجًا﴾: جماعات من كل جبهة تلبون داعي الله طائعين، كما أنه تعالى في مبدأ الخلق قال للسموات: ﴿ائتيا طوعًا أو كرها قالتا أتينا طائعين﴾.
﴿وَفُتِّحَتِ السَّمَاءُ﴾ بتشديد التاء أي تشققت وتصدعت وقرئ: ﴿وَفُتِحَتِ﴾ بتخفيف التاء أي أصبحت كلها ذات أبواب بعد أن كانت سبعًا شدادًا متماسكة: ﴿وَسُيِّرَتِ﴾: أي تحركت: ﴿الْجِبَالُ﴾ من أماكنها بعد أن كانت أوتادًا ثابتة تحفظ توازن الأرض: ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾: السراب هو ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء وليس بماء، يضرب به المثل في الخداع أي أن الجبال ستفقد قوتها وتصبح كالعهن المنفوش.
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ﴾: في ذلك اليوم: ﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾: طريقًا يمر به الناس جميعًا كما قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ فمن كان صالحًا اجتازها بسرعة ومن لم يكن كذلك وقع فيها إذا هي: ﴿لِلْطَّاغِينَ﴾: الظالمين: ﴿مَآبًا﴾ مرجعًا ومنقلبًا يؤوبون إليه: ﴿لابِثِينَ﴾ وقرئ: ﴿لبِثِينَ﴾ أي مقيمين: ﴿فِيهَا أَحْقَابًا﴾ جمع حقب والحقب: ثمانون سنة، والسنة اثنا عشر شهرًا والشهر ثلاثون يومًا: ﴿وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون﴾، وهذا يعني الخلود لقوله تعالى في آية أخرى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾.: ﴿لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا﴾: أي لا يحسون فيها لشدة الحر: ﴿بَرْدًا﴾ هواء باردًا: ﴿وَلا شَرَابًا﴾: يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم: ﴿إِلاَّ حَمِيمًا﴾: ماء حارًا في درجة الغليان.: ﴿وَغَسَّاقًا﴾: بتشديد السين -وقرئ بتخفيفها -الصديد المنتن.: ﴿جَزَاءً﴾ على ظلمهم أنفسهم بالكفر بالله وآياته وإنكار البعث في يوم القيامة.: ﴿وِفَاقًا﴾: لما أنذروا به من قبل من الحساب والعقاب وجهنم وأهوالها. ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ﴾: أي لا يتوقعون: ﴿حِسَابًا﴾: بل كانوا يستبعدون حصوله فكان لزامًا وفاقًا أن يتأكدوا صحة ما أنذروا به.: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾: أي نسبوا إليها الاختلاق والكذب.: ﴿كِذَّابًا﴾: بكسر الكاف وتشديد الذال وقرئ بتخفيفها أي تكذيبًا مفرطًا فلا بد أن نثبت لهم صدقها.: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾: من أقوالهم وأعمالهم: ﴿أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أي إحصاء تسجيل وكتابة ليكون الجزاء على قدر الاستحقاق وفق دستور الله وسيقال لهم: ﴿فَذُوقُوا﴾: آلام ما كنت بم تكذبون: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ


الصفحة التالية
Icon