لقوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًّا﴾ وفي كلمة ﴿الرحيم﴾: ما يدعو إلى الطمع في رحمته لقوله تعالى: ﴿وكان بالمؤمنين رحيمًا﴾.
﴿الحمد﴾: حقيقته وكليته يجب أن لا يكون ولا ينصرف إلا ﴿لله﴾ وحده لأنه هو سبحانه وتعالى مصدر كل نعمة تستوجب الحمد، وباعتباره سبحانه وتعالى ﴿رب العالمين﴾: المالك الذي أوجدهم من العدم وساس أمورهم منذ القدم ورباهم بوافر النعم فكل إعجاب أو حمد يوجه إلى أي مخلوق من المخلوقات فهو موجه ومنصرف إليه جل وعلا إذ الإعجاب بالمصنوع إعجاب بالصانع وحمد الأثر حمد للمؤثر وامتداح النظام ثناء وتقدير لواضعه ومنظمه ﴿الرحمن﴾: مصدر الرحمة أي الذي خلقهم لمحض الرحمة والاستجابة لهم متى دعوه دون أن تكون هناك حاجة به إليهم، ولذلك كان هذا الاسم من الأسماء الحسنى مختصًّا به تعالى؛ ﴿الرحيم﴾: كثير الرحمة والشفقة والعطف على عباده فهو الذي لا تنفك عنه صفة الرحمة أبدًا؛ ﴿مالك﴾: وفي قراءة ﴿ملك﴾: الحاكم القادر على التصرف في ملكه كيف يشاء من غير معارض. ﴿يوم الدين﴾: الدين من الدينونة أي اليوم الذي توفى فيه الديون وهو يوم الحساب الذي يقضي الله فيه بين عباده بحسب ما قدموا من عمل وفق أحكامه التي أعلمهم بها عن طريق رسله وأمرهم باتباعها وتطبيق موادها، وأخذ على نفسه مبدأ العدل المطلق فلا يظلمون فتيلًا. ﴿إياك نعبد﴾: نفردك وحدك بالدعاء الذي هو مخ العبادة فلا ندعو غيرك ولا نؤمل في سواك لاعتقادنا الجازم بأنه ليس غيرك من يسمع النداء ويجيب الدعاء، أو يحقق الرغبات ويستحق العبادة. فأنت أنت الفعال لما تريد، المؤثر في كل شيء، المقصود قبل كل أحد، المعطي المانع لا شرك لك.
﴿وإياك نستعين﴾: نفردك وحدك بالاستعانة فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بما منحتنا من قوة الروح، وما أودعته إيانا من سائر القوى الخفية الكامنة في أجسامنا، ولولاك ما استطعنا تحمل المشاق ومكافحة الخطوب والأحداث، بل لم نذق لذة الحياة. ولذلك فإنا نفوض إليك كل أمورنا ونرجو عونك على بلوغ آمالنا ودفع الشر عنا بما لك من كامل العلم بما ينفعنا وما يرضيك عنا يا أكرم الأكرمين ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾: نور قلوبنا بهدايتك الربانية لنعرف السبل الموصلة إليك، فأنت وحدك الذي تنعم بالهداية وتوفق من أردت إلى اتباع أوامرك الإلهية ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾: بمعرفتك والإيمان بما أرسلت به رسلك الكرام ﴿غير المغضوب عليهم﴾: الذين أنكروا
الاختبار، ومن كان قوي الإيمان أيقن أن الرزق مقدر له من عند الله وأن هذه الأسباب ليست سوى وسائل قد تخطئ وقد تصيب ولا تستلزم تقتير الرزق أو سعته إلا بمشيئة الله ﴿ونقص من الأموال﴾ وذلك بأن نسلبكم في بعض الأحايين جانبًا من المال لنذكركم بأن من سلب البعض قادر على سلب الكل وقادر على زيادة الرزق، فمن لم يتعظ بهذا واعتقد أن النقص من الأموال حاصل بتأثير المخلوق سقط في الاختبار، ومن كان قوي الإيمان وثق بأن المؤثر الحقيقي في عموم الأشياء هو الله وحده وأنه لا سبيل إلى رد قضائه ﴿والأنفس﴾ أي ونقص من الأنفس لنشعركم بأن ساعات الحياة محدودة، وأن الرجوع إلى الله أمر لا بد منه ولا مفر عنه، فمن قابل ذلك بالسخط وعدم الرضا سقط في الاختبار، ومن كان قوي الإيمان ورضي بقضاء الله وأذعن لحكمه في خلقه كان من الفائزين ﴿والثمرات﴾ أي ونقص من الثمرات، فقد يزرع الزارع ويقدر لزراعته وافر الحاصلات والثمار فلا يجني منها إلا ما قضى الله له ليشعر بقوة الله المؤثرة في ذلك، فمن سخط لهذا وتبرم سقط في الاختبار ومن كان قوي الإيمان أدرك السر في هذا ورضي برزقه المقسوم له وكان عند الله من الفائزين ﴿وبشر﴾ أيها الرسول ﴿الصابرين﴾ في جميع هذه المواقف الموصوفين بأنهم ﴿الذين إذا أصابتهم مصيبة﴾ من هذه المصائب تذكروا أنها من قضاء الله فقابلوها بالاستسلام والرضا و ﴿قالوا إنا لله﴾ أي كلنا ملك لله ﴿وإنا إليه﴾ جميعًا ﴿راجعون﴾ فالحمد لله الذي أخذ منا ما أخذ وكتب لنا الحياة وهي من أجلّ النعم ﴿أولئك﴾ الذين قضت إرادة الله بأن تكون ﴿عليهم صلوات من ربهم ورحمة﴾ لأنهم ذكروا الله في أحرج الساعات، واستسلموا له عند حلول المحن فلا غرو إذا ما نجحوا في الاختبار بتفوق عظيم ﴿وأولئك هم المهتدون﴾ حقًّا بهدي الرسول قولًا وفعلًا، لأنهم عرفوا الله فأبصروا قدرته في كل شيء وآمنوا بالبعث والنشور فصدقوا بما أعده الله لجزاء الصابرين وهذا هو حق العباد على الله أن يرشدهم إلى ما فيه إصلاحهم في دنياهم وأخراهم. وقد دلتنا هذه الآيات على ما يأتي:
﴿١﴾ أن الصبر هو سر النجاح في كل الأمور.
أن يؤدي به ذلك إلى الوصول إلى الجانب الأيمن بل إنه بقدر ما يتوغل في السير إلى جهة اليسار يبتعد عن جهة اليمين. فلولا ظلم النمروذ واتخاذه من نعمة الله عليه بالملك وسيلة للطغيان وادعاء الربوبية لهداه الله إلى الحق والاعتراف لله بالربوبية.
بعد أن ضرب الله المثل وأقام الشاهد الأول على أن ولاية الله للمؤمنين من شأنها أن تخرجهم من الظلمات إلى النور أتى بالمثال الثاني وهو يدلنا كيف يثبت الله قلوب من يتولاهم في حالة ما إذا وقعوا في ظلمات الشبه والحيرة فيخرجهم منها إلى نور الطمأنينة فقال (أو كالذي) قيل هو العزيز وقي أرمياء (مر على قرية) كانت آهلة بالسكان مزدهرة بالعمران ثم تهدمت وأقفرت وأصبحت أثرًا بعد عين لا يراها الرائي إلا (وهي خاوية على عروشها) فرثى لحالها واستبعد عودة العمران إليها (قال) في نفسه (أنى يحيي هذه) القرية (الله بعد موتها) وما أصابها من الخراب والدمار يحتاج إصلاحه إلى وفرة الأيدي العاملة في مئات السنين. ولما كان هذا القائل من المؤمنين الذين أخذ الله على نفسه ولايتهم فقد أمده ببعض حوادث نزعت من قلبه ذلك الوهم والتصور الفاسد وملأته بنور اليقين الكامل ذلك أنه ما كاد يتم قوله حتى انتزع الله روحه (فأماته الله) من وقته وظل على حاله ميتًا (مئة عام) دون أن يبلى جسمه (ثم بعثه) بإرجاع الحياة إليه مرة أخرى وخاطبه ربه (قال كم لبثت) في غفوتك هذه فظن نفسه أنه كان نائمًا (قال لبثت يومًا أو بعض يوم) فقرائن الحال لا تدل على أكثر من هذا (قال) تعالى له (بل) إنك كنت ميتًا و (لبثت مئة عام) وأنت في عالم غير عالم الأحياء ولأجل أن تتبين مبلغ قدرة الله (فانظر إلى طعامك وشرابك) الذي كان ينبغي أن يفسد بين عشية وضحاها تجدهما باقيين أيضًا معك مئة عام على حالتهما التي كانتا عليها (لم يتسنه) وقرئ «يتسن» أي لم يطرأ عليهما أي تعفن أو تبخر أو فساد برغم تطاول الزمن (وانظر) إلى جانب هذا (إلى حمارك) تجده قد مات وبلي بلاء تامًا ولم يبق منه سوى عظام بالية متناثرة تدلك على تقادم عهده بالحياة وبذلك يزول تعجبك الماضي واستبعادك إحياء الله لتلك القرية (ولنجعلك آية للناس) الذين ينكرون البعث ويتحكمون في تصرفات الله ويحاولون إخضاعها لسنن هو واضعها، وفاتهم أن واضع تلك السنن لا يعجزه تغييرها متى شاء بما هو خير منها وسيجعل الله من هذا الحديث عبرة لكل من يداخله أي اشتباه وشك في مدى قدرة الله (وانظر إلى العظام) النخرة المهشمة المتناثرة أمامك هل يمكن أن يسلم العقل بإمكان إرجاع الحياة إليها، تأملها جيدًا
يستحل ما كان محرمًا عليه وعليهم من الطعام من قبل كلحم الإبل مثلاً، فأنزل الله قوله: ﴿كل الطعام كان حلاً﴾ من عهد إبراهيم ﴿لبني إسرائيل﴾ أي لشعبه لأن الرسول يعتبر كأب للأمة ﴿إلا ما حرم إسرائيل على نفسه﴾ أي امتنع عن أكله وحرمه على نفسه قهرًا لها وطلبًا لرضاء ربه، فقد روى عن ابن عباس: «أن يعقوب مرض مرضًا شديد فنذر لله لئن عافاه الله ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها». ﴿من قبل أن تنزل التوراة﴾ أي أنه قبل نزول التوراة كان يحل لبني إسرائيل كل طعام فحرم إسرائيل على نفسه في عهده بعض أشياء وتبعه في ذلك بنوه: أي شعبه، ثم نزلت التوراة بتحريم كثير من الطيبات عليهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿فبظلم من الذين هادوا﴾ – أي قوم موسى – ﴿حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾. ﴿قل﴾ أيها الرسول ردًا على مزاعمهم هذه إن إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كانوا يحرمون ما حللت: إن هذه الدعوى منكم تحتاج إلى إثبات بنص يؤيدها، ولذلك فإني أتحداكم بإظهاره ﴿فأتوا بالتوراة فاتلوها﴾ وأروني منها ما يؤيد مزاعمكم، ﴿إن كنتم صادقين﴾ في دعواكم والذي أعلمه أنها تكذبكم، وأنكم ستجدون فيها أن التحريم إنما انصب عليكم لأنكم شعب عنيد لا يسمع أوامر الله وأن التحريم لم يكن إلا عقوبة لكم بسبب معاصيكم. ﴿فمن﴾ يتبين أنه ﴿افترى﴾ في دعواه ﴿على الله الكذب﴾ بما نسب إلى الله من شيء لم يصدر منه فيكون ﴿من بعد ذلك﴾ أي بعد ما يظهر من خلو التوراة من دعواهم الباطلة أفرادًا وجماعات ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ لأنفسهم بعد معرفتهم للحق وإصرارهم على الباطل، إذ أنهم لم يأتوا بذلك النص الذي زعموه بعد ظهور عجزهم. ﴿قل﴾ يا أيها الرسول ﴿صدق الله﴾ فيما أنبأني به من أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل وقامت الحجة عليكم بذلك وثبتت رسالتي عن ربي إذ لولا وحيه لما عرفت صدقكم من كذبكم فيما تحدثون به عن أنبيائكم، إذًا ﴿فاتبعوا﴾ ما أدعوكم إليه من شريعة تطابق ﴿ملة إبراهيم﴾ في أصولها وفروعها حيث ثبت لكم أن ما حكمت بحله هو ما كان حلاً في عهد إبراهيم، وأن ما أدعوكم إليه من التوحيد وعدم الشرك بالله إنما هو بعينه ما كان عليه إبراهيم، فقد كان ﴿حنيفا﴾ انفرد بمخالفته لما كان عليه قومه من الضلال باحثًا عن الحق حتى توصل إلى معرفة ربه وأسلم وجهه إليه وحده ﴿وما كان﴾
من أسباب ثلاثة:
الأول: أن يخالفن أمركم عن جهل وغير قصد.
الثاني: أن يخالفن أمركم تيهًا ودلالًا واعتدادًا بجمالهن أو مالهن.
الثالث: أن يخالفن أمركم تمردًا واستكبارًا وشذوذًا عما فطرت عليه المرأة من الطاعة ولين الجانب بحيث لا يرعين حقوق الزوجية ولا يعبئن بكرامة الرجل ومن أجل هذا وصف الله لكل حالة علاجها بقوله عن الحالة الأولى ﴿فعظوهن﴾ بالحسنى واللطف وإفهامهن بأنهن بالطاعة يمتلكن قلوبكم وأن عصيان المرأة زوجها مما يزهده فيها ويقل من حبه لها وذلك دون شتيمة، فقد رُوِيَ عن رسول الله قوله: «ولا تقبح» أي: لا تقل قبحك الله، وروى الترمذي أن أبا بكر استأذن على رسول الله فسمع صوت عائشة عاليًا فقال: لها ترفعين صوتك على رسول الله ورفع يده ليلطمها فحجزه الرسول فخرج غاضبًا فمكث أيامًا ثم استأذن فوجدهما قد اصطلحا فقال: أدخلاني في سلمكما فقال الرسول: قد فعلنا، أما علاج الحالة الثانية ـ فمقاطعتهن مقاطعة سلمية في الشئون العاطفية وإليها أشار سبحانه بقوله: ﴿واهجروهن في المضاجع﴾ للحد من كبريائهن وحتى يشعرن بأنكم تستطيعون الاستغناء عنهن ولا تبالون بجمالهن وفتنتهن أو مالهن إذا اقترن ذلك بعصيانهن لكم فعلًا ـ فيثبن إلى رشدهن.
وأما علاج الحالة الثالثة فلما كانت خارجة عن حد المألوف ومخالفة لسنن الكون وموجبة لتقويض صرح العائلة فقد قال تعالى: ﴿واضربوهن﴾ ضرب تأديب غير مبرح ليشعرن بقوتكم وسلطتكم عليهن وأنهن لا يستطعن مجاراتكم في ميدان القوة وإنما سلاحهن الوحيد ضدكم هو الضعف والخضوع حيث لا يملك الرجل أمام ذلك غير
@أفإن لم تكن لهم كيف كانوا
#يجدون الدليل وهو عفاء
@أو إلي الريح كيف تغدوا سحابا
#ثم ماء تحوطه الأجواء
@ثم ينهل مرسلا في فياف
#وجبال جميعها قحلاء
@فإذا القحل يستحيل رياضاً
#يانعات تؤمها الأحياء
@وإذا النبت ليس يشبه بعضاً
#منه داء ومنه أيضاً دواء
@منه نبت كحنظل لا يداني
#وثمار يفيض منه الحلاء
@ما الذي أحكم التطور هذا
#فغدا منه نعمة أو بلاء
@صنعة دون صانع ما سمعنا
#ووجود بلا إله هُراء
<١٤>
@ومسير الآلات دون مدير
#يحكم السير قوله نكراء
@إنما الكون بالبرية ملك
#بيد الله أرضه والسماء
@كل ما فيه سائر بنظام
والخوف من عقابه. وهنا أراد جل جلاله أن يشعر الناس بأنه تعالى إلى جانب علمه بكل صغيرة وكبيرة من خلقه وأعمالهم قد اتصف بصفتين متعارضتين ومن حقه تعالى أن يعامل عباده بمقتضى ما شاء منهما فقال: ﴿اعلموا أن الله شديد العقاب﴾ أي أنه قادر على تطبيق أحكام العقوبة على مستحقيها متى أراد ﴿وأن الله غفور﴾ لمن استغفره ﴿رحيم﴾ بمن يريد جل شأنه أن يرحمه لا معارض له في ذلك وليس لأحد من مخلوقاته على ذلك أي اعتراض و ﴿ما على الرسول إلا البلاغ﴾ أي تنحصر مهمته في إبلاغكم ما أرسل به إليكم ولكم بعد ذلك كامل الخيار في جميع تصرفاتكم ونواياكم ﴿والله﴾ وحده هو الذي ﴿يعلم ما تبدون﴾ من عمل ﴿وما تكتمون﴾ من مقاصد خيرًا كانت أو شرًّا ﴿قل﴾ يا أيها الرسول لكل من آمن بك ﴿لا يستوي﴾ عند الله ﴿الخبيث والطيب﴾ في كل شيء فلا يمكن أن يترك الأمر فوضى ولا يليق بعدله وحكمته أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا أن يسوي بين الخبيث والطيب والكافر والمؤمن والمفسد والمصلح فللأول عقابه وللثاني جزاؤه ﴿ولو أعجبك﴾ أي وإن استعظمت في نفسك ﴿كثرة الخبيث﴾ بمعنى إن قلت كيف يطغى الفساد والظلم من الخبيث الذي يمقته الله على الطيب من الصلاح والعدل الذي يرضاه الله ﴿فاتقوا الله﴾ أن تقولوا لماذا سمح الله بهذا في أرضه وهو القادر على محق كل عاصٍ وكل مفسدٍ ظالمٍ ﴿يا أولي الألباب﴾ إذ العقول النيرة تدرك أنه لا بد لذلك من حكمة يعلمها الله ﴿لعلكم تفلحون﴾ إذ تدركون أنه لولا ظلم الناس وفسادهم لما تجلت رحمته بهم وغفرانه لخطاياهم.
بعد أن أخبر الله المؤمنين بما اقتضته حكمته تعالى من تحريم بعض الطيبات لاختبار طاعتهم وتعظيم بعض الماديات في سبيل مصلحتهم أخذ ينهاهم عن التدخل فيما لا يعنيهم أو ما ليس من الدين السؤال عنه فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ رُوِيَ أن النبي ﷺ جلس يومًا على المنبر وهو غاضب فقام إليه رجل فقال أين أبي فقال في النار فقال آخر من أبي قال أبوك حذافة فقالت أم عبد الله بن حذافة ما رأيت ولدًا أعق منك قالت أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته فقام عمر بن الخطاب فقال رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًّا وبالقرآن إمامًا إنا يا رسول الله حديثو عهد
بعد أن بين الله مبلغ رأفته بالمجرمين وما يلوح لهم به من علامات تدلهم على هداية من يريد هدايته وضلال من يستحق إضلاله ليدركوا مبلغ رحمته وليتمتعوا بكامل الخيار وتنقطع لهم كل حجة في طلب الغفران أخذ يوضح ما سيكون من أمرهم يوم القيامة فقال ﴿ويوم يحشرهم﴾ وقرئ «نحشرهم» أي نجمع الخلائق في يوم القيامة ﴿جميعًا﴾ من الإنس والجن فيقال لهم ﴿يا معشر الجن﴾ أي المخلوقات الخفية من العالم غير المنظور ﴿قد استكثرتم من الإنس﴾ أي استملتم الكثير من الإنس إلى الضلال بما كنتم تزينونه لهم من الشكوك والآثام ﴿وقال أولياؤهم من الإنس﴾ الذين تولوهم أي أطاعوهم في وساوسهم ﴿ربنا استمتع بعضنا ببعض﴾ جرى المفسرون على أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وهذا غير وارد حيث لا استمتاع بينهما والذي يظهر لي هو أن أولئك الأولياء من الإنس الذين لم يعترفوا بزللهم وانقيادهم للجن إذ هم لم يؤمنوا بوجودهم في حياتهم الدنيا فقالوا هذا القول الذي يشير إلى أن ما حصل منهم ما هو إلا مجرد استمتاع بعض الإنس ببعض أي تبادل المنافع الشخصية المألوفة بين الإنس وفق مقتضى الحياة ولا دخل للجن والشياطين في ذلك ﴿وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا﴾ أي وقد قضينا العمر على هذا إلى حين موتنا ولم نعلم بما حرمت إذ لم نكن نصدق برسلك ولم نؤمن برسلك فاستمتعنا بأنواع الاستمتاع عن جهل وعدم قصد فلم يقبل الله هذا العذر و ﴿قال﴾ لهم ﴿النار مثواكم﴾ أي محل إقامتكم جزاء على عدم تصديقكم بالكتب وعدم إيمانكم بالرسل وما سجلتموه على أنفسكم من استمتاع غير مشروع ﴿خالدين فيها﴾ أي مقيمين في النار إقامة مستقرة غير مؤقتة ﴿إلا ما شاء الله﴾ تعالى مما يخالف ذلك فكل شيء بمشيئته أي أن هذا الجزاء وتعيين وقت الخروج من النار يقع باختياره تعالى فإن شاء رفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل لأن مشيئته نافذة في كل شيء قال صلى الله عليه وسلم: «متى شاء الله أن يخرج أناسًا من الذين سقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل» وقد ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار من يشاء بشفاعة الشافعين يقول: «اخرجوا من وجدتم في قلبه مقدار مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط وقد عادوا صمًّا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة من حميل السبيل فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا
ما أنبه إلى ذلك بقوله لعل الأمر كذا وكذا والذي يظهر لي هو كذا ثم أبسط وجهة نظري وأقيم الدليل عليه ومع ذلك لا أجزم بأنه هو المراد كما يفعل غيري من المفسرين المتقدمين لئلا أتحمل المسئولية أمام الله، وإذا كان هناك من المعاني الجديدة التي جنحت إليها ما يخالف ما أجمع عليه المفسرون ولم يستسغه بعض الناقدين فحسبي أني لم أخدع القارئ ولم أتردد في التصريح له بأن هذا ما فتح الله به عليّ وأذكر دليلي عليه والغاية التي أرمي إليها منه وهي تنزيه الله جل جلاله عما ينسب إليه بعض الجهلة من الظلم والاستبداد الذين يتعالى الله عنهما علوًا كبيرًا كما أشرت إلى ذلك مرارًا وخصوصًا في الصفحة ٩٧ من الجزء الخامس والصفحة ٨٩ من الجزء الثامن من هذا التفسير حيث أوضحت عقيدتي التي تنطبق تمامًا وعقيدة أهل السنة والجماعة وإن خالفت مفاهيم بعض الجامدين الذين لا يحسنون التوفيق بين كلام الله وأحاديث سيد المرسلين فلا محل لنقد الناقدين إن كانوا شرفاء مخلصين. والصخرة التي ترتطم دونها رؤوس أمثال مخالفي هي صخرة الدعوة إلى الإيمان الخالص والثقة التامة بالله وحده القادر على أن يرد كيد الكائدين المعاندين في نحورهم ويعلي كلمته بل إني لأفرح أن يحصل هذا الإنسان على دريهمات يقمن صلبه عن طريق شتيمتي وأسأل الله أن يجعل ذلك في حسناتي ويثيبني عليه بقدر ما يعلمه من إساءته إلى يوم لا ينفع مال ولا ينون إلا من أتى الله بقلب سليم.
بعد أن سرد الله قصة نوح ومن بعده من الرسل الذين أرسلوا لدعوة أقوامهم إلى عبادة الله وتجنب السيئات فكفروا وأصروا على المعاصي حتى أخذهم الله بعذاب الاستئصال أعقب ذلك قصة موسى عليه السلام وهي قصة من نوع آخر تختلف عما قبلها من الرسالات من عدة جهات أهمها أن رسالته كانت قائمة على أساس منع فرعون من الطغيان وإنقاذ أمة بأسرها من ظلمه واضطهاده ودعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وفق شريعة دينية دنيوية منظمة جاءهم بها فلقي من الفريقين من العنت والإيذاء ما لم يجده رسول من قبل برغم ما أمده الله به من مختلف المعجزات والآيات البينات حتى أنزل الله ربهم مختلف العقوبات ليكونوا عبرة لمن بعدهم من الأمم على مر الأيام فقال ﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي بعد من سبق من الأنبياء ﴿موسى﴾ بن عمران ﴿بآياتنا﴾ أي بعدة معجزات مما تثبت رسالته عنا ﴿إلى فرعون﴾ وهو لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملك الروم وكسرى لملوك الفرس الأولين والشاه لملوك الإيرانيين في عصرنا هذا ولهذا لا يطلق لفظ
بعد أن دعا الله المؤمنين إلى التمسك والثبات على دينهم والصلة بالله واتباع شريعته ونهاهم عن العدول عنها إلى الأحكام الوضعية التي تقوم على أساس الاختلاف في الرأي وترجيح ما تراه الأكثرية لأن ذلك مما يؤدي إلى الفشل وضعف السلطان أخذ يحذرهم من بعض خلال نفسية دفعت المشركين من قريش إلى إتيان بدر بقصد الصد عن سبيل الله فلاقوا هناك حتفهم. فقال: ﴿ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس﴾ أي احذروا من خصلتين ذميمتين الأولى «البطر» وهو الطغيان بنعمة الله وصرفها إلى المفاخرة بين الناس والاستعلاء على الأقران والثانية «رئاء الناس» وهو عبارة عن إظهار القبح بمظهر الجميل أمام الناس والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر والرئاء إظهار الطاعة مع إخفاء المعصية فهاتان الخصلتان هما اللتان حملتا أبا جهل وهو على رأس ألف مقاتل من صناديد قريش بعد أن أمن على وصول العير إلى مكة عن طريق الساحل أن يشخص إلى بدر ويقول: «والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنقيم ثلاثًا ننحر الجذور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يرهبوننا أبدًا فإن بدرًا موسمًا من مواسم العرب وسوقًا من أسواقهم» وقد استعان الرسول ﷺ بالله عليهم إذ قال: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني» ولما أن وردوا بدرًا بهذا الدافع شربوا كؤوس المنايا بدلًا من كؤوس الخمر وناحت عليهم النوائح بدل القيان.
﴿ويصدون﴾ أي الحال أنهم كانوا يقصدون الصد: ﴿عن سبيل الله﴾ وهو الإسلام بالحيلولة دون انتشار دعوته: ﴿والله بما يعملون محيط﴾ فهو يجزي على صفات النفس كما يجزي على نفس العمل وفق سننه التي أعلنها للناس والتي يريد أن يحذر المؤمنين من عواقبها بهذه الآية: ﴿وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم﴾ أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين أن الشيطان هو الذي زين لهم إقدامهم على الشخوص إلى بدر بوسوسته: ﴿وقال﴾ لهم بما ألقاه في هواجسهم: ﴿لا غالب لكم اليوم من الناس﴾ أجمعين فكيف باتباع محمد الضعفاء الذين فروا من دياركم فأنتم أعز نفرًا وأعظم بأسًا: ﴿وإني جار لكم﴾ أي إنه أوهمهم أنهم على الحق الذي يرضاه الله منهم دون محمد ولذلك فإنه سوف ينصرهم عليه ولذا قالوا: «اللهم انصر إحدى الفئتين وأفضل الدينين»: ﴿فلما تراءت الفئتان﴾ أي أن الشيطان استمر في وسوسته للمشركين بما يغريهم على القتال كما كانت الملائكة
المنافقين: ﴿لا يزال بنيانهم﴾ للمسجد: ﴿الذي بنوا﴾ وأقسموا أنهم لم يريدوا به إلا الحسنى: ﴿ريبة في قلوبهم﴾ أي موضع ريبه في قلوبهم حتى بعد أمر الرسول بتحريم القيام فيه بمعنى أنه ثقل عليهم هدمه وازداد بغضهم للرسول وازداد ارتيابهم في نبوته لأجله فلا تزول تلك الريبة من قلوبهم: ﴿إلا﴾ وقرئ «إلى»: ﴿أن تقطع﴾ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تنقطع وقرئ بضم التاء وتشديد الطاء: ﴿قلوبهم﴾ قطعًا وتتفرق أجزاء فحينئذ تزول تلك الريبة منها أي أن قلوبهم ما دامت سالمة متجمعة فالريبة متأصلة ومتمكنة فيها ولا سبيل إلى انفكاكها عنها ولو أن إيمانهم كان قائمًا على أساس من العقيدة الصحيحة الثابتة لأدركوا أن هدم الرسول للمسجد ما كان إلا بوحي من الله العليم بمقاصدهم التي فصلها الله فيحملهم هذا على الخوف منه والتوبة من النفاق: ﴿والله عليم﴾ بهذا منهم: ﴿حكيم﴾ في عدم تعجيل عذابهم أي أن له في هذا حكمة.
بعد أن شرح الله فضائح المنافقين ومبلغ نقمته عليهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك أخذ يبين ما للجهاد من فضيلة استدعت كل ذلك فقال: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ التي هي من خلقه: ﴿وأموالهم﴾ التي سخرها لهم وأباح لهم تملكها في هذه الحياة: ﴿بأن لهم الجنة﴾ أي بثمن هو الجنة في الآخرة وصفقة البيع لا تتم إلا عندما: ﴿يقاتلون في سبيل الله﴾ أي من أجل إعلاء كلمة الله وإقامة شريعته والعمل على مرضاته: ﴿فيقتلون﴾ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول: ﴿ويقتلون﴾ بالبناء للمفعول وقرئ بالبناء للفاعل أي لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل فكلاهما بذلا النفس والمال في سبيل الله لا حبًّا في سفك الدماء ولا رغبة في الاستعلاء ولا توسلًا إلى ظلم العباد واستعمار البلاد: ﴿وعدًا عليه حقًّا﴾ أي وعدهم الله بذلك وعدًا أوجبه لهم على ذاته العلية وجعله حقًّا عليه أثبته: ﴿في التوراة والإنجيل والقرآن﴾ أي أوجبه على قوم موسى وعيسى وأمة خاتم أنبيائه محمد بن عبد الله في كتبهم الثلاثة: ﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ أي ولا أحد أصدق في إنجاز وعده من الله عز وجل إذ لا يمنعه عن ذلك عجز الوفاء ولا يمكن أن يرجع في وعده أبدًا: ﴿فاستبشروا﴾ الاستبشار الشعور بالفرح في قلب الإنسان مما يظهر أثره على بشرة الوجه: ﴿ببيعكم الذي بايعتم به﴾ عند مباشرتكم لتسليم نفوسكم وأموالكم لله في ساحة الوغى وإقبالكم على القتال مسرورين مستبشرين غير كارهين ولا متكلفين: ﴿وذلك هو الفوز العظيم﴾ وهل من فوز أعظم من أن يكون المجاهد مالكًا لحق مكتسب عند الله وفق وعده هو ثمن ما بايعه
@لكنه لا ينبغي حسبانه
#سببًا له التأثير في المنعات
@الشرع بالأسباب يأخذ فاتبع
#ما قد أتى في محكم الآيات
@والعزم شرط في التوكل ثابت
#معه بأمر الله عالي الذات
@ (واعقل بعيرك) ثم كن متوكلًا
#قال الرسول بأصرح الكلمات
@وبذا تبين أن ترك الاحتيا
#ط مخالف للشرع والحكمات
@وكذاك ترك السعي ليس من التوكـ
#ـل بل يغاير أنبل الغايات
@لله
#خرق العادات
@والرزق قد يأتي بلا سبب كما
#يقضي على الإنسان بالسكتات
@فضلًا من المولى كما هو شأنه
#فهو الكريم ووافر المنات
@والناس تنسبه لحظ المرئ وهـ
#ـو مقدر في تلكم اللحظات
@أو أنه هو من إرادة ربهم
#مولى الحظوظ ومانح الثروات
@والله إذ خلق المسيح بلا أب
#متخطيًا في ذلك العادات
﴿قال إني أنا أخوك﴾ يوسف الذي افتقدني أبوك منذ صغرك: ﴿فلا تبتئس بما كانوا يعملون﴾ أي لا تظهر نقمتك على إخوتك عندما تدرك أني لم أمت وأن ما لفقوه من الأخبار لوالدك عن أمري ما هو إلا محض افتراء ولتطمئن بأنك قد أصبحت في حمى أخيك فسُّرَّ بنيامين بهذه البشرى وكتم السرّ في نفسه وأصبح يرقب ما سيدبره أخوه في شأنه.
﴿فلما جهزهم﴾ يوسف: ﴿بجهازهم﴾ أي أعطاهم ما هم في حاجة إليه من الزاد: ﴿جعل السقاية﴾ وهي الوعاء الذي كان يسقي به الملك الخمر ثم اتخذه يوسف صواعًا للكيل: ﴿في رحل﴾ وهو ما يجعل على ظهر البعير كالسرج بمعنى أنه دسها وخبأها في رحل: ﴿أخيه﴾ بنيامين: ﴿ثم أذن مؤذن﴾ أي نادى مناد في القوم قائلًا: ﴿أيتها العير﴾ أي يا أصحاب هذه الإبل: ﴿إنكم لسارقون﴾ أي لقد افتقدنا شيئًا مهمًا ونجزم أنكم أنتم السارقون له: ﴿قالوا﴾ أي إخوة يوسف: ﴿وأقبلوا عليهم﴾ أي حال كونهم مقبلين جميعًا عليهم من غير خوف ولا وجل اطمئنانًا من أنفسهم بأنهم لم يسرقوا شيئًا: ﴿قالوا ماذا تفقدون﴾ أي: أي شيء ذلك الذي افتقدتموه: ﴿قالوا﴾ أي قال ذلك الذي أذّن ونادى واتهم القوم بالسرقة: ﴿نفقد صواع الملك﴾ الثمين الذي نكتال به للناس: ﴿ولمن جاء به﴾ من تلقاء نفسه نعطيه هدية بدلًا عنه: ﴿حمل بعير﴾ من الطعام: ﴿وأنا به زعيم﴾ أي كفيل بتأدية هذه المكافأة إلى من رد الصاع لنا من غير تفتيش فأجابوه جوابًا حاسمًا بنفي التهمة عنهم بتاتًا،: ﴿قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض﴾ أي إنا لنقسم وأنتم تعلمون بصدقنا في قسمنا لما ثبت عندكم من أمانتنا وبرنا بوعدنا للعزيز بالإتيان ببنيامين معنا وقبل الغاية التي جئنا من أجلها وعدم استحلالنا للبضاعة التي وجدناها في رحالنا وظنناها وضعت خطأ أو سهوًا والسارق لا يفعل ذلك البتة فلا يتصور صدور الفساد بمعنى السرقة منا: ﴿وما كنا سارقين﴾ أي ولم تكن السرقة من طبائعنا وليس لنا سابقة فيها: ﴿قالوا﴾ أي أصحاب يوسف إذا صح ما تقولون: ﴿فما جزاؤه﴾ أي جزاء سارق الصواع: ﴿إن كنتم كاذبين﴾ أي إذا ظهر كذبكم في دعوى البراءة: ﴿قالوا جزاؤه﴾ أي جزاؤه السارق الكاذب في دعوى البراءة في شرعنا: ﴿من وجد في رحله فهو جزاؤه﴾ أي إن جزاءه أن ينكّل به ويسترق لأنه لا ينبغي أن يحتسب في عداد الأحرار الشرفاء قال المنادي قبلنا هذا الحكم الذي قضيتموه على أنفسكم ثم أخذ يقوم بعملية التفتيش: ﴿فبدأ بأوعيتهم﴾ أي بتفتيشها: ﴿قبل وعاء أخيه﴾ فلم يجد بها شيئًا: ﴿ثم استخرجها﴾ أي السقاية
يمكن لك أن تضلل من اتبعه، وهذا بمثابة رد على ما جاء على لسان إبليس في سورة الأعراف من قوله: ﴿فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ فأشار هنا إلى أن الصراط المستقيم حقًّا إنما هو صراط الإخلاص الذي لا يمكن لإبليس أن يضل من اتبعه، ولما كان هذا القول قد يشعر بأن لإبليس سلطانًا على عباد الله غير المخلصين أردف الآية بما يشير إلى أن الله لم يمنح إبليس سلطانًا ولا قدرة على أحد من عباد الله مطلقًا سواء كانوا مخلصين فليس من حقه أن يقهر أحدًا ويرغمه على الضلال بل إنما سلطانه على من اتبعه باختياره حيث قال: ﴿إن عبادي﴾ جمع عبد أي جميع العباد: ﴿ليس لك عليهم سلطان﴾ أي لا سيطرة وقدرة على قهرهم: ﴿إلا من اتبعك من الغاوين﴾ أي إلا من سلك سبيلك في الكبرياء والغرور وعدم الطاعة والعناد ورضي بمحض اختياره أن ينهج نهجك من الغاوين المنقادين للهوى والشهوات: ﴿وإن جهنم لموعدهم أجمعين﴾ أي من اتبعك من الغاوين وسلطانك عليهم إنما هو بسبب انقيادهم لك فقط، وقد أيد الله هذا المعنى بقوله: ﴿إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون﴾ وجاء في سورة إبراهيم ما يشير إلى أن الشيطان سيتخذ من هذا وسيلة للتنصل من ضلالة أتباعه يوم القيامة إذ يقول: ﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾.
﴿لها سبعة أبواب﴾ يدخلونها لكثرتهم أو سبع طبقات ينزلونها بحسب استحقاقهم رُوِيَ عن ابن عباس أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها: ﴿لكل باب منهم جزء مقسوم﴾ أي لكل باب من هذه الأبواب أو طبقة من هذه الطبقات فريق خاص من الناس بحسب سوء أعمالهم ومبلغ ما يستحقونه من عذاب.
بعد أن أوضح الله حقيقة أصل الإنسان ومبلغ تكريمه بأمر الملائكة بالسجود له وإنزال اللعنة على إبليس لاحتقاره له وتوعد الغاوين من أتباع إبليس بالاصطلاء بنار جهنم في الآخرة أتبع ذلك بذكر ما سيناله المتقون من نعيم في الآخرة فقال: ﴿إن المتقين﴾ أي الذين اتقوا الله بتجنب الشرك الذي هو الظلم العظيم الذي أخبر الله أنه الذنب الذي لا يغفر، مع الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار عند اقتراف السيئات: ﴿في جنات وعيون﴾ أي إن مصيرهم في الآخرة إلى جنات وعيون ويقال لهم يوم القيامة: ﴿ادخلوها﴾ أي الجنات: ﴿بسلام﴾ من جميع الآفات
المنافقين: ﴿لا يزال بنيانهم﴾ للمسجد: ﴿الذي بنوا﴾ وأقسموا أنهم لم يريدوا به إلا الحسنى: ﴿ريبة في قلوبهم﴾ أي موضع ريبه في قلوبهم حتى بعد أمر الرسول بتحريم القيام فيه بمعنى أنه ثقل عليهم هدمه وازداد بغضهم للرسول وازداد ارتيابهم في نبوته لأجله فلا تزول تلك الريبة من قلوبهم: ﴿إلا﴾ وقرئ «إلى»: ﴿أن تقطع﴾ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تنقطع وقرئ بضم التاء وتشديد الطاء: ﴿قلوبهم﴾ قطعًا وتتفرق أجزاء فحينئذ تزول تلك الريبة منها أي أن قلوبهم ما دامت سالمة متجمعة فالريبة متأصلة ومتمكنة فيها ولا سبيل إلى انفكاكها عنها ولو أن إيمانهم كان قائمًا على أساس من العقيدة الصحيحة الثابتة لأدركوا أن هدم الرسول للمسجد ما كان إلا بوحي من الله العليم بمقاصدهم التي فصلها الله فيحملهم هذا على الخوف منه والتوبة من النفاق: ﴿والله عليم﴾ بهذا منهم: ﴿حكيم﴾ في عدم تعجيل عذابهم أي أن له في هذا حكمة.
بعد أن شرح الله فضائح المنافقين ومبلغ نقمته عليهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك أخذ يبين ما للجهاد من فضيلة استدعت كل ذلك فقال: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ التي هي من خلقه: ﴿وأموالهم﴾ التي سخرها لهم وأباح لهم تملكها في هذه الحياة: ﴿بأن لهم الجنة﴾ أي بثمن هو الجنة في الآخرة وصفقة البيع لا تتم إلا عندما: ﴿يقاتلون في سبيل الله﴾ أي من أجل إعلاء كلمة الله وإقامة شريعته والعمل على مرضاته: ﴿فيقتلون﴾ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول: ﴿ويقتلون﴾ بالبناء للمفعول وقرئ بالبناء للفاعل أي لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل فكلاهما بذلا النفس والمال في سبيل الله لا حبًّا في سفك الدماء ولا رغبة في الاستعلاء ولا توسلًا إلى ظلم العباد واستعمار البلاد: ﴿وعدًا عليه حقًّا﴾ أي وعدهم الله بذلك وعدًا أوجبه لهم على ذاته العلية وجعله حقًّا عليه أثبته: ﴿في التوراة والإنجيل والقرآن﴾ أي أوجبه على قوم موسى وعيسى وأمة خاتم أنبيائه محمد بن عبد الله في كتبهم الثلاثة: ﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ أي ولا أحد أصدق في إنجاز وعده من الله عز وجل إذ لا يمنعه عن ذلك عجز الوفاء ولا يمكن أن يرجع في وعده أبدًا: ﴿فاستبشروا﴾ الاستبشار الشعور بالفرح في قلب الإنسان مما يظهر أثره على بشرة الوجه: ﴿ببيعكم الذي بايعتم به﴾ عند مباشرتكم لتسليم نفوسكم وأموالكم لله في ساحة الوغى وإقبالكم على القتال مسرورين مستبشرين غير كارهين ولا متكلفين: ﴿وذلك هو الفوز العظيم﴾ وهل من فوز أعظم من أن يكون المجاهد مالكًا لحق مكتسب عند الله وفق وعده هو ثمن ما بايعه
الله يعلم سرهم وجهرهم ولا تجوز عليه خدعتهم وأيمانهم الباطلة: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ أي أتباعه الذين يتبعون ما يشير به عليهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين يخسرون الصفقة يوم القيامة لأن الشيطان كان يعدهم ويمنيهم بشيء لا يملكه وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ﴾ أي يعادون ويغضبون: ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بالكفر بهما وعدم اتباع أوامرهما: ﴿أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾ أي الذين لا يستحقون العزة التي كتبها الله لذاته العلية ولأجل أن لا يظن من هذا أنه لن يكون لهم شيء من العزة بالمرة فيقول أعداء الله نحن أولاء أعزة غير أذلاء أوضح الله المراد بقوله: ﴿كَتَبَ اللهُ﴾ في لوحه المحفوظ عنده: ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ بالإسكان وقرأ نافع الياء والغلبة معناها القهر والسيطرة وهذا لا يكون إلا في النهاية إثر تضارب القوى والله سبحانه وتعالى إذ منح بني الإنسان القوة لا يمكن أن يحرمهم من أهم مزاياهم وهي العزة وسيادة بعضهم على بعض وفق أنظمة سنها لذلك وإنما احتفظ لذاته العلية ولرسله بالغلبة في النهاية على أعدائه فحزب الشيطان أعداء الله مهما عزوا وتغلبوا على حزب الله وأنصاره فإنه لا يمكن أن يقهروا الله أو يحولوا دون قيام رسله بواجب تبيلغ دعوته بل إنه تعالى هو الذي سيقهرهم بالموت الذي لا بد منه لكل حي في النهاية وهو الذي سينصر دينه ويؤيد شريعته ولو كره الكافرون: ﴿إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ﴾ لأنه هو مالك جميع القوى المادية والمعنوية التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها: ﴿عَزِيزٌ﴾ أي منيع لا ينال ولا يغلب ولا يعجزه شيء، وهنا أخبر الله رسوله بسنة من سننه الكونية ليستطيع معها أن يتبين درجة الإيمان في قلوب المؤمنين بل إنه يمكن لكل فرد أن يختبر بها مبلغ إيمانه بالله فقال: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ عن عقيدة راسخة ويقين ثابت: ﴿يُوَادُّونَ﴾ أي يحبون ويؤيدون: ﴿مَنْ حَادَّ﴾ أي عادى: ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي يوادون قومًا من أجل اتصافهم بعداوة الله ورسوله – محبة تحملهم على مناصرتهم وتأييدهم في خصومتهم وعدائهم لهما لأن من أحب شخصًا لا يمكن أن ينحاز إلى عدوه وينصره عليه فكيف بالله رب العالمين: ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾ أي الذين يحادون الله ورسوله: ﴿آبَاءهُمْ﴾ الذين أوجب الإسلام طاعتهم: ﴿أَوْ أَبْنَاءهُمْ﴾ الذين هم من أحب الناس إليهم: ﴿أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ الذين يعتزون بهم ويفاخرون: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الذين لا يجدون في قلوبهم حبًّا لمن ذكر بوصفهم أعداء الله: ﴿كَتَبَ﴾ الله بمعنى ثبت: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾ فلا يتأثرون بالعواطف ولا تطوح بهم الأهواء: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ أي
بعد أن دلل الله في السورة السابقة على عظيم قدرته التي اقتضت أن تكون الحياة الدنيا دار اختبار وأمر رسوله بدعوة الناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وإنذار الكافرين بعذاب أليم وختم السورة بقوله –: ﴿قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين﴾ – أخذ يرد على ما كان يقوله بعض الكافرين في سرهم من أنا سننظر ربما كان هو الضال من دوننا فنفى سبحانه هذا الوهم بما يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن على شيء من الضلال بل إنه متصف بجميع صفات الكمال وما الضالون غير أولئك الذين كفروا به وكذبوه ونسبوا إليه السحر والجنون وأقسم سبحانه على هذا بما هو مسجل في علمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه عن مصير العباد أجمعين وعبر عن ذلك بوسائل التسجيل حيث قال: ﴿نون والقلم﴾ رُوِيَ عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له اكتب قال وما أكتب؟ قال اكتب ما كان وما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة» فالمراد بالقلم هو ما أجراه الله في علمه من أحكامه القضائية النافذة والقدرية المعلقة بأعمال العباد من قبل خلق السماوات والأرض: ﴿وما يسطرون﴾ أي وما يسطره الملائكة الذين وكل الله إليهم استنساخ أعمال العباد الصادرة عن كامل الخيار حيال أحكامه القدرية وسننه الاجتماعية في هذه الحياة: ﴿ما أنت بنعمة ربك﴾ التي أنعم بها عليك من هذا القرآن الذي تتلوه: ﴿بمجنون﴾ تهذي وتتكلم بما تتخيله من غير وعي كما يرميك به خصومك الذين قالوا –: ﴿يا أيها الذي أنزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾.
﴿وإن لك لأجرًا﴾ على أداء الرسالة وتحمل أذى قومك: ﴿غير ممنون﴾ أي غير مقطوع بمعنى متصل دائم تستحقه على عملك وفق قدر الله الذي منح الثواب فضلًا منه للعاملين شأنك في هذا شأن كل من سن سنة حسنة أن يكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ الخلق ملكة نفسية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة وهي إما أن تكون منحة من الله بأساس الفطرة والطبع أو عن طريق التربية والتعليم وقد منّ الله على نبينا ﷺ بالخلق الكريم من حداثة سنه وأهّله لأن يكون مثلًا عاليًا لمكارم الأخلاق حيث أنزل عليه القرآن كتابًا داعيًا إلى حسن الخلق بمختلف الوسائل والتعابير التي صدرت منه ﷺ ولهذا لما سئلت السيدة عائشة عن خلقه قالت كان خلقه القرآن وقال عن نفسه صلى
مكية عدد آياتها ست وأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (٢٥) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (٢٦) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (٣٣) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَن طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾.
لقد جرت العادة أن يكون القسم وسيلة لتأكيد الأخبار عند سامعيها وأن يكون المقسوم به شيئًا يؤمن المخاطبون بعظمته وإن لم يكن في ذاته عظيمًا ومن أجل هذا خاطب الله الناس على قدر عقولهم فأقسم لهم في كتابه الكريم بأنواع من المخلوقات لتأكيد صحة ما أخبر عنه واختار من المخلوقات التي يقسم بها ما لا يستطيع أحد أن يجحد وجودها أو يكابر في عظمتها التي تدل على وجود وعظمة خالقها، ولما كان موضوع البعث بعد الموت من الأمور التي أبى التسليم بها كثير من الناس فقد أكثر الله جل وعلا من إقامة الأدلة على إثباته بمختلف الوسائل وأنواع الأدلة لأن إنكاره إنكار لقدرة الله وسبيل لإمعان العباد في العصيان وارتكاب مختلف السيئات التي تدعو إلى


الصفحة التالية
Icon