وجودك ولم تهدهم رسلك وآياتك إلى الإيمان بك والاعتراف بوحدانيتك، ونسبوا كل شيء في الكون إلى أعمال الطبيعة وما شاكلها ﴿ولا الضالين﴾: الذين يزعمون الإيمان بك ولكنهم يتخذون معك شركاء أو يتقربون إليك بعبادة الأوثان ويثبتون لغيرك النفع والشر واستجابة الدعاء وقضاء الحوائج والعلم بالمغيبات فيدعونهم من دونك ويرجون منهم ما لا يقدر عليه أحد سواك. آمين.
﴿٢﴾ أن الدعاء وسيلة الوصول إلى السعادة.
﴿٣﴾ أن حصر الفكر والجهود ضمن دائرة المادة مما يؤدي إلى الشقاء في الحياتين.
﴿٤﴾ أن الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات إنما هي اختبارات من الله في مادة الصبر.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالصبر، وأخبرهم بأنه سيبتليهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات مبلغ صبرهم أثناء تلك الحالات أخذ يذكرهم ببعض المواقف التي يطلب فيها الصبر على تنفيذ أوامر الله؛ وذلك أنه كان على الصفا صنم، وعلى المروة صنم، وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما؛ فلما جاء الإسلام بالطواف بينهما كره المسلمون ذلك لأنهما كانا موضع الصنمين، فأراد سبحانه وتعالى أن ينتزع من قلوبهم كراهة ما أمر الله به حتى ولو كان ذلك عن قصد حسن فقال ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ أي أنه سبحانه وتعالى جعل ما بين الصفا والمروة محلًّا لعبادة خاصة هي السعي ما بينهما ﴿فمن حج البيت أو اعتمر﴾ أي كل من جاء للحج في أيامه المعلومة، أو كل من زار البيت الحرام في غير تلك الأيام ﴿فلا جناح عليه﴾ أن يتخذهما شعائر و ﴿أن يطوف بهما﴾ رُوِيَ عن عروة أنه قال لعائشة رضي الله عنهما: إني أرى من هذه الآية أن لا حرج علي أن لا أطوف بهما فقالت بئسما قلت لو كان هذا مراد الآية لقال تعالى ولا جناح عليه أن لا يطوف بهما ﴿ومن تطوع خيرًا﴾ وقرئ ﴿يطّوع﴾ بالياء وتشديد الطاء بأن نفذ هذا الأمر دون أن يداخله أي كراهة وصبر على تحمل الآلام في أداء المناسك وتنفيذ أوامر الله ﴿فإن الله شاكر﴾ هذا التكليف ﴿عليم﴾ بمن أقام شعائره وامتثل أوامره، وقد دلتنا هذه الآية أن الله إذا قضى بأمر فلا ينبغي أن يصدنا عنه ما قد يداخله أم يعترض تنفيذه من شوائب إذ العبرة بالقصد الذي يعلمه رب العالمين لا بما تعلمه العباد.
بعد أن أرشد الله المؤمنين إلى سبيل السعادة في الحياة أخذ يوضح لهم أسوأ ما يؤدي للنقمة والشقاء فقال ﴿إن الذين يكتمون﴾ عن الناس ﴿ما أنزلنا من البينات﴾ أي الآيات الدالة على وحدانية الله ووجود إفراده بالعبادة
وحدق النظر فيها لترى بعينك (كيف ننشزها) أي نرفعها ونركبها فوق بعضها وقرئ «نُنشزُها» بضم النون الأولى وقرئ «ننشرها» بالراء بدل الزاي أي نحييها في لحظة واحدة (ثم نكسوها لحمًا) وما لبث أن رأى عظام حماره قد تجمعت أمامه وكسيت لحمًا وعادت إليه الحياة (فلما تبين له) أنه كان مخطئًا في تصوراته الماضية بما ثبت لديه من إمكان بقاء الميت مئة عام على حاله إلى أن تعود إليه الحياة وإمكان بقاء الطعام والشراب مئة عام أيضًا دون أن يتعفن أو يتبخر، وإمكان تجمع العظام النخرة المبعثرة وكسوها لحمًا وإعادة الحياة إليها في الحال، وكل ذلك ما لم يكن يسلم به عقله من قبل. عندئذ (قال) نادمًا على ما فرط منه (أعلم) الآن علمًا يقينيًا مبنيًا على التجربة والاختبار (أن الله على كل شيء قدير) لا يتقيد سبحانه في الخلق والتكوين والحياة والموت بالأسباب والعادات والسنن والمعقولات، إذ العقول إنما تبني أحكامها على مقتضى التصورات والمرئيات وبحسب تجارب الحياة، وما في علم الله غير ذلك فأسرار الوجود وحقيقة أساس التكوين وأمر الخليقة لا يعلمه إلا الله ولا يخرج عن قوله تعالى: للشيء الذي يريده «كن فيكون» في وقته.
وبعد أن ضرب الله المثالين لمبلغ ولايته للمؤمنين أردف ذلك بهذا المثال ليبين للناس كيف يؤيد سبحانه وتعالى من تولاه ويطمئنه بدوام نصره وتثبيته فقال (وإذا قال إبراهيم) لقد أجمع المفسرون لهذه الآيات على أن إبراهيم عليه السلام أراد يومًا أن يرى بعينيه كيفية إعادة الحياة إلى الأجسام الميتة ليضم حكم العيان إلى نور الوحي والإيمان وليطمئن قلبه بوافر البرهان واتخذ الناس من هذا مثلًا يضربونه لزيادة التأكد من صحة الخبر فيقولون إن إبراهيم قد طلب هذا من ربه والمعنى أن إبراهيم كان يداخل نفسه نوع من عدم الاطمئنان الذي يحتاج معه إلى زيادة التثبت وهذا ما لم تسلم به نفسي فإبراهيم لم يكن في حاجة إلى التأكد من ذلك فهو قوي الإيمان بربه وقد عرف الله قصده ولذلك لم يره إحياء الموتى عيانًا بل علمه طريقة الإحياء والذي أراه هو أنه عندما رجع من محاجة النمروذ ظافرًا منصورًا وخلى إلى نفسه وذكر نعمة الله عليه بتخليصه من ذلك المأزق الحرج وتلقينه لتلك الحجة الدامغة عاد فاستعرض حال النمروذ وكيف أن ولاية الطاغوت له قد أخرجته من النور إلى الظلمات وجعلته يكفر بما أنعم الله عليه من الملك ويدعي الألوهية ثم كيف انصرف في أثناء المحاجة عن دعواه القدرة على إحياء الموتى ولم يصر على حصر البحث في هذه النقطة فحدثته نفسه حديثًا معقولًا هو أن هذا الطاغية لن يصبر على ما أصابه من الخذلان أمام
بفطرته ومنذ نشأته: ﴿من المشركين﴾ الذين يعبدون غيره أو يخافون سواه بل هو ذلك الرجل الذي لم يخش الناس ولم يعبأ بما أعدوه له من النيران في سبيل رضاء ربه فكانت عليه بردًا وسلامًا.
بعد أن رد الله على ما كان يتحدث به جماعة من اليهود فيما يتعلق بتحليل بعض الأطعمة وكان آخرون منهم يقولون إن جميع الأنبياء من نسل إبراهيم وسائر الأنبياء كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه، فلو كان محمد على شريعتهم لعظم ما عظموا ولما تحول عن قبلتهم إلى الكعبة فرد الله شبهتهم هذه بقوله: ﴿إن أول بيت وضع﴾ أوجده الله على وجه البسيطة وشرفه بالانتساب إليه وجعله ﴿للناس﴾ مشتركًا بينهم جميعًا لا يملك لأحد ولا يختص به فريق دون آخر ﴿للذي ببكة﴾ أي هو الذي وضع بمكة لغايتين اثنتين: إحداهما أن يكون ﴿مباركا﴾ تفيض على قاصديه البركة من الله في جميع الأوقات، وتتضاعف بسببه للعابدين حوله الحسنات، وتجبى من أجله إلى جيرانه مختلف الثمرات والخيرات. ﴿و﴾ ثانيتهما أن يكون ﴿هدى للعالمين﴾ يستطيعون بواسطته تركيز اتجاههم إلى جهة معينة يتوجهون إليها وبيت خاص يهرعون إليه في النائبات ويحطون بساحته ما لهم من حاجات ويطمئنون هنالك بحسن القبول وعظيم الرضوان، ولولا ذلك لظلوا حيارى إلى أين يتوجهون وبأي ساحة ينزلون، فمن العسير على المخلوق المادي أن يتوجه إلى ما كان خارجًا عن دائرة المحسوسات، ومن الصعب على النفوس أن تطمئن تمامًا إلى غير الماديات، ومن أجل هذا أوجد الله لهم بيتًا نسبه إليه وبوأ لإبراهيم مكانه فرفع قواعده بالبناء ليتوجه الناس إليه في صلواتهم ويقصدونه في مهماتهم كما هو شأنهم عندما يلجأون إلى ملك من ملوك الدنيا ابتغاء القرب أو بلوغ الحاجات. وشرع لهم تعالى فريضة الحج بما فيها من أعمال ومناسك لتنظيم أوقات الزيارة وآدابها، ووعدهم على ذلك بوافر الإحسان وعظيم الرحمات ثم إنه زيادة في الفضل ودليلاً على الرضا وضع لهم هنالك الحجر الأسود ليكون كرمز ليمين الله في الأرض وشرع لهم تقبيله ليشهد لمن يقبله يوم القيامة، فلا غرو إذا كان لهذا البيت أثره الحميد في هداية الخلق إلى الخالق وإحكام الصلة ودوام الاتصال بينه وبينهم بالاتجاه إليه والإكثار حوله من أنواع العبادات التي من شأنها أن تهذب النفوس وتهديها إلى باريها.
النفقة والرحمة بهن أما الضرب المبرح فقد نهى عنه الرسول ﷺ بقوله: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها أو قال يضاجعها من آخر اليوم» ﴿فإن أطعنكم﴾ بواحدة من هذه الوسائل التأديبية ﴿فلا تبغوا عليهن سبيلًا﴾ آخر غير ذلك ﴿إن الله كان عليًا كبيرًا﴾ أي: إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم عليهن فاحذروا من ظلمهن لئلا ينتقم الله لهن منكم ولم يكن ضرب المرأة مستساغًا عند رسول الله ﷺ في أول الأمر حتى لقد جاء زيد بن أبي زهير ومعه ابنته حبيبة يشكو إليه زوجها سعد بن الربيع بن عمر وقال: يا رسول الله أفرشته كريمتي فلطمها فقال صلى الله عليه وسلم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فما لبث أن نزل الوحي على رسول الله ﷺ فقال: ارجعوه، هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية وتلاها ثم قال: «أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراده الله خير» ولكنه أخذ عليه الصلاة والسلام يستقبح الضرب وينفر منه بما جاء في الصحيحين من قوله: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» ﴿وإن خفتم شقاق بينهما﴾ أي تخالف وتنازع بين الرجل والمرأة ﴿فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها﴾ إلى كل من الزوجين على انفراد لدرس أسباب الخلاف وإزالة دواعي الشر وإحلال الود والولاء محل الخصومة والجفاء ليعمدا على الإصلاح ما استطاعا ويخيرانهما في الأمر ويعدانها بأنهما ﴿إن يريدا﴾ بقلوبهما ﴿إصلاحًا﴾ لما بينهما من تنافر ﴿يوفق الله بينهما﴾ لأنه لم يجمع بينهما إلا ليتفقا ويتفاهما لا ليختلفا ويفترقا ﴿إن الله كان عليمًا﴾ بما يضمران في قلبيهما من حسن النية وعدمها ﴿خبيرًا﴾ بحقيقة ما يختلفان من أجله في الواقع مهما حاولا كتمانه.
#محكم الوضع ما به أخطاء
@وجميع الكائنات تجري بأمر
#من لدن قادر له ما يشاء
@مالك الملك ذو الجلال تعالى
#عن شريك وما له أبناء
@ومحيط بكل شيء فما
#يعزب عنه ذرارة أو هباء
@علمه سابق العوالم طراً
#يستوي الجهر عنده والخفاء
@ليس شيء كمثله وهو فرد
#صمد وارث له العلياء
وقال تعالى عن القسم الثاني: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بوحدانية الله (وَظَلَمُوا) أنفسهم باتخاذهم مع الله شركاء ونسبوا إليهم شيئاً من التصرفات كالنفع والضر وقضاء الحوائج وإغاثة المضطر فهؤلاء (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأنهم بعلمهم هذا قد افتاتوا عليه جل وعلا وأثبتوا لغيره من السلطان ما لم يكن لأحدٍ سواه وما لهم بذلك من علم ولا دليل وهذا هو الشرك الذي أكد الله عدم غفرانه بقوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) أي ولم يكن من مقتضى سننه في خلقه أن توصلهم تلك العقيدة فيهم إلى طريق ما (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي إلا الطريق المؤدي إلى جهنم ذلك أن الله تعالى قد وضح في كتابه الكريم مختلف الطرق وأرشد الناس إلى ما ينتهي إليه كل طريق فمن سلك الطريق الذي يؤدي إلى الجنة فهو بالغه بسبب اهتدائه بهداية القرآن ومن سلك الطريق الموصل إلى الجحيم فهو لا بدّ صائر إلى نهايته حيث يصطدم إذ ذاك بجهنم (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) الخلود في اللغة بقاء الشيء مدة طويلة في عذاب مستمر لا يتخللها فترات راحة (وَكَانَ ذَلِكَ) أي الخلود والعذاب المستمر (عَلَى اللهِ يَسِيرًا) لا يعجزه ذلك بخلاف ما تعوده الناس في هذه الحياة من أن لكل شيء بداية ونهاية وأن لكل حركة
بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا فسكن غضبه ﷺ ونزلت هذه الآية ﴿وإن تسألوا عنها حين ينزل﴾ بفتح النون وتشديد الزاي وقرئ «ينزل» بسكون النون وتخفيف الزاي ﴿القرآن تبد لكم﴾ أي في حين أن هذا الذي تسألون عنه إن كان من الدين الذي ينزل به الوحي فلا بد أن تبلغوا به مثال ذلك أنه لما أنزل الله قوله: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا﴾ قال بعض الصحابة أفي كل عام يا رسول الله فسكت ثم كرروا ذلك فقال: «لا ولو قلت نعم لوجبت -ولو وجبت لما استطعتم-» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها» ﴿عفا الله عنها﴾ أي عما كان من مسألتكم قبل النهي فلا يعاقبكم عليها لسعة عفوه ﴿والله غفور﴾ لما يصدر من العبد قبل النهي ﴿حليم﴾ لا يعجل عذابه ليجعل للناس متسعًا من الوقت للرجوع إليه بالتوبة والندم فيما بعد فلا تتعجلوا الأمور ﴿قد سألها قوم من قبلكم﴾ أي أن جماعة سألوا عن أشياء لم تطلب منهم فلما أبديت لهم لم يعملوا بمقتضاها ﴿ثم أصبحوا بها كافرين﴾ فكأنهم بصنيعهم جلبوا الهلاك لأنفسهم كما حصل من قوم صالح إذ طلبوا منه أن يأتيهم بأمر يتقربون به إلى الله فقال لهم: «هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين».
بعد أن نهى الله المؤمنين عن التدخل فيما لا يعنيهم أو ما ليس من الدين السؤال عنه أخذ ينهاهم عن أمرين خطيرين الأول التمسك بالعادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والثاني تقليد الآباء فيما يلقونه لهم من عقائد وأحكام لا تتفق مع ما جاء من عند الله وبدأ بتحطيم ما كان للعرب من عادات أربع توارثوها عن بعضهم الأولى: هو أنه إذا أنجبت الناقة عندهم خمسة أبطن وكان الخامس أنثى يبحرون أذنها أي يشقونها شقًّا واسعًا ويطلقون عليها اسم «بحيرة» ويحرمون أكلها وركوبها أو الحمل عليها. العادة الثانية: أنهم كانوا يعتقون بعض النوق ويطلقون عليها اسم «السائبة» ويحرمونها على أنفسهم بنذر أو متى ولدت عشرة أبطن كلها إناث فكانت لا تركب ولا يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف ولا تمنع من الرعي حيث شاءت حتى تموت.
خير قدموه» ﴿إن ربك حكيم﴾ في تقدير ما يستحقه كل مذنب من عذاب ﴿عليم﴾ بمن يستحق الرحمة والغفران.
بعد أن سأل الله الجن عن إضلالهم للإنس وتصدى أولياؤهم من الإنس للدفاع عن أنفسهم بإنكار ولايتهم عليهم وإضلالهم لهم وقولهم إنما حصل لم يكن إلا مجرد استمتاع بعضهم ببعض أخذ يؤكد تلك الولاية التي تؤدي إلى الضلال لا بين الإنس والجن بل بين الظالمين من الإنس الذين يظلم بعضهم بعضًا من حيث لا يشعرون فقال ﴿وكذلك﴾ أي بمثل ما حصل من تولي الإنس للجن واتباع وساوسهم وهم لا يشعرون فقد قضت سنتنا في خلقنا أن ﴿نولي بعض الظالمين بعضًا﴾ أي نجعل بعض الظالمين ينقادون إلى من كان مثلهم من الظالمين عن طيب نفس وكامل اختيار ﴿بما كانوا يكسبون﴾ أي بمشاكلتهم في العمل وموافقتهم في العقائد التي تقتضي المشاركة بحسب دستور الله في قوله ﴿إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض﴾ وقوله ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم﴾ وقوله ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر الولاية بين كل فريق بالعمل الاختياري وتوضح معنى الولاية التي ينكرونها، وهنا ضرب الله صفحًا عن اعترافهم بالولاية وأراد أن يثبت عليهم الضلال الذي يحاولون إنكاره فقال ﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم﴾ أي من جملتكم لا من كل منكم لأنه لم يرد في القرآن أن الله قد أرسل رسلًا من غير الإنس وثبت أن نفرًا من الجن قد استمعوا للقرآن واهتدوا بهديه ﴿يقصون عليكم آياتي﴾ المنزلة عليكم المبينة لأصول الإيمان وصالح الأعمال وفاسدها ﴿وينذرونكم لقاء يومكم هذا﴾ أي يؤكدون لكم أمر البعث والحساب والعقاب على من كفر وارتاب ﴿قالوا شهدنا على أنفسنا﴾ ببلوغ الدعوة إلينا أو اعترفنا من قبل بأنا نحن الذين لم نكن نصدق بتلك الآيات ولم نؤمن برسالة الرسائل فلا سبيل إلى الجحود ذلك فأمره ثابت شائع بين الناس أجمعين ﴿وغرتهم الحياة الدنيا﴾ أي غرهم متاع الحياة الدنيا من الشهوات والمال والجاه ﴿وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين﴾ بالله جاهدين سننه منكرين آياته مكذبين رسله ﴿ذلك﴾ أي إنما سألهم الله عن إتيان الرسل الموكول إليهم أمر الرسالة والإنذار لأن الله من كمال عدله قد أخذ على نفسه ألا يهلك الناس
الفراعنة على المصريين عمومًا ﴿وملئه﴾ أي مساعديه ومعاونيه بمعنى رجال دولته ولم يقل وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا يتولون الحكم ويستعبدون بني إسرائيل لا سائر المصريين الذين لم ينجوا بأنفسهم من جبروت الملوك إذ كانوا يسخرونهم بالقوة في بناء الأهرامات ﴿فظلموا﴾ أي فرعون وملأه والظلم وضع الشيء في غير موضعه ﴿بها﴾ أي بالآيات إذ قابلوها بالإنكار والكفر بدلًا من الإيمان والقبول فكان هذا ظلمًا منهم بها ﴿فانظر﴾ وتدبر أيها العاقل المفكر ﴿كيف كان عاقبة المفسدين﴾ في الأرض بالظلم واستعباد البشر ولما كان هذا القول من شأنه أن يبعث في النفوس رغبة في معرفة تفاصيل ما حدث قال تعالى ﴿وقال موسى﴾ عندما أمر بتبليغ الرسالة ﴿يا فرعون إني رسول من رب العالمين﴾ بما فيهم أنت أيها الملك وهذا بمثابة إنكار على فرعون في دعوى الربوبية ووقف له عند حد الملكية ﴿حقيق على﴾ بتخفيف الياء أي جدير بي وقرئ «حقيق عليّ» بتشديد الياء بمعنى واجب عليّ ﴿أن لا أقول على الله إلا الحق﴾ إذ لولا علمه تعالى بأمانتي ما اختارني للرسالة فلا يمكنني أن أكذب عليه ولا تتصوروا أن يبعث الله رسولًا كاذبًا ولأجل أن أثبت لكم رسالتي عنه ﴿قد جئتكم ببينة﴾ أي معجزة ظاهرة لا تقبل الجدل ﴿من ربكم﴾ الذي يأتي بالمعجزات وخوارق العادات فإذا آمنتم برسالتي ﴿فأرسل معي بني إسرائيل﴾ أي أطلق سراحهم من أسرك ليهاجروا معي من أرضك إلى حيث يأذن ربهم ﴿قال﴾ فرعون ﴿إن كنت جئت بآية﴾ من عند من أرسلك كما تزعم ﴿فأت بها﴾ أي أظهرها أمامي ﴿إن كنت من الصادقين﴾ في دعوى الرسالة ﴿فألقى﴾ موسى ﴿عصاه﴾ التي كانت بيده ﴿فإذا هي ثعبان﴾ وهو الذكر العظيم من الحيات ﴿مبين﴾ أي ظاهر لا يشك أحد من أنه ثعبان حقيقي يسعى ويتنقل من مكان لآخر ﴿ونزع يده﴾ من جيبه ﴿فإذا هي بيضاء﴾ بياضًا ناصعًا ﴿للناظرين﴾ من فرعون وملئه ومن كان معه في ذلك الحين وقد وصف الله بياضها في سورة النمل والقصص بقوله: ﴿من غير سوء﴾ أي من غير مرض يعني بياضًا غير بياض البرص ﴿قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم﴾ أي أنهم لم يستطيعوا إنكار ما شهدوا فلجئوا إلى تعليل هذه الظاهرة بأنها نوع من أنواع السحر الذي كان رائجًا في ذلك الحين وهو عبارة عن أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على الناس لجهلهم بأسبابها ولذا زعموا بأنه على علم تام بهذا الفن وأنه ادعى الرسالة لأنه ﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون﴾ بمعنى أنه يريد أن يستميل بسحره الشعب
تثبت المؤمنين إلى أن التقوا بصحابة رسول الله وجهًا لوجه واحتدم القتال بينهما وعلم الشيطان أن الله قد ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب يئس منهم و ﴿نكص على عقبيه﴾ أي تراجع عن وسوسته وتقهقر وانهزم: ﴿وقال إني بريء منكم﴾ أي لا شأن لي بكر: ﴿إني أرى ما لا ترون﴾ من تعلق إرادة الله بنصر محمد وصحبه: ﴿إني أخاف الله﴾ أن يصيبني ما أصابكم وينزل بي سبحانه نقمته إذا أنا استمررت في مناصرتكم: ﴿والله شديد العقاب﴾ أي فأنا أعلم بشدة عقاب الله جل شأنه: ﴿إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض﴾ عند تزيين الشيطان لأعمالهم: ﴿غر هؤلاء﴾ المؤمنين: ﴿دينهم﴾ الذي يزعم محمد أنهم باعتناقه ينالون النصر علينا ومن هذا جرؤ على التصدي لقتالنا، وهنا أثبت الله هذه الحقيقة بدليل منطقي ثابت هو قوله: ﴿ومن يتوكل على الله﴾ أي يكل إليه كل أموره مؤمنًا بقدرته على كل شيء واثقًا من أنه لا بد أن يعينه وينصره ويكفيه كل ما أهمه: ﴿فإن الله عزيز﴾ لا يمكن أن يتخلى عن نصرة من استنصر به واعتمد عليه: ﴿حكيم﴾ يعلم كيف يتخير لعباده ما فيه صالحهم وسعادتهم فمنهم من يذيقه الله لذة النصر على عدوه في الدنيا ومنهم من ينيله من شرف الشهادة ما هو خير له من ذلك في الآخرة، ولقد جهل الكثير من الناس معنى التوكل فحسبوه ترك العمل اعتمادًا على الله، الأمر الذي أدى إلى البطالة وهذا فهم خاطئ فالسعي أمر فرضه الله على عباده إلى جانب التوكل عليه والاعتماد على فضله إذ قال: ﴿فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه﴾ وأمر بأداء العبادات إلى جانب الإيمان بالله، وأما التوكل فمعناه التفويض إلى الله في أمر نجاح ذلك المسعى إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتعود بطانًا» أي أنها تخرج من أعشاشها في طلب رزقها وهي لا تعلم مقره فمنها ما تجده على بعد خطوات ومنها ما تجده على بعد أميال وكل يرجع في المساء مشبعًا. وإن من أبرز فضائل التوكل على الله هو أنه يوجد في النفس من الطمأنينة ما لا سبيل إلى الحصول عليها من غيره مثال ذلك ما نراه من مرح الأطفال ودوام سرورهم نتيجة اتكالهم على آبائهم الذين تعهدوا بإطعامهم وكسوتهم وقضاء كل طلباتهم فهم بذلك لا يحسبون للدنيا حسابًا، وهكذا فإنه متى عمل المسلمون في الحياة حسبما أمرهم الله واتكلوا على وعده تعالى القائل: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ كاتكال أولئك الأطفال على آبائهم لوجدوا من الطمأنينة في نفوسهم وانتزاع الهم من قلوبهم ما يجعلهم يشعرون بالسعادة الحق التي يجدها الأطفال في
به وأكد له أمر الوفاء به وإنجازه وضمن له بمقتضاه السعادة في الآخرة. وهنا أراد الله أن يبين حقيقة من يعنيهم بالمؤمنين الذين اشترى أنفسهم فقال هم من تتوفر فيهم ثمان صفات إيجابية وصفة سلبية تميزهم عن غيرهم من المنافقين وضعاف الإيمان الأولى: ﴿التائبون﴾ أي الذين يرجعون إلى الله بالتوبة كلما اقترفوا ذنبًا وفي هذا إشارة إلى أنه لا يراد بالمؤمنين الذين لا يرتكبون المعاصي كليًا فأولئك هم الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم الثانية: ﴿العابدون﴾ أي الذين يتوجهون دائمًا إلى الله بدعواتهم ويخلصون له أعمالهم ولا يستعينون بأحد سواه الثالثة: ﴿الحامدون﴾ أي الذين يعتقدون أنه لا تقع ضر ولا خير إلا منه ولذلك فإنهم يحمدونه جل وعلا في السراء والضراء على نعمه التي لا تحصى الرابعة: ﴿السائحون﴾ في الأرض لطلب العلم أو نشر الدعوة للإسلام أو لكسب الرزق والنفقة في سبيل الله الخامسة والسادسة: ﴿الراكعون الساجدون﴾ لله في صلواتهم وفي هذا إشارة إلى أن المقصود من الصلاة إنما هو الخضوع التام الذي لا يكون إلا لله السابعة والثامنة: ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر﴾ أي الذين يدعون الناس إلى أعمال الخير بالحسنى وينهونهم عن المعاصي بقدر المستطاع أما الصفة السلبية التاسعة فهي قوله: ﴿والحافظون لحدود الله﴾ بمعنى الذين لا يتجاوزون حدود ما يجب وما يحظر على المؤمنين بحسب أحكام الشريعة الإسلامية: ﴿وبشر﴾ أيها الرسول: ﴿المؤمنين﴾ الموصوفين بهذه البضع الصفات بصحة إيمانهم وتقبل أعمالهم. وإن في تعداده تعالى لهذه الصفات ما يشير إلى ضرورة اعتماد المؤمن على قبول ما يقدمه من الأعمال الصالحات المذكورة لا أن يظل في شك من مزايا أعماله فيهمل أمرها اعتمادًا على شفاعة الشافعين أو دعاء الداعين له. ولأجل أن يبالغ الله في حض الناس على العمل ويقطع كل أمل لهم في شفاعة الشافعين أو حتى دعاء الداعين أنحى باللائمة على رسوله وخاتم أنبيائه لأنه حاول أن يستغفر لعمه أبي طالب وجاء إليه في مرض موته يقول له: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» وصار يكررها فقال أبو طالب يا ابن أخي لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك ولكني أريد أن أموت على ملّة عبد المطلب فأنزل الله قوله: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ أي ليس من شأن النبي ولا مما يمكن صدوره عنه من حيث هو نبي ولا مما يجوز أن يقع من أحد من المؤمنين أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين بحال من الأحوال
@وكذاك أبقى ميتًا مائة من الأ
#عوام أعقبها بعود حياة
@وكذاك لم يفسد طعامًا كان ثم
#ولا شرابًا طيلة الأوقات
@وكذاك جمع ما تحطم من عظا
#م بعثرت في تلكم الفلوات
@وأعاد سيرتها حمارًا مثلما
#كانت فقد أومى إلى حكمات
@هي أنه المتعال غير مقيد
#في الخلق بالأسباب والعلات
@فالرزق رزق الله والأعمال من
#كسب العباد بأمر عالي الذات
@وبمقتضى سنن له جعل الخيا
#ر لمن يزاولها من النسمات
@ومشيئة المولى الأساس لكل شي
#ء وهي في الأسباب والغايات
@ولو أن للأسباب تأثيرًا إذًا
#لتصادمت لتعارض الوجهات
@ولكان ترجيح بغير مرجح
#وهو المحال ومنكر القالات
@أو كل ثمت من لزام بينها
#بالفعل في التأثير والمنعات
@لتسلسلت ولدارت الدنيا بها
#وتعطلت لله بعض صفات
بحضورهم جميعًا: ﴿من وعاء أخيه﴾ فبهتوا ولم يدركوا أن تلك حيلة دبرت عليهم: ﴿كذلك﴾ أي ما صدر من يوسف من وضع الصواع في رحل أخيه واتهام إخوته بالسرقة وسؤالهم عن جزاء السارق وإفتائهم بأن من وجد في رحله فهو جزاؤه كل ذلك من الأمور التي: ﴿كدنا ليوسف﴾ أي دبرناها لمصلحة يوسف تدبيرًا خفيًًّا ظاهره الإثم ودفعناه إليه ليبلغ به غايته ولولاه: ﴿ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك﴾ أي ما كان في استطاعته أن يأخذ منهم أخاه بحسب شريعته وشريعة آبائه يعقوب وإبراهيم بدون حق فهذه المكيدة التي دبرها يوسف هي التي حملت الإخوة على الحكم باسترقاق السارق المكذب لبراءتهم ولولا ذلك لحكموا عليه بالتغريم أو التعزير جزاء على السرقة مما لا يريده يوسف ولم يدبر الكيد من أجله: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ سببًا آخر لأخذه فيلهمه إياه ولكنه لم يهده إليه فدل هذا على أن ما ذكر كان من كيد الله أي تدبيره الذي علمه له وأجراه على يده وارتضاه فلا إثم فيه لأن إبقاء بنيامين عند أخيه كان عملًا صحيحًا في ذاته وقد أخبره بأنه أخاه ليكون على بينة من أمره فلا يزعجه ما سيدبره من الحيل لاستبقائه لديه، ولولا هذا الكيد وهذه الحيلة لما تم ليوسف ما يريد إذ لو علم الإخوة من قبل بأن يوسف هو خازن الأقوات لما جرؤوا على لقائه بعد ما أساؤوا إليه ولكتموا الأمر على أبيهم لئلا يفتضح أمرهم: ﴿نرفع درجات﴾ بالتنوين في العلم بحقائق الأمور وما فيه من المصلحة والخير وقرئ بإضافة درجات إلى ما بعدها: ﴿من نشاء﴾ له الرفعة فنلهمه الحكمة وحسن التدبير: ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ أي أن علوم البشر كلها قاصرة لأنها تقوم على أساس التجارب والأحكام الظاهرة أما علم الله فإنه علم واسع مبني على حقائق الأمور وحسن مقاصدها وقد انطلى هذا الكيد الإلهي على إخوة يوسف وحسبوا أن بنيامين فعلًا كان هو سارق الصواع فأرادوا أن يظهروا للعزيز قناعتهم بثبوت السرقة على بنيامين فأيدوها وأعلنوا براءتهم من عمله وعزوه إلى طبع سرى إليه من جهة أمه: ﴿قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل﴾ ويعنون به يوسف أخاهم من أبيهم دون أمهم: ﴿فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم﴾ أي كتم غيظه واتهامهم له في مواجهته من جديد بما لم يصدر منه حرصًا على تطبيق الخطة التي رسمها لإحضار أبيه: ﴿قال﴾ في نفسه: ﴿أنتم شر مكانًا﴾ أي أنتم شر منزلة في السرقة إذ سرقتموه من أبيه: ﴿والله أعلم بما تصفون﴾ أي بما تنسبونه إليه الآن من السرقة التي هو منها بريء: ﴿قالوا يا أيها العزيز﴾ نحن لا نعارض في استحقاقه بالاسترقاق ولا نرجع عن حكمنا
والأمراض: ﴿آمنين﴾ على أنفسكم من كل ما يخيف وفي مقدمة ذلك الخوف من زوال النعم: ﴿ونزعنا﴾ أي أخرجنا: ﴿ما﴾ كان: ﴿في صدورهم﴾ في الحياة الدنيا: ﴿من غل﴾ وهو الحقد الكائن في القلب أي وقضينا فيها على كل أسباب التحاسد والتباغض والعداء بحيث يمسوا هنالك: ﴿إخوانًا﴾ أصفياء متحابين: ﴿على سرر﴾ جمع سرير وهو مجلس رفيع مهيأ للسرور بنعمة الراحة والاطمئنان: ﴿متقابلين﴾ غير متدابرين يأنس بعضهم ببعض يجتمعون ويتنادمون ولا يختلفون في شأن من الشؤون: ﴿لا يمسهم فيها نصب﴾ أي لا يلحقهم في تلك الجنات أدنى مشقة ولا أذى لتوفر أسباب الراحة لهم: ﴿وما هم منها بمخرجين﴾ أي أنهم يلتذون فيها بنعمة الخلود.
بعد أن توعد الله الغاوين من أتباع إبليس بنار جهنم في الآخرة وأوضح ما سيناله المتقون في الجنة من نعيم مقيم أخذ يجتذب إليه قلوب المذنبين بما فتحه أمامهم من أبواب الأمل في رحمته والتعريف بمبلغ بطشه بمن يرفض الاستجابة له والرضى بسلوك السبل المؤدية لنيل رضوانه فأمر رسوله ﷺ أن يعلن للملأ خير بشرى من رب العالمين حيث قال: ﴿نبئ عبادي﴾ أي المعترفين بعبوديتهم لي المذعنين لي بتوحيد الربوبية: ﴿أني أنا الغفور الرحيم﴾ هذا تأكيد من الله بغفرانه للذنوب ورحمته لعباده بألفاظ ثلاث أولها قوله: ﴿أني﴾ وثانيها قوله: ﴿أنا﴾. وثالثهما إدخال أداة التعريف على قوله «غفور رحيم» ليشهد رسوله على تغلب صفة الغفران والرحمة عنده على جميع الصفات والتزامه تعالى بالتكرم بهما على كل من رجاهما بدليل قوله بعد ذلك: ﴿وأن عذابي هو العذاب الأليم﴾ حيث لم يصف ذاته العلية بأنه هو المعذب بل اكتفى بمجرد وصف عذابه وهذا بلا شك من كمال الرحمة التي أشار إليها الرسول ﷺ بقوله «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمه فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» وقد رُوي عن قتادة قال بلغنا عن النبي ﷺ أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه» أي قتلها «ورُوي عن أسباب نزول هذه الآية أن النبي ﷺ مر بقوم من أصحابه وهم يضحكون فقال أتضحكون والنار بين
به وأكد له أمر الوفاء به وإنجازه وضمن له بمقتضاه السعادة في الآخرة. وهنا أراد الله أن يبين حقيقة من يعنيهم بالمؤمنين الذين اشترى أنفسهم فقال هم من تتوفر فيهم ثمان صفات إيجابية وصفة سلبية تميزهم عن غيرهم من المنافقين وضعاف الإيمان الأولى: ﴿التائبون﴾ أي الذين يرجعون إلى الله بالتوبة كلما اقترفوا ذنبًا وفي هذا إشارة إلى أنه لا يراد بالمؤمنين الذين لا يرتكبون المعاصي كليًا فأولئك هم الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم الثانية: ﴿العابدون﴾ أي الذين يتوجهون دائمًا إلى الله بدعواتهم ويخلصون له أعمالهم ولا يستعينون بأحد سواه الثالثة: ﴿الحامدون﴾ أي الذين يعتقدون أنه لا تقع ضر ولا خير إلا منه ولذلك فإنهم يحمدونه جل وعلا في السراء والضراء على نعمه التي لا تحصى الرابعة: ﴿السائحون﴾ في الأرض لطلب العلم أو نشر الدعوة للإسلام أو لكسب الرزق والنفقة في سبيل الله الخامسة والسادسة: ﴿الراكعون الساجدون﴾ لله في صلواتهم وفي هذا إشارة إلى أن المقصود من الصلاة إنما هو الخضوع التام الذي لا يكون إلا لله السابعة والثامنة: ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر﴾ أي الذين يدعون الناس إلى أعمال الخير بالحسنى وينهونهم عن المعاصي بقدر المستطاع أما الصفة السلبية التاسعة فهي قوله: ﴿والحافظون لحدود الله﴾ بمعنى الذين لا يتجاوزون حدود ما يجب وما يحظر على المؤمنين بحسب أحكام الشريعة الإسلامية: ﴿وبشر﴾ أيها الرسول: ﴿المؤمنين﴾ الموصوفين بهذه البضع الصفات بصحة إيمانهم وتقبل أعمالهم. وإن في تعداده تعالى لهذه الصفات ما يشير إلى ضرورة اعتماد المؤمن على قبول ما يقدمه من الأعمال الصالحات المذكورة لا أن يظل في شك من مزايا أعماله فيهمل أمرها اعتمادًا على شفاعة الشافعين أو دعاء الداعين له. ولأجل أن يبالغ الله في حض الناس على العمل ويقطع كل أمل لهم في شفاعة الشافعين أو حتى دعاء الداعين أنحى باللائمة على رسوله وخاتم أنبيائه لأنه حاول أن يستغفر لعمه أبي طالب وجاء إليه في مرض موته يقول له: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» وصار يكررها فقال أبو طالب يا ابن أخي لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله على ذلك إلا جزع الموت لأقررت بها عينك ولكني أريد أن أموت على ملّة عبد المطلب فأنزل الله قوله: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ أي ليس من شأن النبي ولا مما يمكن صدوره عنه من حيث هو نبي ولا مما يجوز أن يقع من أحد من المؤمنين أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين بحال من الأحوال
قوى عزائمهم بقوة روحية منه جل وعلا: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ﴾ في الآخرة: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ حسبما وصفها لهم سبحانه وتعالى في عدة مواضع من القرآن: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ برًّا بوعده الذي تفضل به على عباده المؤمنين: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ﴾ إذ تقبل أعمالهم: ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ إذا قنعوا بما نالهم من فضل: ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ﴾ الذي يؤمنون به ويتبعون أحكامه ويهتدون بهديه الذي أنزله لهم: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفلاح معناه الظفر وإدراك البغية. وهو ضربان دنيوي وأخروي فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا من الصحة والمال والجاه وأما الأخروي فأربعة أشياء بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذا يقال: لا عيش إلا عيش الآخرة.
سورة الحشر
مدنية وعدد آيتاتها أربع وعشرون

(بسم الله الرحمن الرحيم)

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ (٢) وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن
الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فسأله رجل عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ ثم قال «هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وحضَّ عليه وأعلى شأنه حيث قال أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق» وسأله رجل ما الدين فقال «حسن الخلق وهو أن لا تغضب» وأجمع الرواة على أنه ﷺ كان من أحلم الناس وأشجعهم وأعدلهم وأعفهم وكان أسخا الناس وأبرهم وأكثرهم حياء وتواضعًا وأنه كان يخدم أهله ويقطع اللحم معهن ولا يستكبر عن المشي مع الأرملة والمسكين ويغضب لربه ولا يغضب لنفسه وينفذ الحق ولو على أهله ويقبل المعذرة ولا يحقد على أحد ولا يجازي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح فلا غرو إذا ما شهد له ربه بالخلق العظيم أي البالغ منتهى الكمال: ﴿فستبصر﴾ أيها الرسول أي سترى بعين البصيرة: ﴿ويبصرون﴾ أي الكافرون في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة متى حكّموا عقولهم وتجردوا عن كل عصبية جاهلية: ﴿بأيكم المفتون﴾ الباء بمعنى في، والمفتون المعجب بنفسه الضال في رأيه وهو المجنون والمعنى في أي الفريقين المجنون أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار وذلك عند ما يرون انتشار الإسلام في الخافقين برغم ما يضعونه في سبيله من عقبات وما يحاربونه به من مختلف الأسلحة التي تثبت لكل عاقل أنه لو كان من وحي الشيطان كما يزعمون لما رسخ كل هذا الرسوخ ولما انتصر على جميع محاربيه. فلم يبق من شك في أنه من وحي رب العالمين القائل –: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾.
﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ وكان حقًّا مجنونًا: ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ العقلاء الذين إذا وضح لهم الحق آمنوا به وسلكوا سبيله المستقيم: ﴿فلا تطع﴾ أي لا تتبع ولا تعمل بقول: ﴿المكذبين﴾ من رؤساء قريش الذين ينكرون رسالتك ويريدون منك أن تبثها لهم بالإتيان بشيء من خوارق العادات كما كان يفعل من قبلك من الأنبياء فقد جئت بطريقة أوضح من طريقتهم واخترنا لك معجزة أثبت من معجزاتهم وهي القرآن فأنت بما أنزل عليك من القرآن إنما تدعو الناس إلى الإيمان بأنه كلام الله وتتحداهم أن يأتوا بمثله فإن صدقوا بأنه حقًّا كلامه تعالى فقد آمنوا برسالتك عنه وإلا فقد كفروا بالله بتكذيب ما جاء من عنده ومن دعا إليه وقد بيّن الله السبب في هذا وفي تحذيره ﷺ من طاعة المكذبين بما جاء في سورة الإسراء من قوله: {وما
الفوضى واختلال الأمن والعبث بنظم الله الاجتماعية، ولهذا أثبت الله لذاته العلية القدرة على البعث في السورة السابقة بما عدده من عجائب مخلوقاته. كتمهيد الأرض واتخاذ الجبال أوتادًا فيها وفصَّل ما ينتهي إليه أمرها يوم القيامة وما يكون بعده من عذاب للطاغين وحسن جزاء للمتقين ثم أخذ يقسم جلَّ وعلا في هذه السورة على صحة البعث بما يحبر الألباب من عظيم قوته تعالى الكامنة وراء الأسباب المادية من قوى غير منظورة لا تستطيع العقول النيرة أن تتجاهل تأثيرها فيما هو بين سمعها وبصرها فذكر خمس كلمات أقسم الله بها جل جلاله ولم ينقل عن رسول الله ﷺ نص صريح عن المعنى المراد منها فأخذ المفسرون يؤولونها ويحملونها على معان قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة وما هي في الواقع سوى مجرد احتمالات تناقلوها عن بعضهم وجرى أكثرهم عن أن المراد منها الكواكب والنجوم وليست هي بمعان أساسية لتلك الكلمات وقد هداني الله إلى معنى أرجو أن يكون أقرب إلى الحقيقة فأقول: من الأمور الثابتة عند الناس أن الغرق موجب لانتزاع روح الإنسان من جسده مع أن كثيرًا من الحيوانات وخصوصًا منها السمك لا يموت بالغرق بل إن من الإنسان من يُلْقى في الماء وينجو بعد الموت لتمرنه على السباحة أو لسبب آخر يكون سببًا في نجاته بل إن بعض السباحين قد يموت بالغرق رغم إتقانه فن السباحة الأمر الذي يدل على أن هناك قوة خفية تسيطر على الحياة والموت هي قوة الله.
لذا قال تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾: أي والقوى التي جعلت الأرواح تنزع من أجسادها.
﴿غَرْقًا﴾ أي في حالة الغرق وهي قوة الله، كذلك من الناس من يرى في نفسه نشاطًا وتهيُّؤًا للعمل مرة وأخرى يحس في نفسه بفتور وكسل ولا يعرف لذلك من سبب فأراد الله أن يشعره بأن ذلك بقوة الله فأقسم بها حيث قال: ﴿وَالنَّاشِطَاتِ﴾ أي القوى التي تبث في جسم الإنسان النشاط: ﴿نَشْطًا﴾: أي في سرعة زائدة، كذلك الطيور التي تسبح في الفضاء والسفن التي تجري على الماء تدل على أن هناك قوة تحول دونها ودون السقوط هي قوة الله ولذا أقسم بها تعالى حيث قال: ﴿وَالسَّابِحَاتِ﴾ أي والقوى التي جعلت الطيور والطائرات تسبح في الفضاء والسفن تسبح في وسط المياه: ﴿سَبْحًا﴾: أي جريًا حسب سنن الكائنات.
﴿فَالسَّابِقَاتِ﴾: أي فالقوى التي جعلت الخيل تسبق في بعض الأحيان ولا تسبق في أخرى: ﴿سَبْقًا﴾: أي في حالة السبق وهي لا شك قوة الله.


الصفحة التالية
Icon