سورة البقرة
الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)
وعدم الشرك به ﴿والهدى﴾ لسائر أحكام الله التي شرعها لإصلاح البشر ﴿من بعد ما بيناه﴾ بواسطة سنة رسولنا بأن يتقاعسوا عن نشر الدعوة التي أوضحناها أو يصوروا التشريع الإلهي على غير وجهه الصحيح ﴿للناس﴾ مفصلًا ﴿في الكتاب﴾ وهو كفيل بهداية الناس إلى الصراط السوي متى قرئ بإمعان وتدبر ﴿أولئك يلعنهم الله﴾ لكتمانهم ما أنزله تعالى على عباده، وتعطيلهم كتبه السماوية ﴿ويلعنهم اللاعنون﴾ إذ أنهم بعملهم هذا استحقوا أن يكونوا موضع لعن اللاعنين حيث تسببوا في عدم انتشار النور الإلهي بين الناس مما يؤدي إلى الشقاء وتوالي النقم ﴿إلا الذين تابوا﴾ عن الكتمان ﴿وأصلحوا﴾ أنفسهم بالاهتداء دائمًا بهدي الكتاب والسنة ﴿وبينوا﴾ ذلك وجهروا به بكل جرأة وصراحة ودون أن تأخذهم في الله لومة لائم ﴿فأولئك أتوب عليهم﴾ أي ألهمهم التوبة لأمنّ عليهم بالغفران ﴿وأنا التواب﴾ الذي يقبل التوبة من عباده كلما أذنبوا وأنابوا ﴿الرحيم﴾ الذي لا يضن على من شعر بذنبه وندم على ما فرط منه بالرحمة والغفران، وقد دلتنا هاتان الآيتان على ما يأتي:
﴿١﴾ أن من أسباب شقاء العالم قصور كل ذي علم من المسلمين في نشر الدعوة إلى الدين الخالص عن طريق كتاب الله وسنة رسوله.
﴿٢﴾ أن كل من يكتم آيات الله أو يعمل على إخفائها وعدم نشرها والعمل بها وتصويرها على غير حقيقتها فهو مستحق للعنة الله والناس، ولا يرفع عنه ذلك إلا إذا عدل أولًا عن خطئه، وأصلح ثانيًا نفسه وعمل ثالثًا من جديد على نشر الدعوة إلى العمل بكتاب الله فإنه لا يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
بعد أن أخبر الله المؤمنين بأن سر شقاء العالم هو كتمان ما أنزل الله أو عدم الجهر بالحق، وتوعد كل من يتعمد ذلك باللعنة وفتح لهم باب الأمل في التوبة وعرفهم سبيلها أخذ يبين لهم جزاء من يرفض سماع دعوة الإسلام ويأبى الإذعان لآيات الله وقوله الحق فقال: ﴿إن الذين كفروا﴾ بآيات الله وأنكروا شرعه ﴿وماتوا وهم كفار﴾ بأن أصروا على كفرهم حتى الممات ﴿أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ وقد استحقوا اللعنة
الجماهير من الناس وقد يحمله غروره على استدعائه ثانيًا ليطالبه بأن يريه كيف يحيي الله الموتى فتوجه إلى مولاه قائلًا (رب أرني) وعلمني (كيف تحيي الموتى) فأمر البعث والنشور نقطة حساسة يتطلع الناس إلى بحثها والتأكد منها فربما أيدوا النمروذ في المطالبة بإيضاحها (قال) الله له (أو لم تؤمن) أنت بقدرتي على إحياء الموتى (قال) إبراهيم (بلى) ما في ذلك شك ولولا إيماني بذلك ما طلبت منك أن تطلعني على تلك الكيفية (ولكن) الذي حملني على هذا هو موقف النمروذ مني فأردت أن أتزود بما يقوي حجتي أمامه وأتعلم منك معرفة إحياء الموتى (ليطمئن قلبي) بقهر النمروذ إذا هو حاول إحراجي مرة أخرى (قال) الله إذا طالبك بهذا (فخذ) أمامه وعلى ملأ من قومه (أربعة من الطير) الأحياء (فصرهن) بضم الصاد وسكون الراء بمعنى إجمعهن وقرئ بضم الصاد وتشديد الراء مفتوحة من الصر أي الشد والصرة ما تعقد فيها الدراهم وقرئ بكسر الصاد وسكون الراء وقرئ بفتح الصاد وتشديد الراء مكسورة (إليك) صرًا محكمًا حتى تزهق أرواحهن من شدة الضغط وعدم التنفس وانتظر حتى يثبت للجميع موتهن (ثم اجعل على كل جبل) من الجهات الأربع (منهم جزءًا) واحدًا من تلك الطيور الميتة (ثم ادعهن) بأمري (يأتينك سعيًا) ملبين الدعوة لا يمنعهن ما حصل من إزهاق أرواحهن ولا بعد أمكنتهن وتعدد جهاتهن (وأعلم أن الله) في إحيائه الموتى إذا دعاهم يجيبون هكذا غير مقيد بما ألفتموه من الأسباب والوسائل كما كان شأنه في بدء الخلق إذ قال للسموات والأرض «ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين» وهو جلت قدرته (عزيز) لا يرضى لمناصريه الخذلان فيؤيدهم بمختلف الوسائل وفصل الخطاب (حكيم) كم يجعل لغيره تأثيرًا في الحياة والموت، بل ترك أمر ذلك مفوضًا إليه «إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون».
بعد أن أمر الله المؤمنين بالإنفاق في سبيله وذكرهم بذاته العلية كي يبادروا إلى طاعته وترك لهم الخيار في اتباع دينه وبين لهم مزية الإيمان بالله وولايته تعالى للمؤمنين وما يترتب على هذه الولاية من الإخراج من الظلمات إلى النور، ومثل لذلك بأمثلة ثلاثة. ولما كان الإنفاق في سبيله من أشق الأمور على النفس أعاد سبحانه وتعالى البحث في أمره لزيادة الترغيب فيه مبينًا مبلغ ثمرته وما يترتب على الإخلاص فيه فقال (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) من كل عمل خيري لا سيما ما كان نفعه عامًا وأثره خالدًا في هذه الحياة (كمثل) من يبذر (حبة) بأرض خصبة فإنه لا
﴿فيه آيات﴾ أمارات ﴿بينات﴾ تبرهن على ذلك، فمن الأدلة على أنه هو أول بيت وضع للناس ﴿مقام إبراهيم﴾ أي موضع قيامه عند بنائه للكعبة وهو أول نبي كان حنيفًا مسلمًا خرج على معتقدات قومه من عبادة الأوثان وأخذ يبحث عن ربه حتى عرفه فوجد عنده حسن اليقين وقد اقتضت إرادة الله أن تغوص قدما خليله في حجر صلب بشكل خارق للعادة وينطبع أثرهما عليه ويحفظ ذلك على مر السنين تخليدًا لذكرى عمله الجليل، وآية قائمة على أنه هو الباني لأول بيت وضع للناس من رب العالمين، والعرب يعرفون هذا بالنقل المتواتر من ذلك التاريخ، ﴿و﴾ من الأدلة على بركته أن ﴿من دخله﴾ أي البيت محتميًا به ﴿كان آمنا﴾ فهو في أمان الله وحفظه بحيث إن من يجرأ على ترويعه أو ظلمه فإنما ينتهك حرمة بيت ربه وقدسية أمانه، ذلك أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ووضع فيها بيته ليكون ملاذًا للخائف وملجأ للقاصد، فكل من جاء ملتجئًا خاضعًا تائبًا راجيًا عفو ربه واثقًا بقدرته على إعطائه ما يريد وتأمينه مما يخاف بلغه الله مناه ويسر له من السبل ما يجعل من له أمره فرجًا ومخرجًا، وقد قال تعالى: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾ وقد أجمعت العرب – وهم أحفظ الناس للذمار – على قدسية هذا البيت وتعظيمه باعتباره بيت الله منذ عهد الجاهلية، فكانت تحترم اللاجئ إليه وتؤمنه من كل اعتداء بما في ذلك الأخذ بالثأر، ﴿و﴾ من الأدلة على أنه هدى للعالمين أن ﴿لله على الناس﴾ عهدًا من القدم ﴿حج البيت﴾ فقد أمر إبراهيم أن يؤذن فيهم به وأن يعلمهم مناسكهم ويتوجه بهم إلى البيت ويهديهم إلى ما يقربهم إلى الله ﴿من استطاع إليه سبيلا﴾ أي وكان ذلك الأمر بالوجوب حقًا لله موجهًا إلى كل مستطيع قادر من المسلمين والمسلمات على الإنفاق وتحمل مشاق السفر ﴿ومن كفر﴾ بذلك فجحد فريضته، أو تركه مع الاستطاعة ﴿فإن الله﴾ قد قال في حقه إنه سبحانه ﴿غني عن العالمين﴾ المعرضين سواء كان ذلك الإعراض بالجحد أو التقصير بالكسل أو بالبخل، وفي هذا التعبير إشارة إلى المقت والسخط والخذلان، كما يقول المرء لمن لم يجب طلبه: إني غني عنك ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، والله سبحانه يقول لمن لم يبادر إلى حج بيته مع قدرته على ذلك بأنه غني عن العالمين: أي عن الناس أجمعين بما فيهم المطيع وغير المطيع فمن كفر فالغنى عنه أكثر، وهو سبحانه في غنى عن حجه، لأنه لم ينشئ البيت إلا لأمن عباده ولم يدعهم إلى حجه إلا لينتهلوا
بعد أن عالج الله جل وعلا أهم مشكلة من مشاكل الحياة وهي مشكلة تنازع السلطة بين الرجل والمرأة الذين يتكون منهما بناء صرح الأسرة بما أثبته من حق قيام الرجل على المرأة وتنظيم علاقتها به على أساس الطاعة وحفظ الحقوق أخذ يضع الأساس لصلاح حال المجتمع بأسره فأشار سبحانه إلى أن سعادة الناس لا تقوم إلا على أساس تبادل الثقة بين العبد وربه أولًا، وبينه وبين إخوانه في الإنسانية ثانيًا. ووصف لنا عز شأنه السبيل العملي إلى هذا بما أوجبه على العباد من الإيمان الكامل بالله المشتمل على موجب وسالب أو إثبات ونفي.
فأما الأول فهو قوله: ﴿واعبدوا الله﴾ والعبادة أساسها معرفة الله والإذعان له بالسلطان المطلق والقدرة الكاملة ودليلها اللجوء إليه بالدعاء وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتقرب إليه بصالح الأعمال.
وأما الثاني: فهو قوله: ﴿ولا تشركوا به شيئًا﴾ أي: لا تثبتوا في سركم لغيره سلطة غيبية أو قدرة خفية على كشف الضر أو قضاء الحوائج حتى ولو عن طريق الوساطة أو الشفاعة إذ النفع والضر لا يكون إلا من الله وحده بما انفرد به من الهيمنة على عبادة وما وضعه في خلقه من الخواص وما سنه من السنن، وارتباط الأسباب بالمسببات والشفاعة لا تكون إلا بإذن منه، وهو أجل من أن يكون له صاحبة أو ولد أو وسيط أو شفيع وإن في رسوخ هذه العقيدة في القلوب ما يجعلها قوية الثقة بالله خالقها وهاديها، وما الناس إلا عمالًا في حقل هذه الحياة الدنيا يولدون ويموتون ويزرعون ويحصدون ويعمل الجميع في مختلف النواحي بما وضع الله فيهم من قوة وما يسره لهم من أسباب لينال كل فرد من رزق الله الذي أوجد كل شيء من العدم واختص كل من في الوجود
سكون وساعة توقف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) سواء منكم الكافر بوجود الله أو المتخذ معه شركاء (قَدْ جَاءَكُمُ) جميعا (الرَّسُولُ) محمد بن عبد الله
<١٥>
(بِالْحَقِّ) أي بالقول الحق الذي ينطبق مع المنطق الصحيح والدلائل الثابتة (مِنْ رَبِّكُمْ) الذي خلقكم وسواكم (فَآمِنُوا) بربوبيته وألوهيته ولا تجحدوا قدرته ولا تشركوا به سواء (خَيْرًا لَكُمْ) في الدنيا والآخرة (وَإِنْ تَكْفُرُوا) وتصروا على عنادكم وجحودكم (فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جميع ذلك من خلقه فلا يؤثر كفركم في قدرته ولا يخرجكم هذا عن عبوديتكم له رضيتم أم كرهتم بل لا يحمله ذلك على تغيير نظامه الذي سنه لعباده (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) من شأنه العلم بكل ما يجرى في هذا الكون (حَكِيمًا) إذ جعل للناس كامل الحرية في معتقداتهم وأعمالهم ورتب عليها أمر الثواب والعقاب ليختار كل لنفسه ما يشاء من سعادة أو شقاء في الدنيا والآخرة.
بعد أن قسم الله غير المؤمنين إلى قسمين قال عن الأول أنه قد ضل ضلالا بعيدا وقال عن الثاني أنه سوف لا يغفر له ولا يهديه. ثم وجه خطابه إلى الناس كافة داعياً لهم إلى الإيمان بالله لصلاح أمرهم وإلا فإن كفرهم لا يؤثر فيه شيئاً أخذ جل وعلا ينهي أهل الكتاب عموما عن بعض أمور قد تكون في ظاهرها حسنة وهي عند الله سيئة من أعظم السيئات حيث قال (يَا أَهْل الْكِتَابِ) آي الذين آمنوا بوجود الله بما أنزل عليهم من الكتب السماوية (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) أي احذروا أن تتجاوزوا في كل أمر من أمور الدين الحد الذي أمركم به الله فالزيادة في الدين كالنقص فيه كلاهما مخالفة لأوامر الله بكم. فالطبيب مثلا إذا وصف علاجاً بكميات محدودة لشفاء مريض خاص وجاء مركب العلاج فزاد في المقادير أو نقص منها فإنه بعمله هذا إذا لم يقتل المريض فإنه قد يحرمه من الاستفادة من مزايا تلك الوصفة الأصلية وكذلك الحال إذا غلا المؤمن فزاد على أعمال الصلاة ركعة أو سجدة أو نقص مثلها ولذا كانت الزيادة في الدين بدعة وقد روي عن رسول الله ﷺ «أن الله لا يقبل من صاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجة ولا عمرة ولا
<١٦>
العادة الثالثة: هي أن الشاة إذا ولدت ذكرًا وأنثى أطلقوا عليها «الوصيلة» لأنها وصلت أخاها فيحرمون أخاها من أجلها فلا يذبحونه. العادة الرابعة: هي أن فحل الإبل إذا ضرب ضرابًا معدودًا حرموه على أنفسهم وسموه «الحامي» فلا يحمل عليه شيء. وقد جاء الإسلام بمنع كل هذه العادات والتقاليد فقال ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام﴾ فكل هذه الأسماء التي حرمها العرب في الجاهلية على أنفسهم لم يقر الله حرمتها ﴿ولكن الذين كفروا﴾ أي لم يكونوا مؤمنين ﴿يفترون على الله الكذب﴾ إذ يزعمون أن الله قد أقرهم عليها مستدلين على فريتهم هذه بقولهم: ﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ وهذا زعم ظاهر البطلان لأن نظام المشيئة لا يكره أحدًا على فعل شيء بعينه بل يجعل الناس أحرارًا فيما يقولون وما يفعلون فلا يعد تمسكهم بعاداتهم دليلًا على إقرار الله لها وقد نفاها الله بهذه الآية ليقطع حجتهم بتاتًا ﴿وأكثرهم لا يعقلون﴾ إذ لو عقلوا لقالوا لا نسلم بحرمة هذه الأشياء ما دام الله لم ينزل وحيًا بها خصوصًا وإن الأسباب التي يحرمون من أجلها على أنفسهم تلك الأنعام لا تصلح لأن تكون دليلًا معقولًا على حرمة شيء أحله الله ثم ثنى سبحانه وتعالى على هذا بما مر من تقليد الآباء في معتقداتهم فقال ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله﴾ في القرآن ﴿وإلى الرسول﴾ فيما ثبت عنه من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين القائمة على أساس درء المفاسد وجلب المصالح لا على مجرد العبث والخرافات ﴿قالوا حسبنا﴾ أي يكفينا ﴿ما وجدنا عليه آباءنا﴾ وسادتنا وعلماءنا ومشايخنا من عقائد وأحكام، فهم بلا شك أدرى منا بشئون ديننا وأعلم بما يحل وما يحرم وقد رد الله على قولهم هذا بقوله ﴿أولو كان آباؤهم﴾ أو مشائخهم من الجهل وقصر النظر بحيث ﴿لا يعلمون شيئا﴾ من حقائق الإسلام وأسرار التشريع ﴿ولا يهتدون﴾ إلى طريقة استنباط الأحكام على ضوء فهم معاني القرآن وصحيح السنة فهما صحيحًا بالنظر لما وقر في أذهانهم من آراء وتأويلات بعض المتقدمين. وإن مما يؤسف له أن المسلمين قد انحرفوا عن منطوق هذه الآية فصاروا يتمسكون بالعادات والتقاليد ويحافظون عليها أكثر من محافظتهم على عباداتهم كما أنه سرت فيهم منذ القرن الرابع بدعة التقليد والتعصب لآراء الأئمة المجتهدين. ويروون في هذا بعض أحاديث لا صحة لها كقولهم: «من قلد عالمًا لقي الله سالمًا» وقولهم: «اختلاف أمتي رحمة» مع علمهم بأن الله قد نهى عن التقليد وذم المقلدين في آيات كثيرة منها
لرغبة منه في إهلاكهم بل لما اقتضته حكمته في الأمم من أنه لا ينزل بهم عقابًا إلا أن يكون عن عمل استحقوه تربية لهم وإنذارًا لمن لم يسلم ولذا قال ﴿أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون﴾ أي أن الإهلاك والتعذيب ليس من صفات الله النفسية التي لا بد من وقوعها أأذنب الناس أم لم يذنبوا بل هو من أفعاله التي يربي بها عباده ﴿ولكل﴾ من الإنس والجن ﴿درجات مما عملوا﴾ أي منازل تتفاوت بتفاوت أعمالهم التي أعطاهم الخيار فيها وأعلمهم بما يترتب عليها من ثواب أو عقاب ﴿وما ربك بغافل عما يعملون﴾ فهو جل جلاله يحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم عليها وفق نظامه الذي يقضي بأن ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها﴾.
بعد أن فصل الله ولاية الظالمين بعضهم لبعض كيف تكون بحسب دستور الله وانتزع منهم اعترافهم بالظلم وأخبر أن إهلاكهم في الحياة لم يكن إلا عقابًا على أعمالهم التي ستتفاوت درجاتهم في الآخرة بمقتضاها الأمر الذي قد يدعو قصار النظر وضعاف الإيمان إلى القول بأنه لا بد وأن يكون لله مصلحة أو فائدة من أعمالنا جعلته يرتب عليها ثوابنا وعقابنا فصحح الله هذه العقيدة الفاسدة من وضع شياطين الإنس والجن بقوله: ﴿وربك الغني﴾ الذي أوجد كل شيء من العدم لصالح الإنسان لا يتصور أن يكون في حاجة إليه وإلى أعماله وهو إلى جانب غناه ﴿ذو الرحمة﴾ الواسعة التي اقتضت أن يكون للعمل الصالح أجر يدخل الجنة وللعمل السيئ جزاء يدخله النار ولولا ذلك ما اتجه الناس للخير وابتعدوا عن الشر ولم يكن لأحد من عباده حق في دخول الجنة فهو سبحانه بما شرعه من نظم وما قدره من حساب وعقاب إنما يرحم عباده دون أن يعود عليه من أعمالهم شيء من نفع، روى أحمد ومسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه من حديث قدسي أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو
المصري فيتبعه فيزيل دولتكم من الوجود ويقضي على ملككم وسلطانكم من البلاد وقد جاء في سورة الشعراء مثل هذا القول منسوبًا إلى فرعون نفسه إذ: ﴿قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون﴾ الأمر الذي يدل على إجماعهم في الرأي وترديدهم لهذا القول ﴿قالوا﴾ أي الملأ من قومه لفرعون عند استشارتهم في أمره ﴿أرجه﴾ وقرئ «ارجئهو» بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع وقرئ «ارجهي» بهاء مكسورة بعدها ياء أي أخر أمره ولا تتسرع بالفصل فيه أو احتجزه ﴿وأخاه﴾ هارون ﴿وأرسل في المدائن حاشرين﴾ أي رجال من الشرطة والجند يجمعون ويحشرون إليك السحرة من سائر المدن الآهلة بدور العلم والصناعة وأمرهم ﴿يأتوك بكل ساحر عليم﴾ بفنون السحرة ماهر فيها ليفضحوا لك سر ما زعم موسى أنه من دلائل رسالته وبهذا تأمن من فتنته وتضمن عدم تصديق الناس دعوته أما إذا قتلته فإنه لا يعدم من ينتصر له خصوصًا من بني إسرائيل الذين جاء مطالبًا بفك أسرهم والهجرة بهم من أرضك فيتفقون عليك ويقيمون ثورة ضدك. فقبل فرعون اقتراح رجال دولته وأرسل جنده إلى جميع الجهات في طلب السحرة وحدد لاجتماعهم يومًا مشهودًا هو يوم الزينة يوم العيد إذ يجتمع الناس من كل فج حول قصر الملك عادة لتقديم التهاني لفرعون كما حدد لهم وقت الضحى موعدًا لاجتماع حيث ﴿قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى﴾ ليشهدوا ما كانوا يتصورون من بطلان مزاعم موسى.
وفي الموعد، المضروب اكتظت الساحة بمئات الألوف من سائر أنحاء القطر المصري ﴿وجاء السحرة فرعون﴾ أي طلبوا منه مقابلة خاصة فأجاب طلبهم ﴿قالوا﴾ له ﴿إن لنا﴾ وقرئ «أئن» ﴿لأجرًا إن كنا نحن الغالبين﴾ أي طلبوا أن يمنحهم جائزة على إبطالهم سحر موسى فوعدهم بذلك ﴿قال نعم وإنكم لمن المقربين﴾ أي لكم جائزة وفوق الجائزة أعدكم بأني سأجعلكم من رجال معيتي الذين أعتمد عليهم في تأييدي وتثبيت قواعد ملكي متى نصرتموني على موسى وهنا خرجوا إلى الجماهير المجتمعة وبدءوا عملهم بمناقشة موسى في موضوع العصا ﴿قالوا يا موسى إما أن تلقي﴾ عصاك أولًا ﴿وإما أن نكون نحن الملقين﴾ أولًا ﴿قال﴾ لهم موسى ﴿ألقوا﴾ ما أنتم ملقون فلست بخائف من عملكم لأني أعرف من نفسي أني على حق وأن ﴿ما جئتم به السحر إن الله سيبطله﴾.
نفوسهم نسأله تعالى أن يثبت الإيمان واليقين في قلوبنا حتى نتكل عليه حق التوكل إنه سميع مجيب.
بعد أن حذر الله المؤمنين من بعض خلال نفسية دفعت المشركين من قريش إلى إتيان بدر بقصد الصد عن سبيل الله وشجعهم على ذلك الشيطان الذي تخلى عنهم في النهاية حيث لاقوا حتفهم ونالت أجسامهم جزاءها عقب على ذلك ببيان ما سينال النفوس أيضًا من الجزاء فوصف ما يصيب المشركين بعد موتهم من عذاب في العالم غير المنظور ليتنبه الناس إلى حقيقة يجب أن يؤمنوا بها وهي التي فصلناها في الصفحة ٣٢ من الجزء الثالث من أن الحياة الدنيا قسمان قسم مادي منظور وقسم غير منظور وأن الناس بالموت سينقلون إلى حياة برزخية أخرى تعذب فيها نفوس الكفار عذابًا غير منظور كما تنعم نفوس الشهداء والصالحين فيها بأنواع من الرزق والسعادة حتى يحين يوم البعث الذي تبدأ به الحياة الأخرى التي تعذب فيها النفوس والأبدان معًا فقال: ﴿ولو ترى﴾ أيها السامع لهذا القرآن العظيم أو التالي له: ﴿إذ يتوفى﴾ وقرئ «تتوفى» أي ساعة انتزاع النفوس من أبدانها التي فقدت الحياة بالموت: ﴿الذين كفروا﴾ بالله ورسوله محمد بن عبد الله لرأيت منظرًا فظيعًا ترتعد له الفرائص وتقشعر منه الأبدان وصفه العليم بقوله: ﴿الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ أي يصفعونهم على وجوههم وأقفيتهم ضربًا تتوجع له نفوسهم ولا يراه من حولهم ولكنه شديد قاس لأنه بأيد نورانية: ﴿وذوقوا عذاب الحريق﴾ حرق الشيء إيقاع حرارة فيه من غير لهب كحرق الثوب بالدق وحرق النبات بحر أو برد أي يقال لهم ذوقوا هذا النوع من العذاب للنفوس يبدأ من آخر عهدكم بحياة الجسم في الدنيا قبل الآخرة: ﴿ذلك﴾ أي ما ذقتم من عذاب الحريق وهو غير العذاب الذي يلاقونه في جهنم من حرق الأجسام بالنار وضربها بمقامع من حديد: ﴿بما قدمت أيديكم﴾ أي بسبب ما ارتكبتموه من كفر وظلم: ﴿وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ الظلام كثير الظلم أي وذلك أيضًا جزاء لكم على ما كنتم تنسبونه إلى الله من الظلم الكثير بزعمكم أن الله هو الذي أمركم بالمعاصي وشاء لكم الكفر والضلال فلا ينبغي أن يعاقبكم على ذلك وقد حكى الله عنهم هذا بقوله: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾.
حتى: ﴿ولو كانوا أولي قربى﴾ أي الذين لهم حق البر وصلة الرحم فكيف بمن لم يكونوا كذلك: ﴿من بعد ما تبين لهم﴾ من إصرارهم على الكفر والنفاق: ﴿أنهم أصحاب الجحيم﴾ وقد ثبت أن الرسول ﷺ «استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له فذهب وجلس بالقرب منه ثم بكى طويلًا وقال استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن» وهذا نص في تحريم الدعاء بالمغفرة والرحمة لمن مات كافرًا وأسوأ من هذا من يقول عنهم بعد موتهم «المغفور له أو المرحوم فلان» لما في ذلك من افتئات على الله وافتراء عليه في أمر لم يحصل منه: ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه﴾ مع أنه كان نبيًّا: ﴿إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ في حياته إذ كان يرجو إيمانه: ﴿فلما تبين له﴾ بإصراره على الكفر: ﴿أنه عدو لله تبرأ منه﴾ وانقطع عن الدعاء له: ﴿إن إبراهيم لأواه﴾ كثير التأوه والتحبب على ضلال والده: ﴿حليم﴾ أي أن إبراهيم لم يسعه أمام إصرار أبيه على الكفر إلا أن يبدي حسرته ويكتم غيظه منه: ﴿وما كان الله﴾ أي ليس من شأن الله ولا مما يتصور صدوره منه جل وعلا: ﴿ليضل قومًا﴾ أي أن يقضي بالضلال على قوم من تلقاء نفسه: ﴿بعد إذ هداهم﴾ أي بعد أن منحهم وأنعم عليهم بوسائل الهداية من السمع والبصر والعقل: ﴿حتى يبين لهم﴾ عن طريق رسله وكتبه المنزلة: ﴿ما يتقون﴾ أي ما ينبغي اجتنابه من الأقوال والأفعال فإذا ما ضل الناس بعد هذا فإنما ذلك عائد لمشيئتهم التي منحها الله لهم وفق دستوره: ﴿إن الله بكل شيء عليم﴾ وبمقتضى علمه هذا شرع لهم من الأحكام ما تكمل به قوتهم وتتم به هدايتهم وتصلح به أحوالهم فإذا هم لم يتبعوها وضلوا عن سواء السبيل فلا يجوز عقلًا ومنطقًا أن يقال إن الله قد أضلهم بل إنما جرمهم على أنفسهم: ﴿إن الله له ملك السماوات والأرض﴾ أي أن حكمه تعالى نافذ فيهما وهو: ﴿يحيي ويميت﴾ أي أنه هو الذي يمنح الحياة ويسلبها لا معارض لحكمه: ﴿وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ أي وليس لكم أيها المؤمنون أحدًا غير الله يتولى أموركم ولا نصير ينصركم فعليكم أن لا تحيدوا عن اتباع شريعته وسلوك ما رسمه لكم من سبل الهداية ولا تركنوا إلى غيره حتى ولا عن طريق الأمل في دعائهم وشفاعتهم لكم.
بعد أن أنحى الله باللائمة على رسوله لأنه حاول أن يستغفر لعمه أبي طالب وأبى عليه الدعاء لأمه وأخبر أنه ليس من حق المؤمنين أن يستغفروا للمشركين وكان من عادة المسلمين أن يستغفروا لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر فلما نزلت هذه الآية داخلهم
@والله أنكر رمي رام حيث قا
#ل بأنه هو من رمي الرميات
@إذ أنها بالروح كانت وهي من
#حكم القضاء كسائر القوات
@وعطاء ربي بالإرادة كائن
#رغم الموانع منه والعقبات
@وعطاء ربي لا يؤثر فيه إمـ
#ـساك ولا الإكثار من نفقات
ولأجل أن لا يستعجل الناس في طلب الرزق ولا ييأسوا منه في حال تأخره عنهم أمرهم أن يبذلوا الجهد في سبيل نيله حتى يحصلوا عليه وأخبرهم جل جلاله بما اقتضته مشيئته في الخلق والتكوين وبلوغ الغايات من سنة التريث وعدم الاستعجال فقال: ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام﴾ من أيام الله في الخلق والتكوين، وليس المراد منها أيامنا هذه في هذه الدار التي قدرت لنا بعد خلق السموات والأرض، فقد قال تعالى: ﴿وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون﴾ والغاية من ذكر هذا أنه خلق هذا الكون العجيب على مهل ولم يكن ليعجزه أن يخلقه في لحظة واحدة، كذلك هو في خلق عباده ورزقهم لا بد أن يكون على مهل وبقدر مقدور: ﴿وكان عرشه﴾ على عظمته في أثناء هذا التطور من خلق العالم أو من قبله عائمًا: ﴿على الماء﴾ كذلك كل شيء من خلقه يكون في الأصل غير ثابت لا بد أن يثبت ويستقر وأن مادة الماء التي تبدو ضعيفة شفافة قد وضع فيها قوة كافية على تحمل الأثقال بالإضافة إلى ما أودع فيها من خاصية إحياء الموات أو جعلها أصلًا لجميع الأحياء حيث قال: ﴿أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون﴾ بمعنى كانتا من مادة واحدة وهي الدخان أو السديم بلغة علماء الفلك ثم فصلتا، فكان منها ما هو أرض ومنها ما هو سماء وخصصت الماء لإحياء الموات. ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملًا﴾ أي ليكون من هذه السنن التي سنها الله لعباده سبيلًا للعمل في هذه الحياة وإتقانه والإجادة فيه حتى يستحق الإنسان عليه حسن الثواب في الآخرة، وهنا وصف الله لرسوله ما طبعت عليه النفس البشرية
عليه ولكن هناك ما يحملنا على عدم التفريط فيه ذلك: ﴿إن له أبًا شيخًا كبيرًا﴾ شغوفًا بحبه ولا يستطيع الصبر عنه ولا يصدق فيه ما شهدنا ونخشى عليه الهلاك من الحزن لفراقه لذلك نريد أن نفتديه بأنفسنا: ﴿فخذ أحدنا﴾ عبدًا لك: ﴿مكانه﴾ عن طيب نفس منه: ﴿إنا نراك من المحسنين﴾ فإذا ما رضينا نحن بهذا رحمة بوالدنا فأنت أعظم رحمة منا به ولا فرق عندك بين أن يكون بنيامين هو العبد أم واحد منا بل ربما كان منا من هو أصلح لخدمتك منه: ﴿قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده﴾ لأن معنى هذا أنا نسترق إنسانًا بريئًا بغير حق مشروع ولو رضي هو على نفسه ذلك: ﴿إنا إذًا﴾ أي في حالة أخذنا للبريء وتركنا المذنب: ﴿لظالمون﴾ أي مخالفون لمقتضى العدل الذي أفتيتمونا به من أن من يوجد الصواع عنده فجزاؤه أخذه فيه ونحن لا نقبل ذلك على أنفسنا ولو قبلتموه على أنفسكم.
﴿فلما استيأسوا منه﴾ أي انقطع كل أمل لهم في قبول شفاعتهم وإطلاق سراح بنيامين: ﴿خلصوا نجيا﴾ أي اعتزلوا عن الناس وانفردوا بأنفسهم وعقدوا مجلسًا خاصًّا يتناجون فيما ينبغي عمله وكيف يعودون إلى أبيهم وماذا يقولون له: ﴿قال كبيرهم﴾ ولعله هو الذي أشار من قبل بعدم قتل يوسف: ﴿ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله﴾ أي إنا عاهدنا والدنا على أن نأتيه ببنيامين إلا أن يحاط بنا جميعًا فكيف نذهب إليه من دونه: ﴿ومن قبل ما فرطتم في يوسف﴾ فلم تبروا بعهدكم له وهو يقاسي من الحزن الآن ما يقاسي فكيف إذا ما رآكم تنكثون عهده مرة أخرى: ﴿فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي﴾ أي أنه برًّا بعهدي لا أرجع إليه من غير بنيامين إلا أن يأذن لي بالعودة: ﴿أو يحكم الله لي﴾ بأني قد أعذرت فعلًا وذلك بعد أن أتوسل للحصول على أخي بمختلف الوسائل الممكنة التي يهيئها الله لي فقد أجد شفيعًا لي لدى العزيز لا أعرفه الآن فإني غير يائس من فضل الله: ﴿وهو أحكم الحاكمين﴾ الذي بيده مقاليد الأمور وقلوب سائر العباد: ﴿ارجعوا إلى أبيكم﴾ أي أنه لا بد من مكاشفة والدنا بالحقيقة كما هي ليكون على بينة من الأمر ولئلا يشغل باله علينا جميعًا بتأخر عودتنا إليه: ﴿فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق﴾ صواع الملك: ﴿وما شهدنا﴾ بسرقته: ﴿إلا بما علمنا﴾ عن يقين برؤية الصواع يخرج من وعائه: ﴿وما كنا﴾ حين عاهدناك بإعادته إليك: ﴿للغيب حافظين﴾ أي ما كنا نعلم أنه سيسرق فيؤاخذ بسرقته وإلا لما عاهدناك على رده إليك: ﴿واسأل القرية التي كنا فيها﴾ أي سل أهل مصر بأمر سرقته فقد اشتهر
أيديكم» فنزل قوله: ﴿نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم﴾ وهنا أراد الله تعالى أن يضرب الأمثال عن مبلغ رحمته وأنه لا محل للقنوط منها بقصة إبراهيم إذ قال: ﴿ونبئهم﴾ أي نبئ عبادي: ﴿عن ضيف إبراهيم﴾ أي عما كان من أمر الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط ليستأصلوهم وعرجوا في طريقهم على إبراهيم: ﴿إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا﴾ أي حيوه بتحية الإسلام: ﴿قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة﴾.
﴿قال إنا منكم وجلون﴾ لأن عدم الأكل من ضيافتنا نذير بما تضمرون من شر لنا: ﴿قالوا لا توجل﴾ فنحن ملائكة لا نأكل الطعام: ﴿إنا نبشرك بغلام عليم﴾ أي وقد جئنا نحمل إليك بشرى بغلام ذي علم وفهم لدين الله: ﴿قال﴾ إبراهيم وقد غلبه الفرح وأراد أن يزداد فرحًا بما سيكون من أمره أيضًا: ﴿أبشرتموني﴾ بالغلام: ﴿على أن مسني الكبر﴾ أي على ما أنا عليه من كبر السن أم أنه سيعود إلي شبابي ثم يأتيني الغلام: ﴿فبم تبشرون﴾ بفتح الباء أي فما حقيقة بشارتكم التي جئتم بها وقرئ بكسر النون خفيفة وقرئ بكسرها وتشديدها: ﴿قالوا إنا بشرناك بالحق﴾ الذي قضى به الله من أنه يخرج من صلب إبراهيم إسحاق من غير علم بتفاصيل الكيفية: ﴿فلا تكن من القانطين﴾ من رحمة الله واليائسين من قدرته تعالى على خرق العادات: ﴿قال﴾ إبراهيم إني بسؤالي عن نوع البشارة التي أرسلتم بها لم أكن قانطًا ولا يائسًا من قدرة الله فسواء جاءني الولد على كبر سني أم عاد إلي شبابي وأنجبت فكلاهما خرق للعادة لا يكون إلا بأمر من الله: ﴿ومن يقنط﴾ بفتح النون وقرئ بكسرها: ﴿من رحمة ربه إلا الضالون﴾ ذلك لأن القنوط من رحمة الله لا يتأتى إلى عن جهل بعظيم قدرته أو يأس من رحمته أو شك في استجابته تعالى الدعاء وإني أبرأ إلى الله من كل ذلك فأنا الذي لم أفقد ثقتي به عند ما ألقي بي في النار حتى أنجاني الله منها ثم: ﴿قال فما خطبكم أيها المرسلون﴾ أي فماذا بعد البشارة وما هي المهمة الملقاة على عاتقكم فأنتم عدد كثير والبشارة لا تحتاج لكل ذلك: ﴿قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين﴾ أي إلى قوم أجرموا، هم قوم لوط وقد أمرنا أن ننزل بهم جميعًا عذاب الاستئصال: ﴿إلا آل لوط﴾ أي إلا لوطًا وأهله: ﴿إنا لمنجوهم﴾ بتشديد الجيم وقرئ بتخفيفها: ﴿أجمعين﴾ لعدم إجرامهم: ﴿إلا امرأته﴾ لم نؤمر بنجاتها ولا نعلم السبب في ذلك: ﴿قدرنا إنها﴾ بتشديد الدال وقرئ بتخفيفها. جرى المفسرون على عدم التفرقة بين القضاء والقدر وعللوا إسناد الملائكة فعل التقدير لهم مع
حتى: ﴿ولو كانوا أولي قربى﴾ أي الذين لهم حق البر وصلة الرحم فكيف بمن لم يكونوا كذلك: ﴿من بعد ما تبين لهم﴾ من إصرارهم على الكفر والنفاق: ﴿أنهم أصحاب الجحيم﴾ وقد ثبت أن الرسول ﷺ «استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له فذهب وجلس بالقرب منه ثم بكى طويلًا وقال استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن» وهذا نص في تحريم الدعاء بالمغفرة والرحمة لمن مات كافرًا وأسوأ من هذا من يقول عنهم بعد موتهم «المغفور له أو المرحوم فلان» لما في ذلك من افتئات على الله وافتراء عليه في أمر لم يحصل منه: ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه﴾ مع أنه كان نبيًّا: ﴿إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ في حياته إذ كان يرجو إيمانه: ﴿فلما تبين له﴾ بإصراره على الكفر: ﴿أنه عدو لله تبرأ منه﴾ وانقطع عن الدعاء له: ﴿إن إبراهيم لأواه﴾ كثير التأوه والتحبب على ضلال والده: ﴿حليم﴾ أي أن إبراهيم لم يسعه أمام إصرار أبيه على الكفر إلا أن يبدي حسرته ويكتم غيظه منه: ﴿وما كان الله﴾ أي ليس من شأن الله ولا مما يتصور صدوره منه جل وعلا: ﴿ليضل قومًا﴾ أي أن يقضي بالضلال على قوم من تلقاء نفسه: ﴿بعد إذ هداهم﴾ أي بعد أن منحهم وأنعم عليهم بوسائل الهداية من السمع والبصر والعقل: ﴿حتى يبين لهم﴾ عن طريق رسله وكتبه المنزلة: ﴿ما يتقون﴾ أي ما ينبغي اجتنابه من الأقوال والأفعال فإذا ما ضل الناس بعد هذا فإنما ذلك عائد لمشيئتهم التي منحها الله لهم وفق دستوره: ﴿إن الله بكل شيء عليم﴾ وبمقتضى علمه هذا شرع لهم من الأحكام ما تكمل به قوتهم وتتم به هدايتهم وتصلح به أحوالهم فإذا هم لم يتبعوها وضلوا عن سواء السبيل فلا يجوز عقلًا ومنطقًا أن يقال إن الله قد أضلهم بل إنما جرمهم على أنفسهم: ﴿إن الله له ملك السماوات والأرض﴾ أي أن حكمه تعالى نافذ فيهما وهو: ﴿يحيي ويميت﴾ أي أنه هو الذي يمنح الحياة ويسلبها لا معارض لحكمه: ﴿وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ أي وليس لكم أيها المؤمنون أحدًا غير الله يتولى أموركم ولا نصير ينصركم فعليكم أن لا تحيدوا عن اتباع شريعته وسلوك ما رسمه لكم من سبل الهداية ولا تركنوا إلى غيره حتى ولا عن طريق الأمل في دعائهم وشفاعتهم لكم.
بعد أن أنحى الله باللائمة على رسوله لأنه حاول أن يستغفر لعمه أبي طالب وأبى عليه الدعاء لأمه وأخبر أنه ليس من حق المؤمنين أن يستغفروا للمشركين وكان من عادة المسلمين أن يستغفروا لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر فلما نزلت هذه الآية داخلهم
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ (١٢) لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
سورة الحشر: لقد أكد الله في السورة السابقة علمه بكل صغيرة وكبيرة من أمر عباده وسماعه لأحاديث الناس ونجواهم ولمح بقوته المؤثرة في كل شيء ليغرس تقواه في القلوب ودعا إلى محاربة النفس وتزكيتها ببذل الصدقات عند مناجاة رسوله وفضح أسرار المنافقين وأنذرهم بعذاب أليم لا يخلصهم منه دعوى الإيمان والحلف عليه بأغلظ الأيمان وجعل من حبه تعالى وحب رسوله معيارًا للإيمان الصادق في القلوب بحيث يستطيع كل إنسان أن يتبين درجة إيمانه ومدى رضاء الله عنه وتأييده له بروح منه وختم السورة بما يحدد شخصية حزب الله وقال: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أخذ سبحانه وتعالى في هذه السورة يذكر الناس بمدى عظمته وسلطانه وتأثيره الخفي في كل شيء الذي يتجلى في عمل المعجزات وما لم يكن في الحسبان فقال: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ أي مجده ودل
منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا} وأشار في هذه السورة إلى ما يقصدونه من المطالبة بالإتيان بخوارق العادات حيث قالوا: ﴿ودوا﴾ أي أحب المكذبون: ﴿لو تدهن﴾ الإدهان اللين والمصانعة والمجاملة أي تجاريهم في طلبهم وتطلب من الله أن يمدك بشيء من خوارق العادات: ﴿فيدهنون﴾ أي يتركون ما لا ترضى فتلين لهم ويلينون لك وقلوبهم قاسية يظهرون خلاف ما يبطنون وتكون النتيجة معاجزتك كما حكاه الله عنهم في سورة الإسراء بقوله: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا﴾ وبهذه المناسبة أراد الله أن ينبه رسوله إلى شيء من أحوال الناس وطبائعهم لئلا يخدع بهم ويطمئن إلى إيمانهم وسلامة نيتهم وحذره منهم حيث قال: ﴿ولا تطع﴾ أيضًا بمعنى لا تأخذ برأي من كان متصفًا بأحد الصفات الآتية: ﴿كل حلاف﴾ وهو كثير الحلف في الحق والباطل فهذا قد يكون حلفه ناشئًا عن شعور منه بكذبه فيحاول أن يؤكده بالقسم على صحته وقد يكون قسمه عن غير قصد بل جريًا على ما اعتاد عليه لسانه: ﴿مهين﴾ من المهانة أي الخزي والذل بمعنى محتقر الرأي ضيق التفكير: ﴿همَّاز﴾ من يذكر الناس بالسوء ويعيبهم: ﴿مشاء بنميم﴾ أي من يمشي بين الناس بالنميمة وهي نقل الكلام سرًّا بقصد الوشاية والإفساد: ﴿منَّاع للخير﴾ أي من لا يحب الخير للناس فلا ينفعهم ولا يساعد على نفعهم بل يقف في طريق كل أمر فيه مصلحة العموم: ﴿معتد﴾ هو المتجاوز على حقوق الآخرين إرضاء لشهوته وأنانيته: ﴿أثيم﴾ كثير الإثم وهو فعل ما لا يحل: ﴿عتل﴾ وهو الجافي الطبع الغليظ القلب الذي لا يلين بسهولة: ﴿بعد ذلك﴾ أي بعد ما ذكر من المثالب والنقائص: ﴿زنيم﴾ هو الذي يلحق نفسه بقوم ليس منهم بمعنى من يشعر في نسبه أو طبعه خسة فيحاول أن يداريها بالانتماء إلى أصحاب الشرف من عباد الله الصالحين الحسن السمعة: ﴿أن كان ذا مال وبنين﴾ أي لا تطع ولا تأخذ برأي من اتصف بهذه الصفات حرمة لقيته المادية من مال وبنين ما دام هو ممن: ﴿إذا تتلى عليه آياتنا﴾ في القرآن: ﴿قال أساطير الأولين﴾ الأساطير جمع أسطورة وهي الحديث الذي لا أصل له بل إنه من مخترعات المتقدمين بمعنى أنه لا يؤمن بأنها من كلام الله: ﴿سنسمه﴾ الوسم العلامة: {على
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ﴾ فالقوة التي تدبر شئون العالم كافة بنظام عجيب يجعل بعض الأزهار والفواكه ينضج في الصيف ويموت في الشتاء وآخر على العكس: ﴿أَمْرًا﴾: أي بأمر واحد من الله جل وعلا إذ يقول للشيء كن فيكون.
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ ترجف أي تتحرك بقوة غير إرادية والراجفة هي الأرض بمن عليها لقوله تعالى في سورة المزمل: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا﴾.
﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾: والمراد بها السماء وما فيها أي تتبعها بالتشقق وتناثر الكواكب.
﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ﴾: أي المراد يوم القيامة: ﴿وَاجِفَةٌ﴾ أي شديدة الاضطراب من الخوف والفزع.
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾: أي منكسرة نحو الأرض من الذل، ذلك لأنهم كانوا: ﴿يَقُولُونَ﴾: في حياتهم الدنيا ثلاث كلمات تدل على مبلغ كفرهم وعدم تصديقهم بصحة البعث –الأولى- قولهم: ﴿أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾: يقال رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء منها أي أنهم كانوا يقولون: أنحيا بعد أن نموت؟ -والثانية- قولهم: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً﴾ وقرئ: ﴿ناخرة﴾: أي بالية متفتتة –الثالثة- إنهم: ﴿قَالُوا﴾ في سخرية: ﴿تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ﴾ أي رجعة: ﴿خَاسِرَةٌ﴾ وما كان لهم أن يستبعدوا ذلك ويسخروا منه ويظنوه صعبًا على قدرة الله التي تتجلى لهم في كل ما ذكر: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ﴾ أي صيحة غضبة وكلمه طرد: ﴿وَاحِدَةٌ﴾: من الله تبارك لعبيده: ﴿فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾: أي كافية لأن تحرمهم لذة النوم أو تجعلهم يغوصون في باطن الأرض.
بعد أن أقسم الله على صحة ما أخبر به من البعث بما يلمسه الناس من قوى الله الكامنة وراء كل شيء وأنذر المكذبين بأنهم لا يعجزونه وأنه بزجرة واحدة منه يستطيع أن يحرمهم نعمة النوم أو يهوي بهم في باطن الأرض أخذ يذكر نبيه عليه الصلاة والسلام بقوته التي سلطها على فرعون من قبل نتيجة كفره بالإيمان بما جاء به نبيه موسى وهذا بمثابة التنبيه لغير المؤمنين وتحذيرهم من أن يصيبهم ما أصاب قوم موسى من قبل حيث قال: ﴿هَلْ أتَاكَ﴾: أي هل وصل إلى علمك: ﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾: أي قصة موسى عليه السلام مع قومه: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾: وهو: ﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾: أي المبارك الطاهر: ﴿طُوًى﴾ بضم الطاء منونًا وقرئ بضمها غير منون هو اسم للوادي الذي خاطبه الله فيه بجانب جبل الطور إذ قال له من ضمن كلام طويل ذكر متفرقًا في آيات أخرى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ تجاوز الحد في استعباد الناس وادعائه السيادة العظمى


الصفحة التالية
Icon