وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
بسبب جحودهم وإصرارهم على هذا الجحود ﴿خالدين فيها﴾ في اللعنة فلا ثواب لهم بالمرة ﴿لا يخفف عنهم العذاب﴾ المقرر لأمثالهم نتيجة خلو صفحات تاريخهم من الأعمال الصالحة ﴿ولا هم ينظرون﴾ ولا سبيل إلى إنظارهم بإعادتهم إلى الحياة ثانيًا ليتمكنوا من فعل الصالحات.
بعد أن بين الله للمؤمنين سبيل سعادة العالم وسر شقائه أخبرهم بأنه لا محل للاختلاف والمخاصمة في الأديان فكلها تدعو إلى إله واحد حيث قال ﴿وإلهكم إله واحد﴾ فإن جميع الرسل وإنما جاؤوا بالدعوة إلى إله واحد ﴿لا إله إلا هو﴾ ليس في الوجود من يستحق العبادة سواه إذ هو ﴿الرحمن الرحيم﴾ والناس مهما اختلفوا في تسمية آلهتهم فإنهم مجمعون على أنهم لا يعبدون ولا يحبون إلا من أفاض عليهم نعمه ومن ترجى رحمته وهو الإله المقصود. ثم أخذ سبحانه وتعالى يثبت وجوده ووحدانيته، وبراءته من الأضداد، والأنداد بسبعة أنواع من الأدلة فقال.
﴿١﴾ ﴿إن في خلق السموات﴾ وما بها من أفلاك ثابتة ومتحركة بنظام عجيب محكم وارتفاعها فوقنا من غير عمد مع ما هي عليه من عظمة.
﴿٢﴾ ﴿و﴾ خلق ﴿الأرض﴾ بجرمها ومادتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، وقيام كل ذلك على غير استقرار.
﴿٣﴾ ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ من الظلمة والضوء والطول والقصر وتعاقبهما في الغدوات والروحات بحساب مضطرد في جميع العالم، واختلافهما باختلاف الفصول والأقطار.
﴿٤﴾ ﴿و﴾ خلق جميع المواد الأولية في ﴿الفلك﴾ إذ لم يكن للإنسان فيها إلا مجرد الاختراع والتركيب ﴿التي تجري في البحر﴾ مع عظمته، وسعته بقدرة الله وفي أمان منه سبحانه، ولولا هدوء الرياح وتسخيرها لما أمنت
يلبث أن يراها وقد (أنبتت سبع سنابل) وهي من البر ما كان في أعالي الساق (في كل سنبلة مئة حبة) فيجني بدل الحبة التي بذرها سبعمئة حبة وهكذا يرجع ثواب الإنفاق في سبيله على المنفق سبعمائة ضعف (والله يضاعف) ثواب النفقة بأكثر من ذلك (لمن يشاء) المضاعفة بتحري وضعه في موضعه من المستحقين له وبقدر زيادة النفع واتساع نطاقه (والله فوق هذا (واسع) لا يحد عطاؤه (عليم) بما ينفق في سبيله من قليل أو كثير ومن يستحق المضاعفة من عدمها هذا في الدنيا أما في الآخر فقد قطع الله على نفسه وعدًا لن يخلفه فلا ينبغي التشكك فيه هو أن (الذين ينفقون أموالهم) في هذه الحياة (في سبيل الله) وابتغاء مرضاته (ثم لا يتبعون ما أنفقوا) ولو بعد حين (منا ولا أذى) بأن يتجرد ذلك الإنفاق من التحدث به أمام المنفق عليه أو أمام غيره إذ الأول منٌ والثاني أذى بالرياء الذي فيه كسر خاطر الفقير فالذين لا يفعلون ذلك (لهم أجرهم) يوم القيامة (عند ربهم) الذي لا يضيع أجر من أحسن عملًا (ولا خوف عليهم) لأنهم لم يقصروا فيما طلب منهم من الإنفاق (ولا هم يحزنون) لأنهم لم يضيعوا ثمرة إنفاقهم بالمن والأذى بل إنهم برهنوا بذلك على خلوص نيتهم في الإنفاق لوجه الله الكريم.
بعد أن بين الله للمؤمنين ثمرة الإنفاق في سبيله في الدارين وحبب الإخلاص فيه وقيده بعدم إتباعه بالمن والأذى ولما كان إيصال الأذى إلى الغير من الأمور المستنكرة لأنها تؤدي إلى العداوة والبغضاء شدد الله سبحانه في التحذير منه بما صرح به من أن الصدقة معه لا تساوي شيئًا، وأفضل منها أن يرد السائل بعذر جميل دون أن يعلم أحد بحاله فقال (قول معروف) حسن اعتذار للسائل (ومغفرة) أي ستر حاله وعدم التشهير بحاجته أو التغاضي عن ما قد يصدر منه في حالِة ما إذا تأثر من رده خائبًا (خير) عند الله (من صدقة) توضع في يد محتاج ثم (يتبعها أذى) من فظاظة في القول أو سوء في المقابلة أو إعلان عن الصدقة بين الناس فكل ذلك مما يجرح الإحساس ويولد البغضاء (والله غني) عن الصدقة التي تكون بهذا الشكل فلا يرضى أن يكون فيما ينفق في سبيله إضرار بالسائلين (حليم) يمهل المتصدق إذا اتبع صدقته بالأذى ولا يهمله.
ولما كانت النفوس مجبولة على حب الثناء والتقدير وكثيرًا ما يجحد الإنسان الجميل وينكر الإحسان مما قد يحمل بعض الناس على التحدث بصدقاتهم والتنديد بمنكري الجميل حذر الله
من فضل كرمه ورحمته، فمن أطاع الله ولبى الدعوة بلغ ثمرة ذلك بما سيناله من حسن الثواب، ومن أحجم عن حجه فسوف لا يخسر إلا هو ولن يضير الله شيء.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا»، وفي رواية «من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر فليمت على أي حال شاء يهوديًا أو نصرانيًا».
بعد أن ضرب الله الأمثلة وأقام الأدلة على كذب أهل الكتاب في الآيات السابقة، ومنها أخذه سبحانه وتعالى ميثاق النبيين بالإيمان بالرسول الذي يأتي مصدقًا لما معهم، وعقب ذلك بالرد على شبهاتهم التي كانوا يختلقونها لمماراة النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يخاطبهم بكلام لين يفضح عنادهم وكفرهم ويسجل عليهم تضليل غيرهم فقال ﴿قل﴾ يا أيها الرسول ﴿ياأهل الكتاب﴾ الذين سبق لهم الاعتراف بالتوحيد وأصل النبوة ﴿لم تكفرون بآيات الله﴾ الدالة على صدق رسالتي من عنده ﴿و﴾ الحال أنكم تعلمون أن ﴿الله شهيد على ما تعملون﴾ من أعمال تدل على كفركم بها فلا سبيل إلى تنصلكم من ذلك، و ﴿قل﴾ لهم أيضًا ﴿ياأهل الكتاب﴾ المنزل من عند الله ﴿لم تصدون﴾ بشبهاتكم ﴿عن سبيل الله من آمن﴾ بالله ورسوله محمد ﷺ وتحاولون صرفه عنه، وما هي الثمرة التي تجنونها من وراء ذلك؟ وكان الأحرى بكم أن تكونوا في مقدمة الداعين إلى الله الفرحين بهداية المشركين إلى الإيمان بالله، وما الذي حملكم على أن ﴿تبغونها﴾ أي سبل الله ﴿عوجا﴾ إذ تحاولون تصويرها معوجة في نظر من يصدقكم ويغتر بأقوالكم ﴿وأنتم شهداء﴾ باستقامتها وأن ما تلفقونه من الشبه لا دليل لكم عليه ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ من أنواع المكائد وضروب الحيل.
بعد أن أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمخاطبة أهل الكتاب بما يقرر كفرهم وعنادهم ويسجل عليهم سبق إصرارهم على تضليل غيرهم، وجه خطابه إلى المؤمنين محذرًا لهم من أقوالهم والأخذ بترهاتهم وما يزينونه من زخرف القول للصد عن سبيله فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بالله ورسوله لا يخدعنكم اليهود والنصارى بما تسمعونه منهم من دعوى الإيمان بالله وزعمهم التمسك بكتبهم السابقة فتولوهم ثقتكم وتظنوا بهم خيرًا، وليكن في علمكم أنكم {إن تطيعوا
بما شاء وبهذا تنحصر الآمال كلها في الله خالق الخلق تتوق الغايات حول رضاه وينتفي استحقاق العبادة والحب من أحد سواه ويصبح الله محبوب الجميع الواجب الإجلال والطاعة وليس لغيره من الفضل ما يستحق عليه الشكر إلا في حد ما أذن الله به مما يكون سبيلًا لتوفر الثقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ليتعاون الجميع في مضمار الحياة لعمار هذا الكون واستكمال أسباب السعادة فيه وسبيل ذلك هو التزام جانب الإحسان إلى الجميع ولما كان الناس متفاوتين في الدرجات جعل الله الوالدين في المكانة الأولى حيث قال: ﴿وبالوالدين إحسانًا﴾ أي ليحسن كل واحد إلى والدية إحسانًا تامًا يستطيع كل فرد أن يكيفه في نفسه حسب ما يحب من أولاده أن يعاملوه به وبما يعلم أنه يدخل به السرور إلى قلبيهما وقد بدأ بذكرهما أولًا لما لهما عليه من حقوق إذا عرف المرء كيف يؤدي واجبهما نال ثقتهما وضمن عطفهما عليه وتأييدهما له في كل أمر وأقام البرهان العملي على أنه من حافظي الجميل وهذا من شأنه أن يحمل الناس على الثقة به ويكون له أثره في مستقبل حياته وجعل الله في الدرجة الثانية الأقارب حيث قال: ﴿وبذي القربى﴾ أي: ليحسن كل فرد إلى أقاربه سواء كانوا عن طريق النسب أو الرضاعة أو الرحم الأقرب فالأقرب ليحصل بذلك على ثقة من هم أشد ارتباطًا به فتسمو منزلته ويكون موضع تقدير الجميع واحترامهم ويأتي في الدرجة الثالثة ضعاف الناس حيث قال تعالى: ﴿واليتامى والمساكين﴾ هذه الطبقة التي تنشأ عادة على الجهل ونقص التربية لا يمكن أن تناول ثقتها بالغطرسة والعنف وإنما تستعبد بالإحسان وحسن المعاملة ومكارم الأخلاق ولذا قدمها تعالى على من سيذكر فيما بعد قوله ﴿والجار﴾ بكسر الراء وقرئ بفتحها ﴿ذي القربى﴾ من عشيرتك وقومك الأدنين ﴿والجار الجنب﴾ جارك من غير قومك فمن حق هؤلاء عليك أن تفرح لفرحهم وتتألم لألمهم وتشاطرهم الهموم
جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين» ذلك لأن الرسول يقول «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تنسبوا إلى الله قولاً لم يصدر منه أو لم يكن موجداً في كتابه ولم يأت على لسان رسله كما حصل من اليهود والنصارى في اللّغط في حق عيسى عليه السلام ولذا بين الله حقيقة أمره بقوله (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الذي اختلفوا فيه (رَسُولُ اللَّهِ) لم يكن ابناً لله ولم يكن كاذباً في دعواه الرسالة وإنما هو من عباده الذين خلقهم (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) أي وإنما يمتاز عن سائر الناس بأمرين صدرا منه الأول ما صدر إلى مريم بأن تحمل به من غير أب بل بقول الله كن والثاني أن يؤتي قوة خاصة قال عنها تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) هو روح القدس الذي جعله ينطق في طفولته ليبرئ أمه ويؤيد دعواه الرسالة (فَآمِنُوا بِاللهِ) إلهاً واحداً لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد (وَرُسُلِهِ) أجمعين على حد سواء ليس فيهم من يمت إلى الله بصلة نسب أو قرابة إذ أنه تعالى منزه عن ذلك (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) أي لا تقولوا أن الآلهة ثلاثة فإنه قول ظاهر الفساد من تلقاء نفسه ذلك لأن معنى الإله الخالق والمدبر والمتصرف في كافة الشؤون والذي يتصف بهذه الصفات إنما هو الله وحده. وأما الابن على زعمكم فإنه من عمل الله وروح القدس أيضاً منه فكيف يتساوى الفرع مع الأصل والأصغر مع الأكبر ويكون كل منهم عين الآخر وله من القدرة على الخلق والتدبير ما له تماماً بتمام ثم إنه إذا جاز على الابن القتل جاز على الأب أيضاً ما داما يتساويان في الألوهية في نظركم (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) أي اقلعوا عن هذا القول الذي ابتدعتموه وقولوا قولاً آخر مستساغاً عقلاً وأقرب إلى المنطق السليم ولا ينفعكم فيه قولكم إن الثلاثة في حكم الإله واحد لأن الموضوع ليس هو موضوع حكم وإنما موضوع الإذعان بالحق والتكوين للإله الواحد الأصلي أم لمجموع الثلاثة فإن قلتم إنه لمجموع
<١٧>
الثلاثة فهل كل من الإله الأول إلهاً قبل وجود الإلهين الآخرين فإن قلتم نعم كان هو الإله فالواجب يحدوكم إلى الصراحة في القول بأنه (إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ليس له أفراد ولا هو مركب ولا متحد بشيء من مخلوقاته وقد نص في الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنا قول المسيح عليه السلام (٣ وهذه هي
قوله: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله﴾ وقوله: ﴿إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾ كما ذم المتفرقين المختلفين في الدين وقرر في الشرع مبدأ العلم القائم على أساس المطالبة بالدليل حيث قال تعالى: ﴿هل عندكم من سلطان بهذا أم تقولون على الله ما لا تعلمون﴾ ومن هذا يعلم أن التقليد في العقائد ممنوع قطعًا بل لا بد أن تكون وفق ما أمر الله. وأما في الفروع فقد قال الإمام الشوكاني رحمه الله في مسألة التقليد في كتابه «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» ما نصه: «اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقًا وقال القرافي: إن مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد قال ونقل عن مالك أنه قال: أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه. وقال عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطًا على أنه لا صبر لي على السياط. قال ابن حزم: فهذا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأحمد وأبو حنيفة. وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره». ونحن لا نقول بعدم جواز التقليد للعامة وطلاب العلم بل لا نجيز الاجتهاد إلا للعالم المتبحر في علوم اللغة والدين ونطالبه بضرورة توضيح الدليل ليكون الآخذ عنه متبعًا لله ورسوله لا لمجرد قول إمامه. وهذا ما لا يشترطه أتباع هؤلاء الأئمة الأعلام رضي الله عنهم، بل إنهم ليعلمونهم كتبهم من غير تعرض إلى الدليل حتى أنه إذا قيل لجماعة منهم هذا ما قال الله ورسوله يقولون ولكن أئمة مذاهبنا قالوا كذا وكذا، ونحن مقلدون لهم فلا يجوز أن نخرج عما قرروه لنا من أحكام. ويزعمون أن الإجماع قد حصل على عدم الإنكار على المقلدين. ولست أدري ممن حصل هذا الإجماع فإن قيل إنه من السلف الصالح الذين هم خير القرون فهذا غير صحيح لأنهم ما كانوا يقلدون ولم ينقل شيء من هذا عنهم قط. بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تشكل عليه فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة، وهذا ليس من التقليد في شيء، وهذا ما يجب أن يكون. وإن قيل إنه إجماع الأئمة الأربعة فإن ما ذكره الإمام الشوكاني عنهم يخالفه، وإن قيل إنه إجماع المقلدين لهم فلا عبرة بأقوالهم فضلًا عن إجماعهم. وقد أنكر الله صنعهم وذمهم فيما تقدم من الآيات، خصوصًا وقد ترتب عليه العمل بأقوال
أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهو سبحانه ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي يبددكم أيها الناس بقبض أرواحكم جميعًا في لحظة واحدة ﴿ويستخلف من بعدكم ما يشاء﴾ أي يأتي بدلًا عنكم بمخلوقات غير عاقلة وغير مكلفة لا يؤثر ذلك في ملكه شيئًا ﴿كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين﴾ غير مكلفين ولا مسؤولين من عهد آدم إلى أن أرسل الله الرسل لهدايتهم فأصبحتم برحمته مكلفين بطاعته فيما يأمركم به وتجنب ما ينهاكم عنه ﴿إن ما توعدون﴾ من جزاء في الآخرة على أعمال الدنيا ﴿لآت﴾ أي لا بد منه ولا مرد له ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ أي أنه تعالى الذي خلقكم من لا شيء لا يعجزه إعادتكم كما كنتم في يوم القيامة وقد أثبت العلم في هذا العصر أمر البعث بما قرره من أن «كل ما في العالم ثابت أصله لا يزول وإنما هلاك الأشياء أو فناؤها ما هو إلا عبارة عن تحلل موادها وتفرقها وأن من الممكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء بل لقد تصدى بعض العلماء في نيويورك لإعادة الحياة إلى الموتى بعض لحظات وإيجاد الأولاد من غير أمهات بل بطريقة علمية بالجمع ما بين ماء الرجل وماء المرأة في أفران صناعية حرارتها كحرارة الرحم وأمدوها ببعض الأغذية حتى تكونت عدة أجنة دبت فيهم الحياة ويعيش منهم الآن ثمانية أطفال من ١٣ طفلًا لم يقضوا ساعة في بطون أمهاتهم وهم يعملون الآن للوصول إلى طريقة يمكن بها التحكم في الجنس وعندئذ يستكثر الناس من الذكور أو الإناث حسب رغبتهم وليس هذا بالأمر العسير فقد جاء في جريدة الأيام الدمشقية العدد ٦٥٩٢ في ٢٧ جمادى الآخرة / ١٩٧٨ كانون الأول ١٩٥٨ أنه قد اهتدى أحد الأخصائيين في علم الحيوان إلى وسيلة للتحكم بنوع الصيصان التي يفرخ منها الدجاج ومن ثم يستطيع المزارع أن يحصل على دجاج أو على ديوك وفق رغبته ويستعين الأخصائي في ذلك بمجموعتين من الهرمونات الجنسية هما – الاستروجينات – التي تحول الذكور إلى إناث و – الاندروجينات – التي تحول الإناث إلى ذكور وتتلخص الطريقة في أن يغمس البيض قبل التفريخ أو خلاله في حمام من إحدى هاتين المجموعتين من الهرمونات وفقًا للنوع المطلوب لمدة خمس ثوان ويتسرب الهرمون إلى داخل البيض عن طريق المسام فيتحول الذكور إلى إناث أو الإناث إلى ذكور، وقد أتت هذه الطريقة بنتائج تتراوح بين ٩٥ بالمئة ومئة بالمئة... ولا يبعد
﴿فلما ألقوا﴾ حبالهم وعصيهم أخذت تسعى بطريقة علمية تؤدي إلى خداع النظر وقلب الحقائق خلافًا للمعجزات الثابتة التي تبطل السحر وهذا أمر مشاهد في عصرنا هذا من كثير من الناس في مصر وأوربا وقد شهدت بعيني ساحرًا إيطاليًا حضر إلى السويس منذ عشرين عامًا وأعلن أنه سيقطع رأس رجل ثم يعيد إليه الحياة فتجمع الناس في المسرح وأخذ الساحر يقوم بألعاب سحرية كثيرة أدهشت العقول وكان من أهمها أن طلب من الحاضرين من يتقدم ليقطع رأسه ويعيد الحياة إليه وقال إنه لن يقطع رأسه وإنما هذه ألعاب سحرية فلم يتقدم أحد له فاستدعى شخصًا من المسرح ولعله من أتباعه وألقاه فوق سرير واستل سيفًا وذبحه به والدماء تسيل منه ونحن نسمع صوت السيف يحد في الرقبة حتى إذا فصل الرأس عن الجسم نقله إلى ناحية الرجل فجزع الناس لهذا المنظر حتى إنه أغمي على كثير من السيدات الحاضرات ثم أعاد الرأس إلى مكانه وتمتم ببعض كلمات ثم أوقف الرجل فانتصب قائمًا ولم يستطع أحد أن يعلل هذا بأكثر من أنه من عمل السحر وكذلك شهدت في السرك الروسي الذي عرض في مصر وسورية في العام الماضي عدة ألعاب سحرية تدهش العقول منها أنه وضع امرأة في قفص من الحديد مرتفع في وسط المسرح وغطاها بقماش رقيق ثم أشعل النار فيها حتى ظننا أنها احترقت وإذا بالمرأة تظهر من ناحية أخرى إلى غير ذلك وقد بين الله حقيقة السحر في سورة طه بقوله: ﴿قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾.
﴿سحروا أعين الناس واسترهبوهم﴾ أي أدخلوا الرعب والرهبة في قلوبهم كما قال تعالى: ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى﴾ ولعل المراد من هذا أن التأثير في الناس بمختلف الوسائل يعد سحرًا ولذا قالوا «إن من البيان لسحرا». ﴿وجاءوا بسحر عظيم﴾ أي لم يقتصروا على مجرد الحبال والعصي بل أتوا بأعمال أخرى تثبت قدرتهم وتفننهم في السحر ﴿وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك﴾ بعد أن كان خائفًا من فشله أثر رؤيته لأعمال السحرة أي أنه لم يقدم على إلقاء عصاه إلا بأمر من الله الذي ثبته بقوله: ﴿وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ فألقاها ﴿فإذا هي تلقف﴾ بتخفيف القاف وقرئ بتشديدها أي تبتلع ﴿ما يأفكون﴾ الإفك اسم كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كما في قوله تعالى: ﴿قاتلهم الله أنا يؤفكون﴾ أي يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل والمعنى أن
وقوله: ﴿وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون﴾ وقد ورد في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول ﷺ عن ربه «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حرامًا فلا تظالموا».
﴿كدأب﴾ أي أن ما يصيب الذين كفروا من عذاب في الحياة البرزخية لم يكن خاصًا بهم بل شأنهم في ذلك شأن: ﴿آل فرعون والذين من قبلهم﴾ من الأمم الكافرة سواء بسواء فتلك طريقته تعالى وسننه في جميع من: ﴿كفروا بآيات الله﴾ أي الذين أنكروا دلائل الألوهية: ﴿فأخذهم الله بذنوبهم﴾ إذ أغرقهم بأجسامهم وعذب نفوسهم بعذاب الحريق قبل يوم القيامة: ﴿إن الله قوي﴾ تجلى بقوته على آل فرعون ومن قبلهم فأهلكهم بالغرق ومختلف الوسائل: ﴿شديد العقاب﴾ إذ أخبرهم بما أوقعه ويوقعه بالكافرين من عذاب في البرزخ قبل يوم القيامة: ﴿ذلك﴾ أي ما يصيب الذين كفروا من عذاب نفوسهم ساعة الوفاة جزاء على أعمالها وفقًا لسننه السابقة: ﴿بأن الله﴾ أي بسبب ما اقتضاه عدله من أنه تعالى: ﴿لم يك﴾ في دستوره الذي سنه لمؤاخذة عباده: ﴿مغيرًا نعمة أنعمها على قوم﴾ في الحياة الدنيا: ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ أي أنه تعالى قد قضى في نظامه الاجتماعي للبشر أن يعلق سعادة الأمة وقوتها وسلطانها على ما يكون في نفوس أبنائها من عقائد وأخلاق وصفات تبنى عليها الأعمال والعادات الظاهرة فإذا ما تغير ما في النفوس تغيرت بسبب ذلك الأعمال وتبدل حال الأمة من حال إلى حال واستحقت نفوس الكافرين العذاب ساعة الوفاة لأنها هي أصل الشرور والآثام ومنها بدأ الكفر والعناد وبهذا يتبين أن الله الكريم لا ينتزع النعم من عباده لمجرد تعلق إرادته بذلك بل نتيجة تطبيقهم لهذه السنن وهي تغيير الأفراد لما بأنفسهم الذي يترتب عليه تغير أعمالهم مما يؤدي إلى زوال نعمهم إذ يصبح الغني فقيرًا والعزيز ذليلًا والقوي ضعيفًا ولما كان هذا الأمر ربما لا يظهر جليًا في حالة الأفراد نظرًا لقصر أعمارهم أخبرنا الله جل جلاله أنه أمر لا بد منه بالنسبة للأمة بمجموعها فإن للعقائد الدينية الصحيحة آثارًا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها وبدونها تفقد كثيرًا من شخصيتها ومؤهلاتها كما أن للأخلاق أثرًا فعالًا في رقي الأمم وحياتها الاجتماعية فالأمة التي اشتهر أفرادها بالشرف والصدق والأمانة والعدل والاستقامة هي التي يطلق عليها «أمية حية» وفساد أخلاق أغلبية أفراد الأمة نذير بسقوطها من درجة حيويتها وكمالها كما قال أمير الشعراء شوقي:
الرعب وملأ الخوف من الله قلوبهم فأراد السميع العليم أن يهدئ روعهم ويطمئنهم بتجاوزه عما صدر منهم نتيجة خوفهم منه فقال: ﴿لقد تاب الله على النبي﴾ غفر له محاولته الاستغفار لعمه وأمه: ﴿والمهاجرين والأنصار﴾ ما كان من استغفارهم لذوي قرباهم: ﴿الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ أي الذين تحملوا معه الشدائد وصبروا على المكاره سواء في غزوة الخندق التي وصف الله حالهم فيها بقوله: ﴿إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر﴾ أو غيرها كما حصل لهم في عزوة تبوك التي نال المسلمين فيها من أنواع العسرة الشيء الكثير من فقدان الزاد والماء وحرارة القيظ: ﴿من بعد﴾ أي اتبعوه من بعد: ﴿ما كاد يزيغ﴾ بالياء وقرئ التاء: ﴿قلوب فريق منهم﴾ أي يداخل قلوبهم شيء من الزيغ وهو الضلال حيث عز على نفوسهم أن يبتليهم الله بمثل هذه الشدائد وهم يجاهدون في سبيله ويعملون لنصر دينه: ﴿ثم تاب عليهم﴾ أيضًا من هذه الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم ساعة العسرة: ﴿إنه بهم رؤوف رحيم﴾ فهو يعلم مبلغ ضعفهم كبشر وهو سبحانه لا يؤاخذ على أحاديث النفس ووساوس الشيطان: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ أي أنه تعالى تاب أيضًا على الثلاثة الذين خلفوا أي تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك من غير عذر وهم كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف ولما عاد رسول الله ﷺ وسأل المنافقين عن سبب تخلفهم فاعتذروا بما اعتذروا به وحلفوا له فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله أما هؤلاء الثلاثة فقد راقبوا الله في سرهم وخافوا سخطه عليهم إذا هم كذبوا فصمموا على الصراحة وقال كعب لرسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلًا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» وقال لصاحبيه مثل قوله ثم إن الرسول ﷺ نهى الناس عن كلامهم فاجتنبهم الناس وظلوا على ذلك خمسين يومًا والخوف من الله يتأجج في صدورهم حتى أنزل الله هذه الآية بالتوبة عليهم وقد وصف الله ما أصابهم من همّ وغمّ في تلك الأثناء كان سببًا فيما أنعم الله به عليهم من تربة حيث قال: {حتى إذا
من التشكك في مدى قدرة الله فقال: ﴿ولئن قلت﴾ أيها الرسول للناس: ﴿إنكم مبعوثون من بعد الموت﴾ ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به: ﴿ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى﴾ فإنه ما خلقكم سدى، ولا سخر لكم هذا العالم واستخلفكم فيه عبثًا. ﴿ليقولن الذين كفروا﴾ وكذبوا بلقاء الله: ﴿إن هذا﴾ القول: ﴿إلا سحر مبين﴾ تريد أن تخدعنا به حتى تترك ما كان عليه آباؤنا، ونمتنع عن ملذاتنا، وقرئ: ﴿لساحر مبين﴾ أي أن هذا القائل بالعبث ما هو إلا ساحر يريد أن ننقاد له وندخل تحت طاعته، ولو أنهم حكموا عقولهم وآمنوا بالله لما كان لهم أن يقولوا مثل هذا القول.
بعد أن وصف الله لرسوله مبلغ تشكك النفس البشرية بفطرتها في مدى قدرة الله واستبعاد الناس أمر البعث يصف ما عليه حالهم تجاه ما أنذروا به من عذاب في الدنيا والآخرة فقال: ﴿ولئن أخرنا عنهم العذاب﴾ الذي أنذرتهم به بقولك: ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير﴾ أي إذا أمعنوا في المعاصي وأمهلهم الله ولم يعذبهم،: ﴿إلى أمة معدودة﴾ الأمة هنا الطائفة أو المدة من الزمن كقوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وادكر بعد أمة﴾ وأصلها الجماعة من جنس أو نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد وتطلق على الدين والمعنى ولئن أخرنا عذابهم إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا أو محدودة في نظام سننا في خلقنا تعد بالشهور أو بالسنوات: ﴿ليقولن﴾ أي أولئك الذين لا يعذبهم الله بذنوبهم استهزاء وسخرية بالوعيد: ﴿ما يحبسه﴾ أي ما الذي يمنع وقوع العذاب بنا إن كان حقًّا ما يقوله النذير: ﴿ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم﴾ أي ألا إن لذلك يومًا محدودًا متى حان وقته سوف لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه حابس: ﴿وحاق بهم﴾ أحاط بهم أي مسهم منذ الآن مقدمات: ﴿ما كانوا به يستهزئون﴾ به من العذاب فإنهم بسلوكهم السبيل المؤدي إلى العذاب لا بد من بلوغهم إلى منتهاه: ﴿ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة﴾ أي جعلناه يتذوق لذة نعمة كالصحة والأمن وسعة الرزق: ﴿ثم نزعناها منه﴾ بسبب من الأسباب وفق سننا: ﴿إنه﴾ في هذه الحياة: ﴿ليئوس﴾ أي شديد اليأس من رحمة الله: ﴿كفور﴾ أي يقطع الأمل من عودة تلك النعم لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر اللتين هما ثمرة الإيمان بالله: ﴿ولئن أذقناه﴾ أي هذا الإنسان اليئوس الكفور: ﴿نعماء﴾ من النعمة وهي ما يقابل النقمة: ﴿بعد ضراء﴾ من الضر الذي يقابل النفع: ﴿مسته﴾ بسبب اقترافه السيئات أو مخالفته لسننا
أمرها بينهم: ﴿والعير التي أقبلنا فيها﴾ أي واسأل أصحاب العير الذين يمتارون معنا يؤكدوا لك صدق مقالنا: ﴿وإنا﴾ فيما أخبرناك به: ﴿لصادقون﴾ أي واثقون بصدقنا سواء قنعت بذلك أم لم تقنع فنفذ الإخوة قول كبيرهم وعادوا إلى والدهم وقالوا له ما لقنوا به فلم يصدقهم: ﴿قال﴾ يعقوب: ﴿بل سولت لكم أنفسكم أمرًا﴾ أي إن هذه مكيدة دبرتموها على بنيامين كما دبرتموها على أخيه من قبل: ﴿فصبر جميل﴾ فمن واجبي أن أتذرع بالصبر الذي لا اعتراض فيه على حكم الله: ﴿عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا﴾ أي وإني لكبير الأمل في الله أن يرجع إليّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي تخلف في مصر: ﴿إنه هو العليم﴾ بحالي وحقيقة ما دبرتموه من المكايد ضدي: ﴿الحكيم﴾ في تصرفاته فهو سبحانه الذي جعل من دستوره أن لكل شيء نهاية ونهاية الشدة بداءة الفرج فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا وقد قلت مشطرًا لبيتين في هذا المعنى:
@ ﴿إن للخلاق لطفًا﴾ ساعة العسر بيسر
#وله فضل عظيم: ﴿ليس يحصيه الفكر﴾
@ ﴿إن من ألطاف ربي﴾ يلهم الصبر ويؤجر
#يحكم الشدة لكن: ﴿قبل أن يبلي يدبر﴾
﴿وتولى عنهم﴾ أي أشاح بوجهه عنهم فلم يطق النظر إليهم من شدة الغيظ: ﴿وقال يا أسفا على يوسف﴾ أي إن حزني على بعد يوسف لم يزل منهكًا من نفسي وقد هد قواي فكيف بي الآن بعد فقد أخيه: ﴿وابيضت عيناه من الحزن﴾ أي أصابتها غشاوة بيضاء غطت على بصره مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليمًا وهو ما يعرف في اصطلاح الطب في عصرنا هذا «الجلوكوما» وهو يأتي عادة من الانفعالات العصبية: ﴿فهو كظيم﴾ كظم الباب أغلقه وشده أي فهو حابس الغيظ والحزن في نفسه بعدم التفريج عنها بشيء مما يشفي الغليل وكظم الغيظ من أبرز صفات المتقين الذين ضمن الله لهم الغفران والرحمة والرضوان حيث قال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين» إلى آخر الآيات، وكظم الغيظ لا يعني أن الإنسان لا يتألم في نفسه أولًا يبكي ويشكو إلى الله أمره فقد بكى رسول الله ﷺ على ولده إبراهيم وقال «إن القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا
أن الله هو المقدر بأن ذلك لما لهم من الخطوة والقرب من الله كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا بينما يكون المدبر والآمر هو الملك، وعندي أنه إذا جاز لخاصة الملك هذا بالنسبة لما قد يكون لهم من رأي في الأمر فإنه بالنسبة لله فلا يجوز قطعًا، والقدر: كما أسلفنا هو أحكام الله التي جعلها على مقدار مخصوص وعلقها بشرط أو شروط لا تنفذ إلا بتوافرها ولذا لم يقولوا قدرنا عليهم كذا، كما قال تعالى: ﴿قضى عليها الموت﴾ بل قالوا كما قال تعالى: ﴿وقدر فيها أقواتها﴾ والتقدير بالنسبة للخلق قياس الشيء بالشيء فكأن الملائكة لم تنسب إلى نفسها إلا أنها عللت عدم نجاة امرأة لوط بأن ذلك بحسب تفكيرها: ﴿أنها كانت من الغابرين﴾ جري المفسرون على أن المراد أنها ستكون من الغابرين المتخلفين عن السير مع لوط ولعل الصواب إنها كانت فيما مضى من المتخلفين عن الإيمان برسالة لوط وكانت تخونه بمناصرة أعدائه: ﴿فلما جاء آل لوط المرسلون﴾ أي الملائكة المرسلون بعد خروجهم من بيت إبراهيم وكانوا في مظهر شباب مرد حسان الوجوه استنكر مجيئهم إليه وحسبهم جاؤوا لفتنته: ﴿قال إنكم قوم منكرون﴾ لا أعرفكم وليس لي بكم أي صلة فلماذا جئتم إلي وما لي بكم من حاجة: ﴿قالوا بل﴾ نحن رسل الله: ﴿جئناك بما كانوا فيه يمترون﴾ المرية: الجدال أي بالذي كانوا يجادلون في صحته من العذاب الذي كنت تتوعدهم بحلوله: ﴿وأتيناك بالحق﴾ أي بالخبر اليقيني: ﴿وإنا لصادقون﴾ في نقله إليك بأمر من الله: ﴿فأسر بأهلك﴾ أهل الرجل وزوجته وأبناؤه أي خذ أهلك وسر بهم: ﴿بقطع من الليل﴾ أي في ظلام الليل: ﴿واتبع أدبارهم﴾ أي كن أنت في مؤخرة أهلك متبعًا آثارهم: ﴿ولا يلتفت منكم أحد﴾ أي ليسرعوا ولا يتخلف منكم أحد ومن تخلف فلا تنتظروه ودعوه يهلك مع الهالكين وقد تخلفت فعلًا امرأته لأنها لم تكن تؤمن به وإلا لأسرعت معهم: ﴿وامضوا حيث تؤمرون﴾ أي واذهبوا إلى الجهة التي يلهمكم الله السير إليها: ﴿وقضينا إليه﴾ أي أوحينا إليه: ﴿أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين﴾ أي أنه سوف لا يأتي الصبح إلا وقد استؤصلوا ولم يبق منهم أحد وما هي إلا فترة حتى تسامع الناس بأن غلمانًا مردًا حسانًا دخلوا بيت لوط فأسرعوا إليه: ﴿وجاء أهل المدينة يستبشرون﴾ بالعثور على ضالتهم المنشودة في بيت لوط: ﴿قال﴾ لهم لوطًا مستهزئًا بهم ومسجلًا عليهم جرمهم يا قوم: ﴿إن هؤلاء ضيفي﴾ ومن واجبكم أن تكرموهم ولا تعتدوا عليهم: ﴿فلا تفضحون﴾ أي لا تتعرضوا لهم بسوء ليظهر لهم أنه ليس لي
الرعب وملأ الخوف من الله قلوبهم فأراد السميع العليم أن يهدئ روعهم ويطمئنهم بتجاوزه عما صدر منهم نتيجة خوفهم منه فقال: ﴿لقد تاب الله على النبي﴾ غفر له محاولته الاستغفار لعمه وأمه: ﴿والمهاجرين والأنصار﴾ ما كان من استغفارهم لذوي قرباهم: ﴿الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ أي الذين تحملوا معه الشدائد وصبروا على المكاره سواء في غزوة الخندق التي وصف الله حالهم فيها بقوله: ﴿إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر﴾ أو غيرها كما حصل لهم في عزوة تبوك التي نال المسلمين فيها من أنواع العسرة الشيء الكثير من فقدان الزاد والماء وحرارة القيظ: ﴿من بعد﴾ أي اتبعوه من بعد: ﴿ما كاد يزيغ﴾ بالياء وقرئ التاء: ﴿قلوب فريق منهم﴾ أي يداخل قلوبهم شيء من الزيغ وهو الضلال حيث عز على نفوسهم أن يبتليهم الله بمثل هذه الشدائد وهم يجاهدون في سبيله ويعملون لنصر دينه: ﴿ثم تاب عليهم﴾ أيضًا من هذه الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم ساعة العسرة: ﴿إنه بهم رؤوف رحيم﴾ فهو يعلم مبلغ ضعفهم كبشر وهو سبحانه لا يؤاخذ على أحاديث النفس ووساوس الشيطان: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ أي أنه تعالى تاب أيضًا على الثلاثة الذين خلفوا أي تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك من غير عذر وهم كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف ولما عاد رسول الله ﷺ وسأل المنافقين عن سبب تخلفهم فاعتذروا بما اعتذروا به وحلفوا له فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله أما هؤلاء الثلاثة فقد راقبوا الله في سرهم وخافوا سخطه عليهم إذا هم كذبوا فصمموا على الصراحة وقال كعب لرسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلًا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» وقال لصاحبيه مثل قوله ثم إن الرسول ﷺ نهى الناس عن كلامهم فاجتنبهم الناس وظلوا على ذلك خمسين يومًا والخوف من الله يتأجج في صدورهم حتى أنزل الله هذه الآية بالتوبة عليهم وقد وصف الله ما أصابهم من همّ وغمّ في تلك الأثناء كان سببًا فيما أنعم الله به عليهم من تربة حيث قال: {حتى إذا
على عظيم قدرته: ﴿مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من جميع المخلوقات بما تشير إليه من بديع الصنع وكامل الإتقان الذي لا يدع مجالًا للشك في أنه من صنع خالق عظيم: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ في سلطانه: ﴿الْحَكِيمُ﴾ في جميع تصرفاته: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ برسالة محمد بن عبد الله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم يهود بني النضير الذين عاهدهم الرسول ﷺ وأعطاهم عهدًا وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه وعندما تآمروا عليه وقرروا قتله في سرهم: ﴿مِن دِيَارِهِمْ﴾ أي مواضع سكنهم بالمدينة المنورة: ﴿لأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ أي لأول حصار ضرب عليهم وقد تجمعوا في حصون أعدوها خصيصًا للاحتماء بها فلم يثبتوا فيها أكثر من ست ليال: ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا﴾ منها بهذه السرعة ويجلوا عنها وقد أعدوها إعدادًا قويًّا منيعًا لا سبيل إلى النيل منه: ﴿وَظَنُّوا﴾ هم في أنفسهم: ﴿أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم﴾ تلك: ﴿مِّنَ اللهِ﴾ أي من قوى الله المادية والمراد بها جند الإسلام أنصار محمد بن عبد الله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ﴾ بشيء لم يكن يخطر لهم على بال: ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ ذلك أنه قتل رئيسهم وقائدهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة فانقسموا ووقعت فتنة داخلية بينهم لم تكن في الحسبان: ﴿وَقَذَفَ﴾ الله: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ وهو أعظم سلاح فتاك لا يملكه أحد غير الله فلم يسعهم إلا أن يحكموا على أنفسهم ويسألوا النبي أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما استطاعته الإبل من الأموال ما عدا السلاح فأطاعهم العهد على هذا فحملوا من أموالهم ما استطاعته إبلهم حتى صاروا: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليحملوها على ظهور إبلهم: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ كيف أن هؤلاء بنوا تلك الحصون ليحتموا فيها فإذا بهم يطلبون الجلاء عنها بل ويخربونها ليحملوا ما ينتفع به من انقاضها معهم من غير أن تطلق عليهم قذيفة واحدة بل إن الله قد جعل من قتل قائدهم سببًا في تفرق كلمتهم وألقى الرعب في قلوبهم وجعلهم يلقون سلاحهم من تلقاء أنفسهم إثر حصار بسيط ضرب عليهم أيامًا معدودة: ﴿وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ﴾ الخروج من الوطن والتحول عنه بما ألقى في نفوسهم من الرعب والرغبة في التسليم رحمة بهم وتفضلًا عليهم: ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل والأسر في حرب لا قبل لهم بها: ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ على غدرهم ونقضهم للعهد وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا﴾ أي وإنما اختاروا الجلاء من تلقاء أنفسهم لأنهم خالفوا وعادوا: ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وما زالوا يضمرون
الخرطوم} وهو الأنف ويستعمل خصيصًا للفيل أي أن هذا الذي بلغت به الجرأة حد الطعن في دين الله الحق وتكذيب آياته بسبب أنفته فلا بد أن يسمه الله على أنفه بأن يلحق به شيئًا يبين به أمره بيانًا واضحًا لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم أو يلصق به عارًا لا يفارقه أبدًا كالسمة التي لا تمحى ولا تزول إما في الدنيا أو الآخرة والله أعلم.
وبعد أن أمر الله رسوله بعدم الأخذ برأي من اتصف بما سبق من النقائص حتى ولو كان ممن يعتز بقوة ماله وأبنائه أخذ يبين له السر في هذا وهو أنهم جماعة أنعم الله عليهم بمختلف النعم من حياة وسمع وبصر فصرفوا كل هذه المواهب فيما لا يرضى الله حتى اتصفوا بتلك الصفات فكانوا بمنزلة من اجتازوا دور الاختبار وسقطوا فيه فلا خير يرجى منهم حيث قال: ﴿إنا بلوناهم﴾ أي امتحناهم واختبرنا مبلغ شكرهم للنعم والمراد منهم للطوائف التسع السابقون: ﴿كما بلونا﴾ من قبل: ﴿أصحاب الجنة﴾ وليس المراد بالجنة الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين في الآخرة بل المراد حقيقتها اللغوية وهي الحديقة ذات الشجر والنبات وأصحابها جماعة من أهل اليمن من قرية يقال لها طروان على بعد ستة أميال من صنعاء مات والدهم وخلف لهم هذه الجنة.
وقد كان في حياته يترك للمساكين ما أخطأ المنجل وما في أسفل الأكداس وما نسيه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فيجتمع عليه المساكين ويأخذونه فلما مات الرجل قال أبناؤه لقد كان أبونًا رجلًا أحمق ونحن أولى بكل ذلك فحلفوا ليصرمن ما في الجنة خفية في الصباح الباكر ولا يتركون للمساكين شيئًا بالمرة فجزاهم الله على هذا بإحراق جنتهم كلية وضرب بهم هذا المثل وفصل هذه الحادثة لتكون عبرة ونذيرًا لأولئك القوم وكل من يحاول أن يستأثر بنعمة الله ويمنع حق الله فيها حيث قال: ﴿إذ أقسموا﴾ بعد موت والدهم: ﴿ليصرمنها﴾ أي ليقطعن ثمر نخيلهم ويقطفون عنبهم: ﴿مصبحين﴾ مبكرين حتى لا يعلم بهم أحد من الفقراء: ﴿ولا يستثنون﴾ أي لا يتركون للمساكين شيئًا مما كان يتركه لهم أبوهم: ﴿فطاف عليها طائف من ربك﴾ أي لا يتركون للمساكين شيئًا مما كان يتركه لهم أبوهم: ﴿فطاف عليها طائف من ربك﴾ أي أصابتها آفة سماوية: ﴿وهم نائمون﴾ لا يعلمون ما حاق بها: ﴿فأصبحت﴾ الجنة: ﴿كالصريم﴾ أي كالأرض الصروم زرعها بمعنى أنها أصبحت قاحلة لا نبت فيها بالمرة: ﴿فتنادوا مصبحين﴾ أي أنهم لما أفاقوا من نومهم أرادوا أن ينفذوا خطتهم فنادى بعضهم بعضًا قائلًا: {أن اغدوا على
عليهم حتى أنه كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم: ﴿فَقُلْ﴾: له: ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾: أي هل ترغب في أن أدلك على أمر تخفف به من كبريائك وتطهر نفسك من غرورها وتعاظمها: ﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾ أي أعرفك به: ﴿فَتَخْشَى﴾: من بأسه وسلطانه إذ المعرفة الحقيقية لله تستوجب الخوف منه وأعقب ذلك بالفعل: ﴿فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى﴾: وهي أن ألقى أمامه عصاه فإذا هي ثعبان مبين أخافه وأفزعه حتى أحس من نفسه أنه عاجز عن أن يدفع عن نفسه أذاه وكان عليه أن يشعر أيضًا بمدى قدرة الله الذي يستطيع أن يحيل العصا إلى ثعبان غير أنه حسب أن ذلك من فعل موسى شأنه في هذه شأن السحرة الحواة في ذلك العصر: ﴿فَكَذَّبَ﴾: هذه المعجزة: ﴿وَعَصَى﴾: ربه فلم يطلب لنفسه الهداية: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ فرارًا من الثعبان: ﴿يَسْعَى﴾: يسرع في مسيره: ﴿فَحَشَرَ﴾: أي أمر بجمع السحرة من قومه في يوم معلوم: ﴿فَنَادَى﴾: مناد ينادي الناس لحضور ذلك الاجتماع العام ووقف بينهم خطيبًا: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾: فانصروني على موسى بإبطال سحره ودل بهذا على أنه معتوه فكيف يكون هو الرب وكيف يطلب العون والنصر من عبيده: ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ﴾: أي عاقبه وجازاه بعقوبة: ﴿نَكَالَ﴾: النكال من العقوبة أعظمها بحيث يمتنع كل من سمع بها عن ارتكاب مثل ذلك الذنب الذي وقع التنكيل بسببه وهو في العرف ما يفتضح به صاحبه بين الناس وقد صدق الله إذ أغرقه ثم نجى بدنه ليكون لمن خلفه عبرة وها هو ذا في متاحف مصر حتى اليوم: ﴿الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾ أي أن تلك العقوبة في الآخرة والدنيا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾: أي فيما قصصناه من أمر موسى وفرعون: ﴿لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾: فيمتنع عن التمرد على الله وتكذيب أنبيائه خوفًا من أن ينزل به ما نزل بفرعون.
بعد أن أتم الله ذكر قصة موسى وفرعون رجع إلى مخاطبة منكري البعث فقال: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾: التي تعلوكم وهو سبحانه الذي: ﴿بَنَاهَا﴾: ومن بنى هذه الأجرام العلوية العظيمة أليس بقادر على أن يعيدكم فيها يوم البعث. ثم وضح سبحانه طريقة البناء بقوله: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ السمك السقف أو امتداد الشيء من أسفل إلى أعلى وعكسه من الأعلى إلى أسفل يسمى عمقًا: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ أس ألفها سبع سموات طباقًا: ﴿وَأَغْطَشَ﴾ أي أظلم: ﴿لَيْلَهَا﴾ بسبب غروب الشمس: ﴿وَأَخْرَجَ﴾ من ظلمتها: ﴿ضُحَاهَا﴾ الذي هو أول أجزاء النهار وقد أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب حركة الفلك وطلوع الشمس وغروبها.


الصفحة التالية
Icon