وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
من المخاطر ولما انتظم لها سير ﴿بما ينفع الناس﴾ فهي قد سخرت من الله لحمل المثقلات من أنواع البضائع من وإلى مختلف الجهات.
﴿٥﴾ ﴿وما أنزل الله من السماء من ماء﴾ معلق في أجوائها يصرفه الله كيف يشاء وينزله بقدر معلوم على من يريد ﴿فأحيا به الأرض﴾ بأن أوجد فيها الزرع مختلفًا ألوانه، وثماره، وأنواعه في مواقيت ومواعيد مخصوصة ﴿بعد موتها﴾ وقد كانت قاحلة لا زرع فيها ﴿وبث فيها من كل دابة﴾ من كل زوجين اثنين لدوام النسل.
﴿٦﴾ ﴿وتصريف الرياح﴾ التي فيها خواص مادة التنفس وعليها مدار الحياة.
﴿٧﴾ ﴿والسحاب المسخر﴾ الذي قدر عليه أن لا يقف في موضع معين ليسوقه الله بواسطة تحريك الرياح إلى حيث يريد الله لصالح البشر ﴿بين السماء والأرض﴾ فيأتي وقت حاجة الناس إليه ويحجب عند زوال الحاجة ﴿لآيات لقوم يعقلون﴾ فكل واحد مما تقدم آية دالة على قدرة الله ووجوده ووحدانيته لمن يحكم عقله دون هواه، فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود الصانع المؤثر وقدرته، ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان دلت على عظمة المبدع الصانع ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ومن حيث إنها وقعت على وجه الانسجام والانتظام من غير ظهور الفساد دلت على وحدانية الصانع على حد قوله تعالى ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ وكما تدل كل هذه الآيات على وجود الصانع وصفاته فإنها تقضي بوجوب طاعته وشكره على عظيم نعمه وآلائه.
وبعد أن دلل الله تعالى على وجوده ووحدانيته وبراءته من الأضداد، والأنداد بالأدلة الكونية القاطعة، عقب على ذلك بذكر ما يضاد التوحيد فقال ﴿ومن الناس من يتخذ﴾ له ﴿من دون الله أندادا﴾ في المحبة والتعظيم، لا في الخلق والربوبية لما يعتقدونه فيهم من النفع، وما يؤملونه منهم من الخير، ومن أجل ذلك ﴿يحبونهم كحب الله﴾ ويعبدونهم كعبادته ويطيعونهم كطاعته وإن كان منهم من لا ينكر أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر النفع
المؤمنين من ذلك بصورة خاصة فقال (يا أيها الذين آمنوا) إذا تصدقتم بصدقة على إنسان ما ثم آنستم منه نكرانًا أو جحودًا لها أو أصابكم منه شر فيما بعد وهو كثيرًا ما يكون فحذار أن تتأثروا من ذلك وتندموا على ما صنعتم فقد قال ﷺ «ليس الإحسان لمن أحسن إليك إنما الإحسان لمن أساء إليك» (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) لما في ذلك من نسبة الفضل لكم على المتصدق عليه في حين أن الفضل في الواقع لله الذي من عليكم بالرزق الذي تصدقتم منه فصدور هذا منكم معناه كفران لأساس النعمة من شأنه أن يبطل الثواب، وثواب الصدقة لا يكتب لكم إلا إذا كانت خالصة لوجه الله، وندمكم عليها وامتنانكم بها والتنديد بالمتصدق عليه دليل قائم على أنكم إنما كنتم تطمعون في شكره وتقديره لكم دون مرضاة الله، ولما لم يحصلا أو أصابكم منه عكس ما أملتم ندمتم على عملكم وعمدتم إلى ما أقدمتم عليه من منٍّ وأذى ولهذا فإن الله لا يتقبل عملكم ويبطل حقكم في ثواب الصدقة ويكون شأنكم والحالة هذه (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) ليظهر نفسه بمظهر المحسن العامل من أجل مرضاة الله (و) الحال أنه في الواقع (لا يؤمن بالله واليوم الآخر) إذ لو كان يؤمن بهما لما أشرك معه غيره ولآثر ثوابه على السمعة الزائفة في هذه الحياة (فمثله) أي فإن مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس (كمثل صفوان) وهو الحجر العريض الأملس (عليه تراب) يحسبه كل من ينظر إليه أنه صالح للزرع ويتمنى الاستفادة منه (فأصابه وابل) أي مطر شديد أخذ التراب من فوقه وكشف عن حقيقته (فتركه) أي ترك الوابل الصفوان (صلدًا) حيث رجع إلى أصله أملس لا تراب عليه فتنفر الناس منه لأنه لا أمل لهم في الاستفادة منه وهكذا يكشف المن والأذى عن حقيقة نوايا المتصدقين والمرائين وكل أولئك (لا يقدرون على) حفظ (شيء مما كسبوا) أي ما قدموا من الصدقات التي يجرفها المن والأذى كما يجرف الوابل التراب من فوق الصفوان دون أن تكون لديه القدرة على الاحتفاظ بشيء منه (والله) في نظامه ودستوره الكوني (لا يهدي) إلى هذه الحقائق (القوم الكافرين) بأنعم الله فلا يؤمنون بأن أساس المال الذي تصدقوا به إنما هو من محض كرم الله فما يكون لهم أن يمنوا به إذا تصدقوا بشيء منه على الفقراء من عباده. بمعنى يدعهم في ضلالهم يعمهون.
بعد أن شبه الله من يتبع صدقته بالمن والأذى بالمرائي الكافر الذي يشبه الصفوان الذي لا نفع فيه برغم ما على ظاهره من تراب، شبه الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله دون أن يتبعوا ذلك
فريقا من الذين أوتوا الكتاب} وتؤمنوا بصدق ما يحدثونكم به وتستجيبوا لما يدعونكم إليه ﴿يردوكم﴾ من حيث لا تشعرون ﴿بعد إيمانكم﴾ بالله ورسوله ﴿كافرين﴾ جاحدين بسبب ما يدسونه في أحاديثهم من سموم الشرك والإلحاد والشبه في دين الله ﴿وكيف﴾ تصغون إلى أقوالهم وتخدعون بشبههم وتقعون في شراكهم و ﴿تكفرون﴾ بما سبق لكم أن آمنتم به واقتنعتم بصحته من هذا الدين الحق ﴿وأنتم تتلى عليكم آيات الله﴾ وهي واضحة جلية، وقد أمرتم باتباعها ﴿وفيكم رسوله﴾ يوضح لكم ما استشكل عليكم منا بأقواله وأعماله وسنته المحمدية على مدى الزمن ﴿ومن يعتصم بالله﴾ يضع ثقته فيه ويتمسك بكتابه وسنة نبيه ﴿فقد﴾ أفلح وجاءته من الله البشرى بأنه ﴿هدي﴾ ووفق ﴿إلى صراط مستقيم﴾ لا اعوجاج فيه، فما عليه إلا أن يستمر في طريقه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي»، وقال: «من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة» ثم تلا: ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾.
بعد أن حذر الله المؤمنين من تضليل أهل الكتاب أخذ يرشدهم إلى ما يصونهم من الضلال ويطمئنهم برضاء الملك المتعال فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ استمعوا إلى أمر ربكم واتبعوه تسعدوا في الدارين وذلك يتلخص فيما يأتي:
أولاً: ﴿اتقوا الله﴾ تصوروه مطلعًا على جميع حركاتكم وسكناتكم في كل وقت، وراقبوه في كل شيء واحذروا بطشه عند كل زلة ﴿حق تقاته﴾ كما يجب عليكم ذلك، فإنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أمركم، وهو القادر على إنزال العقوبة بكم في كل وقت وحين، فهذا ما يصدكم عن المعاصي والمنكرات. ﴿و﴾ ثانيًا ﴿لا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ أي احذروا كل ما يؤدي بكم إلى الشرك بالله كدعاء غيره وانتظار المدد من سواه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» وقال أيضًا: «الشرك أخفى من دبيب النمل» قال أبو بكر يا رسول الله وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله، قال: «ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» وقال غيره: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون
والأحزان بما تسديه إليهم من إحسان ولا دخل للدين في ذلك لما دل عليه القرآن من وجوب محبة المرء لوالديه من غير المسلمين بالمعروف ولأن الرسول ﷺ عاد ولد جاره اليهودي عندما مرض، ومن الإحسان بالجار مزاورته والإهداء إليه ودعوته إلى الطعام ﴿والصاحب بالجنب﴾ كل من صاحبته وجلست إلى جانبه ولو وقتًا قصيرًا وهو يشمل صاحب الحاجة الذي يأتي إليك يستشيرك أو يستعين بك ويستجديك وذلك بتحقيق ما يمكن مساعدته فيه ﴿وابن السبيل﴾ أي: من تبناه السبيل من غير معصية وهو السائح أو الرحالة لغرض صحيح مشروع وذلك بالقيام بواجب ضيافته وتقديم ما يحتاج إليه من مساعدات ﴿وما ملكت أيمانكم﴾ من فتيانكم وفتياتكم وذلك بملاطفتهم وعدم القسوة والتكبر عليهم وغير ذلك ﴿إن الله لا يحب﴾ صنفين من الناس أحدهما ﴿من كان مختالًا﴾ في نفسه يراها أرفع من نفوس الناس فيحتقرهم ويزدريهم والثاني من كان ﴿فخورًا﴾ بأعماله ومآثره يتحدث عنها في زهو ويعلنها باستكبار وقد وصف الله المختالين بقوله: ﴿الذين يبخلون﴾ يضنون بالإحسان إلى من ذكر لأنهم يحتقرونهم ولا يشعرون بالحاجة إليهم ﴿ويأمرون الناس بالبخل﴾ بضم الباء وسكون الخاء وقرئ بتحريكها يلجئونهم إلى الاقتداء بهم ومعاملة غيرهم كمعاملتهم لهم ﴿ويكتمون ما آتاهم الله من فضله﴾ بتعطيل مواهبهم وأموالهم وصرفها في غير ما خلقت فيه فيصدق عليهم أنهم جاحدون لفضل الله: لذا قال تعالى: ﴿واعتدنا للكافرين﴾ بأنعم الله ﴿عذابًا مهينًا﴾ أي: عذابًا يجمع بين الألم والمهانة جزاء على الاختيال وكفران النعم وقد وصف الله الفخورين بقوله: ﴿والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس﴾ ويظهرونها ابتغاء الفخر وحسن السمعة في الدنيا ﴿ولا يؤمنون﴾ أي: دون أن يكونوا مؤمنين ﴿بالله﴾ حقًّا باعتباره مانحًا للأرزاق مقسمًا لها ﴿ولا باليوم الآخر﴾ الذي
الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) (سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) فإنه تعالى ليس له جنس فيكون له منه زوج يقترن بها فتلد له ابناً (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) جميع ذلك ملك له وخاضع لأمره على الدوام وليس هو في حاجة إلى إيجاد ولد لمعونته أو لأجل أن يخلفه بعد موته تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي اكتف به أن يتولى أمرك ولا تطمع في ولاية غيره من الابن وروح القدس الذين ثبت أنهما مخلوقان له ومنسوبان إليه. ولا تخش أن يكون في هذا ما يغضب المسيح عليك إذ الواقع أنه (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) نفسُه (أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ) والدليل على هذا أنه لم يتبرأ قط من العبودية لله (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ومنهم روح القدس جبريل عليه السلام الذي أيد الله به عيسى في تبرئة أمه وتدعيم رسالته لن يستنكف واحد منهم أن يكون عبداً لله بقوله وفعله إذ الكل كانوا طائعين لله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ذلك لأنهم علموا وآمنوا وصدقوا بقوله تعالى (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) عن الخضوع لأوامر ربه (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) يوم القيامة حيث الحساب الدقيق والجزاء العدل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) على إيمانهم وأعمالهم الصالحة المطابقة لما يرضي الله (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) كرما منه وإحسانا بما لا يدخل في نطاق الحصر (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا)
<١٨>
عن أن يرضوا بنسبة العبودية لله إليهم أو إلى أحد من عباده كالمسيح أو غيره (فَيُعَذِّبُهُمْ) الله (عَذَابًا أَلِيمًا) وفق ما أنذرهم به من قبل لسلوكهم السبل التي تؤدي بهم إلى العذاب بمحض اختيارهم (وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذ ذاك (وَلِيًّا) يتولى شيئاً من أمورهم (وَلَا نَصِيرًا) يستطيع أن يخفف عنهم شيئاً من العذاب ممن كانوا يزعمونه ابنا لله أو شفيعا لديه.
بعد أن دعا الله الناس كافة إلى الإيمان بالله ونهى أهل الكتاب خاصة عن الغلو في الدين وافتراء الكذب على الله وبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه من أمر عيسى عليه السلام وعبوديته لمولاه أخذ يبيّن لهم حقيقة الإيمان الذي يدعوهم إليه فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ) أي دليل قاطع لا يقبل
الأئمة الأربعة من دون كتاب الله الذي اتخذوه لمجرد التلاوة والبركة. وأدى الأمر إلى تفرق كلمة المسلمين، حتى لقد أصبح بعض الشافعية المتعصبين لا يقتدي بالحنفي والعكس بالعكس، وأصبح بعض العوام يظن أن النبي ﷺ كان على مذهب إمامه، وحتى أن بعض رجال العلم يأبى أن يقرني على ما جنحت إليه من تفسير بعض الآيات بما يقره العقل وقواعد اللغة العربية وما يقتضيه عدل الله ودستوره العام وسنن الكائنات، بينما هو يأخذ ما قاله غيري من المفسرين المتقدمين حجة مسلمة، وإن لم يوجد في الشرع ما يؤيده، بل ربما كان فيه ما يزري بمقام الله وعدله. هدانا الله وإياهم سواء السبيل. بعد أن نهى الله المؤمنين عن التمسك بالعادات وتقليد الآباء أخذ يملي عليهم حكمًا عامًّا من دستوره السماوي هو أن مسئولية الإنسان الشخصية مستمرة حتى يستنفد كل إمكانياته لمنع الضلال ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بعدل الله في أحكامه ﴿عليكم أنفسكم﴾ أي قوموا بصلاحها وتزكيتها باتباع شرع الله دون التمسك بما كان لكم من عادات أو تقليد لغيركم في العقائد والأحكام ﴿لا يضركم من ضل﴾ بالتمسك بعادات قومه أو الأخذ برأي غيره دون كتاب الله ﴿إذا اهتديتم﴾ أي بشرط أن تكونوا مهتدين ولا تكونوا مهتدين إلا إذا عملتم وفق أوامر الله وبلغتم دعوته وعلمتم الجاهلين مما علمكم الله وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر بأيديكم فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم فإن لم تستطيعوا فبلقوبكم وهذا أضعف الإيمان.
كما وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين﴾ وأخبرنا جل وعلا بأنه لعن بني إسرائيل لأنهم تركوا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قال: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾.
لا كما يتوهمه البعض من أن مجرد استقامة الإنسان في نفسه تجعله في حل من عمل غيره. فقد قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس إذا
هذا فقد أرشدنا الرسول ﷺ إلى القاعدة في هذا بقوله «إن ماء الذكر أبيض وماء الأنثى أصفر فإذا اجتمعا وعلا ماء الرجل ماء الأنثى أذكر بإذن الله وإذا علا ماء الأنثى ماء الرجل أنث بإذن الله» فمتى استطاع العلماء إدراك معنى العلو تم لهم ما يريدون ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿يا قوم﴾ من سائر البشر ﴿اعملوا على مكانتكم﴾ وقرئ «مكاناتكم» المكانة المنزلة التي يتبوأها الإنسان في الحياة معنوية كانت أو اجتماعية أي أن لكم الخيار الكامل في العمل على الاحتفاظ بمكانتكم بحسبما ترونه نافعًا لكم وبما مكنا لكم في الأرض ﴿إني عامل﴾ على مكانتي التي أنا عليها لنيل العز ﴿فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار﴾ أي من منا الذي سيكون سعيدًا حقًّا في دنياه وأخراه فقد قضت سنة الله في الخلق ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ الفلاح صلاح الحال والظالم من يضع الأشياء في غير محلها والمعنى أن سنة الله تقضي بأن الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ولا يسلكون من السبل أفضلها ولا يتبعون من الشرائع ما وضعه الله لا يصلح حالهم ولا يسعدون في دنياهم ولا آخرتهم.
لقد بين الله فيما مضى أن إهلاكه تعالى للظالمين لم يكن إلا عقابًا على أعمالهم وأن ما شرعه من ثواب أو عقاب على العمل لم يكن إلا لأجل مصلحة البشر رحمة بهم لا لفائدة تعود على الله من عبادتهم وأمر رسوله أن يعلنهم بما منحوا من حق الخيار فيما يعملون بحسب ما تمليه عليهم محض إرادتهم ومكانتهم أردف ذلك بتعداد سيئاتهم التي تستحق العقاب إنذارًا لهم ولمن يأتي بعدهم فقال ﴿وجعلوا لله مما ذرأ﴾ أي خلق ﴿من الحرث والأنعام نصيبًا﴾ أي أنهم خصصوا ورصدوا لوجه الله جانبًا مما أنعم الله به عليهم من الزرع والأنعام وهذا بلا شك طاعة إلا أنهم أفسدوها بأقوالهم ومعتقداتهم الباطلة إذ شطروها إلى شطرين ﴿فقالوا﴾ عن أحدها ﴿هذا لله﴾ أي هذا حظ الله الذي ينبته ويصلحه ويرعاه يجب أن نقري منه الضيوف ونتصدق منه على المساكين ﴿بزعمهم﴾ أي بحسب ما يزعمون من أنه من حظ الله وأمره عائد إليه مع أن الواقع هو أن الكل من خلق الله وهو منبت جميع الزرع وهو الذي يرزق ويرعى جميع الأنعام ﴿وهذا لشركائنا﴾ أي وهذا حظ شركائنا من الآلهة التي نعبدها والتي ببركتها ينبت الزرع ويصلح حال الأنعام فيجب أن يعطى لسدنتهم ولم يقف بهم الأمر عند هذا الحد بل إنه عندما يطلع الزرع وتكثر الأنعام يتحكمون في توزيعها ﴿فما كان لشركائهم﴾ أي فما قالوا عنه أنه من حظ شركائهم يعطونه لسدنتهم ﴿فلا يصل إلى الله﴾ شيء منه بمعنى لا ينفق منه درهم في
عصا موسى ابتلعت كل ما كانوا يحاولون التمويه به على الناس ﴿فوقع الحق﴾ أي ظهر الحق بابتلاع العصا للحبال والعصيان ﴿وبطل ما كانوا يعملون﴾ من سحر أعين الناس واسترهابهم لهم ﴿فغلبوا هنالك﴾ أي فرعون وملئه بعد أن ثبت أن موسى كان محقًّا في دعواه وأن ما قام به ليس من أعمال السحر كما كانوا يتوهمون ﴿وانقلبوا صاغرين﴾ أي عادوا من ذلك الجمع أذلة يجرون أذيال الخزي والخذلان ولم تكفهم هذه الصدمة التي منوا بها حتى وقع ما ليس في الحسبان وهو أن السحرة الذين حشروا لإبطال سحر موسى أدركوا أن ما قام به موسى ليس سحرًا كما كانوا يتصورون وإنما هو بلا شك معجزة من معجزات الله القدير فتقدموا أمام ذلك الجمع الزاخر معلنين إيمانهم وندمهم على ما فرط منهم ﴿وألقي السحرة ساجدين﴾ لله ﴿قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون﴾ أي الذي دعا إلى الإيمان به كل من موسى وهارون عندئذ ثارت ثائرة الغضب في نفس فرعون وخشي أن يتبعهم سائر المجتمعين ويؤمنوا بالله ﴿قال فرعون﴾ للسحرة ﴿آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾ بالإيمان ﴿إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة﴾ أي أن ما أظهرتموه من المعارضة لموسى ورغبتكم في التغلب عليه كان أمرًا متفقًا عليه بينكم وبين موسى وهارون ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾ ﴿لتخرجوا منها أهلها﴾ أي أن ذلك منكم وسيلة لإخراج المواطنين من بني إسرائيل حسب طلب موسى ﴿فسوف تعلمون﴾ ما سيحل بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع وبين ذلك بقوله ﴿لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ بمعنى أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وبالعكس ﴿ثم لأصلبنكم أجمعين﴾ أي أنه أقسم بإيقاع ما ذكر من العذاب بهم ﴿قالوا﴾ أي السحرة ﴿إنا إلى ربنا منقلبون﴾ أي راجعون بعد قتلك لنا ﴿وما تنقم منا﴾ وتعاقبنا بما ذكرت ﴿إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا﴾ أي إلا لسبب إيماننا بأن ما جاء به موسى لم يكن من أعمال السحر بل إنه معجزة من الله حقًّا وهذه حقيقة ثبتت لدينا فلا يمكن أن نعدل عنها أبدًا ثم إنهم استعدوا لإنزال العقوبة بهم وتوجهوا إلى الله قائلين: ﴿ربنا أفرغ علينا صبرًا﴾ أي انزع خوف فرعون من قلوبنا وألهمنا الصبر على تحمل آلام تقطيع الأطراف ﴿وتوفنا مسلمين﴾ أي واختم حياتنا ونحن مستسلمون لقضائك راضون بأحكامك وهذا يدل على أن الإيمان متى تمكن من قلب إنسان فإنه يسترخص الحياة دونه ولا يبالي بما يصيبه من آلام في سبيله ﴿و﴾ عند هذا ﴿قال الملأ من قوم فرعون﴾ له لقد فهمنا ما تريد أن توقعه بالسحرة من العذاب ولكنه ما رأيك فيمن
@وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
#فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ونحن إذ نستعرض حال أمتنا الإسلامية التي بدأت ضعيفة ثم كبرت وارتفع شأنها وسادت العالم بتمسكها بهدي القرآن وتخلقها بأخلاقه وتأدبها بآدابه هل سقطت من أوج عزها إلا عندما ضعفت عقيدة أبنائها وفسدت أخلاقهم وتغير ما كان بنفوسهم من الإيمان والتقوى وبمقتضى ما أخبرنا به الله من سننه في هذه الآية فلا سبيل إلى استعادة ذلك الماضي المجيد إلا بإصلاح النفوس وتغيير ما طرأ عليها من الفساد وإرجاعها إلى الله والاهتداء بهديه وذلك بأن ينظر كل واحد منا إلى نفسه ويمتحن مبلغ الإيمان في قلبه ويصلح ما يراه فاسدًا من أمره ويحكم الصلة بينه وبين ربه حتى يطمئن إلى مستقبله ومستقبل أبنائه وقومه، وإن مما يشرح الصدر ويبشر بمستقبل زاهر للعرب أجمعين، أني كتبت إلى الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة إثر إعلانه الحرب على الشيوعية اعتمادًا على الله اذكره بالله وأرجوه أن يغير برامج التعليم التي وضعها المستعمرون وجعلوا الدين والأخلاق فيه أمرًا ثانويًا ولا يدرس منه غير فروع الأحكام حسب المذاهب بينما الواجب يقضي أن يراعى في برامج التعليم الجديد تنشئة الجيل الحاضر على أساس الإيمان والتقوى ومكارم الأخلاق وحب الله والخوف منه. وأن يوجه العلماء إلى هذا السبيل، وقد تلقيت من سيادة السيد كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم المركزي خطابًا رقم ٤٩٢ بتاريخ ٢٦/ ٣/ ١٩٥٩م هذا نصه: «إلى الأخ السيد عبد الحميد الخطيب. تحية طيبة وبعد، اطلعت على رسالتكم القيمة وإني أشكر لسيادتكم غيرتكم وحرصكم على تنشئة أبناء الأمة وبناتها تنشئة دينية قوية يسرني أن أؤكد لكم أن هذا الهدف تحرص الوزارة أشد الحرص على تحقيقه وأن العناية به في برامج التعليم وفي البيئة المدرسية من الدعائم الرئيسية لسياسة التربية والتعليم التي تسير عليها الوزارة وتفضلوا بقبول خالص شكري وتحيتي»، وفي الحال أخذ جزاه الله خيرًا يعمل على التعبئة الروحية والعناية بالدين واجتمعت اللجنة المشتركة لتنظيم التعبئة الروحية لحماية الشباب من الانحراف والمبادئ الهدامة برئاسة وكيل الأزهر واتخذت قرارًا بما يلي:
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} خوفًا من سخط الله عليهم الذي تجلى لهم من أعراض الرسول والمؤمنين عنهم: ﴿وضاقت عليهم أنفسهم﴾ من شدة الهمّ حتى لم يعد بها متسع لشيء من البسط والسرور: ﴿وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه﴾ أي أيقنوا أنه لا سبيل إلى رضاء الله إلا باللجوء إليه وحده بمعنى أنهم حسبوا وتوهموا أن اعترافهم للرسول بالحقيقة وجعلهم له واسطة ربما كان ذنبًا أمام الله فلجئوا إليه تائبين منيبين: ﴿ثم تاب﴾ الله: ﴿عليهم﴾ أي أنزل القرآن بقبول توبتهم التي تجلت في اعترافهم بقلوبهم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه: ﴿ليتوبوا﴾ أي ليتخذوا التوبة من الذنوب ديدنًا لهم كلما أصابوا ذنبًا: ﴿إن الله هو التواب﴾ أي كثير القبول لتوبة التائبين: ﴿الرحيم﴾ كثير الرحمة الذي لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على وجه الأرض من دابة. وهنا وجه الله خطابه إلى المؤمنين عامة داعيًا لهم إلى التأسي بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا فيما كان منهم من خوف الله والتزامهم جانب الصدق مهما كلفهم الأمر فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ أي راقبوه في سائر أعمالكم وحاذروا من سخطه: ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ الذين يلتزمون جانب الصدق في أقوالهم وأعمالهم وتربيتهم وجهادهم وعهودهم وفي كل شيء وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار إنه يقال للصادق صدق وبر ويقال للكاذب كذب وفجر وإن الرجل ليصدق حتى ليكتب عند الله صديقًا ويكذب حتى يكتب عند الله كاذبًا».
بعد أن أعلن الله توبته على نبيه والمهاجرين والأنصار مما كان منهم من استغفارهم للمشركين وتوبته أيضًا على الثلاثة الذين خلفوا ودعا المؤمنين إلى التأسي بهم في التقوى والصدق أخذ يبين ما حرم أولئك المخلفون أنفسهم منه من الفوائد العظيمة التي يجنيها المجاهدين في سبيل الله والتي لا يمكن أن يتوانى عن طلبها من كان لديه ذرة من إيمان فقال: ﴿ما كان لأهل المدينة﴾ أي وما كان يصح أن يصدر من أهل المدينة عاصمة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ومن حولهم من الأعراب﴾ أهل البادية: ﴿أن يتخلفوا عن رسول الله﴾ إذا خرج غازيًا أو مجاهدًا في سبيل الله: ﴿ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾ أي ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه فيصونوها عن التعرض لما يتعرض له ﷺ من أذى واضطهاد وأمور تشق على النفس أثناء قيامه
فكشفنا ضره وشفيناه من مرضه وأبدلنا عسره يسرًا وخوفه أمنًا بمحض رحمتنا: ﴿ليقولن﴾ إثر كشفها وإزالتها عنه: ﴿ذهب السيئات عني﴾ أي أنه يتنفس الصعداء ويكتفي بالتحدث بزوال المصائب عنه ويحسب أن ذلك نتيجة ما اتخذ من وسائل أو ما استعمل من علاج أو ما بذل من جهد دون أن يشعر بأن ذلك لم يحصل له إلا بفضل الله ورحمته، فلا يشكر الله على ذلك و ﴿إنه﴾ في هذه الحالة: ﴿لفرح﴾ بما ناله من زوال ما كان يعانيه: ﴿فخور﴾ بما بذل من جهد أو ما أنفق من مال تغلب بواسطته على ما أصابه من الضر في الماضي: ﴿إلا الذين صبروا﴾ من بني الإنسان في ساعة الضراء إيمانًا بالله واحتسابًا للأجر عنده فإنهم متى كشف عنهم السوء قدروا لله هذا الفضل وحمدوه عليه: ﴿وعملوا الصالحات﴾ باستعمال تلك النعم فيما يرضيه من عمل البر وأنواع العبادات والقربات: ﴿أولئك﴾ الذين صبروا في البأساء وعملوا الصالحات في النعماء: ﴿لهم مغفرة﴾ واسعة من ربهم تمحو من أنفسهم ما علق بها من ذنب وتقصير: ﴿وأجر كبير﴾ في الآخرة على ما وفقوا إليه من الصبر وصالح العمل.
بعد أن أخبر الله رسوله بما طبعت عليه النفوس البشرية من التشكك في مدى قدرة الله وصدق ما أنذروا به وبأسهم من رحمة الله في حال الشدة والفقدان وتجاهلهم نعمه في حال الرخاء إلا من هذبتهم هداية الدين أخذ يعالج ما كان يراود قلب رسوله من أفكار وما يعتريه من هموم بسبب عنت قومه وماذا عساه أن يفعل لهدايتهم وإقناعهم للحق الذي جاء به وحملهم على اتباعه، هل يصدع بتبليغ كل ما يوحى إليه في حينه من تزييف عقائدهم ومهاجمة آلهتهم وهو يخشى أن يحملهم هذا على زيادة نفورهم منه، أم يتريث في الأمر حتى تلين قلوبهم ويضعف نفورهم منه فلا يستنكرون سماع ما يجيء الوحي به عن آلهتهم ومعتقداتهم فقال: ﴿فلعلك﴾ هذا استفهام إنكاري يراد به النهي أو النفي إذ يقول الرجل لولده إذا أمره بأمر وأراد أن يؤكد عليه في عدم تركه «لعلك تقصر فيما أمرتك به»،: ﴿تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك﴾ أي هل بعد ما أخبرناك به أيها الرسول طبائع البشر لا تزال تفكر في ترك شيء مما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من تزييف عقائدهم وضائق به صدرك أن تبلغهم إياه كله كما أنزل خشية أن ينكروا رسالتك وكراهة: ﴿أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز﴾ وهو ما ينال بغير كسب، أي هلا أعطاه الله ربه مالًا يغنيه في نفقته ويمتاز به عن غيره إن كان رسولًا من قبله حقًّا: {أو جاء
إبراهيم لمحزونون» والأنبياء بشر يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الحزن والفرح والتألم للمصائب ويمتازون عنهم بأنهم لا يفكرون في الانتقام لأنفسهم بأنفسهم بل يفوضون أمورهم إلى بارئهم، لقد تألم أولاد يعقوب عندما رأوه فقد بصره وهو يبكي ويردد ذكر يوسف فلحقوا به في عزلته: ﴿قالوا تالله﴾ إنك: ﴿تفتؤ تذكر يوسف﴾ أي نقسم إن استمرارك على ذكر يوسف وإيغالك في الحزن عليه مما يؤدي بك إلى ما لا تحمد عقباه: ﴿حتى تكون حرضًا﴾ أي يعتريك فساد في الجسم والعقل: ﴿أو تكون من الهالكين﴾ أي الميتين: ﴿قال﴾ يعقوب: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ بث الخبر أذاعه ونشره والحزن ما في داخل النفس من همٍّ أي إني لا أشكو من أموري شيئًا لأي مخلوق سواء كان من الأمور في الظاهرة أم من الآلام النفسية الباطنة: ﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ فأنا أعلم مما علمني ربي من تعبير رؤيا يوسف أنه لم يمت وأنه سيتبوأ مكانًا ساميًا يجعلني وإياكم نخضع له وربما كان هذا أيضًا سببًا لإصرار العزيز على طلب بنيامين واستبقائه لديه وقد أدرك يعقوب أنه لا بد وأن يكون في الأمر سر خفي لا بد لهم من السعي لاكتشافه ولذا قال: ﴿يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه﴾ أي تعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر: ﴿ولا تيأسوا من روح الله﴾ الروح النسيم الذي تستريح به النفس والمعنى لا تيأسوا أن يأتي الله بفرج ولطف من عنده كالنسيم البارد يأتي للإنسان في أشد ساعات الحرارة: ﴿إنه لا ييأس من روح الله﴾ أي من النفحات الإلهية: ﴿إلا القوم الكافرون﴾ بوجود الله وسلطانه على هذه الكائنات ورحمته بعباده، فكان لهذا القول أثره في نفوس الإخوة وبادروا بالارتحال وسافروا إلى مصر وكان أول ما قصدوا قصر العزيز: ﴿فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر﴾ أي شدة القحط وفقدان الزاد: ﴿وجئنا ببضاعة مزجاة﴾ بفتح الجيم مفخمة وقرئ بالإمالة أي مخلوطة بين صالح ورديء: ﴿فأوف لنا الكيل﴾ أي لا تنقص منه شيئًا بسبب رداءة بضاعتنا: ﴿وتصدق علينا﴾ بعتق بنيامين ورده لنا: ﴿إن الله يجزي المتصدقين﴾ بما في أيديهم ابتغاء مرضاته خير الجزاء: ﴿قال﴾ يوسف وقد ذكر ما أوحي به إليه من قبل من قوله تعالى: ﴿لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون﴾: ﴿هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه﴾ أي علمتم الجريمة التي اقترفتموها ضدهما وما يترتب عليها من ضر بوالدكم: ﴿إذ أنتم جاهلون﴾ أي في حال جهلكم قبح ما فعلتم في حكم الشرع وما عليكم من حقوق بر الوالدين وصلة الرحم وهذا بمثابة تلقين لهم بالعذر وحض على
عندكم حرمة ولا مقدار: ﴿واتقوا الله﴾ بالانتهاء عن هذه الرذيلة والعادة الذميمة التي وصمتم بها: ﴿ولا تخزون﴾ أي لا تجلبوا لي عار السكوت على فعلكم إذا أنا لم أدافع عنهم وهم في بيتي: ﴿قالوا﴾ جوابًا على توسلاته: ﴿أولم ننهك عن العالمين﴾ أي ألم نحذرك من أن تضيف أحدًا في قريتنا أو تنجد أو تدافع عمن نريده بسوء: ﴿قال﴾ لوط: ﴿هؤلاء بناتي﴾ أي دونكم جنس البنات أجمل منظرًا وأعظم حسنًا من المراد: ﴿إن كنتم فاعلين﴾ أي إن كنتم تريدون الاستمتاع وقضاء الشهوة، جرى الحديث بين لوط وقومه والملائكة يسمعون ويهزؤون من إصرارهم على ارتكاب الفاحشة دون أن يعلموا بحقيقة أمرهم فالتفتوا إلى لوط قائلين: ﴿لعمرك﴾ أي نقسم بعمرك وحياتك أي الرسول: ﴿إنهم لفي سكرتهم﴾ أي إن قومك من شدة غفلتهم: ﴿يعمهون﴾ أي يترددون في الضلال وهم لا يشعرون بما سينزل بهم من البلاء: ﴿فأخذتهم الصيحة مشرقين﴾ أي حلت بهم صيحة عظيمة هائلة عند الشروق: ﴿فجعلنا عاليها﴾ أي أعالي المدينة بما هو على وجه الأرض: ﴿سافلها﴾ أي قلبناها فوقهم: ﴿وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل﴾ أي من طين متحجر: ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما ذكر من القصص: ﴿لآيات﴾ تدل على عظيم سلطان الله ومدى إمهاله المجرمين: ﴿للمتوسمين﴾ أي المتفكرين الذين يعرفون كل شيء بصفته وعلاماته: ﴿وإنها﴾ أي هذه المدينة التي حل بها العذاب: ﴿لبسبيل مقيم﴾ أي لتقع في الطريق الثابت الذي يراه ويشاهده كل من يسافر من الحجاز إلى الشام كما قال في آية أخرى: ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون﴾.
﴿إن في ذلك﴾ أي فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار: ﴿لآية﴾ موضع عبرة: ﴿للمؤمنين﴾ بالله ورسوله الذين يعرفون أن ما حاق بهم من العذاب إنما كان انتقامًا منهم بسبب كفرهم وسوء فعلهم أما غيرهم فإنهم لا يعتبرون بل ينظرون إليها باعتبارها مجرد آثار لمن مضوا في سابق الحقبات ليس إلا: ﴿وإن كان أصحاب الأيكة﴾ الأيكة الشجر الملتف ويراد بهم قوم شعيب: ﴿لظالمين﴾ أنفسهم بعدم اتباعهم للرسل: ﴿فانتقمنا منهم﴾ بما أنزلنا عليهم من عذاب الصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة وقد كانوا قريبًا من قوم لوط في الزمان ومسامتين لهم في المكان ولذا قال: ﴿وإنهما﴾ أي مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط: ﴿لبإمام مبين﴾ أي بطريق واضح يأمونه في سفرهم: ﴿ولقد كذب أصحاب الحجر﴾ الحجر اسم واد كان يسكنه
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} خوفًا من سخط الله عليهم الذي تجلى لهم من أعراض الرسول والمؤمنين عنهم: ﴿وضاقت عليهم أنفسهم﴾ من شدة الهمّ حتى لم يعد بها متسع لشيء من البسط والسرور: ﴿وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه﴾ أي أيقنوا أنه لا سبيل إلى رضاء الله إلا باللجوء إليه وحده بمعنى أنهم حسبوا وتوهموا أن اعترافهم للرسول بالحقيقة وجعلهم له واسطة ربما كان ذنبًا أمام الله فلجئوا إليه تائبين منيبين: ﴿ثم تاب﴾ الله: ﴿عليهم﴾ أي أنزل القرآن بقبول توبتهم التي تجلت في اعترافهم بقلوبهم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه: ﴿ليتوبوا﴾ أي ليتخذوا التوبة من الذنوب ديدنًا لهم كلما أصابوا ذنبًا: ﴿إن الله هو التواب﴾ أي كثير القبول لتوبة التائبين: ﴿الرحيم﴾ كثير الرحمة الذي لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على وجه الأرض من دابة. وهنا وجه الله خطابه إلى المؤمنين عامة داعيًا لهم إلى التأسي بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا فيما كان منهم من خوف الله والتزامهم جانب الصدق مهما كلفهم الأمر فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ أي راقبوه في سائر أعمالكم وحاذروا من سخطه: ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ الذين يلتزمون جانب الصدق في أقوالهم وأعمالهم وتربيتهم وجهادهم وعهودهم وفي كل شيء وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار إنه يقال للصادق صدق وبر ويقال للكاذب كذب وفجر وإن الرجل ليصدق حتى ليكتب عند الله صديقًا ويكذب حتى يكتب عند الله كاذبًا».
بعد أن أعلن الله توبته على نبيه والمهاجرين والأنصار مما كان منهم من استغفارهم للمشركين وتوبته أيضًا على الثلاثة الذين خلفوا ودعا المؤمنين إلى التأسي بهم في التقوى والصدق أخذ يبين ما حرم أولئك المخلفون أنفسهم منه من الفوائد العظيمة التي يجنيها المجاهدين في سبيل الله والتي لا يمكن أن يتوانى عن طلبها من كان لديه ذرة من إيمان فقال: ﴿ما كان لأهل المدينة﴾ أي وما كان يصح أن يصدر من أهل المدينة عاصمة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ومن حولهم من الأعراب﴾ أهل البادية: ﴿أن يتخلفوا عن رسول الله﴾ إذا خرج غازيًا أو مجاهدًا في سبيل الله: ﴿ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾ أي ولا أن يفضلوا أنفسهم عن نفسه فيصونوها عن التعرض لما يتعرض له ﷺ من أذى واضطهاد وأمور تشق على النفس أثناء قيامه
العداء لهما فلا تطيب لهم الإقامة في ديار ينفذ فيها حكم الله ورسوله: ﴿وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي ولقد فاتهم أن الجلاء الذي اختاروه لن يقيهم عقوبة معاداة الله فهو سبحانه شديد العقاب يصلهم أينما حلوا أو حيثما كانوا ثم إنه بعد أن انتهى إجلاء بني النضير عن المدينة بقي فيها من اليهود بنو قريظة فأخذوا يدسون الدسائس ويبثون الفتن ضد الرسول ويحاولون تشكيك المسلمين في عدله ﷺ بقولهم إن محمدًا كان ينهى عن الفساد فما باله أمر بقطع نخيل بني النضير أثناء حصارهم ولم يوزع ما تركوه على من جاهد معه كسائر أموال الغنائم حتى لقد حاك هذا في قلوب بعض المسلمين فقالوا يا رسول الله لقد أمرتنا بقطع شجر القوم فقطعنا بعضًا وتركنا بعضًا فهل لنا فيما قطعنا من أجر وهل علينا فيما تركنا من وزر فرد الله كيد اليهود في نحورهم وأنزل قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ﴾ وهي النخلة من أي نوع: ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾ من غير قطع: ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ أي أن الأمر بالقطع لم يكن للوجوب حتى تثابوا أو تأثموا بل للإباحة وهذا يشير إلى قاعدة أصولية هي أن الأمر بعد النهي يقتضي الجواز: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي والغاية منه لم تكن لإيقاع الفساد بل لغيظ اليهود وتضاعف حسرتهم على أعز أموالهم أما عن أموال بني النضير التي لم يوزعها الرسول على الجيش فقد فصل الله أمرها بأنها لا تعد من أموال الغنائم التي تؤخذ من الأعداء في ميدان القتال فليس ثمت حرب ولا قتال بل إنه رزق ساقه الله إلى رسوله من غير حرب ولا ضرب حيث قال: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ أي جعله الله فيئًا له من أموالهم إذ الفيء ما أخذ من أموال الكافرين من غير حرب: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ أي فما أسرعتم: ﴿عَلَيْهِ﴾ من أجل نيله: ﴿مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ﴾ الركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد له من لفظة والعرب تطلق على راكب البعير الراكب وعلى راكب الفرس الفارس بمعنى لم تجهدوا أنفسكم في نيله بحرب ولا ضرب ولم تقطعوا إليها مسافة طويلة إذ كنتم على مسافة ميلين من المدينة: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ﴾ أي يجعل لهم عليهم سلطانًا فيخضعون لهم ولذا كان الأمر في الفيء مفوضًا إلى الرسول يضعه حيث يشاء: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو الذي نصر رسوله بما أوقعه بين اليهود من فتنة ورعب في القلوب ومن أجل هذا قسم الرسول الفيء بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منه غير القليل كل بحسب حاجته ومن أجل هذا جعل الله حكمه فيه ما يأتي: {مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
حرثكم} من ثمار وزرع وأعناب: ﴿إن كنتم صارمين﴾ أي إن كنتم على ما اتفقنا عليه من صرم كل شيء: ﴿فانطلقوا وهم يتخافتون﴾ أي ذهبوا وكل منهم يسر إلى أخيه: ﴿أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين﴾ بمعنى احذروا أن يعلم بكم المساكين فيداهموكم في الجنة وأنتم تصرمون: ﴿وغدوا﴾ مطمئنين أنهم: ﴿على حرد﴾ أي منع المساكين من دخول جنتهم بمثل هذه المكيدة التي دبروها: ﴿قادرين﴾ على بلوغ غايتهم من الاستئثار بالمال من دون المساكين: ﴿فلما رأوها﴾ على تلك الحالة وقد نسفها الله فلم يبق بها شيئًا من ثمر أو زرع أنكروها ولم يتعرفوا إليها: ﴿قالوا إنا لضالون﴾ أي أنهم ظنوا أنهم ضلوا الطريق وأن التي رأوها لم تكن هي جنتهم التي عهدوها بالأمس مليئة بمختلف الثمار والنباتات ولكنهم عندما أمعنوا النظر وتأكدوا أنها هي بعينها جنتهم قالوا: ﴿بل﴾ هي بعينها جنتنا ولكن: ﴿نحن محرومون﴾ أي أن الله قدر علينا الحرمان من هذا الرزق الذي كان لوالدنا وهذا حظنا ونصيبنا: ﴿قال أوسطهم﴾ أي أعدلهم وأفضلهم رأيًا: ﴿ألم أقل لكم﴾ مرارًا وتكرارًا لا تقولوا مثل هذا القول وتنسبوا إلى الله ما يتعالى عنه: ﴿لولا تسبحون﴾ أي أما آن لكم أن تنزهوا الله وتقدسوه عن مثل هذا القول فليس الأمر قسمة ونصيبًا والله أكبر وأجلّ من أن يقدر عليكم الحرمان لغاية في نفسه وإنما هو سوء نيتكم الذي جلب لكم هذه الكارثة وفق سننه تعالى في خلقه إذ يقول تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.: ﴿قالوا سبحان ربنا﴾ أي ننزهه تعالى عن أن يكون ظالمًا فيما صنع بجنتنا ونعترف: ﴿إنا كنا ظالمين﴾ إذ بيننا في أنفسنا حرمان المساكين من رزق الله فحرمنا أنفسنا من نصيبنا من ذلك الرزق أيضًا: ﴿فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون﴾ يقول أحدهم للآخر أنت الذي أشرت بهذا ويقول الثاني بل أنت الذي خوفتنا من الفقر ويقول الثالث بل أنت الذي أشرت بحرمان المساكين وهكذا ثم انتقلوا من ذلك إلى التحسر والندم والاعتماد على مجرد الأمل في كرم الله دون أن يستغفروا ويتوبوا ويجدوا في زرع الجنة مرة أخرى إذ: ﴿قالوا يا ويلنا﴾ فقد حرمنا من ذلك النعيم القديم: ﴿إنا كنا طاغين﴾ إذ لم نقدر تلك النعم لمسديها ونشكره عليها: ﴿عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها إنا إلى ربنا راغبون﴾ أي أنهم بعد هذا كله لم يعملوا أكثر من اعتمادهم على مجرد الأمل في كرم الله وفاتهم أن هذا مخالف لدستوره تعالى الذي رتب كل شيء على العمل دون الأمل حيث قال في سورة النساء: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به﴾.: ﴿كذلك العذاب﴾
﴿وَالأَرْضَ﴾ التي كانت مخلوقة قبل خلق السماء بدليل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾،: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي بعد رفع السماء: ﴿دَحَاهَا﴾ أي بسطها بسطًا مهيئًا لنبات الأقوات إذ: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا﴾ فأصبحت صالحة لإعاشة سائر الحيوانات،: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أي جعلها ثابتة قوية تقيمون عليها دعائم سكنكم وتتخذون من أحجارها قصورًا شامخات: ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ أي كل ذلك خلقه الله من أجلكم وستحاسبون عليه: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ﴾ الداهية أو المصيبة: ﴿الْكُبْرَى﴾ التي ليس فوقها من مصيبة وهي التي توعدهم الله به من قبل: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى﴾ أي اليوم الذي يرى كل إنسان أعماله تعرض عليه على الشاشة تذكره ما نسي.: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾ أصبحت ظاهره بارزة.: ﴿لِمَن يَرَى﴾ أي لكل راءٍ.
﴿فَأَمَّا﴾ هذا جواب قوله: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾، أي فإن الجزاء يكون كما يأتي: ﴿مَن طَغَى﴾ استكبر عن تقبل الهداية وتجرد قلبه من خوف الله وأبى الإيمان به: ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ على ما في الحياة الأخرى من نعيم فلم يعمل لها: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ الذي يأوي إليه يوم القيامة بحسب دستور الله الذي يقضي بأن العمل للشيء سبيل إلى نيله والإعراض عن الشيء موجب للحرمان منه ومن سلك الطريق إلى الشرق لا يمكن أن يؤدي به ذلك إلى الوصول إلى الغرب.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أي من عرف أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به فطلب عفوه ورحمته: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ أي أقلع عن فعل المحرمات بقدر المستطاع فإذا غلبه الشيطان رجع إلى الله بالتوبة والندم والعزم على عدم العود إلى ذلك: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ أي الموضع الذي ينتهي إليه المقام بمقتضى هذا الوعد الذي قطعه رب العزة على نفسه وهو سبحانه لا يخلف وعده.
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ أي لقد بلغ من كفر المشركين بالبعث أنهم مازالوا يسألون النبي في سخرية عن الساعة: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي متى ترسو وتستقر؟ بمعنى متى يوم القيامة؟: ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾ أي ليس من شأنك أن تذكر لهم شيئًا عن موعدها.
﴿إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾ أي أن منتهى علمها عنده جل وعلا لم يؤته أحدًا من خلقه: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾ بضم الميم وقرئ بالتنوين.: ﴿مَن يَخْشَاهَا﴾ أي أن مهمتك محصورة في الإنذار بها وتخويف الناس من أهوالها: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ في الآخرة يحسبون أنهم: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ في حياتهم الدنيا.