وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (٦٨) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَن
والخير وإنما يعتقد أن هؤلاء وسطاء وشفعاء عنده فيثبتون لهم سلطة غيبية وقدرة خفية في تصريف الأمور وجلب النفع أو دفع الضر تحملهم على الالتجاء إليهم في الشدائد بالدعاء وانتظار الإمداد منهم لقضاء الحوائج ﴿والذين آمنوا﴾ بالله وعرفوا حقيقة التوحيد ومعنى الشرك تجدهم ﴿أشد حبًّا لله﴾ من كل ما سواه لأنهم أيقنوا بأنه هو وحده المعطي والمتفضل الرزاق، وكل حركة أو سكون أو خير يجري على يد غيره فهو من الله وحده ولا سلطة لغيره فيه بالمرة، ولا تقبل عنده الشفاعة إلا بإذنه. ولذلك فإنهم لا يدعون غيره، ولا يخافون سواه، ولا يبلغ حب أحدهم عندهم مبلغ حبهم لله مع الرجاء والخوف والرضاء بأحكامه ﴿ولو يرى﴾ بالياء وقرئ بالتاء بعين البصيرة ﴿الذين ظلموا﴾ أنفسهم بحبهم غيره وانتظارهم المدد من سواه ﴿إذ يرون العذاب﴾ عندما يشعرون بالآلام والمصائب في هذه الحياة ﴿أن القوة﴾ التي أوجدت تلك المصائب، وأثرت ذلك الأثر الذي يتألمون منه، مصدرها من الله وحده الذي خصها بتلك الميزة بحسب ما سن من سنن هي ﴿لله جميعًا﴾ ولا أثر لمخلوق فيها وهو وحده القادر على درء خطرها عنهم، إذا لأقلعوا عن حبهم لغيره وتعلقهم بسواه ﴿وأن الله﴾ أي ولو علم الذين ظلموا وأيقنوا أن الله مالك تلك القوى. ﴿شديد العذاب﴾ لخافوا بطشه وعقابه ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا﴾ أي في الوقت الذي يتبرأ المتبوعون فيه من التابعين وهو يوم القيامة حيث يحاسب كل امرئ على مخالفته أمر ربه وحينئذ لا ينجيه من ذلك قوله إني اتبعت فلانًا، أو عملت بقوله إذ يتنصل المتبوع من التبعة ويقول إني لم ألزمه أو أكلفه باتباع رأيي وما كان لي عليه من سلطان، ولذا ينبغي على كل مقلد أن يعرف دليل إمامه في الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله والمراد بالمتبوعين كل من يحدث في الشريعة أمرًا لم يكن له مأخذ من الكتاب أو السنة، والمراد بالتابعين كل من يعدل عن اتباع الكتاب والسنة إلى الأخذ بقول أحد الفقهاء ويصر على تقليده في أقواله ولو تبين له أنها مخالفة لصريح القرآن والحديث ﴿ورأوا﴾ أي التابعون ﴿العذاب﴾ الموعودين به يوم القيامة ﴿وتقطعت بهم الأسباب﴾ عندما عرفوا تنصل المتبوعين منهم في ذلك اليوم الذي لا مجير فيه، ولا شفيع إلا بإذن الله {وقال
بالمن والأذى بتربة صالحة للزرع كثيرة الفوائد عظيمة الأشجار رفيعة المكان تنتج الكثير وتقنع بالمال القليل فقال (ومثل الذين ينفقون أموالهم) في مساعدة المعوزين والبائسين والمساهمة في كل عمل نافع (إبتغاء مرضاة الله) وتقربًا إليه بتنفيذ أوامره وتحقيق ما إليه دعا (وتثبيتًا) أي تقوية لذلك (من) تلقاء (أنفسهم) بمحض الرغبة الصادقة والحرص الأكيد على رضائه سبحانه وتعالى لا بقصد الشهرة ورئاء الناس ولا تحت تأثير الخوف من ألسنتهم أو أذاهم مثل هؤلاء بأعمالهم هذه عند الله (كمثل جنة) ذات تربة صالحة للزرع مكتظة بالأشجار العالية المثمرة اختصها الله بالفضل إذ جعلها (بربوة) بفتح الراء وقرئ بكسرها وهي الأرض المرتفعة عن الأرض تأخذ حظها من السقي بالراحة ثم تفيض على ما دونها (أصابها وابل) المطر الشديد من السماء فزهت وأصبحت كأنها زمردة خضراء يؤمها الناس من كل مكان (فآتت أكلها) بضمتين وقرئ بضم الهمزة وسكون الكاف أي ثمرها (ضعفين) وأفاضت على من حولها وافر الثمرات وعظيم الإنتاج (فإن لم يصبها) أي يصل إليها (وابل) مطر ثقيل (فطل) أي مطر خفيف يكفي لحفظ رونقها بخلاف غيرها من الأرض فإنه لا بد لها في السقي من مطرتين غزيرتين لتحسن زراعتها وكذلك شأن المنفقين في سبيل الله لهم من المزايا والمنافع ما لهذه الجنة، فالله يوسع لهم في الرزق، ويعلي مراتبهم عنده، ويضاعف لهم الحسنات، ويكثر لهم الخيرات، ولا يخلي عنهم الستر، ولا يحرمهم من وافر الأجر (والله بما تعملون) أيها المؤمنون (بصير) فلا يخفى عليه شيء من أمركم فيختص المخلص بمثل هذه المزايا والمكرمات، ويحرم المرائي والمنان من مثل هذه الدرجات.
بعد أن شبه الله من يبطل صدقاته بالمن والأذى والمرائي الذي يشبه الصفوان الذي عليه تراب من حيث عدم انتفاع كل منهما بعمله، وشبه عمل المنفق أمواله ابتغاء مرضاة الله بجنة بربوة، أراد أن ينبه إلى وجود فارق بين المرائي والمنان من حيث وقع المصيبة عليه وتأثيرها في نفسه ذلك أن المرائي لم يكن يرجو لنفسه ثوابًا من الله فلا يحزن لحرمانه منه، بل إنه طلب إظهار صدقته للناس فحصل على غايته، أما المنان فإنه كان يرجو رضاء الله ويطمع فيما أعد له من ثواب وقد حصل عليه فعلًا واطمأن به ثم حرم منه بسبب ما صدر منه من منة وأذى، وقد مثل الله ذلك بقوله (أيود أحدكم) هل يحب أحد منكم (أن أن تكون له جنة) كتلك الجنة التي يحصل عليها الناس بصدقاتهم الخالصة لوجه الله وله فيها الكثير (من نخيل وأعناب) أجهد نفسه في غرسها وتنميتها (تجري من
عندهم جزاء»، وقال أيضًا: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار». ﴿و﴾ ثالثًا ﴿اعتصموا بحبل الله﴾ الذي هو القرآن واتبعوا ما فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «القرآن حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم فهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله» ﴿جميعا﴾ بأن تجعلوه دستوركم في حياتكم الخاصة والعامة والحكم العدل فيما بينكم ﴿و﴾ رابعًا ﴿لا تفرقوا﴾ بالعداوة: أي أزيلوا من بينكم كل ما يؤدي إلى العداء والخصومة من الظلم والحسد والحقد وما إلى ذلك لتكونوا وحدة قوية غير مفككة، تعملون لإعلاء كلمة الله ونصر دينه الحق. ﴿و﴾ خامسًا ﴿اذكروا﴾ دائمًا ﴿نعمة الله عليكم﴾ بالإيمان ﴿إذ كنتم أعداء﴾ يوم كنتم متفككين متقاطعين يفخر كل منكم على أخيه ويزدريه، ويقتل بعضكم بعضًا تحت تأثير عصبية جاهلية، فجاءكم الإسلام بشريعة قضت على أسباب تلك النعرات وانتزعت من صدوركم ما كان فيها من الأنانية والكبرياء وحلت محلها روح التضحية والإيثار ﴿فألف﴾ بذلك ﴿بين قلوبكم﴾ بما فرضه عليكم من التحابب والتعاطف والتراحم والتساوي والإخاء، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ﴿فأصبحتم بنعمته﴾ هذه ﴿إخوانا﴾ كما وصفكم نبيكم بقوله: «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يكذبه ولا يظلمه. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وإن مجرد هذه الذكرى لتحتم عليكم التمسك بتلك المبادئ السامية التي كانت سببًا في القضاء على ما كان بينكم من عداء ﴿و﴾ سادسًا اذكروا أيضًا أنكم ﴿كنتم﴾ من قبل في ظلمات الجهل والشرك وتقليد الأباء ﴿على شفا﴾ حافة أو وشك الوقوع في ﴿حفرة من النار﴾ التي أعدها الله للكافرين الظالمين ﴿فأنقذكم﴾ الله ﴿منها﴾ بهذا الدين أنار لكم طريق السعادة وعلمكم أنبل المقاصد وأشرف الغايات ﴿كذلك﴾ وبمثل هذا الأسلوب المؤثر ﴿يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾ إلى حكمة التشريع وثمرة الطاعة فتحرصون عليها ويكون لكم من وراء ذلك الخير العميم.
بعد أن أمر الله المؤمنين بما يجب على كل مسلم أن يؤديه في هذه الحياة ليسعد في نفسه وأهله وماله ويأمن على مستقبله أمام ربه أخذ يأمرهم بما يصلح حال مجموعهم واستقامة كافة شئونهم العامة فقال ﴿و﴾ سابعًا ﴿لتكن منكم﴾ من بينكم ﴿أمة﴾ جماعة متضامنة متكاتفة مكونة ممن يرى في
أعده الله للثواب والعقاب إذ و كان المرء مؤمنًا بذلك اليوم حقًّا من قلبه لما آثر السعة في الدنيا عن نعيم الآخرة فهو بهذا يعد واثقًا بما عند الناس أكثر من ثقته بما عند الله ﴿ومن يكن الشيطان﴾ الذي كان أول المختالين الفخورين ﴿له قرينًا﴾ مصاحبًا ﴿فساء قرينًا﴾ لأنه يزين له من السيئات ما كان سببًا لغضب الله عليه وحلول نقمته به ﴿وماذا عليهم﴾ المختالين والفخورين أي: وماذا كان يصيبهم من ضرر ﴿لو آمنوا بالله﴾ خالقهم ومصدر نعمهم ليستأصلوا بذلك شانة الغرور من نفوسهم ﴿واليوم والآخر﴾ وما فيه من مختلف النعم وأنواع العذاب ليخلصوا أعمالهم لله بدلًا من الرياء الذي لا يفيدهم شيئًا ﴿وأنفقوا مما رزقهم الله﴾ نتيجة لذلك الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿وكان الله بهم عليمًا﴾ أي: وكفاهم في هذا علم الله بأعمالهم ونواياهم وهو الذي لا يضيع عمل عامل أو ينقص من أجره شيئًا.
لقد أمر الله عباده من أول هذه السورة بتقواه وشرع لهم من النظم والأحكام في كثير من المعاملات الشخصية ما يصلح أحوالهم ويضمن سعادتهم وهناءتهم وبين لهم ما يترتب على تنفيذهم لتلك الأنظمة من نجاح في الدنيا وحسن جزاء في الآخرة وحمّلهم تبعة أعمالهم في حالة التقصير أو المخالفة وأكد لهم سبحانه وتعالى من بداءة الأمر بأنه سيكون رقيبًا على جميع تصرفاتهم ولما أن دعاهم إلى إصلاح قلوبهم أكد لهم أيضًا سبحانه أنه عليم بهم فلا يخفى عليه شيء من أمرهم ونتيجة لهذا العلم أخبرهم بما يقتضيه عدله ورحمته بالنسبة لأعمالهم فقال: ﴿إن الله﴾ في حكمه بين العباد ﴿لا يظلم﴾ أحدًا من الناس مؤمنًا كان أو كافرًا في أي عمل يعمله في الحياة ولو كان بالغًا في الصغر ﴿مثقال ذرة﴾ وهي أصغر أنواع المادة أو الجزء الذي لا يتجزأ ذلك لأن الظلم لا يكون
الشك (مِنْ رَبِّكُمْ) يثبت لكم كمال قدرته على كل شيء وهو هذا الرسول العربي محمد بن عبد الله فإنه بشخصه وجميع تصرفاته معجزة من معجزات الله الخالدة فقد نشأ يتيماً بين قوم أميين مشركين ولم يتلق العلم على أحد من البشر كما تعلمون ومع ذلك استطاع أن يرشد الناس إلى الله بأدلة عقلية ومنطقية وصفات لازمة ربانية ويعلم الأميين والمتعلمين حقائق الأسرار الغيبية والعلوم الكونية وما تتزكى به النفس البشرية وتصلح به الحياة الاجتماعية بل إنه تملك مشاعر قومه وسيطر على قلوبهم وأجسامهم فأدبهم خير تأديب وهذب نفوسهم أعظم تهذيب وأخرجهم من الضلال إلى الهدى ومن الانقسام إلى الاتحاد والوئام ونشر العدل بينهم وأهلهم لأعلى المناصب وأرفع الدرجات في الحكم والسياسة وسائر الشؤون الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على عظيم قدرة الله التي جعلت من الأمي عالماً جليلاً ومربياً قديراً وقائداً حكيماً ليكون بذاته حجة قائمة على صدق دعواه ورسالته عن مولاه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) بالوحي عن طريقه وعلى لسانه (نُورًا مُبِينًا) أي كتاباً لا يقبل الشك أو التردد في صحته لأنه كالنور يعلن عن نفسه بنفسه أنه ليس من قول البشر يعجز الفصحاء ببلاغته ويفحم السائلين بقوة حجته فلا يسع المنصفون إلا أن
<١٩>
يؤمنوا بأنه من عند الله لأنه يتميز عن كلام البشر بميزة عظيمة هي أنه يهدي به تعالى إلى الرشد كل من تأمل في آياته وعمل في الحياة بحسب أحكامه وتعليماته فهو ينتزع جذور البغضاء من النفوس ويطأطئ لكلمة العدل أعظم الرؤوس وهو الذي ينشر ألوية السلام ويوطد أركان الأمن بين الأنام وهو الذي يسعد الناس في الحياة ويوم القيامة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي بهذا القرآن واستضاءوا بنوره واهتدوا بهداه (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي يجعلهم من وسائل إيصال رحمته إلى عباده بما يهبهم من الفضائل والمكرمات التي يبذلونها لصالح الناس وفقاً لما روي عن رسول الله ﷺ من قوله «إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته وهم الذين يقضون الحوائج للناس فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن» (وَفَضْلٍ) أي يجعلهم يعيشون في فضل ونعمة منه وقناعة تامة وغنى دائم في أنفسهم عما بأيدي الناس (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي يلهمهم من الأعمال ما فيه مرضاته
رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» ﴿إلى الله مرجعكم﴾ يوم القيامة ﴿جميعًا﴾ أيها المهتدون والضالون ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ من خير أو شر فيجزي كلًا بما يستحق.
بعد أن أملى الله على المؤمنين حكمه العام فيما يتعلق بمسئولية الإنسان الشخصية إزاء هداية الناس والحيلولة دون ضلالهم، وختم الآية السابقة بأن المرجع إلى الله بعد الموت حيث الحساب والعقاب، أخذ يملي عليهم حكمه فيما يتعلق بمسئولية الإنسان إزاء حقوق الغير فدعا المؤمنين إلى الوصية قبل الموت وفصل الوسائل التي ينبغي أن تتبع لتنفيذ مقتضاها فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب إن كان عليكم شيء من الحقوق فلا تبرأ ذمتكم منها إلا ﴿شهادة بينكم﴾ البين: أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر ويطلق على الوصل والفرقة. أي عليكم أن تشهدوا شهادة تقطع ما بينكم من تنازع وتشاجر وهي واجبة ﴿إذا حضر أحدكم الموت﴾ أي حضور اعتبار وتذكير لأن الذي يسجل وصيته إنما يستحضر الموت ويذكر الآخرة فهو يشهد على نفسه ﴿حين الوصية﴾ لسماعها وتلقيها عنه والشهادة بها ﴿اثنان ذوا عدل منكم﴾ أي من أهل ملتكم المسلمين ﴿أو آخران من غيركم﴾ أي من غير المسلمين ﴿إن أنتم ضربتم في الأرض﴾ أي في حال سفركم إذ يتعذر وجود المسلم في ذلك الوقت ﴿فأصابتكم مصيبة الموت﴾ بأن بدت لكم أماراته. أما كيف تؤخذ شهادة الشاهدين من غير المسلمين فقد فصلها الله بقوله ﴿تحبسونهما﴾ أي تمسكونهما لأداء الشهادة ﴿من بعد الصلاة﴾ قيل من بعد أن يؤديا صلاتهما وقيل من بعد أن يؤدي المؤمنون أي صلاة من الصلوات. وقال الأكثرون إن المراد بها صلاة العصر لأن الرسول ﷺ حلّف عديًا وتميمًا في ذلك الوقت ﴿فيقسمان بالله﴾ على صحة شهادتهما ﴿إن ارتبتم﴾ أي في حالة الشك في صدقهما فيما يقرران على أن يصرحا في قسمهما بقولهما ﴿لا نشتري به﴾ أي بيمين الله ﴿ثمنًا﴾ أي لا نقبض مقابل هذه الشهادة أو هذا اليمين ثمنًا ﴿ولو كان ذا قربى﴾ أي ولو كان المقسم له من أقاربنا. ويصرحان أيضًا بقولهما ﴿ولا نكتم شهادة الله﴾ بمعنى لا نخفي شيئًا مما لدينا من الشهادة ابتغاء وجه الله ولا نكذب فيها فإن فعلنا شيئًا من ذلك ﴿إنا إذا لمن الآثمين﴾ المستحقين للجزاء ﴿فإن عثر﴾ عثر على الأمر اطلع عليه من غير طلب له. أي ظهر لكم بعد شهادة الشاهدين من غير المسلمين ﴿على أنهما استَحَقا﴾ بفتح التاء والحاء وقرئ «استُحِقا» بضم التاء وكسر الحاء مبينًا
أوجه الخير مهما كثر ﴿وما كان لله﴾ أي ما قيل إنه من حظ الله ﴿فهو يصل إلى شركائهم﴾ أي أنه قد يحول إلى سدنة معبوداتهم ويستكثرونه على أوجه الخير قال علي بن طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية «إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئًا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقي ما سمي للوثن تركوه للوثن وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله ﴿ساء ما يحكمون﴾ أي قبح حكمهم من جهتين الأولى لقسمتهم الحرث والأنعام وجعلهم شيئًا منها من حظ الله والآخر من حظ من اتخذوه مع الله شريكًا من الأصنام مع أن الله هو خالق الجميع ومالكه المتصرف فيه لا رب غيره ولا معبود سواه والثانية لأنهم حرصوا على أداء حق من اتخذوه مع الله شريكًا وفرطوا في حق ذات الله فهم بهذا يؤثرون غيره تعالى عليه ﴿كذلك﴾ أي على أساس ما هم عليه من شدة تعلقهم بمن اتخذوهم مع الله شركاء استطاع الشركاء أن يملوا عليهم إرادتهم حتى ﴿زين لكثير من المشركين﴾ الذي يجعلون لله شركاء ولو بطريق الوساطة والتقرب إلى الله ﴿قتل أولادهم شركاؤهم﴾ أي الذين اتخذوهم مع الله أربابًا يأتمرون بأمرهم من الأحبار والرهبان، يدل عليه ما روى ابن حاتم الطائي قال جئت للنبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب قال: «يا عدي أخرج عنك هذا الوثن وتلا قوله ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله﴾ قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بأقوالهم قلت نعم قال هو ذاك» أي أن طاعتهم فيما يحللون ويحرمون هو اتخاذهم أربابًا من دون الله وشركاء له جل وعلا في الأمر والنهي وهؤلاء الشركاء من شياطين الإنس والجن هم الذين يزينون للناس وأد البنات ونحر الأولاد تقربًا للآلهة بنذر أو غير نذر ﴿ليردوهم﴾ أي ليهلكوهم بتقليل نسلهم عن طريق وأد البنات وقتل الذكور ﴿وليلبسوا عليهم دينهم﴾ أي ليخلطوا ويعبثوا بالدين الذي يتبعونه ﴿ولو شاء الله ما فعلوه﴾ أي ولو أن نظام المشيئة كان يقضي بأن يكون الناس مسخرين في أعمالهم وفق أوامر الله لم يصدر ذلك التزين من الشركاء ولا قتل المشركين للأولاد ولكن
كان مصدر هذه الفتنة ﴿أتذر موسى وقومه﴾ أي أتتركهم أحرارًا آمنين على قيد الحياة ﴿ليفسدوا في الأرض﴾ بإدخالهم قومك في دينهم ﴿ويذرك وآلهتك﴾ لقد اختلف المفسرون حول هذه الآية فالمعروف أن فرعون كان يدعي الألوهية فهو لا يعبد الأصنام ولا يعترف لأحد سواه بالألوهية ولذا قال لقومه: ﴿وما علمت لكم من إله غيري﴾ وهذه الآية تثبت له آلهة ويلوح لي من قوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ أنه كان يعطي الناس أصنامًا ويأمرهم بالتقرب إليه بعبادتها ويعتبر نفسه أعلاها كما تصور هو أن موسى كان كبير السحرة الذي علمهم السحر ويكون معنى هذه الآية هل تأمن أن يتركك وشأنك ومن تأمر بعبادته من الآلهة وكل هذا ليوغروا صدر فرعون من موسى ويبطش به كما فعل بالسحرة حتى راودته نفسه بذلك فجمع رجال حكومته ﴿وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد * وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب * وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب﴾ وحصلت مشادة عظيمة فصلها الله في سورة المؤمن انتهت بحفظ الله لرسوله وإظهار معجزته فلم يجرؤ فرعون على أن يسمه وقومه بأي أذى وإنما أراد أن يموه على قومه ويفهمهم أنه لا يعبأ بهم إذ لا قيمة لهم في نظره ولذلك فإنه سيعمد إلى تعذيبهم بالطريقة السابقة التي من شأنها أن تمحو أثرهم من الوجود ﴿قال سنقتل﴾ بضم النون وتشديد القاف وقرئ بفتح النون وتخفيف القاف ﴿أبناءهم﴾ أي أبناء بني إسرائيل كلما تناسلوا ﴿ونستحيي نساءهم﴾ أي نستبقيهم أحياء في خدمتنا ونحول بينهن وبين أزواجهن حتى ينقرضوا ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ إنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان فلن يستطيعوا الفساد في الأرض أو الخروج من تحت قبضتنا وأسرنا وما إن نطق بهذا الحكم حتى ﴿قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا﴾ أي اطلبوا العون من الله وانتظروا مدده ولا يداخلكم أي يأس من نصر الله لكم فالله لا يمكن أن يتخلى عن المستعينين به المعتمدين عليه ﴿إن الأرض﴾ التي تريدون الهجرة إليها فرارًا من ظلم فرعون أو التي وعدكم ربكم بها وهي فلسطين ﴿لله﴾ ليست لفرعون ولم يكن له سلطان عليها وهو سبحانه ﴿يورثها من يشاء من عباده﴾ أي أن مشيئة الله قد قضت بأنه من يصمم على الوصول إلى جهة ما لا بد له من الاستعانة بالله والصبر بمعنى ترقب
١ - أن يعد الوعاظ والأئمة إعدادًا قصير الأجل لمدة أسبوع على أن يوضع لهذا الإعداد برنامج مفصل يقوم به أساتذة مختصون وأن تكون المحاضرات هذا الأسبوع في قاعة المحاضرات بالأزهر. وذلك بإلقاء ثلاث محاضرات يومية.
٢ - إقامة ندوات يشترك فيها عدد من الأساتذة لمناقشة بعض الأفكار والمبادئ التي تتسم بطالع الاعتداء على التوجيه الإسلامي والتي من شأنها أن تغري الشباب وتنحرف به عن الصراط المستقيم وتقام هذه الندوات على سبيل المثال في قاعة المحاضرات والجامعة وقاعة الجمعية الجغرافية والشبان المسلمين وبعض نوادي الضباط.
٣ - تقوم بعض المجلات الدينية بنشر الأفكار الموجهة ضد الانحراف والمبادئ الخادعة التي من شأنها أن تفسد عقول الشباب والمجتمع مع تزويد المجلات الأسبوعية والصحف ببعض المقالات التي لها طابع ديني لمواجهة آثاره الضارة.
٤ - الاتصال بمراقبة شئون الثقافة للإسهام عن طريق المذيعين في هذا الموضوع في برامجها.
٥ - إعداد كتيبات صغيرة بأقلام الأساتذة المختصين في هذه الموضوعات.
٦ - الاتصال بشيوخ المعاهد الدينية في سائر المعاهد ومفتشي الوعظ للإسهام في هذا النشاط عن طريق إقامتهم ندوات ومحاضرات في مناطقهم.
ولا شك أنه إذا طبقت هذه القرارات واستمرت اللجنة في عملها بإخلاص سيكون لها أعظم الأثر في بث روح الإيمان بالدين القويم وقد صرح أخيرًا السيد أحمد عبد الله طعيمة وزير الأوقاف بأنه تقرر تأسيس مجلس للشئون الإسلامية لمقاومة التيارات الداخلية على الدين وأنه أنشأ ألفين مكتبة لتحفيظ القرآن في مساجد وزارة الأوقاف وتثقيف أبناء الشعب ومكتبًا لتتبع ما ينشر عن الإسلام في صحف الغرب من المفتريات والرد عليها وسيكون للمكتب مكاتب في العواصم الإسلامية وسيعين لهذا الغرض أيضًا ملحقين دينيين بكل سفارة في الخارج أسوة بالملحقين الثقافيين والتجاريين على أن يشغل هذه المناصب أوائل الخريجين من كليات الأزهر ممن درسوا اللغات الأجنبية المختلفة وهذا عمل جليل نرجو أن يكون نواة لإصلاح حال المجتمع وعودة الناس إلى الله وتمسكهم بأهداب دينهم. نسأله تعالى لهم التوفيق.
بنشر الدعوة لدينه الحق: ﴿ذلك﴾ أي الذي دل عليه النفي عن التخلف عنه ووجوب مشاركته في كل ما يصيبه من أذى: ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أن مشيئة الله الأزلية قد قضت في حق كل من قاتل مع رسول الله وجاهد لنصر دينه أنه: ﴿لا يصيبهم ظمأ﴾ لقلة الماء: ﴿ولا نصب﴾ أي تعب لبعد الشقة وإن قل: ﴿ولا مخمصة﴾ أي مجاعة لقلة الزاد: ﴿في سبيل الله﴾ أي في حال سفرهم من أجل إعلاء كلمة الله والانتصار لدينه ونشر دعوته: ﴿ولا يطئون موطئًا﴾ أي لا يخطون خطوة ويحرزون أي تقدم في بلاد أعداء الله ولو بقدر موطئ قدم: ﴿يغيظ الكفار﴾ أي من شأنه أن يسيئ الكفار ويدخل الهمّ والغيظ في قلوبهم: ﴿ولا ينالون من عدو نيلا﴾ أي يبلغون من أي عدو من أعداء الله ورسوله شيئًا مما حصلوا عليه من لذة النصر أو نيل الغنيمة: ﴿إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ أي إلا نالوا على كل واحد مما ذكر ثواب عمل صالح وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تتم بالأمور العارضة كالجوع والعطش وما ينال العدو من حزن: ﴿ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة﴾ على أنفسهم وأهليهم: ﴿ولا يقطعون واديًا﴾ أثناء جهادهم: ﴿إلا كتب لهم﴾ أي سجل في صحائفهم عملًا صالحًا: ﴿ليجزيهم الله﴾ عليه: ﴿أحسن ما كانوا يعملون﴾ أي أنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر أثناء الجهاد أحسن مما يجزي به فيما لو كان في غير الجهاد، وهنا أراد جل جلاله أن ينبه الأفكار إلى أن هناك واجبًا على المؤمن في حال السلم كالواجب في حال الحرب وهو أن ينفر مما عليه قومه من جهل في سبيل طلب الهداية إلى ما يكون فيه رفعة الإسلام فقال: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ أي وليس طبيعيًا ولا معقولًا أن يكون جميع طبقات الشعب في سائر أنحاء المعمورة مستنفرة للقتال في غير حالة الحرب: ﴿فلولا نفر﴾ أي ذهب ورحل: ﴿من كل فرقة منهم طائفة﴾ أي جماعة لم يرضها ما عليه الناس من جهل وتأخر أو تخلق طائفة: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ أي لطلب العلم الذي يحتاج إليه في الشئون الدينية ويدخل ضمن ذلك العلم بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تمكين الدين في النفوس وإعلاء شأنه في الأرض من وسائل الدعاية ومعدات القتال والأخذ بكل ما في المدينة من محاسن وتيسر للناس أمر عباداتهم: ﴿ولينذروا قومهم﴾ بما يرونه في أثناء رحلاتهم من أمور حاقت وتحيق بالناس من تدهور في الأخلاق وانغماس في الرذيلة والشهوات وتفشي الظلم والفساد ونحو ذلك نتيجة لإعراضهم عن تعالم الإسلام: ﴿إذا رجعوا إليهم﴾ بمعنى أن تكون هذه المطالب هي الغاية التي ينفرون من
معه ملك} يؤيده في دعوته، وهم قد قالوا هذا فعلًا كما جاء في سورة الفرقان: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرًا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها﴾.
﴿إنما أنت نذير﴾ تنصر مهمتك في إنذار الناس بعذاب الله فيما إذا لم يؤمنوا بك فمن واجبك أن تبلغهم جميع ما أمرت به في وقته وإن أساءهم فلا تتقاعس عن ذلك،: ﴿والله على كل شيء وكيل﴾ أي وهو الذي سيجزيهم على أعمالهم بالخير أو الشر ولا شأن لك في كل هذا: ﴿أم يقولون افتراه﴾ أي بل يقول المشركون من أهل مكة إن محمدًا افترى هذا القرآن في دعوته إلى التوحيد وتزيف عقائدهم: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول إن كان الأمر كما تزعمون: ﴿فأتوا بعشر سور﴾ لقد أشكل على بعض المفسرين الحكمة في التحدي بعشر سور مع أنه سبق أن تحداهم بالإتيان بسورة من مثله فعجزوا فلا معنى لأن يتحداهم بالإتيان بعشر سور ما داموا قد عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة فزعموا بأن الله قد تحدى فصحاء قريش الذين هم أفصح العرب أولًا بالإتيان بمثل هذا القرآن في جملته فلما عجزوا تحداهم بعشر سور مثله فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة مثله، غير أن هذا الترتيب لم يصح به نقل بل إن المروي في ترتيب نزول السور يخالفه، ولعل من الأوفق أن نقول إن الله جل جلاله قد تحدى الفصحاء أولًا في سورة البقرة بالإتيان بسورة من مثله في أسلوبها وبلاغتها وروعتها وطلاوتها، ثم تحداهم في سورة يونس بالإتيان بسورة من مثله في تصديق ما سبق من الكتب وتفصيل ما جاء فيها، وجاء هنا يتحداهم بالإتيان بعشر سور: ﴿مثله﴾ في موضوعها الإنشائي بحيث تكون مشتملة على ما اشتمل عليه هذا القرآن من تشريع وقصص ومواعظ وحكم وإخبار بالمغيبات وتقرير لسنن الكائنات وعلم بطبائع المخلوقات إلى غير ذلك من الأخلاق والعادات التي لا يعلم بها أحد غير الله خالق الموجودات كلها ولتكن: ﴿مفتريات﴾ أي من نسج خيالكم: ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله﴾ ممن تثبتون لهم شيئًا من القدرة على العون والمساعدة على تكذيب الرسول في دعواه: ﴿إن كنتم صادقين﴾ في نسبة الافتراء إليه، وإلا فإن عجزكم عن هذا بعد اعترافًا له بالعلم والمعرفة أكثر منكم تأييدًا لما يقول من أنه كلام رب العالمين: ﴿فإن لم يستجيبوا لكم﴾ في الإعانة على المعارضة من تدعونهم من دون الله فقد ثبت عجزهم وبهذا يثبت أن القرآن حق. ﴿فاعلموا﴾ أيها الكفار:
التوبة والاستغفار الأمر الذي استرعى انتباههم بأنه لا بد أن يكون عالمًا بكل شيء: ﴿قالوا أئنك لأنت يوسف قال﴾ نعم: ﴿أنا يوسف﴾ الذي ألقيتموني في الجب وقطعتم الأمل من حياتي: ﴿وهذا أخي﴾ الذي راودتم عنه أباه لتسلموه إلي وزعمتم أن السرقة من طبيعته شأنه في ذلك شأن أخيه: ﴿قد منّ الله علينا﴾ إذ جمعنا ببعضنا وأوصلنا إلى ما نحن فيه من النعم: ﴿إنه من يتق﴾ أي اعلموا أن الله في دستوره السماوي يقضي بأن من يراقبه وينتهي عن المحرمات: ﴿ويصبر﴾ على ما ناله من الأذى في سبيل الله: ﴿فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ أي فإن ذلك من كمال الإحسان والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا: ﴿قالوا تالله لقد آثرك الله علينا﴾ أي إنا نشهد بأن الله قد فضلك علينا بالتقوى والصبر: ﴿وإن كنا لخاطئين﴾ الخاطئ من يرتكب الذنب عن غير قصد: ﴿قال لا تثريب عليكم اليوم﴾ أي ليس هذا أوان اللوم والمناقشة في أمر مضى: ﴿يغفر الله لكم﴾ أي وإنما ينبغي لكم أن تستغفروا الله عما صدر منكم ليغفر لكم: ﴿وهو﴾ سبحانه: ﴿أرحم الراحمين﴾ الذي شملت رحمته كل شيء فلا يعجزه أن يرحمكم ويتجاوز عن سيئاتكم، والمهم الآن هو أن نعمل على تلافي ما كان من أثر صنيعكم بوالدي ثم خلع لهم قميصه الذي يلبسه وقال: ﴿اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرًا﴾ أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه يتقشع البياض الذي غشي بصره من اثر الحزن ويسرع بالحضور إلي: ﴿وائتوني بأهلكم أجمعين﴾ أي وأني أدعوكم للحضور معه بأهلكم جميعًا ولا يتخلف أحد منكم عن مرافقته لتكونوا في ضيافتي مكرمين معززين.
لقد سر الجميع بهذه الدعوة وأعجبوا بهذا الكرم الذي منّ الله به عليهم إذ تجاوز يوسف عن سيئاتهم وقفلوا راجعين إلى بلادهم يحملون البشرى لوالدهم ويتعثرون بأذيال الخجل منه: ﴿ولما فصلت العير﴾ أي تجاوزت الإبل بهم حدود مصر في طريقها إلى الشام وإذا برائحة يوسف تنتقل إلى أنف يعقوب حتى أنه: ﴿قال﴾ لمن حوله: ﴿إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون﴾ أي تكذبوني وتنسبون إليَّ الفند وهو الخَرَف وضعف القوى العاقلة: ﴿قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم﴾ أي إن هذا وهم منشؤه أنك لا تزال تتصور أن يوسف لا يزال على قيد الحياة: ﴿فلما أن جاء البشير﴾ وهو من تقدم الركب من الإخوة: ﴿وألقاه﴾ أي قميص يوسف: ﴿على وجهه فارتد بصيرًا﴾ أي عاد بصيرًا في الحال وهنا: ﴿قال ألم أقل لكم﴾ من قبل: {إني أعلم من الله ما لا
ثمود: ﴿المرسلين﴾ في شخص نبيهم صالح: ﴿وآتيناهم آياتنا﴾ المنزلة على نبيهم أو المعجزات من الناقة وسقياها: ﴿فكانوا عنها معرضين﴾ إعراضًا كليًا إذ فعلوا بالناقة ما فعلوا: ﴿وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين﴾ من تهدمها وتطرق الخلل إليها: ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي أتتهم من السماء أصوات مزعجة لعلها الأصل فيما اكتشف الغرب أخيرًا من القنابل الصوتية: ﴿مصبحين﴾ أي صباحًا: ﴿فما أغنى عنهم﴾ أي فلم يدفع عنهم العذاب: ﴿ما كانوا يكسبون﴾ من بناء البيوت الحصينة والتي لا يتطرق إليها الخلل فماتوا بتأثير الصوت وهم داخل حصونهم ليعلم الناس أجمعين أن عند الله من أنواع الأسلحة الفتاكة ما لا يدخل تحت حصر وما لا يمكن الوقاية منه.
بعد أن أمر الله نبيه باجتذاب قلوب عباده إليه بما فتحه لهم من أبواب الأمل في رحمته وتعريفهم بمبلغ بطشه بمن يرفض الاستجابة له ولا يرضى بسلوك السبل المؤدية لنيل رضوانه أخذ يلقي على رسوله من المعلومات ما يثبت قلبه ويشرح صدره ويكسبه القدرة على تحمل أعباء الدعوة والصبر على أذى قومه فقال: ﴿وما خلقنا السموات وما بينهما﴾ من صامت وناطق: ﴿إلا بالحق﴾ أي إلا لغرض صحيح وغاية سامية كما قال في سورة الأنبياء: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين﴾.: ﴿وإن الساعة﴾ التي تتجلى فيها غايتنا من هذا الخلق: ﴿لآتية﴾ حيث توفى كل نفس ما عملت وينال المحسن جزاءه والمسيئ عقابه: ﴿فاصفح﴾ أنت أيها الرسول عن المكذبين لك أو المسيئين إليك: ﴿الصفح الجميل﴾ فلا تحاول أن تنتقم لنفسك بل احتسب أجر ما يصيبك من أذاهم عند الله الذي تدعوا إليه: ﴿إن ربك هو الخلاق﴾ لعباده على اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم: ﴿العليم﴾ بما يكون منهم فكل ما يصدر منهم لم يكن يخاف عليه وسينتقم لك من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم وفق ما يقتضيه عدله في الآخرة، أما في هذه الدنيا فأنت رسوله: ﴿ولقد آتيناك﴾ نعمة ما بعدها نعمة. نعمة تضمن للناس سعادة الدنيا والآخرة وأعني بها: ﴿سبعًا من المثاني﴾ المثاني جمع مثناة وهي كل شيء يثنى من قولك ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر ولذا يقال لركبتي الناقة ومرفقيها مثاني لأنها تثنى بالفخذ والعضد ويراد بها سورة الفاتحة لأنها سبع آيات تثنى في كل صلاة: ﴿والقرآن العظيم﴾ أي وآتيناك القرآن
بنشر الدعوة لدينه الحق: ﴿ذلك﴾ أي الذي دل عليه النفي عن التخلف عنه ووجوب مشاركته في كل ما يصيبه من أذى: ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أن مشيئة الله الأزلية قد قضت في حق كل من قاتل مع رسول الله وجاهد لنصر دينه أنه: ﴿لا يصيبهم ظمأ﴾ لقلة الماء: ﴿ولا نصب﴾ أي تعب لبعد الشقة وإن قل: ﴿ولا مخمصة﴾ أي مجاعة لقلة الزاد: ﴿في سبيل الله﴾ أي في حال سفرهم من أجل إعلاء كلمة الله والانتصار لدينه ونشر دعوته: ﴿ولا يطئون موطئًا﴾ أي لا يخطون خطوة ويحرزون أي تقدم في بلاد أعداء الله ولو بقدر موطئ قدم: ﴿يغيظ الكفار﴾ أي من شأنه أن يسيئ الكفار ويدخل الهمّ والغيظ في قلوبهم: ﴿ولا ينالون من عدو نيلا﴾ أي يبلغون من أي عدو من أعداء الله ورسوله شيئًا مما حصلوا عليه من لذة النصر أو نيل الغنيمة: ﴿إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ أي إلا نالوا على كل واحد مما ذكر ثواب عمل صالح وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تتم بالأمور العارضة كالجوع والعطش وما ينال العدو من حزن: ﴿ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة﴾ على أنفسهم وأهليهم: ﴿ولا يقطعون واديًا﴾ أثناء جهادهم: ﴿إلا كتب لهم﴾ أي سجل في صحائفهم عملًا صالحًا: ﴿ليجزيهم الله﴾ عليه: ﴿أحسن ما كانوا يعملون﴾ أي أنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر أثناء الجهاد أحسن مما يجزي به فيما لو كان في غير الجهاد، وهنا أراد جل جلاله أن ينبه الأفكار إلى أن هناك واجبًا على المؤمن في حال السلم كالواجب في حال الحرب وهو أن ينفر مما عليه قومه من جهل في سبيل طلب الهداية إلى ما يكون فيه رفعة الإسلام فقال: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ أي وليس طبيعيًا ولا معقولًا أن يكون جميع طبقات الشعب في سائر أنحاء المعمورة مستنفرة للقتال في غير حالة الحرب: ﴿فلولا نفر﴾ أي ذهب ورحل: ﴿من كل فرقة منهم طائفة﴾ أي جماعة لم يرضها ما عليه الناس من جهل وتأخر أو تخلق طائفة: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ أي لطلب العلم الذي يحتاج إليه في الشئون الدينية ويدخل ضمن ذلك العلم بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تمكين الدين في النفوس وإعلاء شأنه في الأرض من وسائل الدعاية ومعدات القتال والأخذ بكل ما في المدينة من محاسن وتيسر للناس أمر عباداتهم: ﴿ولينذروا قومهم﴾ بما يرونه في أثناء رحلاتهم من أمور حاقت وتحيق بالناس من تدهور في الأخلاق وانغماس في الرذيلة والشهوات وتفشي الظلم والفساد ونحو ذلك نتيجة لإعراضهم عن تعالم الإسلام: ﴿إذا رجعوا إليهم﴾ بمعنى أن تكون هذه المطالب هي الغاية التي ينفرون من
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أي لا يقسم تقسيم الغنائم على المحاربين بل يختص به الرسول ويوزع منه على أقربائه وعلى ذوي الحاجة من البؤساء والمنقطعين عن ديارهم وأموالهم: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ الدولة اسم لما يتداوله الناس أي أن السبب في عدم توزيعه على المحاربين وتركه تحت تصرف الرسول وتوزيعه على من ذكر إنما يرجع إلى غاية سامية هي أن لا يأخذه الأغنياء من المحاربين يتداولونه فيما بينهم ولا يكون لذوي الحاجة نصيب من الغنائم التي تنال في الحروب: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾ أي ما أعطاكم الرسول من الفيء أو سواه بصورة عامة: ﴿فَخُذُوهُ﴾ فهو حلال لكم: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أي عن أخذه بالقول أو بعدم إعطائه لكم: ﴿فَانتَهُوا﴾ عنه بمعنى لا تعترضوا عليه أو لا تتألموا في أنفسكم منه كأن تقولوا لِمَ أعطى فلانًا كذا أو لم اختص فلانًا بهذا من دوننا فهذا مما يؤدي إلى الحسد والبغضاء: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي اذكروا أن الله يعلم ما في قلوبكم من رضا أو حقد أو حسد وحاذروا عقابه على ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي أن لديه أنواعًا كثيرة من العذاب الذي يعتور الإنسان في نفسه وجسمه في الحياة وبعد الممات ويختلف إيلامه ووقعه في الإنسان حسبما يريد الله جل وعلا، وبعد أن بين الله مصارف الفيء فيما سلف وذكر العلة في ذلك الصرف وهي كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم أراد جل شأنه أن يبين الأسباب التي من أجلها اختص من ذكر بأموال الفيء وامتدحهم عليها ليحرم على من لا تنطبق عليه تلك الخلال الحميدة الأخذ منها فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ أي من اتصف بصفة الفقر في سائر الأيام على أن يكون مؤمنًا ثم قسم المؤمنين إلى درجات ثلاث، الفريق الأول منكم: ﴿الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ بمعنى اضطروا للهجرة من الأرض التي كانوا يقيمون فيها مطمئنين آمنين: ﴿وَأَمْوَالِهِمْ﴾ التي كانوا ينعمون بها: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا﴾ بمعنى أنهم تخلوا عما كان تحت أيديهم من الأشياء المادية اعتمادًا على ما عند الله من فضل وحسن جزاء ولا غاية لهم إلا رضاء الله الذي هو أسمى الغايات وانصرفوا بكلياتهم للعمل على تنفيذ ما أمروا به: ﴿وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ بأنفسهم وكل قواهم المادية: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ في إيمانهم الذين يعتمدون على ما عند الله أكثر من اعتمادهم على ما تحت أيديهم أما الفريق الثاني وهم الأنصار فقد وصفهم الله بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ أي أقاموا في ديارهم وحافظوا على إيمانهم ولم يفرطوا في واحد
في الدنيا لكل من يكفر بنعمة الله ويحاول أن يمنع رزقه عن عباده المساكين: ﴿ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾ ذلك لأن عذاب الدنيا كان محصورًا في مجرد الحرمان من ثمار تلك الجنة أو تغير حالة العيش أما عذاب الآخرة فإنه عذاب مختلف وسائل التعذيب في نار شديدة الحرارة لا يعلم كنهها غير الله.
وبعد أن نفى الله عن رسوله ﷺ في أول السورة الضلال والجنون وأكد أنه تعالى أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وأمره بعدم طاعة المكذبين والكافرين بنعمه ومثلهم بأصحاب الجنة وما انتهى إليه مصيرهم في الدنيا وما سينالون من عذاب في الآخرة أعقب ذلك ببيان ما أعده تعالى عنده للمتقين وما يقتضيه عدله من عدم المساواة بين الطائعين والعاصين فقال: ﴿إن للمتقين﴾ أي الذين يخافون الله ويحذرون بطشه في سرهم: ﴿عند ربهم﴾ في الآخرة: ﴿جنات النعيم﴾ أي التي كل ما فيها نعيم لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا من متاعب وآلام: ﴿أفنجعل المسلمين كالمجرمين﴾ أي فهل يعقل أن يسوي الله بينهما في الدرجة والمقام والثواب والعقاب وهو الذي خلق الجنة والنار وعلق دخولهما على عمل الإنسان في الحياة: ﴿ما لكم كيف تحكمون﴾ أي ماذا أصابكم من فساد الرأي وخبل العقل حتى تصورتم أن الله يمكن أن يعذب رسوله وأتباعه من المسلمين الطائعين ويثيبكم وأنتم المشركون العصاة المجرمون العتاة: ﴿أم لكم كتاب﴾ منزل من عند الله: ﴿فيه تدرسون﴾ أي تقرؤون فيه ما تزعمون من أنه تعالى قد يعذب المؤمن الطائع ويغفر للكافر المذنب حتى تعتمدوا عليه في الأمل بنجاتكم: ﴿إن لكم فيه لما تخيرون﴾ أي إن لكم في القرآن ما ترك أمره لمحض اختياركم فقد حض الله الناس فيه على عمل الخير ونهاهم عن الشر وأخبرهم بأن جزاء المؤمن الصالح الجنة وجزاء الكافر النار ولم يقل سبحانه وتعالى قط إنه يمكن أن يدخل الكافر الجنة بل قال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾.
﴿أم لكم أيمان﴾ أي عهود قطعناها لكم: ﴿علينا بالغة﴾ بنجاتكم من عذابنا فلا يمكن أن نخلفها إلى: ﴿يوم القيامة﴾ إذ تطالبوننا بالوفاء بها: ﴿إن لكم لما تحكمون﴾ أي أنا تركنا لكم الحكم في هذا فإن استطعتم أن تثبتوا أنا منحناكم عهدًا كهذا فقد نجوتم وإن لم تثبتوا ولن تثبتوا فقد حكمتم على أنفسكم بالعذاب لا محالة: ﴿سلهم أيهم بذلك زعيم﴾ الزعيم هو الكفيل أي من هو الذي تكفل
﴿إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ أي بمقدار ساعة من طرفي نهار واحد عشية أو ضحاها حيث جاء في سورة الأحقاف: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾، وذلك أنهم استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما رأوه من طول القيامة وأهواله.
سورة عبس
مكية وآياتها اثنتان وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَن جَاءهُ الأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (٣٢) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)﴾سورة عبس: بينما كان رسول الله ﷺ جالسًا يومًا مع صناديد قريش وهم: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وابن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وهو يدعوهم إلى الإسلام ويقنعهم بصحته ويبين لهم مزاياه عسى أن يسلم بإسلامهم أتباعهم إذ دخل عليه عبد الله بن أم مكتوم وهو رجل أعمى البصر سبق له أن اعتنق الإسلام من قبل وأقبل على النبي ﷺ قائلًا: علمني مما علمك الله وأخذ يكررها متجاوزًا في ذلك أدب المجالسة، والرسول مستمر في حديثه مع صناديد قريش يخشى أن يكون في قطع حديثهم ما يسبب نفرتهم من دعوته فاضطر الرسول إلى العبس في وجه الأعمى وتولى عنه لا