يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٩٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ
الذين اتبعوا} عندئذ ﴿لو أن لنا كرة﴾ عودة إلى الحياة الدنيا ﴿فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا﴾ إذ لم يعد لديهم غير مجرد الأمل في العودة إلى الحياة الدنيا ثانيًا ليعدلوا عن حبهم واتباعهم حيث تبين لهم أن التبرأ منهم في مثل ذلك الوقت لا يجدي نفعًا ﴿كذلك﴾ وبمثل هذا ﴿يريهم الله﴾ في الآخرة ﴿أعمالهم﴾ التي عملوها في الدنيا من عبادة غيره واتباع سواه ﴿حسرات عليهم﴾ لأنهم أضاعوا الوقت فيها ولم ينالوا عليها جزاء ﴿وما هم بخارجين من النار﴾ والحال أن هذه الحسرة والندامة سوف لا تنجيهم من عذاب النار.
وبعد أن بين الله التوحيد ودلائله وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أندادًا في الحب والتعظيم، وجه خطابه إلى الناس كافة فسجل عليهم نعمه التي أباحها لهم من كل ما في الأرض واستثنى من ذلك ما نص بتحريمه أو كان ضارًا في نفسه أو مضرًّا لغيره أو يترتب وقوع الضرر عليه ومنعهم من تتبع خطوات الشيطان حيث قال ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض﴾ من كل ما يستساغ أكله من جميع ما على وجه البسيطة على شريطة أن يكون ذلك ﴿حلالًا﴾ لم يأتكم نص بتحريم أكله، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى في آيات أخرى وما عدا ذلك فكله حلال، وبشريطة أخرى هي أن يكون ﴿طيبًا﴾ غير ضار فإذا أضر بالعقل أو الجسم أو المال فهو حرام واجب تركه ﴿ولا تتبعوا خطوات﴾ بضم الخاء والطاء وقرئ ﴿خطوات﴾ بضم الخاء وسكون الطاء وقرئ بفتح الخاء والطاء وقرئ ﴿خطؤات﴾ ﴿الشيطان﴾ بأن تقتفوا أثره في غروره وعصيانه وكبريائه وتمرده وغوايته ﴿إنه لكم عدو﴾ والمرؤ لا يتأثر عادة إلا بمن يحب ولا يتبع غير من يعتقد بصدقه ﴿مبين﴾ وقد وضحت لكم عداوته في موقفه حيال آدم من قبل فلا تتبعوا ما يدعوكم إليه ﴿إنما يأمركم﴾ بأمور ثلاثة:
الأول: ﴿بالسوء﴾ الذي تساءون شخصيًا به أو تسيئون به إلى غيركم.
﴿و﴾ الثاني: ﴿الفحشاء﴾ أي ما يغضب الله ويؤذي الناس.
تحتها الأنهار) بحيث لا يخشى عليها من قلة المياه و (له فيها من كل الثمرات) مما لذ وطاب (وأصابه الكبر) وهو آمن مطمئن (وله ذرية ضعفاء) لا يقدرون على الكسب وكلهم عالة عليه (فأصابها) فجأة (إعصار) وهو ريح ترتفع بالتراب أو مياه البحر كأنها عمود من شأنه إقتلاع الحسنات (فيه نار) من غضب الله (فاحترقت) وأصبحت بعد لحظة أثرًا بعد عين (كذلك) وبمثل هذه الأمثلة (يبين الله لكم الآيات) والعبر لتتدبروها (لعلكم تتفكرون) فتحذرون أن تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى لئلا يكون شأنكم كشأن هذا الرجل كان مطمئنًا في الدنيا بما قدم من خيرات فإذا به في الآخرة لا يجد شيئًا من ثواب كان يأمل فيه ولكنه حرِم منه بسبب منِّه وأذاه وهو لا يشعر.
بعد أن نبه الله إلى ما يجب أن يتنزه عنه المنفق من المن والأذى أخذ يبين للمؤمنين ما ينبغي مراعاته في المبذول من الحسن والكمال ليكون الإحسان مستوفيًا ومتناسبًا مع شرف الغاية التي بذل المال من أجلها فقال (يا أيها الذين آمنوا) بالله وأيقنوا بعظيم ثوابه على ما ينفق في سبيله (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) وتعبتم في جمعه من أموال (ومما أخرجنا لكم) بمحض كرمنا في الواقع وإن تعبتم في زرعه وحصاده في الظاهر (من الأرض) من الزرع والثمار والمعادن، لأن المرء إذا أراد أن يهدي لآخر شيئًا فهو يحرص على أن يقدم له ما يستجلب رضاه، والصدقة على الفقير إنما يقصد منها رضاء الله فيجب أن تكون مما يسر به الآخذ لها لأن في سروره رضوانه سبحانه وتعالى (ولا تيمموا) وقرئ «تأمموا» أي تقصدوا (الخبيث منه تنفقون) ذلك أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقاتهم من حشف التمر وهو رديئه فنزلت هذه الآية (ولستم بآخذيه) والحال أنكم لا تأخذون ذلك الخبيث إذا قدم لكم (إلا أن تغمضوا) وقرئ بفتح الغين وتشديد الميم مكسورة (فيه) لحاجتكم إليه فتتساهلوا في أخذه على مضض منكم (واعلموا أن الله) الذي تتقربون إليه بتلك الصدقات (غني) ليس هو في حاجة إلى أموالكم حتى يستاهل في قبول الردىء منكم (حميد) يقدر قيمة الطيب إذا قدم من أجله فيجزى بأحسن منه.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالإنفاق وبين لهم مزاياه وحبب إليهم أن يكون من أجود ما يملكون أراد أن يحذرهم من تسلط الشيطان على نفوسهم فنبههم إلى مداخله عليهم وطريقة مخادعته لهم
نفسه أهلية للقيام بهذه المهمة، ويأخذون على أنفسهم أمورًا ثلاثة: الأول: أنهم ﴿يدعون﴾ الناس كبيرهم وصغيرهم رجالهم ونساءهم بالحكمة والموعظة الحسنة ﴿إلى الخير﴾ معرفة الله وفضيلة الاتصال به والتفاني في حبه والثقة به والاتكال عليه، فذلك أعظم الخيرات لأنه يكسب الإنسان حياة روحية عذبة وطمأنينة كاملة في لجج هذه الحياة الصاخبة. ﴿و﴾ الثاني أنهم ﴿يأمرون﴾ يكلف كل ذي نفوذ أو غير نفوذ من قدر عليه ﴿بالمعروف﴾ هو اتباع ما أوجبه الله من العبادات وكل ما أمر به من الأحكام في المعاملات. ﴿و﴾ الثالث أنهم ﴿ينهون﴾ بكل ما في استطاعتهم ﴿عن المنكر﴾ مما حرمه الله ونهى عنه ﴿وأولئك﴾ الذين يقومون في الحياة بهذه المهمة، وليس المراد بهم طائفة العلماء أو جماعة خاصة، بل كل من كان لديه علم بشيء من أمور الدين تعين عليه أن يدعو الناس إليه ويأمرهم به فيكون هؤلاء ﴿هم المفلحون﴾ لأن النفع منهم عام وأجرهم عند الله عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم»، ﴿ولا تكونوا﴾ يا أيها الذين آمنوا ﴿كالذين تفرقوا﴾ في عقائدهم واتخذوا من دون الله آلهة متعددة يدعونهم كدعائه ويحبونهم كحبه ويقدمون لهم الذبائح وينذرون لهم النذور ويشدون إليهم الرحال ويعتقدون فيهم النفع والضر وقضاء الحوائج ﴿واختلفوا﴾ في شرائعهم فحللوا وحرموا وابتدعوا من العبادات ما لم يأمر به الله وغيروا وبدلوا وحرفوا ما أنزل من عند الله ﴿من بعد ما جاءهم﴾ من الله الآيات ﴿البينات﴾ الموضحة للحلال والحرام والواجب والمسنون وسائر العبادات التي لا يسمح لأحد أن يغير أو يبدل أو يحرف فيها أو يحكم بغير ما أنزل الله ﴿وأولئك﴾ الذين تفرقوا واختلفوا ﴿لهم عذاب عظيم﴾ في يوم القيامة ﴿يوم تبيض﴾ تأتي ناصعة البياض ﴿وجوه﴾ آمنت بالله فأخلصت له العبادة وتقربت إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه كما جاء في كتبه ﴿وتسود﴾ تأتي قاتمة السواد ﴿وجوه﴾ كفرت بالله فبعدت قلوبها عن ذكره وأعرضت عن اتباع أمره ﴿فأما الذين اسودت وجوههم﴾ ويعرفون بسحنتهم السوداء فيجري حسابهم عما اقترفوا ثم يبلغ إليهم ما صدر في حقهم من حكم مدعم بالحيثيات الداعمة له كالآتي ﴿أكفرتم﴾ بوحدانية الله في حياتكم الدنيا وعصيتم أوامره وأنكرتم ما أخبركم به الرسل من أمر البعث والحساب والعقاب ﴿بعد إيمانكم﴾ بوجوده تعالى من آياته الكونية التي كانت ماثلة أمام أعينكم وكلها دالة على انه لابد لهذه الموجودات من رب موجد لها، وإن في خلق أنفسكم لأكبر برهان على وجوده جل وعلا. الجواب لا شك نعم، وشواهد
إلا لمصلحة تعود على الظالم من جراء ظلمه والله سبحانه وتعالى خالق الجميع غني عن العالمين فلا يمكن أن يتصور صدور الظلم منه أو نسبته إليه ولا يعقل أنه تعالى يعذب في يوم القيامة الطائعين، ولكنه ما من حرج أن يعفوا بكرمه ورحمته عن المذنبين ولذا قال تعالى: ﴿وإن تك حسنةً﴾ وقرئ «حسنةٌ» تصدر من عامل بإخلاص لله قد أخذ الله على نفسه أن ﴿يضاعفها﴾ وقرئ ﴿يضعّفها﴾ بتشديد العين إلى عشرة أضعافها أو أكثر إذ ليس في هذا ما يحمل على المحاباة أو الظلم فمن حق البارئ جل وعلا مالك الملك أن يعفوا ويغفر ﴿ويؤت من لدنه﴾ بمحض كرمه وجود من يشاء من عباده ﴿أجرًا عظيمًا﴾ دون أن يكون مقابل عمل سابق بل إكرامًا منه وإحسانًا ﴿فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد﴾ أي ما دام الأمر كذلك فلتتصور أيها الرسول كيف يكون حال الناس في يوم القيامة إذا عرضت أعمال الأمم وشهد أنبياؤهم بأنها كانت تخالف ما بلغوهم إياه ﴿وجئنا بك على هؤلاء﴾ القوم من أمتك ﴿شهيدًا﴾ بما فعلوا ﴿يومئذ﴾ هذا جواب لقوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ﴿يود الذين كفروا﴾ بالله ﴿وعصوا الرسول﴾ المبعوث من عند الله ﴿لو تسوي﴾ وقرئ ﴿تسوى﴾ بفتح التاء وتشديد السين المفتوحة وقرئ بتخفيف السين مع الإمالة ﴿بهم الأرض﴾ كما تسوي على الموتى عادة ﴿ولا يكتمون الله حديثًا﴾ أي يفضلون الموت والفناء عن أن يكابروا في الحق ويجحدوا ما كان من أمر شركهم وضلالهم وذهب البقاعي إلى أن معنى حديثًا الشيء المحدث أي المبتدع الذي لم يجئ به وسلهم أي لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأنهم لم يكونوا متبعين لرسلهم فيما أحدثوه من الشرك تحت ستار الاستشفاع والتوسل بهم وما ابتدعوه من عند أنفسهم بقياس ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين ويغدقون العطاء على غير المستحقين مجاملة لبعض المعطفين تعالى الله
(صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) لا اعوجاج فيه أي أقوم الطرق وأقربها.
وبهذه المناسبة أخبر الله رسوله بأمر ربما كان يحاك في صدور بعض الصحابة ولو لم يبدوه هو أنه تعالى قال في آية المواريث في أول هذه السورة (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهم السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) روي أن النبي ﷺ سئل عن الكلالة فقال «من مات وليس له ولد ولا والد» ومعنى هذا أن الإخوة مطلقاً لا يرثون في حال فقد الوالد والولد إلا بمقدار السدس أو الثلث وهذا يتعارض مع حقهم كعصبة الأمر الذي يدعو إلى الحيرة لما فيه من غموض، إلى أن ذهب رسول الله ﷺ لزيارة جابر بن عبد الله أثناء مرضه فتوضأ ثم صب عليه ماء فقال عبد الله يا رسول الله إني امرؤ لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث فنزل قوله تعالي (يَسْتَفْتُونَكَ) فيما أشكل عليهم أمره من أحكام المواريث (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) أي ما عدا الولد والوالد من الأخت والأخوات لأب وأم أو إخوة لأب عند عدم الولد فدل بهذا على أن المراد بالكلالة فيما سبق الأخ والأخت لأم فقط لأن موضوع البحث إذ ذاك كان دائراً حول ما ترثه المرأة وما تفرع منها من أبناء يحجبونها
<٢٠>
من الثلث إلى السدس ويحلون محلها ويأخذون نصيبها في حال موتها ولا يتعدونه إلى باقي المال من التركة بخلاف من يكون كلالة للوارث من طريق الأب فقد فصل الله الحكم فيهم بقوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولم يقل باشتراط عدم وجود الوالد لأن ذلك معلوم من حجب الوالد لأولاده في قوله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس) (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) حتى مع وجود البنت فيما إذا لم يكن ثم وارث غيرها (وَهُوَ يَرِثُهَا) أي الأخت (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) يرثها ذكراً كان أم أنثى ولا والد يحجبه عن إرثها (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) أخوها كلالة وكذا إن كن أكثر من اثنتين بالأولى كأخوات جابر بن عبد الله فقد كن سبعاً أو تسعاً والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هنالك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة مثلاً (وَإِنْ كَانُوا) أي من يرثون بالأخوة الكلالة (إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً) أي ذكوراً ونساء (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
للمفعول ﴿إثمًا﴾ أي نالهما نفع من وراء هذه الشهادة، سواء أكان ماديًا أم معنويًا، أو صدر منهما أي أمر يخدش في أمانتهما ككذب أو خيانة أو شهادة زور في شئون أخرى غير هذه الوصية فمن حق الورثة عندئذ الطعن في شهادتهما وإبطال الوصية بالطريقة الآتية وهي قوله ﴿فآخران﴾ أي فليتقدم رجلان آخران ﴿يقومان مقامهما من الذين استحق﴾ بفتح التاء بالبناء للفاعل وقرئ بضمها على البناء للمفعول. أي تغلب وأخذ الحق في الوصية ﴿عليهم﴾ بسبب شهادتهما الباطلة ﴿الأوليان﴾ وقرئ «الأولين» وقرأ الحسن «الأولان» أي الشاهدان أو الشهود من غير دينكم الذين حكم بشهادتهما في إثبات الوصية. والمراد بالذين استحق عليهم هم ورثة الميت الذين لم تكن الوصية في صالحهم. فلما ثبت كذب الشاهدين الأولين أو خيانتهما سقط الحق الذي ترتب على الأخذ بشهادتهما وهو الوصية واقتضى رد اليمين إلى الورثة ﴿فيقسمان﴾ أي الآخران من الورثة ﴿بالله﴾ قسمًا يبطل شهادتهما ينص فيه على ما يأتي: ﴿لشهادتنا أحق﴾ أي أقوى وأولى ﴿من شهادتهما﴾ أي من شهادة الأولين من غير الورثة التي أخذ بها في إثبات الوصية ﴿وما اعتدينا﴾ على الحق فيما اتهمناهما به ﴿إنا إذًا لمن الظالمين﴾ لأنفسنا بتعريضها لسخط الله وانتقامه لرمينا الشاهدين بتهمة باطلة ﴿ذلك﴾ أي حبس الشاهدين من غير ديننا بعد الصلاة لأخذ شهادتهما وتحليفهما بالصيغة السابقة ﴿أدنى أن يأتوا﴾ أي غير المسلمين ﴿بالشهادة﴾ أي أقرب لنفوسهم أن تتحرى العدالة في إقامة الشهادة ﴿على وجهها﴾ الصحيح بلا تغيير ولا تبديل رهبة من الله ﴿أو يخافوا أن ترد أيمان﴾ إلى الورثة ﴿بعد أيمانهم﴾ التي أقسموا بها من قبل فيفتضح أمرهم عند الناس ﴿واتقوا الله﴾ أيها المؤمنون في أمر الوصية ﴿واسمعوا﴾ ما فصلناه لكم من ضرورة الإشهاد عليها ووسائل إثباتها أو نفيها ﴿والله لا يهدي﴾ أي أن الله سيحجب الهداية ويحرم منها ﴿القوم الفاسقين﴾ أي الخارجين عن طريق الحق أو الذين لا يهمهم إيصال الحقوق لأربابها. هذا ما فتح الله به عليّ في تفسير هذه الآيات أبديته. وقد قال الرازي بعد تفسيره لها اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابًا ونظمًا وحكمًا. وروى الواحدي رحمه الله في البسيط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وأورد الألوسي في روح المعاني عبارة الرازي عن المفسرين دون رواية الواحدي عن عمر ثم نقل مثلها عن السعد
هي الحرية التي جعلها الله لعباده والسلطة التي منحها لإبليس في غواية الناس هي التي مكنتهم من ذلك ﴿فذرهم وما يفترون﴾ أي فدع أيها الرسول هؤلاء الشركاء المسيطرين على عقول أتباعهم وما يفترونه ويختلقونه من عقائد فاسدة يسممون بها أفكارهم وحسبك أن تنبههم بهذا إلى مواضع الزلل وتشعرهم ببطلان عقائدهم الفاسدة التي توارثوها عن آبائهم ونسبوها إلى الله افتراء عليه ﴿وقالوا هذه أنعام وحرث﴾ أي زرع ﴿حجر﴾ أي محجورة محرمة ﴿لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم﴾ أي يزعمون أن الله قد فوض إليهم أمر التصرف في بعض الأنعام والأقوات مع أن الله قد أحل الطيبات للجميع ولم يجعل لأحد حق التحليل والتحريم فيما أنعم به على عباده ﴿وأنعام حرمت ظهورها﴾ أي أنهم قالوا إن الله قد حرم عليهم ركوب بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة مما نفاه الله نفيًا باتًا في سورة المائدة بقوله: ﴿ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون﴾. ﴿وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها﴾ أي أنه يحق لهم أن يهلوا بها لآلهتهم من دونه ﴿افتراء عليه﴾ أي أن ما قالوه أو فعلوه ما هو إلا محض افتراء اختلقوه اختلاقًا والله بريء منه، وليس من حق إنسان أن يحلل أو يحرم على الناس شيئًا لم يأذن الله به وتلك جريمة من أعظم الجرائم كما قال تعالى في سورة يونس ﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾ ﴿سيجزيهم بما كانوا يفترون﴾ أي أنه تعالى سيجزي بأشد الجزاء كل من يحلل ويحرم على نفسه أو على غيره تدينا شيئًا لم يأمر به الله سواء أكان ذلك مؤقتًا أم كان دائمًا بيمين أو نذر أو نسك ﴿وقالوا﴾ أيضًا ﴿ما في بطون هذه الأنعام﴾ من اللبن والأجنة ﴿خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا﴾ أي يحل أكله للذكور دون الإناث ﴿وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء﴾ وقرئ «وإن تكن» بالتاء و «ميتة» بالرفع أي أنهم يزعمون أن الله قد أحل للذكور والإناث ميتة ما زعموا أنه حل لذكورهم ومحرم على إناثهم ﴿سيجزيهم وصفهم﴾ أي سيجزيهم الله على وصفهم له تعالى بصفة الحاكم المستبد الذي يصدر في أحكامه على غير مصلحة أو نظام ثابت بل لمجرد الأهواء كما هو الحال في هذه الأحكام التي نسبوها إلى الله ﴿إنه حكيم عليم﴾ لا يمكن أن يصدر منه مثل هذه الأحكام التي لا معنى لها ولا فائدة فيها لأحد ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم﴾ إذ حرموا أنفسهم بما كانوا يرجونه من ورائهم من بر وصلة وفخر وزينة وسرور وغبطة ﴿سفها بغير علم﴾ نتيجة تأثرهم بتلك العقائد التي سلبتهم عاطفة الرأفة بالبنين وجعلتهم في مصاف الحيوان
الفرص والسعي إلى الهجرة إليها حتى يبلغها على طول المدى وما دام في العمر متسع ﴿والعاقبة للمتقين﴾ أي أن ما ذكر من أن الاستعانة بالله والصبر سيؤدي بكم إلى أن ترثوا الأمر في تلك الأرض لا يعني أنكم ستظلون فيها إلى الأبد في أمن واطمئنان وسعادة وهناءة وما دمتم أهل قوة وبأس كما يتوهم فرعون بل إن لله سنة لن تخلف هي أن العاقبة في ميراث الأرض ودوام السلطان لا يكون إلا للمتقين أي الذين يتقون الله بإقامة شرعه والسير على سننه في نظام خلقه من الاتحاد وجمع الكلمة وإقامة العدل والصبر على المكاره والاستعانة بالله وخصوصًا في الشدائد وهذا ما أيدته التجارب من عهد موسى إلى عصرنا هذا ﴿قالوا﴾ أي قال بنو إسرائيل لموسى ﴿أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا﴾ أي أن أول كفر صدر منهم أن قالوا ما هي الفائدة التي جنيناها من ورائك أو أين هي سلطة الله التي أرسلك لإنقاذنا من ظلم فرعون وقد أعاد حكمه السابق علينا فلم يدرك موسى حكمة الله في هذا فراح يروضهم على الصبر ويمنيهم بنصر الله إذ ﴿قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم﴾ ولم يقطع لهم وعدًا بالنصر لأنه لم يوح إليه بذلك أو لئلا يتكلوا على الله فلا يعملوا بما يأمرهم به من الهجرة عند اللزوم ﴿ويستخلفكم في الأرض﴾ التي وعدكم بها ﴿فينظر كيف تعملون﴾ بعد استخلافه لكم هل تتجلى لكم قدرته فتخضعوا لأوامره وتشكروا نعمه وتصلحوا في الأرض فيكون لكم من الله ما تريدون أن تكفرون بكل ذلك فتنجبروا وتطغوا وتشيعوا الفساد في الأرض فيصيبكم ما أصاب من قبلكم من أنواع العذاب في الدنيا والآخرة.
وظل موسى وقومه على مضض ينتظرون ما سيقضي الله به في شأنهم وماذا سيفعل الله بفرعون وملئه وكيف السبيل إلى خلاصهم من الذل والاستعباد إذ أنه كان يسخرهم في ضرب اللبن ونحت الأحجار وبناء الأهرامات ولما كانت الغاية من إرسال الرسل هي هداية الناس ودعوتهم إلى الإيمان بالله والعمل الصالح العام فقد قضت سننه في خلقه أن لا يعاجل العصاة بالعذاب بل يترك لهم فرصة كافية للتدبر والرجوع إلى سبيل الحق وأن لا يهلك فرعون وملؤه تلك الفئة الباغية التي كانت تستعبد بني إسرائيل بل أهل مصر أيضًا ولذلك ترك موسى يعمل على نشر دعوته بين المصريين دون معارض وأخبرنا بما كان منه جل وعلا في هذا الأمر ليأخذ الناس في الأجيال المقبلة عبرة وعظة وإدراكًا لما عند الله من أنواع العذاب التي يبتلي بها عباده والتي تدل على غضبه جل وعلا ونقمته ليؤوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم بالتوبة والندم والإقلاع عن
﴿وأن الله﴾ أي وبسبب أنه تعالى: ﴿سميع﴾ لأقوالهم: ﴿عليم﴾ بأنفسهم وما يبدو من أعمالهم وبمقتضى علمه بما صدر منهم عذبهم دأبهم في هذا: ﴿كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم﴾ بمعنى أنهم أنكروا دلائل الربوبية وصدقوا فرعون إذ قال لهم أنا ربكم الأعلى: ﴿فأهلكناهم بذنوبهم﴾ أي فطبقنا عليهم عذاب الاستئصال الذي أصاب الأمم السابقة التي كذبت بآيات الربوبية وقد أشار إليهم تعالى في سورة العنكبوت بقوله: ﴿فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.: ﴿وأغرقنا آل فرعون﴾ بمقتضى تلك السنن: ﴿وكل﴾ من الكافرين بنعم الله والمكذبين بآيات ربهم: ﴿كانوا ظالمين﴾ ولذا سيطبق في كل منهم ما سنه الله من عقوبات.
بعد أن وصف الله ما يصيب نفوس الكافرين من عذاب بأيدي الملائكة يبدأ من ساعة الوفاة بسبب أعمالهم السيئة وأوضح السبب في ذلك وهو ما قضى به نظامه الاجتماعي للبشر الذي علق سعادة الأمة وقوتها على ما يكون في نفوس أبنائها من عقائد وأخلاق وصفات تبنى عليها الأعمال والعادات الظاهرة فلا غرو إذا ما نالت النفوس جزاءها في العالم غير المنظور على انفراد كما حصلت الأجسام على نصيبها من ألوان العذاب قبل الممات شرع يصف الكافرين وما يكون منهم وما ينبغي أن يعاملوا به ليكونوا على علم بحكم الله فيهم فقال: ﴿إن شر الدواب﴾ أي لا شر البشر فحسب: ﴿عند الله﴾ أي في حكمه باعتبارهم مؤاخذين على أعمالهم بخلاف سائر الدواب العجم: ﴿الذين كفروا﴾ أي الذين صدر منهم الكفر الناشئ عن عدم استفادتهم بمواهب السمع والنطق والعقل مما سبق بيانه في تفسيري الآية ٢٢ من هذه السورة: ﴿فهم﴾ بإعلانهم الكفر: ﴿لا يؤمنون﴾ أي لا سبيل إلى إيمانهم، لأنهم تجردوا من أمور ثلاثة لا يتحقق الإيمان إلا بها وهي الإصغاء إلى كلام الله والنطق بكلمة الشهادة واليقين التام بوحدانية الله وعظيم قدرته وسلطانه وما داموا هم شر الدواب وهم لا يؤمنون فهل معنى هذا أن يعاملوا كمعاملة الدواب أم يعذبوا ويقتلوا جزاء على عدم الإيمان وما هو واجب الرسول حيالهم فقسمهم الله إلى ثلاثة أقسام قسم طلبوا من الرسول أن يصالحهم فعاهدهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا أعداءه ويظلوا على كفرهم آمنين على دمائهم وأموالهم وقسم أصروا على حربه وناصبوه العداوة وقسم
أجلها من بلادهم: ﴿لعلهم يحذرون﴾ من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم ويتمسكوا بدينهم ويصنعون ما تكمل به قوتهم ويعملوا بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، والمعنى أن طلب العلم لهذه الغاية السامية فرض كفاية لا يقل درجته عن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال ما لم يعلن النفير العام للجهاد فيأخذ الصدارة ويحرم التقاعس عن أداء ذلك الواجب ويعد التخلف عنه خيانة عظمى ودليلًا على النفاق كما أسلفنا.
بعد أن حض الله على الجهاد في سبيله وعدد الفوائد التي لا يمكن أن يعرض عنها من كان في قلبه ذرة من إيمان وفرض على فريق من المؤمنين في حال السلم النفرة للتفقه في الدين وإنذار الباقين مما يرونه مضرًا بهم عاد إلى موضوع الجهاد فنبه المؤمنين إلى قاعدة من قواعد القتال التي يجب ملاحظتها لتأمين الدعوة إلى الإسلام وتمكينه في الأرض باجتماع شمل المسلمين وتقارب ديارهم بحيث لا يفصلهم عن بعضهم فاصل يحول دون تجمعهم وانتظامهم في خط دفاع واحد ضد أعدائهم فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله الذي فرض عليكم القتال لنصرة دينه: ﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ العرب الذين أنزل القرآن لإنذارهم أولًا وقبل كل شيء ليكونوا حماته فيما يقبل من الزمن حيث قال تعالى: ﴿لينذر أم القرى ومن حولها﴾ بمعنى ابتدءوا بالأقرب منكم فالأقرب ولا تتخطوهم إلى من بعدهم من الأمم حتى تأمنوا شرهم: ﴿وليجدوا فيكم غلظة﴾ أي شدة وتصميمًا على ضرورة إسلامهم فإن التساهل معهم من شأنه أن يؤدي إلى تقاعسهم عن اعتناق دين الإسلام وبالتالي لئلا تكون بلادهم بذرة فساد ووكر تجمع أعدائكم والكيد لكم: ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾ أي أن الله من سننه أن يؤيد وينصر من يتقيه بتطبيق أحكامه وعدم مخالفة سننه التي منها ما أشار إليه هنا من البدء بقتال الأقرب إلى ديار الإسلام قبل الأبعد والإغلاظ عليهم إلى غير ذلك مما شرعه الله من إعداد ما يستطاع من قوة والصبر والثبات والنظام وطاعة القائد وترك التنازع والاختلاف فكل هذه أمور أمر الله بها ومن التقوى عدم التفريط في شيء منها وقد جعل سبحانه من سننه تأييد العاملين بها: ﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ في القرآن وسمعوا بها وهي بلا شك تدل على معنى أو ترمي إلى هدف سام فكل آية بل وكل كلمة في القرآن لم توضع إلا لحكمة: ﴿فمنهم﴾ لقصر نظره أو لما طبع عليه من نفاق في نفسه: ﴿من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا﴾ بمعنى يقول بعضهم لبعض ماذا استفدتم منها أو ما هي الفائدة من ذكر هذه
﴿أنما أنزل﴾ لم يكن من وحي الخيال وإنما هو صادر: ﴿بعلم الله﴾ أي عن علم حقيقي كله حق وصدق، ومتى ثبت هذا ثبت أن محمدًا كان محقًّا في دعوى الرسالة: ﴿وأن لا إله إلا هو﴾ القادر على ما تعجزون عنه فيجب أن تذعنوا له بالوحدانية والقدرة الكاملة على كل شيء: ﴿فهل أنتم مسلمون﴾ أي فهل أنتم بعد قيام هذه الحجة عليكم داخلون في دين الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن عن عقيدة وإيمان.
بعد أن أمر الله رسوله أن يبادر بتبليغ ما يوحي إليه في الحال لأن مهمته منحصرة في الإنذار وإثبات صحة نزول القرآن من عند الله: ﴿وأن لا إله إلا هو﴾ وأن يسائلهم عما إذا كانوا بعد هذا مسلمين أم لا أراد جل جلاله أن يؤيد هذا الخيار لعباده بما يشعرهم بما اقتضته مشيئته تعالى من عدم إكراه الناس على الطاعة بل إنه سيحقق للعصاة آمالهم في الحياة بقدر ما يبذلون من جهد في سبيل نيلها وسينالون العذاب في الآخرة عليها فقال: ﴿من كان يريد الحياة الدنيا﴾ دون الآخرة: ﴿وزينتها﴾ من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد فقد سننا لذلك سننًا وأوجبنا على الناس اتباعها فمتى قاموا بها: ﴿نوف إليهم أعمالهم فيها﴾ أي نعطيهم ثمرة أعمالهم كاملة وفق تلك السنن التي تربط الأسباب بالمسببات والأقدار بالمقدرات: ﴿وهم فيها لا يبخسون﴾ أي إنهم لا ينقصون شيئًا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم فإن مدار الأرزاق في الدنيا على الأعمال المطابقة لنظام الأقدار، بخلاف الآخرة فإن الجزاء فيها على الأعمال المنبعثة عن حسن القصد والنية: ﴿أولئك﴾ الذين يوجهون آمالهم وأعمالهم لمجرد متع الدنيا وقد وعدهم الله بأن يوفي إليهم أعمالهم فيها هم: ﴿الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار﴾ لأنهم لم يريدوا نعيم الآخرة ولم يعملوا لنيل ثوابها بتزكية نفوسهم بالإيمان والتقوى وأعمال البر والفضائل واجتناب المعاصي والرذائل: ﴿وحبط ما صنعوا فيها﴾ من أعمال لم يريدوا بها وجه الله وثواب الآخرة بل لتحقيق أغراض نفسية من شهوات الدنيا كالرياء والسمعة وقد نالوها: ﴿وباطل ما كانوا يعملون﴾ أي إن العمل لمجرد الدنيا عمل فاسد لا يقوم على أساس من الرغبة في طاعة الله الخالق للجوارح ولا يؤتي الثمرة المرجوة منه وهي النفع العام للناس في هذه الحياة وثواب الله في الآخرة فالأعمال بمقاصدها، والنتائج تتبع المقدمات. ولقد كان من أكبر سيئات الاستعمار في البلاد الإسلامية هذه المدارس التبشيرية التي نشرها المستعمرون بيننا وغرسوا بواسطتها في
تعلمون} فقد كنت واثقًا من أن يوسف لم يمت ولذلك أمرتكم بالتحسس عنه وعن أخيه وأن لا تيأسوا من روح الله. فلم يسعهم إلا أن يعترفوا بجهلهم وجرمهم في حقه وحق يوسف وأخيه: ﴿قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا﴾ أي ادع الله أن يسامحنا ويعف عما صدر منا: ﴿إنا كنا خاطئين﴾ فيما مضى فلم يلب طلبهم وأجل ذلك إلى أن يجتمع إلى يوسف ويرى رأيه فيهم ويستسمحه عنهم: ﴿سوف أستغفر لكم ربي﴾ وأنا على يقين بأنه تعالى لا يرد دعوة من دعاه خصوصًا وقد اعترفتم بذنبكم وأعربتم عن حاجتكم إلى الغفران: ﴿إنه هو الغفور﴾ الذي يملك حق الغفران: ﴿الرحيم﴾ الذي وسعت رحمته كل شيء فاستبشروا بهذا الوعد وهذا الأمل في رحمة الله ومضوا في ركاب والدهم إلى مصر إلى أن بلغوها: ﴿فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه﴾ أي ضمهما وعانقهما: ﴿وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾ على أنفسكم من لوعة الفقر بعد اليوم فإني سأقدم لكم كل ما تحتاجون إليه من الطعام والشراب: ﴿ورفع أبويه على العرش﴾ أي أخذ بيديهما وأصعدهما إلى كرسي الملك الذي يجلس هو عليه: ﴿وخروا له سجدًا﴾ أي انحنى الجميع خضوعًا واحترامًا له: ﴿وقال﴾ يوسف: ﴿يا أبت هذا تأويل رؤياي﴾ التي قصصتها عليك: ﴿من قبل﴾ إذ رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين فأحملت تعبيرها لي: ﴿قد جعلها ربي حقًّا﴾ أي وقد رأيت تعبيرها الآن في اليقظة فها هم إخوتي الكواكب الأحد عشر وها أنت وأمي الشمس والقمر أخضعكم الله جميعًا لي: ﴿وقد أحسن بي﴾ أي تفضل وأنعم علي جل جلاله: ﴿إذ أخرجني من السجن﴾ لقد أضاف يوسف أمر إخراجه من السجن ومجيء أهله من البدو إلى ذات الله ففهم الناس من هذا أن جميع أعمال العباد هي بعينها بأمر الله الذي لا يمكنهم العدول عنه وترتب على هذا اختلافهم فيما إذا كان الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية فيكون مؤاخذًا عليها أم لا يخلقها فهو مجبر عليها ومن هنا نشأ خلافهم في موضوع القضاء والقدر وانقسامهم إلى جبرية وقدرية ومعتزلة وقد وفينا الموضوع حقه من البحث وفصلنا موضوع القضاء والقدر غير مرة وفرقنا بين الإرادة والمشيئة وبين القضاء الذي هو أحكام الله القاطعة كالخلق والتكوين وسائر الأفعال، وبين القدر الذي هو أحكام الله التي قدَّرها وترك للعباد أمر اختيار ما يريدون منها وقلنا أن الحركة التي هي أساس الفعل لاشك أنها مخلوقة لله لأنها من لوازم الحياة وهي من قضاء الله وأما توجيهها إلى اليمين أو الشمال فإنه ليس خلقًا لأساس الحركة بل توجيهًا لها إلى أحد الجوانب
العظيم وإن في إفراد الفاتحة بالذكر مع كونها جزءًا من القرآن ما يدل على ما لها من ميزة وفضل على باقي سور القرآن وأكبر دليل على شرفها أن الرسول ﷺ واظب على قراءتها طول عمره ولم يقم سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات بل قال «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم فقد أكرمني ربي وأنعم علي بها وعلى أمتي» وما دام الأمر كذلك: ﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم﴾ أي لا تنظر أيها الرسول وكل داع بدعوته إلى مظاهر الناس وما يتمتعون به من لباس ورياش ومال وجاه رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال «من أوتي القرآن فرأى أن أحدًا أوتي أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا وعظم صغيرًا» وقد رُوي في أسباب نزول هذه الآية أن رجلًا حل ضيفًا على رسول الله ولم يكن عنده شيء فأرسل الرسول إلى رجل من اليهود يطلب منه أن يسلفه دقيقًا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن فلما علم الرسول بذلك قال «أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدّين إليه» فنزلت هذه الآية ليعزي الله بها رسوله عن الدنيا، والمؤمن عما بأيدي الكافرين من وسائل الترف والنعيم: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي لا تقل في نفسك إن هؤلاء نالوا متاعهم في الدنيا فسوف لا ينالون الآخرة فترثى لحالهم وتحزن وهم في غوايتهم سابحون: ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ أي كن سهلًا لينًا في معاملة أتباعك ولا تتعال عليهم: ﴿وقل﴾ لهم: ﴿إني أنا النذير﴾ للمكذبين بما سيحل بهم من العذاب: ﴿المبين﴾ أي الموضح لأنواع العذاب التي حلت بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها: ﴿كما أنزلنا﴾ أي كالعذاب الذي أنزلناه: ﴿على المقتسمين﴾ وهم الذين لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه كقوم صالح الذين أشار إليهم تعالى بقوله: ﴿قالوا تقاسموا بالله لنبيتنَّه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون﴾ وكالمنافقين الذين أشار إليهم تعالى بقوله: ﴿ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين﴾.
﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ أي متفرقًا فقالوا عنه كهانة وقالوا: ﴿أساطير الأولين﴾ إلى غير ذلك بما وصفوه به أو أنهم جزؤوه فقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض: ﴿فوربك لنسألنهم أجمعين﴾ أي جميع المكلفين المنذرين: ﴿عما كانوا يعملون﴾ في حياتهم الدنيا قال صلى الله عليه
أجلها من بلادهم: ﴿لعلهم يحذرون﴾ من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم ويتمسكوا بدينهم ويصنعون ما تكمل به قوتهم ويعملوا بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، والمعنى أن طلب العلم لهذه الغاية السامية فرض كفاية لا يقل درجته عن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال ما لم يعلن النفير العام للجهاد فيأخذ الصدارة ويحرم التقاعس عن أداء ذلك الواجب ويعد التخلف عنه خيانة عظمى ودليلًا على النفاق كما أسلفنا.
بعد أن حض الله على الجهاد في سبيله وعدد الفوائد التي لا يمكن أن يعرض عنها من كان في قلبه ذرة من إيمان وفرض على فريق من المؤمنين في حال السلم النفرة للتفقه في الدين وإنذار الباقين مما يرونه مضرًا بهم عاد إلى موضوع الجهاد فنبه المؤمنين إلى قاعدة من قواعد القتال التي يجب ملاحظتها لتأمين الدعوة إلى الإسلام وتمكينه في الأرض باجتماع شمل المسلمين وتقارب ديارهم بحيث لا يفصلهم عن بعضهم فاصل يحول دون تجمعهم وانتظامهم في خط دفاع واحد ضد أعدائهم فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله الذي فرض عليكم القتال لنصرة دينه: ﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ العرب الذين أنزل القرآن لإنذارهم أولًا وقبل كل شيء ليكونوا حماته فيما يقبل من الزمن حيث قال تعالى: ﴿لينذر أم القرى ومن حولها﴾ بمعنى ابتدءوا بالأقرب منكم فالأقرب ولا تتخطوهم إلى من بعدهم من الأمم حتى تأمنوا شرهم: ﴿وليجدوا فيكم غلظة﴾ أي شدة وتصميمًا على ضرورة إسلامهم فإن التساهل معهم من شأنه أن يؤدي إلى تقاعسهم عن اعتناق دين الإسلام وبالتالي لئلا تكون بلادهم بذرة فساد ووكر تجمع أعدائكم والكيد لكم: ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾ أي أن الله من سننه أن يؤيد وينصر من يتقيه بتطبيق أحكامه وعدم مخالفة سننه التي منها ما أشار إليه هنا من البدء بقتال الأقرب إلى ديار الإسلام قبل الأبعد والإغلاظ عليهم إلى غير ذلك مما شرعه الله من إعداد ما يستطاع من قوة والصبر والثبات والنظام وطاعة القائد وترك التنازع والاختلاف فكل هذه أمور أمر الله بها ومن التقوى عدم التفريط في شيء منها وقد جعل سبحانه من سننه تأييد العاملين بها: ﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ في القرآن وسمعوا بها وهي بلا شك تدل على معنى أو ترمي إلى هدف سام فكل آية بل وكل كلمة في القرآن لم توضع إلا لحكمة: ﴿فمنهم﴾ لقصر نظره أو لما طبع عليه من نفاق في نفسه: ﴿من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا﴾ بمعنى يقول بعضهم لبعض ماذا استفدتم منها أو ما هي الفائدة من ذكر هذه
منها بحيث جعلوا الإيمان مستقرًا ووطنًا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه وديارهم دارًا لكل مسلم لا فارق بينه وبينهم: ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي من قبل أن يفدوا إليهم: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ بمعنى أنهم يسهمون في إبراء المهاجرين ويتخلون لهم عن أماكنهم ويشاركونهم على صروف الدهر لا لشيء إلا لأنهم مهاجرون في سبيل الله وتلك صفة الأنصار أهل المدينة وقد قال المهاجرون يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا في كثير لقد كفونا المئونة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم».: ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ إلى شيء: ﴿مِّمَّا أُوتُوا﴾ أي ما أعطى المهاجرون بمعنى أنهم لا يحسدونهم ولا يقولون لِمَ أعطوا من مال الفيء من دوننا، رُوي عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله ﷺ فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال وتكررت هذه الحادثة ثلاثة أيام، فما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص إلا أن تبع الرجل وطلب منه أن يضيفه ثلاث ليال فرحب به فلم يره أثناءها يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر فلما مضت الليالي الثلاث سأله أن يوضح له صالح عمله فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال له عبد الله بن عمرو فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تُطاق: ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾ أي يقدمون غيرهم: ﴿عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ بكل خير وفضل: ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أي حاجة بمعنى أنهم يبدؤون بالناس في حال احتياجهم عن سد حاجتهم ويقدمونهم على أنفسهم: ﴿وَمَن يُوقَ﴾ أي من يحذر وتجنب: ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ الشح بضم الشين وقرئ بكسرها البخل بمعنى المنع وشح النفس هو الحالة النفسية التي تقتضي ذلك المنع: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي الفائزون برضوان الله لتجنبهم الشح، قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالفجور ففجروا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وقال أيضًا: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا»، وليس المراد بتقوى الشح جود الإنسان بكل ما يملك فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة». وأما الفريق الثالث
لهم بأنا سنجعل المسلمين كالمجرمين فلا نراعي واجب العدل المطلق وسنعذب الطائع ونثيب العاصي بمحض الإرادة أو أنا قطعنا لهم علينا عهدًا بنجاتهم: ﴿أم لهم شركاء﴾ من الأصنام والأنداد الذين يحكمون الناس بالكيف والهوى ويسوون بين المسلمين والمجرمين كما يريدون اعتمادًا على شفاعة الشافعين: ﴿فليأتوا بشركائهم﴾ أي الذين يعتقدون أنهم شركاء لله في الحكم والسيطرة: ﴿إن كانوا صادقين﴾ في أن لله شركاء أو أن أحدًا ادّعى لنفسه القدرة على التصرف في مصير البشر: ﴿يوم يكشف﴾ وفي قراءة «نكشف وتكشف» بالنون وبالتاء بدل الياء بالبناء للفاعل والمفعول: ﴿عن ساق﴾ ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجرة والمراد به يوم القيامة الذي تبدو فيه الأشياء وأصولها. والمعنى أنه ليس لهم من دليل عقلي في إثبات ذلك القول ولا دليل من كتاب يدرسونه وليس هناك من آلهة يوم القيامة غير الله فهو باطل من جميع الوجوه: ﴿ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون﴾ أي وهو اليوم الذي إذا طلب منهم فيه السجود تهكمًا فلا يستطيعون لتعذر ذلك عليهم من هول الموقف وشدة الزحام وسوء الحالة: ﴿خاشعة أبصارهم﴾ أي متداعية ومنخفضة نحو الأرض: ﴿ترهقهم ذلة﴾ أي تغشاهم من القهر ذلة ومهانة: ﴿وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون﴾ أي أنهم لا يستطيعون السجود في ذلك اليوم لقاء ما كانوا يرفضون السجود عندما يدعون إليه في الدنيا وهم سالمون.
بعد أن نهى الله رسوله عن طاعة المكذبين والكافرين ونفى عن ذاته العلية ما ينسبونه من كل أمر يخالف العدل أو يجعل لهم أي أمل في الآخرة ما داموا على ما هم عليه من عقائد فاسدة. نهاه أيضًا عن ما جبلت عليه نفسه الكريمة من الرغبة في هدايتهم والرأفة بهم فقال له تعالى: ﴿فذرني﴾ أي دعني ولا تخاطبني: ﴿ومن يكذب بهذا الحديث﴾ أي وكل من وضح لك ما في قلوبهم من مرض فلا تشقق عليهم ولا ترج الصلاح والتقوى منهم واعلم أنا سوف لا نؤاخذهم بالعذاب السريع في هذه الدنيا كما فعلنا بقوم عاد وثمود وغيرهم من الأمم السابقة بل: ﴿سنستدرجهم﴾ أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة درجة بطريقة سلبية: ﴿من حيث لا يعلمون﴾ أي بحيث لا يشعرون أنهم مستدرجون وذلك بأن نوالي عليهم النعم بدلًا من النقم فيحسبون أن ذلك من دلائل رضائنا عن أعمالهم وربما زادهم هذا تماديًا في الضلال بدلًا من الهدى والرجوع إلى الله بالشكر والإقلاع عن المعاصي والسيئات: ﴿وأملي لهم﴾ أي أمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة لعلهم يتنبهون: {إن
احتقارًا له ولا إجلالًا للقوم ولكن مراعاة منه لتقاليد العرب ورغبته في زيادة نشر الإسلام فأنزل الله قوله: ﴿عَبَسَ﴾ بفتح الباء مخففة وقرئ بتشديدها: ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض، وفاعل العبوس والتولي لم يذكر اسمه مع أن المقصود به الرسول إشارة إلى أن المقصود من ذلك مجرد التشريع: ﴿أَن جَاءهُ﴾ يسأله عن دينه: ﴿الأَعْمَى﴾ وقد وصفه الله بهذا الوصف إشارة إلى عذره في الإلحاح في السؤال فهو لا يعلم بالحاضرين ولا يقصد قطع حديث الرسول كما أنه لم يشعر بعبوس وجه الرسول حتى ينكدر وينزعج: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أيها النبي: ﴿لَعَلَّهُ﴾ أي الأعمى: ﴿يَزَّكَّى﴾ أي يتطهر بما تلقنه له: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ أي فيتعظ بموعظتك بمعنى يزداد إيمانًا على إيمانه: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ بماله وجاهه عن طلب الهداية.
﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ أي تتعرض وتخص بالذكر: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾ أي لا شيء عليك في ألا يسلم من تدعوه للإسلام فما عليك إلا البلاغ بمعنى لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى﴾ في طلب المزيد من العلم وطلب الهداية: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ ربه ويرغب في زيادة العلم بما يقربه إلى الله: ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ أي تتشاغل بالتوجه إلى من لم يرد لنفسه الهداية: ﴿كَلاَّ﴾ أداة نفي وزجر عن التصدي للمستغني والإعراض عن المهتدي فهذا أمر لا يتفق مع الدعوة التي أرسل بها النبي ﷺ فقد حدد الله مهمته بأنه لم يكن سوى مبلغ ومذكر بآيات الله المنزلة عليه وقد وصفها الله بقوله: ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ من الله لعباده ليعرفوه ويوحدوه: ﴿فَمَن شَاءَ﴾ لنفسه الهداية: ﴿ذَكَرَهُ﴾ أي ذكر الله وآمن به عن رغبته وكامل اختيار من غير إلحاح ولا إكراه وهذا الذكر الصادر من صميم القلب سيسجل له: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾ ليس فيها من يطعن في صحتها وشرفها: ﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾ إلى مقام الله جل جلاله: ﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾ خالية من كل ما يحط من قيمتها: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ جمع سفير الوسيط المصلح: ﴿كِرَامٍ﴾ هم الملائكة الذين عهد إليهم الله بتسجيل أعمال العباد حيث قال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾،: ﴿بَرَرَةٍ﴾ الصالحين الذين: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
ولما كان الإنسان بطبيعته مفطورًا على كفران الجميل قال تعالى: ﴿قُتِلَ الإِنسَانُ﴾ هذا دعاء على الإنسان بالقتل لأنه بلغ مبلغًا لا يستحق معه الحياة لعدم تقديره لنعم الله الذي منحه الله هذه