صَادِقِينَ (٩٤) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (١٠٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقَالُواْ
﴿و﴾ الثالث: ﴿أن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ بأن تنسبوا إليه غير الواقع أو تعتدوا على حقوق الربوبية فتشرعوا غير شريعته وتدخلوا في دين الله ما ليس منه وما لا تعلمون علم اليقين أن الله قد شرعه من عقائد وأعمال تعبدية أو شعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي لمتبعي خطوات الشيطان ﴿اتبعوا ما أنزل الله﴾ من الكتاب ﴿قالوا﴾ لا نفهم ما أنزل الله ولسنا أهلًا للاهتداء به ﴿بل نتبع ما ألفينا﴾ أي وجدنا ﴿عليه آباءنا﴾ من التعاليم التي تلقيناها من ساداتنا وكبرائنا وقادتنا وعلمائنا الذين هم أفضل وأعلم منا؛ فرد الله على قولهم هذا بقوله ﴿أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون﴾ أي أتتبعون ما ألفيتم عليه آباءكم لشخصياتهم ومنزلتهم عندكم في كل أمر حتى فيما قامت الأدلة العقلية والنقلية على بطلانه وثبت أنهم لم يكونوا على حق فيه.
وبعد أن حذر الله الناس من تتبع خطوات الشيطان وما يزينه لهم من السوء والفحشاء والافتراء على الله والإغراق في تقليد الآباء على جهل وغير هدى، وأخبرهم بعلائم متبعي خطوات الشيطان بأنهم هم الذين إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله أعرضوا وقالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، واعتبرهم في مستوى الكفار أراد أن يبين للناس مبلغ حماقتهم وسخافة عقولهم فقال ﴿ومثل الذين كفروا﴾ في حماقتهم وضعف قوة عاقليتهم وكونهم يعبدون الأوثان ويدعونها من دون الله ﴿كمثل الذي ينعق﴾ أي يصيح ﴿بما لا يسمع إلا دعاء ونداء﴾ أي حديثًا مجردًا أي كمثل من يخاطب البهائم ويتحدث إليها وهي لا تعقل شيئًا مما يوجه إليها غير الدعاء والنداء ﴿صم﴾ أي فهم صم لا يسمعون مجيبًا لدعائهم ﴿بكم﴾ لا ثمرة لصياحهم وندائهم ﴿عمي﴾ عن رؤية ما بين أيديهم من أشباح وهياكل ليست أهلًا للخطاب ولا للإجابة ﴿فهم لا يعقلون﴾ أي فالكفار لكل ذلك فقدوا ملكة الفهم والعقل فصمت آذانهم عن سماع الحق، وخرست ألسنتهم عن الجهر به وعميت بصائرهم عن النظر في آيات الله نظرة استدلال وتحقيق حتى يتبين لهم أنه الحق، فهم في عبادتهم ودعائهم غير الله كمن يخاطب الدواب التي لا تعقل ما يلقي إليها بجامع الحماقة وقلة العقل في كل.
ليكونوا على بينة من أمرهم فقال (الشيطان) أي اعلموا أن الشيطان سوف يصدكم عن هذا السبيل و (يعدكم) بحلول (الفقر) بفتح الفاء وسكون القاف وقرئ بضم الفاء وسكون القاف وقرئ بضمها وقرئ بفتحهما بكم إذا أنتم أنفقتم مما لديكم في سبيل الله ويؤكد لكم أنه لا بد أن يأتي يوم ينضب فيه معين ما عندكم وتحتاجون فيه إلى ما أنفقتموه (ويأمركم بالفحشاء) أي البخل الذي هو من أفحش الفحش وأعظم النقائص عند العرب (والله يعدكم) أي بينما يعدكم الله في كتابه وعلى لسان رسله بعكس ذلك (مغفرة منه) في الآخرة (وفضلًا) زيادة في الرزق في هذه الدنيا، (والله واسع) في جوده وكرمه وقدرته على تنفيذ وعده (عليم) بما يفقر عباده وما يغنيهم، فلو كان الإنفاق يفقرهم لم يأمرهم به وهو سبحانه (يؤتي الحكمة) معرفة الحقائق في كل شيء (من يشاء) الحصول عليها بسلوك سبلها من البحث والاستقراء من عباده الباحثين عن سنن الكائنات والعاملين على اكتشاف أسرار جميع الموجودات ليستطيعوا التمييز بين وعد الرحمن المنطبق على العقل والمنطق ووعد الشيطان المتمشي مع شهوة النفس الأمارة بالسوء ومحض اللذة (ومن يؤت الحكمة) صوابَ الأمر من عند الله (فقد أوتي خيرًا كثيرًا) لأن معرفته للحقائق تجعله يعرف الله حق معرفته، فيعرف أنه سبحانه هو الخالق لجميع المخلوقات والمالك لأسرار كافة القوى الخفية الموجودة في طيات الأثير، ودخائل الذرات والمهيمنة على كثير من الموجودات كالروح والكهرباء، وأن جميع الحركات والسكنات مستمدة من قوته وخاضعة لمشيئته وسلطانه ومسيرة بإرادته وحسن تدبيره، ووفق أنظمته ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه المعرفة توجب عليه توجيه مواهبه واستخدام قواه فيما خلقت له مما يرضي مولاه كما تحبب إليه الرضا بجميع ما يقضي به على حد قول القائل:
@إذا ما رأيت الله في الكل صانعًا
#رأيت جميع العالمين ملاحًا
وهذا ما يدعوه إلى الصبر على ما يبتلى به الله سبحانه والتسليم لأحكامه وتصرفاته، وهذه المعرفة تنيل صاحبها مقامًا عاليًا طمع موسى في الوصول إليه عن طريق التعليم من الخضر فقال «هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا؟ قال إنك لن تستطيع معي صبرًا. وكيف تصبر على ما لم
الأعمال مؤيدة لذلك والبراهين قائمة إذن ﴿فذوقوا العذاب﴾ الذي أنذرتم به من قبل ﴿بما كنتم تكفرون﴾ جزاء على الكفر بالله ورسله واليوم الآخر: ﴿وأما الذين ابيضت وجوههم﴾ بسبب ما قدموا في الحياة من الإيمان والعمل الصالح ﴿ففي رحمة الله﴾ كانوا مغمورين بها في الدنيا و ﴿هم فيها خالدون﴾ في الآخرة ينعمون بأثرها وهو كما قال ابن عباس «الجنة» ﴿تلك﴾ الأوامر التي أمرت بتبليغها كدستور سماوي ﴿آيات الله﴾ المنزلة منه ﴿نتلوها عليك بالحق﴾ الذي لا مراء فيه لتنذر به الناس أجمعين، ومن أنذر فقد أعذر، ولا عذر لمن لم يعمل بها ﴿وما الله﴾ في سنه للسنن ووضعه للنظم وإنزاله للشرائع التي تربط الأسباب بالمسببات وتقضي بالتحليل والتحريم والجزاء والعقاب ﴿يريد ظلما للعالمين﴾ وإنما يريد استقامة شئون العالم وضمان عمار الكون على أحسن حال لئلا يطغى الظلم وتسود الفوضى ويعم الخراب والدمار، فإذا هم أساءوا فهم ذلك وامتنعوا عن تطبيق الأحكام وأمعنوا في مخالفاتها فقد حل بهم ما حل من البلاء في الدنيا والعقاب في الآخرة إقامة للعدل وتنفيذًا للنظم وتحقيقًا لما جاء فيها من مواد الجزاء فلا يلومون إلا أنفسهم، ﴿ولله ما في السماوات وما في الأرض﴾ فهو مالك الملك الحاكم العدل واضع السنن ومرتب الأحكام، العليم بجميع ما يحصل فيها من كل صغيرة وكبيرة ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ في الآخرة، فهو الذي يتولى تطبيق العقوبات وتنفيذ الأحكام في خلقه، وهو الذي يملك حق استعمال الرحمة مع من يريد، فإن عاقبهم سبحانه وتعالى على أعمالهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبرحمته لا معارض لحكمه ولا مانع لكرمه وجوده.
بعد أن بين الله ما سيكون من حساب من اسودت وجوههم وتبليغهم ما صدر في حقهم من حكم مقرون بالحيثيات، وقال عن الذين ابيضت وجوههم إنهم في رحمة الله هم خالدون أشار هنا إلى أنهم عدا ذلك سيمجدون وتطرى أعمالهم التي استحقوا بها ذلك النعيم المقيم حيث يقال لهم ﴿كنتم﴾ فيما سبق من أيام حياتكم ﴿خير أمة أخرجت للناس﴾ فقد أكمل الله لكم دينكم وأتم عليكم نعمه ورضي لكم الإسلام دينًا وشرفكم برسالة سيد الخلق وخاتم الرسل وجعل عصركم عصر الحضارة والعلم ونضوج الأفكار ورقي المدارك وقد شكرتم لله هذه المنة حيث كنتم ﴿تأمرون﴾ الناس ﴿بالمعروف﴾ فتفيضون الهدى وتزكون النفوس ﴿وتنهون عن المنكر﴾ فتمنعون المظالم وتقضون على الشرور ﴿وتؤمنون﴾ إلى جانب هذا ﴿بالله﴾ وحده النافع الضار المتصرف في
عن ذلك علوًّا كبيرًا.
لقد أمر الله عباده بإخلاص العبادة له ولما كانت الصلاة هي أول ما فرض على المؤمنين من العبادات التي يتمثل فيها خضوع العبد لمولاه وافتقاره إليه وطلب المعونة منه والتوجه إليه بالدعاء وكان العرب في صدر الإسلام لا يرون مانعًا من الجمع بينها وبين تعاطي الخمر التي كانوا يألفونها نبههم الله جل وعلا إلى خطئهم في هذا التصور بما أمرهم به من قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة﴾ تدنوا منها بالاستعداد لها أي: إتيان مقدماتها من الوضوء ودخول المسجد ﴿وأنتم سكارى﴾ والمعنى احذروا أن يكون السكر وصفًا لكم عند إقبالكم على الصلاة فتقبلوا وأنتم سكارى وامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة أو فيما يقرب من وقتها وليس معناه أن لا تصلوا حال كونكم سكارى وإلا كان السكر مسقطًا لفرض الصلاة وهذه أول خطوة شرعها الله لتحريم الخمر ﴿حتى تعلمون ما تقولون﴾ هذا التعليل للنهي يقضي بوجوب العلم بما يقوله الإنسان في الصلاة من قرآن وذكر ودعاء، ورُوِيَ عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون»! فنزلت هذه الآية ـ وعلى هذا قال الشافعي بوجوب معرفة اللغة العربية على كل مسلم لفهم ما يقوله المسلم في الصلاة خشية أن يقع فيما وقع فيه علي بن أبي طالب من التغيير والتحريف والتبديل في آيات القرآن، يؤيد هذا ما رُوِيَ في حديث أنس عند البخاري مرفوعًا «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» ﴿ولا جنبًا﴾ هذا نهى عن الصلاة في حال الجنابة لا عن إتيان
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) حسب القاعدة المقررة في كل صنف اجتمع منه أفراد في درجة واحدة لم يشذ منهم إلا أولاد الأم فإنهم شركاء في سدسها بالسدس بينهم (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) أمور دينكم وأهمها تفصيل الفرائض رأفة بكم (أَنْ تَضِلُّوا) ومن أجل هذا كان عمر رضي الله عنه شديد الحذر من التوسع في موضوع الكلالة فقد سئل مرة عن الكلالة وهو على المنبر فقال «الكلالة الكلالة الكلالة» وأخذ بلحيته ثم قال والله لأن أعلمها أحب إلى مما طلعت عليه الشمس من شيء سألت عنها رسول الله ﷺ فقال ألم تسمع الآية التي نزلت في الصيف يعني بها هذه الآية (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أنه لم يشرع هذه الأحكام وسواها إلا عن علم بأن فيها الخير لكم والضمان لمصالحكم.
<٢١>
سورة المائدة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
التفتازاني وعن الطبرسي في الآيتين وقال عن الطبرسي افتخر بما أتى فيه ولم يأت بشيء. والله أعلم.
بعد أن ختم الله الآية السابقة بقوله: ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ أخذ يحد الوقت الذي تمتنع فيه هداية الله للناس بعد أن كانت من قبل في متناول كل أحد فأتى بما يشير إلى أن ذلك اليوم هو يوم القيامة الذي أخذ الله على نفسه فيه أن لا يغفر للكافرين والظالمين ﴿ولا يهديهم طريقًا إلا طريق جهنم﴾ فقال ﴿يوم يجمع الله الرسل﴾ من عهد آدم إلى محمد بن عبد الله للشهادة على أقوامهم ﴿فيقول﴾ لهم ﴿ماذا أجبتم﴾ أي هل آمن أقوامكم بما أرسلتم به ﴿قالوا لا علم لنا﴾ بحقيقة أمرهم إذ الإيمان أمر يتعلق بقلوب الناس وهو من الأمور الغيبية التي تخفى علينا ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ بضم العين وقرئ بكسرها في جميع القرآن أي أنت وحدك الذي تعلم بما في القلوب وما تخفي الضمائر من إيمان وكفر. وهنا فصل الله لرسوله محمد ﷺ كيف يقيم حجته على من يزعم اتباع أولئك الرسل بما سيوجهه إلى رسله إذ ذاك من خطاب يقرر فيه ما له عليهم من النعم التي كانت سببًا في افتتان الناس بهم وتعلقهم بأشخاصهم من دون الله ليتعظوا بذلك ويعلموا أنهم على ضلال فيما ينسبونه إليهم من خوارق العادات والقدرة على التصرف في الكائنات، ومثل ذلك بواحد من أولئك الرسل وهو عيسى عليه السلام فقال ﴿إذ قال الله﴾ هذا بدل من ﴿يوم يجمع﴾ فالقرآن كثيرًا ما يعبر عن المستقبل بالماضي إشارة إلى أن ذلك سيكون حتمًا كما في قوله تعالى: ﴿ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار﴾ ﴿يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك﴾ وقد فصل الله هذه النعم بقوله:
النعمة الأولى: ﴿إذ أيدتك﴾ أي أمددتك وقويتك ﴿بروح القدس﴾ بضم الدال وقرئ بإسكانها في جميع القرآن وهو ملك الوحي الذي يؤيد الله به رسله بالتعاليم الإلهية التي تثبت قلوب أتباعهم وهو الذي جعلك ﴿تكلم الناس في المهد﴾ لتبرئ والدتك من تهمة الفاحشة التي كادت تلصق بها بسبب ولادتك من غير أب لولا أن أنطقك الله إثر ولادتك بما أملاه عليك جبريل من الكلمات وهي قوله: ﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا﴾، ﴿وكهلًا﴾ أي حين بعثت في قومك رسولًا فكان يزودك بما تقيم به عليهم الحجة بأنك رسول الله.
الأعجم الذي ليس لديه شيء من علم ﴿وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله﴾ فما أضروا إلا أنفسهم بحرمانها من نعم الله التي منّ بها عليهم بما زعموا أنه تعالى قد حرمه عليهم ﴿قد ضلوا﴾ بعملهم هذا ﴿وما كانوا﴾ بخطتهم التي ساروا عليها ﴿مهتدين﴾ أي بالذين يريدون الهدى ومن أجل ذلك ضلوا ولو أرادوا الهدى لما خسروا أولادهم ولا حرموا طيب العيش في حياتهم.
بعد أن عدد الله سيئات المشركين التي استحقوا عليها العذاب من جعلهم لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وإشراك غيره معه فيها وحرصهم على أداء حق الشركاء أكثر من حقه جل وعلا وإطاعتهم فيما يزينونه لهم من قتل الأولاد وتحكمهم فيما خلق الله من الحرث والأنعام بالتحليل والتحريم على غير نظام ثابت أو أساس من المصلحة العامة بل هو لمجرد الأهواء مع الجرأة على الله بنسبة ذلك إليه أخذ يثبت حقه تعالى وحده في التحليل والتحريم ويدلل على سخف ما يتمسك به المشركون من الأحكام في أمر الأنعام فقال ﴿وهو الذي أنشأ﴾ أي أوجد من العدم ﴿جنات﴾ أي حدائق وبساتين أنبت فيها أشجارًا مختلفة في قوامها وأشكالها ﴿معروشات﴾ أي منها ما لا يقوم بنفسه بل يتسلق ويتمسك على غيره من العرائش «وهي ما يرتفع من الدعائم ويجعل عليها مثل السقوف من العيدان والقصب» من أنواع العنب وبعض الأزهار كالياسمين ﴿وغير معروشات﴾ أي ومنها ما يقوم بنفسه كسائر الأشجار ﴿والنخل والزرع مختلفًا أكله﴾ بضم الهمزة والكاف وقرئ بسكون الكاف مع ضم الهمزة أي منه ما هو من مأكول الإنسان ومنه ما هو من مأكول غيره من أنواع الحيوانات ﴿والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه﴾ أي أنشأ الزيتون والرمان كل نوع منهما يشبه بعضه بعضًا في شكله الظاهر وغير متشابه في طعمه فمنه الحلو والمر والحامض وكل هذا من المعجزات الدالة على عظيم قدرة الله ﴿كلوا من ثمره إذا أثمر﴾ أي أنه تعالى الذي أنشأها يأذن لكم بالأكل من ثماره عند ظهوره لا عند نضجه فليس لأحد أن يتحكم فيه بالتحريم لأن التحريم حق للرب الخالق له وللأقوات جميعًا فمن امتثل لتحريم غيره شيئًا منه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى والمراد بالتحريم: التحريم الديني فلا يشمل ذلك ما إذا منع الطبيب المريض من تناول بعض الأطعمة التي تضره، ولا منع الحكومة صيد الطيور التي تأكل الحشرات المهلكة لأن هذا ليس تحريمًا ذاتيًا دائمًا بل مؤقتًا لعلة ﴿وآتوا حقه﴾ من جميع ما ذكر ﴿يوم حصاده﴾ بفتح الحاء وقرئ بكسرها جرى الفقهاء على أن المراد بهذا الحق الزكاة وهو خلاف الظاهر لأن الزكاة لا تجب في يوم الحصاد بل بعد الجمع وقد
السيئات فقال ﴿ولقد أخذنا﴾ أي عذبنا ﴿آل فرعون﴾ آل الرجل أهل بيته وأقاربه الذين يضافون إليه ويطلق على جميع أتباعه الذين يأتمرون بأمره من عامة الشعب الذين خلقهم الله أحرارًا وكرمهم بالعقل وأرسل الله لهم الرسل ليحرروهم من نير العبودية لغير الله فلم يلتفوا حولهم ولم يناصروهم لإعلاء كلمة الله والضرب على يد الظالمين ﴿بالسنين﴾ جمع سنة وهي بمعنى الحول ويراد بها العام المجدب الذي تنحبس فيه الأمطار فلا يطلع العشب ولا تجد الأنعام مرعى فيموت أكثرها من الجوع والعطش ﴿ونقص من الثمرات﴾ أي من محاصيل الأرض التي تنبت عن طريق الأنهر والآبار فالفدان الذي يعطي عادة ثلاثة أرادب من القمح لا يعطي غير أردب واحد أو أردبين دون أن يكون هناك نقص في الماء مما يدل على أن هذا التفاوت إنما هو عائد لقدرة الله وأنه لا شك ناشئ عن سخطه جل وعلا ﴿لعلهم يذكرون﴾ أي لعلهم يدركون مبلغ عجز غير الله عن كشف ضرهم وزيادة محاصيلهم فيؤمنوا بالله ورسوله فإن الشدائد من شأنها أن تحمل الإنسان مرغمًا على التوجه إلى الله بالدعاء والضراعة كما هي سنة الله في خلقه ومتى بلغ الضلال من الناس أن ينسوا الله حتى في أوقات الشدائد فذلك هو منتهى الضلال وهكذا كان شأن آل فرعون إزاء موسى عليه السلام إذ لم تؤثر فيهم هذه العبر ولم تدعهم إلى الإيمان بقدرة الله وسلطانه ﴿فإذا جاءتهم الحسنة﴾ من خصب ورخاء لا بد منه لسعادة البشر في هذه الحياة ﴿قالوا لنا هذه﴾ أي أن تلك نتيجة سعينا واجتهادنا وهذا أمر طبيعي وحتى من حقوقنا فلا يشكرون الله عليها ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي قحط أو آفة من الآفات تقضي على الزرع في وقت من الأوقات لا يشعرون أنها بأمر الله أو نتيجة سخطه فلا تحملهم على التوبة والرجوع إليه بل إنهم ﴿يطيروا بموسى ومن معه﴾ التطير بمعنى التشاؤم ذلك أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت ورجت وقوع اليمن والخير وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت شرًّا، وهذه خرافة لا يسلم بها العقل فما علاقة سير الطير بمصالح العباد وهكذا فإن آل فرعون كانوا إذا أصيبوا بالقحط أو جائحة سماوية نسبوها إلى وجود موسى ومن معه عندهم وقالوا ما جاءنا موسى وجاء معه الخير، وإن مما يؤسف له أن المسلمين في عصرنا هذا أصبح دأبهم كدأب آل فرعون لا يتعظون بما يصيبهم من قحط وما تبلى به زراعتهم من آفات كتسرب الجراد أو دودة القطن إلى محاصيلهم ويحاولون مقاومتها بمختلف الوسائل إلا وسيلة واحدة فقط هي الرجوع إلى
تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه وهؤلاء منهم من كان يود نصره في قلبه ومنهم من كان يود نصر أعدائه عليه ومنهم من كان يتظاهر للرسول بالإسلام ويتظاهر لأعدائه بالكفر ليأمن الفريقين وهم المنافقون وقد بين الله حكم الفريق الأول بقوله: ﴿الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة﴾ أي يتكرر منهم عدم الوفاء بما عاهدوك عليه: ﴿وهم لا يتقون﴾ الله في نقض عهدهم فأنذرهم بما يترتب على ذلك من قتالهم، وقاتلهم فعلًا: ﴿فإما تثقفنهم﴾ أي تدركهم وتظفر بهم: ﴿في الحرب﴾ أي بعد إعلانك الحرب عليهم لا خلسة: ﴿فشرد بهم من خلفهم﴾ أي فنكل بهم تنكيلًا من شأنه أن يجعل من وراءهم من الأعداء ينهزمون كالإبل الشاردة التي لا تلوي على شيء: ﴿لعلهم﴾ أي من خلقهم من الأعداء: ﴿يذكرون﴾ أي يتعظون ويعتبرون فلا يقدمون على القتال ولا يعود المعاهد منهم لنقض العهد ونكث الإيمان وفي هذا إشارة إلى أن من حق المسلمين أن يعاهدوا من يعاهدونهم من الكفار ويجب عليهم الوفاء لهم بالعهد فإن نقضوه من تلقاء أنفسهم وتكرر ذلك منهم تعين إعلانهم بالحرب واستعمال القسوة معهم والتنكيل بهم لا بقصد التشفي والانتقام بل ليتعظ غيرهم إذ الحرب في حد ذاتها ليست من الأمور المرغوب فيها في الشرائع السماوية كافة وإنما هي ضرورة اجتماعية يلجأ إليها بقصد منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق والإيمان ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»: ﴿وإما تخافن من قوم خيانة﴾ بأن يظهر لك من تصرفاتهم وقرائن الحال ما ينذر بعدم التزامهم للعهد: ﴿فانبذ إليهم﴾ أي أعلنه بإلغائك عهدهم: ﴿على سواء﴾ أي على طريق سوي واضح لا خداع فيه بمعنى صارحهم بما تلاحظه عليهم وما تخشاه من خيانتهم التي تدعوك إلى نبذ عهدهم قبل إعلانك الحرب عليهم فقد تكون هذه الوسيلة رادعة لهم عن الخيانة ومقدماتها كما دل عليه قوله من قبل: ﴿لعلهم يذكرون﴾ وبدون هذا قد يتهمونك بالغدر والخيانة: ﴿إن الله لا يحب الخائنين﴾ فلا يرضى أن ينسب إلى المؤمنين مفاجأتهم المعاهدين بالحرب قبل الإنذار بنقض المعاهدات وذكر الأسباب الداعية إلى ذلك: ﴿ولا يحسبن﴾ وقرئ: ﴿تحسبن﴾ أيها الرسول أن هؤلاء: ﴿الذين كفروا﴾ بالله وخانوا عهدك مرارًا وتخلصوا من الأسر والقتل إنهم: ﴿سبقوا﴾ أي أفلتوا وتخلصوا من عذاب الله: ﴿إنهم﴾ بكسر الهمزة وقرئ بفتحها: ﴿لا يعجزون﴾
القصة وما الداعي لتكرارها وترديدها مثلًا: ﴿فأما الذين آمنوا﴾ بمعنى كانوا مؤمنين بأن هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿فزادتهم إيمانًا﴾ فإن التدبر في آيات الله من شأنه أن ينير القلب ويحلو البصيرة ويعلم الناس ما لم يكونوا يعلمونه من الأسرار والحكم الإلهية: ﴿وهم يستبشرون﴾ برضاء الله عنهم ورعايته لهم وإلا لما هداهم إلى ما هداهم إليه من فهم لكلام الله والاتعاظ به: ﴿وأما الذين في قلوبهم مرض﴾ أي شك وارتياب أدى بهم إلى النفاق: ﴿فزادتهم رجسًا إلى رجسهم﴾ أي كفرًا إلى كفرهم فقد كانوا مكذبين بأساس الوحي بالآيات من حيث هي فلما أنزلت ولم يتبينوا المراد منها طعنوا فيها وجحدوا علاقتها بهداية الناس إلى السبيل السوي وكان ذلك سببًا في زيادة الشك في قلوبهم أنها من عند الله وصدق فيهم قول الشاعر:
@وكم من عائب قولًا صحيحًا
#وآفته من الفهم السقيم
﴿وماتوا وهم كافرون﴾ وفق دستور الله الذي جعل التدبر في آيات القرآن سبيل الإيمان وما داموا قد أعرضوا عنه فضلًا عن عدم تدبرهم له فالمصير المحتم هو أن يموتوا على الكفر: ﴿أولا يرون﴾ هم وقرئ «أولا ترون» أنتم أيها المؤمنون الذين يروعهم كيف يحكم الله بموتهم على الكفر قبل أن ينظروا إلى أعمالهم التي تؤدي إلى ذلك وهي: ﴿أنهم﴾ أي أولئك الذين في قلوبهم مرض: ﴿يفتنون﴾ أي يختبر الله إيمانهم: ﴿في كل عام مرة أو مرتين﴾ بمختلف الدلائل على صدق رسوله فيما أخبر به من نصر الله له ولمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذر به وبما أنبأ به من أخبار المنافقين ووصفه لدخيلة أمرهم: ﴿ثم لا يتوبون﴾ إلى الله من نفاقهم: ﴿ولا هم يذكرون﴾ أي لا يتعظون بالحوادث فيخافون من حلول نقمة الله عليهم الذي أخبر رسوله بما كانوا يسرون وما كانوا يعلنون وقد بلغ بهم الحد من عدم المبالاة بأوامر الله وعدم الخوف منه إنهم أصبحوا لا يحسبون له في نظرهم ما يحسبونه لغيرهم من المخلوقين: ﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ ضاقوا بها ذرعًا وودوا أن لا يشقوا على أنفسهم بسماعها فيحاولون التسلل من مجلس الرسول ومن المجلس الذي يتلى فيه القرآن و ﴿نظر بعضهم إلى بعض﴾ نظرة تعبر عن تأففهم ورغبتهم في الانسحاب وإنما يخافون اعتراض الناس عليهم: ﴿هل يراكم من أحد﴾ من الناس إذا انصرفنا بمعنى يترقبون انحناء رؤوس المؤمنين الصادقين من الخشوع أثناء التلاوة ليتسللوا من بينهم: ﴿ثم﴾ إنه متى
قلوب النشئ حب الدنيا والعمل لنيل أكبر قسط من متعها وصرفوا الكثير منا عن الدين والعمل للآخرة وتابعتهم الحكومات الإسلامية فأقرت برامجهم في مدارسها وأهملت أمر العقائد كليًا ولم يعيروا التربية الدينية أي اهتمام إذ فوضت أمر تدريس الدين في بعض مدارسها إلى المسيحيين وتركت الخيار للطلبة في إقامة الصلاة مع أنها هي عماد الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، ونحن نرى الكثير من الأساتذة الذين هم قدوة الطلبة لا يصلون ولا يصومون بل ربما يهزءون بالدين والمتدينين ويطعنون في الإسلام ونبيه ﷺ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد أن دحض الله مزاعم القائلين بأن القرآن من مفتريات الرسول ودعاهم إلى الاعتراف بأنه قد أنزل بعلمه وأن لا إله إلا هو وخيرهم بين الإسلام وعدمه وحذرهم نتيجة الكفر به أخذ يبين ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من التمسك به فقال: ﴿أفمن كان على بينة من ربه﴾ أي من آمن بوجود الله ووحدانيته عن قناعة وحدانية وأدلة عقلية وهذا كقوله: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه﴾. ﴿ويتلوه شاهد﴾ يؤكد له ذلك الإيمان: ﴿منه﴾ أي من ربه وهو القرآن الذي نزل به الوحي وجعله الله سبيل الهدى للعالمين: ﴿ومن قبله﴾ أي من قبل هذا الشاهد: ﴿كتاب موسى﴾ الذي أنزل: ﴿إمامًا﴾ أي متبعًا في الهدى والتشريع: ﴿ورحمة﴾ لمن آمن وعمل به من بني إسرائيل أي أفمن كان هذا شأنه في كمال الفطرة والعقل والاهتداء بالوحي العام المؤيد للوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها لا يستوون: ﴿أولئك﴾ أي الموصوفون بما ذكر من الجمع بين القناعة الوجدانية وما جاء به الوحي من الأمور الاعتقادية والأعمال الكسبية: ﴿يؤمنون به﴾ أي بهذا القرآن إيمان يقين بأنه من عند الله يحملهم على العمل وفق تعاليمه: ﴿ومن يكفر به﴾ أي بالقرآن: ﴿من الأحزاب﴾ أي أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس: ﴿فالنار موعده﴾ أي فنار جهنم هي الدار التي ينتهون إليها وفق وعده السابق بقوله: ﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار﴾.
﴿فلا تك﴾ أيها العاقل: ﴿في مرية﴾ أي شك: ﴿منه﴾ أي من صحة كل ما جاء به القرآن من أحكام ووعد ووعيد،: ﴿إنه الحق﴾ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿من ربك﴾ الذي تعهد بترتيبك بما يكمل به فطرتك وما يوصلك إلى منتهى السعادة في الدارين: {ولكن
وهو من الأفعال التي يخلقها الإنسان وفق سنن الله وهي من قدر الله داخلة ضمن مشيئته وسيؤاخذ الله الناس عليها بعد أن نبههم إلى ما يضر وما ينفع، ورزقهم من العقل ما يميزون به الخير من الشر والصالح من الضار فيكون إخراج يوسف من السجن لا شك أنه من فعل الله الذي وهبه القدرة على تعبير الرؤيا التي كانت سببًا في عطف الملك عليه واختياره لذلك المركز السامي وخروجه من السجن هو بلا شك من فعل يوسف لكن بما وهبه الله من الجوارح والسيطرة عليها فهو في الواقع ونفس الأمر لم يكن إلا مستندًا ومستخدمًا لقوة الروح التي هي من قضاء الله وبهذا يكون الإحراج والخروج في ذاته من فعل يوسف وخلقه وإن كان قائمًا على أساس ما قضاه الله له من الحياة وما قدره لذلك من الأسباب لا كما كان يتصوره العلماء من أن الله خلق أفعال العباد كلها من الأزل من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءهم عليها.
وأن أعمال العباد تجري تنفيذًا لما سبق في علمه تعالى. إذ العلم معناه الإحاطة وليس هو أداة تنفيذ كالأمر والله سبحانه وتعالى عندما قضى بخلق العباد وقدر الأقدار ترك لهم الخيار الكامل في جميع تصرفاتهم وعلم بما سيكون منهم وسجل ذلك عنده في أم الكتاب لإثبات كمال العلم حيث قال: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ وهذا لا يعني قطعًا أنه تعالى سجل ذلك عنده ليحمل الناس على تنفيذ مقتضاه لأن هذا يعد جبرًا والجبر مناف للخيار وإنما هو لإثبات كمال علمه تعالى بشؤون خلقه والدليل على هذا أن الله سبحانه إذ خلق الملائكة وشاء لهم من الأزل أن يسبحوا بحمده ويقدسوه ولا يعصوه فيما يؤمرون لم يستطيعوا إلا أن يكونوا كما شاء ولو شاء الجن والإنس مثلهم مسخرين للعبادة لكانوا كذلك ولكنه تعالى شاء لها الحرية في النية والقول والعمل وقال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ أي ليدعونني بما يعن لهما على مر الأزمان من مختلف المطالب المتجددة والمحدثة فأحققها لهم برًّا بوعدي القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ فإجابة الدعاء موقوفة على صدوره من الداعي وتحقيق الآمال مرتبط بما سنه تعالى لذلك من أعمال العباد أنفسهم وهذه متوقفة على وجود قوة تجعلها صالحة للعمل وهي قوة الروح التي هي من أمر الله فإثباتنا للإنسان المشيئة أو خلق أعمال نفسه ليس أمرًا مشكلًا كما بدا للمتقدمين من العلماء والمفسرين لأنه لا يعني بحال من الأحوال أن للعبد مشيئة أو قوة ذاتية على العمل خارجة عن مشيئة الله وقوته بل هي
وسلم «والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فيقول الله يا ابن آدم ماذا غرك مني؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟» وفي حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «يا معاذ إن المرء ليسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه»: ﴿فاصدع بما تؤمر﴾ صدع بالحق إذا جهر به أي بلغ للناس ما أوحي به إليك من السبع المثاني والقرآن العظيم: ﴿وأعرض عن المشركين﴾ أي لا تكترث بما يقولون ولا تتصدى للانتقام منهم: ﴿إنا كفيناك المستهزئين﴾ من أشراف قريش الذين كانوا يبالغون في إيذائك قيل هم خمسة الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن عبد غوث والأسود بن المطلب نزل جبريل وقال لرسول الله ﷺ أمرت أن أكفيكم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق ثوبه سهم فلم ينعطف لأخذه تعاظمًا فأصاب عرقًا في عقبه فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال لدغت لدغت وانفتحت رجله حتى صارت كالرحا ومات وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحًا فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات: ﴿الذين يجعلون مع الله إلها آخر﴾ أي الذين لم يقتصروا على مجرد الاستهزاء بك بل جرؤوا على ارتكاب جريمة الشرك بالله: ﴿فسوف يعلمون﴾ عاقبة ذلك: ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ أي ونحن على يقين بأنك كبشر لا بد أن تشعر في نفسك بضيق في الصدر عند سماعك لشيء من أقوالهم فمتى وجدت هذا فعليك بثلاث أشياء من شأنها أن تزيل ضيق الصدر الأولى قوله: ﴿فسبح بحمد ربك﴾ أي أكثر من حمد الله وتعداد فضائله عليك فإن الإنسان إذا ذكر نعم الله السابقة عليه وقاس عليها ما سيأتي استبشر واطمأن وزال ما به من هم وغم. الشيء الثاني قوله: ﴿وكن من الساجدين﴾ أي الخاضعين لأوامر الله فلا تتبرم لما يصيبك من الأذى باعتباره سنة من سنن الله التي لا بد أن يتعرض لها الإنسان في هذه الحياة وخصوصًا منهم كل من يأتي للناس بما لا يألفون أو ما فيه كبحًا لشهواتهم الشيء الثالث قوله: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ أي ادع الله بنصر الإسلام أو تفريج كربك من صميم قلبك وأنت موقن بالإجابة حتى يأتيك اليقين بتحقيق أمانيك فالله جلت قدرته قد أخذ على
القصة وما الداعي لتكرارها وترديدها مثلًا: ﴿فأما الذين آمنوا﴾ بمعنى كانوا مؤمنين بأن هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿فزادتهم إيمانًا﴾ فإن التدبر في آيات الله من شأنه أن ينير القلب ويحلو البصيرة ويعلم الناس ما لم يكونوا يعلمونه من الأسرار والحكم الإلهية: ﴿وهم يستبشرون﴾ برضاء الله عنهم ورعايته لهم وإلا لما هداهم إلى ما هداهم إليه من فهم لكلام الله والاتعاظ به: ﴿وأما الذين في قلوبهم مرض﴾ أي شك وارتياب أدى بهم إلى النفاق: ﴿فزادتهم رجسًا إلى رجسهم﴾ أي كفرًا إلى كفرهم فقد كانوا مكذبين بأساس الوحي بالآيات من حيث هي فلما أنزلت ولم يتبينوا المراد منها طعنوا فيها وجحدوا علاقتها بهداية الناس إلى السبيل السوي وكان ذلك سببًا في زيادة الشك في قلوبهم أنها من عند الله وصدق فيهم قول الشاعر:
@وكم من عائب قولًا صحيحًا
#وآفته من الفهم السقيم
﴿وماتوا وهم كافرون﴾ وفق دستور الله الذي جعل التدبر في آيات القرآن سبيل الإيمان وما داموا قد أعرضوا عنه فضلًا عن عدم تدبرهم له فالمصير المحتم هو أن يموتوا على الكفر: ﴿أولا يرون﴾ هم وقرئ «أولا ترون» أنتم أيها المؤمنون الذين يروعهم كيف يحكم الله بموتهم على الكفر قبل أن ينظروا إلى أعمالهم التي تؤدي إلى ذلك وهي: ﴿أنهم﴾ أي أولئك الذين في قلوبهم مرض: ﴿يفتنون﴾ أي يختبر الله إيمانهم: ﴿في كل عام مرة أو مرتين﴾ بمختلف الدلائل على صدق رسوله فيما أخبر به من نصر الله له ولمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذر به وبما أنبأ به من أخبار المنافقين ووصفه لدخيلة أمرهم: ﴿ثم لا يتوبون﴾ إلى الله من نفاقهم: ﴿ولا هم يذكرون﴾ أي لا يتعظون بالحوادث فيخافون من حلول نقمة الله عليهم الذي أخبر رسوله بما كانوا يسرون وما كانوا يعلنون وقد بلغ بهم الحد من عدم المبالاة بأوامر الله وعدم الخوف منه إنهم أصبحوا لا يحسبون له في نظرهم ما يحسبونه لغيرهم من المخلوقين: ﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ ضاقوا بها ذرعًا وودوا أن لا يشقوا على أنفسهم بسماعها فيحاولون التسلل من مجلس الرسول ومن المجلس الذي يتلى فيه القرآن و ﴿نظر بعضهم إلى بعض﴾ نظرة تعبر عن تأففهم ورغبتهم في الانسحاب وإنما يخافون اعتراض الناس عليهم: ﴿هل يراكم من أحد﴾ من الناس إذا انصرفنا بمعنى يترقبون انحناء رؤوس المؤمنين الصادقين من الخشوع أثناء التلاوة ليتسللوا من بينهم: ﴿ثم﴾ إنه متى
وهم التابعون فقد وصفهم الله بقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد المهاجرين والأنصار في الدرجة والإحسان بمعنى لم يهاجروا ولم يساهموا في إيواء المهاجرين ولكنهم: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ أي من يعترف بذنبه ويؤمن بأن له ربًّا يغفر الذنب ويؤاخذ به فيتوجه إليه بالدعاء وطلب الغفران عن كل ما ارتكب من سيئات: ﴿وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ أي أنهم يشعرون بما لإخوانهم السابقين عليهم من حقوق بتوريثهم الإيمان ونقل شريعته إليهم فيسألون الله لهم الغفران وهذا أضعف الإيمان وهو يخرج من لا يعترف بفضل الصحابة وسلف هذه الأمة، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: أُمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد فسببتموهم وقد سمعت نبيكم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها».
﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ الغل الحقد والغش أي طهر قلوبنا من كل نية سوء لكل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ﴾ بعبادك لا تعاملهم بما يستحقون: ﴿رَّحِيمٌ﴾ تتجاوز عن الذنوب وتبذل الفضل من غير حساب.
وبعد أن أحبط الله مكائد بني النضير وما كانوا يبثونه من فساد في صفوف المسلمين بما قضى به من حكم قطع النخيل وتقسيم أموال الفيء أخذ جل شأنه يعرض بجماعة من الأنصار على رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد كانوا من المحرضين لهم على مناوأة الرسول ومحاربة الدعوة الإسلامية سرًّا وحضهم على الثبات في حصونهم أثناء الحصار حتى لقد أكدوا لهم استعدادهم الكامل لمناصرتهم والوقوف صفًّا واحدًا إلى جانبهم والدفاع عنهم الأمر الذي من شأنه أن يوقع الفتنة في صفوف أنصاره ويدخل الخوف في قلوبهم ويجعلهم يظنون أنه ليس في الإمكان إخراجهم من تلك الحصون التي احتموا بها لولا أن أخرجهم الله منها وأراد سبحانه وتعالى أن يثبت الإيمان في قلوب المؤمنين فقال: ﴿أَلَمْ تَر﴾ أيها الرسول والخطاب موجه إلى كل من كان معه من المؤمنين الذين ظنوا أن بني النضير بما لديهم من قوة في داخل حصونهم وأنصار خارجها لن يخرجوا: ﴿إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي ستروا الكفر وأظهروا الإسلام كيف تجلي نفاقهم إذ: ﴿يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمعنى إخوانهم في الكفر بالله وعداوة الرسول: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي من اليهود من بني النضير: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ أي لا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم في الداخل ونحن سندافع عنكم من الخارج ولا نسلم إلا إذا سلمتم
كيدي} الكيد ضرب من الاحتيال في السر وهو مذموم إذا كان بقصد الشر وممدوح إذا أريد به الوقاية منه وكيد الله هو إمهاله للعصاة وإغداق النعم عليهم لا يعد سوأ لأنه لا يؤدي إلى تماديهم في الضلال بل إنما ذلك يدعو إلى يقظتهم وحذرهم خصوصًا وقد أنذرهم الله بما وراء ذلك من نتائج في قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾ – وقوله في سورة المؤمنون –: ﴿أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون﴾ – وقد وصف الله سبحانه كيده بقوله: ﴿متين﴾ أي قوي شديد محكم لا يفطن له إلا من كان على نور من هدى ربه مصدقًا بآياته، ولأجل أن يقنع الله رسوله بمبلغ عناد القوم وإصرارهم على الكفر عاد فدعاه إلى التفكير في الأسباب التي تحملهم على التكذيب به فقال: ﴿أم تسألهم أجرًا﴾ أي هل كنت تطلب منهم على دعوتك لهم إلى الحق أجرًا دنيويًّا: ﴿فهم من مغرم مثقلون﴾ أي حتى يمكن أن يعلل رفضهم لدعوتك بأنه يثقل عليهم ذلك الأجر الذي تطالبهم به كلا بل إنك إنما تدعوهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة من غير أن تريد منهم جزاء ولا شكورًا فكان من واجبهم تقبل دعوتك: ﴿أم عندهم الغيب﴾ أي هل يستطيعون أن يزعموا لأنفسهم العلم بالمغيبات: ﴿فهم يكتبون﴾ ما في علم الله عنهم فلا يحتاجون إلى الإيمان بالله والعمل لمرضاته أو الاهتداء بهديه وهذا أيضًا ما لا يمكن أن يزعموه لأنفسهم بدليل أنهم يستقسمون بالأزلام ويطلبون لأنفسهم الرحمة من آلهتهم المزعومة، وما دام الأمر لا هذا ولا ذاك: ﴿فاصبر لحكم ربك﴾ الذي قضى به في حقهم من الإمهال والاستدراج وتأخر نصرتك عليهم ولا نحاول الخلاص منهم وترك دعوتهم أو استعجال عذابهم: ﴿ولا تكن﴾ سريع الغضب ضيق الصدر: ﴿كصاحب الحوت﴾ وهو يونس بن متّى الذي اشتد في دعوة قومه إلى الإيمان وهددهم بالخراب والدمار وسوء العذاب فلما يئس منهم غضب عليهم وهجرهم وتوقف عن دعوتهم وركب البحر ليذهب بعيدًا عنهم بدون إذن من الله الذي عهد إليه بالرسالة إليهم فهبت الريح وعنفت العاصفة ومالت السفينة وألقي في البحر فالتقمه الحوت وبقي في جوفه: ﴿إذ نادى﴾ ربه: ﴿وهو مكظوم﴾ أي مكروب قد أظلمت الدنيا في وجهه وأغلقت دونه أبواب النجاة: ﴿لولا أن تداركه نعمة من ربه﴾ وهي التوبة والاستغفار إثر
الحياة: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ما أعظم كفره بربه أي بسبب كفره وقد منحه الله نعمة العقل ليهتدي به إلى ربه إذا هو تأمل في حقيقة ذاته واستعرض ماضيه وفكر في مستقبله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ هل خلق من تلقاء نفسه أم خلق من شيء مادي معروف: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ وهي حيوان منوي حقير مهين: ﴿خَلَقَهُ﴾ بدأ تكوينه: ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ أي أعطاه القدرة على مزاولة ما خلق من أجله من عمار الكون وطاعة الله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ﴾ أي الطريق الموصل إلى الخير والشر معًا: ﴿يَسَّرَهُ﴾ أي سهله بمعنى جعله ممهدًا أمامه ما عليه إلا أن يستعمل عقله ومواهبه في اختيار ما يريد لنفسه فلا يزعم أنه كان مكرهًا على ارتياد الطريق الذي يسلكه دون سواه،: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾ بعد إحصاء جميع أعماله: ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾ فأمر بإقباره ولم يجعله مما يلقى للطير والسباع بل كرمه بوضعه في قبره إلى أجل غير معلوم.
﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ﴾ الله بعثه من قبره.
﴿أَنشَرَهُ﴾ أحياه بعد موته.
﴿كَلاَّ﴾ لا يظن الإنسان أن أمره سيقف عند هذا الحد لا بل: ﴿لَمَّا يَقْضِ﴾ الله في حقه: ﴿مَا أَمَرَهُ﴾ أي قضاءه الأخير في شأنه فذاك عائد إلى ما يقدمه الإنسان من عمل في الدنيا بحسب دستوره الذي سنه وأشعر الناس به ووعدهم بالحكم بينهم في الآخرة بمقتضاه. ومن أجل هذا أخذ الله سبحانه يدعو الناس إلى التفكير في آلائه حيث قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ الذي يعيش به مما خلق أي ما هي حقيقة البذور الأولى لكل زرع وحب وأثمار ومن الذي أوجده وجعله صالحًا للأكل ليؤمن بربه فهو لا يستطيع أن يجحد: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ﴾ أي ماء المطر من السماء: ﴿صَبًّا﴾ على من نريد وفي أي وقت نحب: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا﴾ محكمًا يجعلها ترتوي وتخرج نباتها بإذن ربها: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا﴾ أنواعًا ثمانية عددها بقوله: ﴿حَبًّا﴾ وهو كل ما يحصد من الحنطة والشعير وغيرهما مما هو الغذاء الأساسي لبني الإنسان: ﴿وَعِنَبًا﴾ يصلح للغذاء والارتواء: ﴿وَقَضْبًا﴾ مما يؤكل من النبات غضًا طريًا كالقثاء وسمي قضبًا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة: ﴿وَزَيْتُونًا﴾ الثمر المعروف الذي يؤتدم به وبزيته: ﴿وَنَخْلًا﴾ يثمر البلح والتمر الذي يعتبر غذاء كاملًا حلوا مذاقه.
﴿وَحَدَائِقَ﴾ جمع حديقة وهي البساتين المسورة ذات الأشجار والأزهار: ﴿غُلْبًا﴾ جمع غلباء بالمد أي ضخمة عظيمة: ﴿وَفَاكِهَةً﴾ هي الثمار الحلوة: ﴿وَأَبًّا﴾ الأب ما أنبتت الأرض من الخضر