لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (١١٧) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ
ولقد تكلم الله من أول هذه السورة إلى ها هنا في دلائل التوحيد والنبوة وأسهب في الرد على اليهود والنصارى والمشركين، وخاطب الناس في الآية التي قبل هذه وأمتن عليهم بالإباحة ما في الأرض جميعًا لهم إلا ما حرم بنص أو كان ضارًا في نفسه مضرًّا لغيره، وحذرهم من متابعة خطى الشيطان ثم بدأ يوجه خطابه للمؤمنين خاصة مبينًا لهم الحلال والحرام فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله ورسالة نبيه ﷺ ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ أي تمتعوا بكل ما أنعم الله به عليكم في هذه الحياة الدنيا، ولا تحرموا على أنفسكم شيئًا لم يحرمه الله عليكم من سائر الحيوانات والطيور إلا ما نص على تحريمه في القرآن أو أحاديث الرسول إذ يقول «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير حرام» ﴿واشكروا لله﴾ الذي أحل لكم الكثير مما كان محرمًا على غيركم من الأمم السابقة ﴿إن كنتم إياه تعبدون﴾ أي تخصونه بالعبادة وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير، ولا تعترفون بأحقية غيره في التحليل والتحريم، وإلا كنتم مشركين كافرين بأنعمه كالذين من قبلكم جهلوا معنى العبادة فاتخذوا لهم رؤساء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله كالبحيرة والسائبة وكالصوم عن كل ذي روح ﴿إنما حرم﴾ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول.
﴿عليكم﴾ أي أنه سبحانه لم يحرم عليكم من الحيوان غير ﴿الميتة﴾ لما يخشى من ضررها لأنها إما أن تكون قد ماتت لمرض سابق أو بعلة عارضة وكلاهما لا يؤمن ضرره ﴿والدم﴾ المسفوح لأنه قذر وضار كالميتة ﴿ولحم الخنزير﴾ لأنه ضار لا سيما في البلاد الحارة ﴿وما أهل﴾ أي سمي عليه عند الذبح ﴿لغير الله به﴾ وهو ما ذبح لأجل الأصنام والجن وغيرها لأنه يعد قربة لهم ودليلًا على اعتقاد النفع منهم، وهذا ينافي التوحيد وهو من أعمال الوثنية، وقد قال ﷺ «لعن الله من ذبح لغير الله» ﴿فمن﴾ بكسر النون وقرئ بضمها ﴿اضطر﴾ إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد رمقه سواه ﴿غير باغ﴾ أي غير طالب له أو راغب فيه لذاته ولا قاصد به العصيان ﴿ولا عاد﴾ ولم يتجاوز قدر الضرورة ﴿فلا إثم عليه﴾ في الأكل لأن التعرض للموت بالجوع أكثر تحققًا من الموت بأكل الميتة، ولأن الأكل في حال الاضطرار لا يدل على تعمد المعصية وإجازة عمل الوثنية
تحط به خبرًا. قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا. قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا» فقد أخبر الخضر موسى بأن هذه المعرفة لا تنال بسهولة بل لا بد لنيلها من استمرار في التعليم مع صبر وجلد على انتظار ما سيوضحه المعلم من البيانات متى تأهل الطالب لمعرفتها فلما أصر على طلب التعليم برهن له على أنه كبشر لا يستطيع التسليم وعدم الاعتراض على ما يبدو غريبًا أو مخالفًا لما يرضي الله في الظاهر إلا بعد جهد وعناء، ثم شرح له ما علمه الله من حقيقة ما لم يستطع عليه صبرًا ليمرنه على التسليم ويحثه على التأمل والمراقبة للحكم الإلهية الحقيقية من وراء هذه المظاهر الخارجية، فلا غرو إذا ما نال من أوتي الحكمة خيرًا كثيرًا في الدنيا بطمأنينة نفسه وطيب عيشه وفي الآخرة برضوان ربه وسكني جنانه (وما يذكر) أي يفطن لهذه الحقيقة وهي أن نيل الحكمة في كل شيء لا بد له من رغبة صادقة وعمل مستمر وصبر على ما هو فوق مستوى العقل البشري (إلا أولوا الألباب) الذين ينشدون الحقائق بعين مجردة من الغرض والهوى، أما غيرهم من قاصري النظر فإنهم يتصورون أن حصول العلم عند الإنسان كاف لبلوغه درجة الكمال الحقيقي والحكمة البالغة والاهتداء لأقوم السبل، فلا يعبئون بأداء واجب العبادات ولا يثابرون في طلب الحكمة إلى النهاية والحقيقة غير ذلك فالله لا يهب الحكمة إلا لمن يطلبها منه ويعمل لنيلها بكل ثبات وجلد.
بعد أن حذر الله المؤمنين من وساوس الشيطان التي يجب أن لا يؤبه بها أمام وعود الله المتكررة بمضاعفة ثواب المنفقين في الدنيا والآخرة، أخذ يؤكد لهم سبحانه وتعالى أنه لن يخفى عليه شيء من أمر تلك النفقات حتى يمكن أن يضيع عليهم ثوابها فقال (وما أنفقتم من نفقة) قليلة أو كثيرة سرًا أو علنًا خالصة أو رئاء الناس أو متبوعة بمن أو أذى (أو نذرتم من نذر) ابتغاء مرضاة الله أو تقربًا إلى سواه (فإن الله يعلمه) فيجزي ما كان خالصًا لوجهه بخير الجزاء (وما للظالمين) أنفسهم بعدم تزكيتها وتطهيرها من البخل أو من رذائل الرياء والمن والأذى والشرك، وظلم الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم، وظلم الناس بترك الإنفاق في المصالح العامة (من أنصار) يدفعون عنهم في الدنيا ما قضت به سنة الله في حق أمثالهم من التدهور والإنحطاط، وفي الآخرة من العذاب الأليم.
جميع الكائنات فلا تخافون غيره ولا تأخذكم في دينه لومة لائم، فهنيئًا لكم بما صنعتم ونعم عقبى الدار.
ثم أعاد سبحانه وتعالى الخطاب للمؤمنين تتمة للآيات السابقة فقال ﴿ولو آمن أهل الكتاب﴾ مثل إيمان من ذكر فجهروا بالحق الذي يعلمونه من كتبهم بصدق رسالة هذا النبي الكريم محمد بن عبد الله وعملوا على تأييده واتبعوا أحكامه ﴿لكان خيرا لهم﴾ ونالوا ما ناله أولئك الذين ابيضت وجوههم من النعيم والتكريم ﴿منهم﴾ من أهل الكتاب، ويراد بهم اليهود ﴿المؤمنون﴾ حقًا ولكنهم من القلة والضعف بحيث لم يستطيعوا الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلكم أنتم الذين هاجرتم مع الرسول وآويتموه ونصرتموه في حال ضعفه حيث لا محل للملق والنفاق ﴿وأكثرهم الفاسقون﴾ الذين انصرفوا عن الدين إلى ملاذ النفس وغواية الشيطان وخالفوا في ذلك ما لديهم من الكتب المنزلة، وهؤلاء الذين لا دين لهم ﴿لن يضروكم﴾ في دينكم ولن يزعزعوا من إيمانكم ما دمتم متمسكين به ﴿إلا أذى﴾ باللسان كإلقاء الشبه في الإسلام والتعريض به والحط من قيمته وطمس مبادئه أو إظهار كلمة الكفر كقولهم: الله ثالث ثلاثة، وعزير ابن الله، فكل هذا قد يسيء المسلم الصادق ولكنه لا يغير شيئًا من إيمانه، ﴿وإن يقاتلوكم﴾ وإن يعمدوا إلى حربكم لكسر شوكة الإسلام وإطفاء نوره واستئصال جذور المسلمين فلن يفلحوا في ذلك بل إنهم في النتيجة ﴿يولوكم الأدبار﴾ خائبين مهزومين كما تجلى ذلك أثناء حربهم مع مصر باشتراكهم مع إنجلترا وفرنسا أخيرًا في بورسعيد. ﴿ثم﴾ هم ﴿لا ينصرون﴾ عليكم في حالة السلم لأسباب ثلاثة: السبب الأول لأنهم قد ﴿ضربت عليهم﴾ من الله الذي جعل العزة له جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين ﴿الذلة﴾ المهانة فلن يظفروا بالحكم والسيطرة ﴿أين ما ثقفوا﴾ في أي زمان ومكان وجدوا ﴿إلا﴾ بإحدى حالتين لا ثالث لهما، إحداهما ﴿بحبل من الله﴾ وهو الإسلام أي إلا أن يسلموا فيتحرروا من الذلة ﴿و﴾ الحالة الثانية ﴿حبل من الناس﴾ وهو العهد أو التأمين: أي إلا أن يمكنهم الناس من ذلك إما بواسطة ما يعقدونه معهم من المعاهدات ويسنونه من الأنظمة والقوانين التي تسوي بينهم في الحقوق وتجعل لهم شيئًا من الامتيازات وإما بتنازل المسلمين لهم عن تلك العزة التي كتبها الله لهم بترك واجب الجهاد الذي فرضه الله عليهم والإخلال بواجبات دينهم وهذا ما حصل وأدى إلى استيطان اليهود في فلسطين العربية ولولاه
الجنابة قبل الصلاة لأنها من سنن الفطرة ولذا فرق بينها في التعبير، ولما كان دخول المسجد من مقدمات الصلاة استثنى الله المار بالمسجد بغير قصد الصلاة فقال: ﴿إلا عابري سبيل﴾ لأن عبورهم لم يكن بقصد أداء الصلاة ﴿حتى تغتسلوا﴾ بالماء إذ الغسل من الجنابة شرط لصحة الصلاة ولما كان الغسل بالماء قد يتعذر وينتهي وقت الصلاة المفروضة والشارع الحكيم لا يسمح بتركها فقد رخص الله للمؤمنين باستعمال التراب بدلًا عن الماء في أربع حالات أحدها: ما يضر فيها استعمال الماء وأشار إليها بقوله: ﴿وإن كنتم مرضى﴾ مرضًا يقرر أهل الخبرة أنه يؤدي إلى إلحاق ضرر بكم. والثانية: ما يتعذر معها البحث عن الماء وقد أشار إليها تعالى بقوله: ﴿أو على سفر﴾ لما في الوضوء في هذه الحالة من المشقة التي خول الله له بسببها القصر والجمع في الصلاة والإفطار في شهر رمضان فترك الغسل والوضوء من باب أولى ففي هاتين الحالتين يرخص للمؤمن ـ التيمم ـ بالتراب بدلًا عن الماء. والحالة الثالثة: هي قيام حدث أصغر وهو خروج شيء من أحد السبيلين مما يوجب عليكم الوضوء للصلاة وقد كنى عنه تعالى بقوله ﴿أو جاء أحد منكم الغائط﴾ أي: المكان المنخفض لأجل الستر عن الأبصار. والحالة الرابعة: هي قيام حدث أكبر والمراد به الجنابة وكنى عنها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أو لامستم﴾ وقرئ «لمستم» ﴿النساء﴾ أي جامعتموهن ـ لقول ابن عباس إن الله حي كريم يصف ويكني عبر عن المباشرة بالملامسة ـ وحملها الشافعي على المس باليد ورتب عليه نقض الوضوء بمس المرأة مع أن في السنة ما ينفي ذلك إذ ثبت عن عائشة رضي الله عنها من طرق مختلفة بأن النبي ﷺ كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ وأنه كان يقبل بعض نسائه وهو صائم وأنها طلبت النبي ﷺ ليلة قالت فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول: «أعوذ بعفوك من عقوبتك
الْخَاسِرِينَ (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (١٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٦) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ
﴿و﴾ النعمة الثانية ﴿إذ علمتك الكتاب﴾ أي يسرت لك سبيل تعلم الكتابة والقراءة ﴿والحكمة﴾ أي حقائق الأمور بما كنت تجادل به قومك من الدلائل القائمة على وحدانية الله ﴿والتوراة﴾ التي أنزلت على موسى ﴿والإنجيل﴾ الذي أنزل عليك، وقد اشتملت جميعها على ما أصدرناه من الأحكام التي ترضينا ونكلف بها عبادنا فما بال قومك لم يعملوا بها.
﴿و﴾ النعمة الثالثة: ﴿إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني﴾ ولولا إذني لك بذلك لم تجرؤ على مضاهاة خلقي ﴿فتنفخ فيها﴾ أي في تلك الهيئة أو صورة الطير ﴿فتكون طيرًا﴾ وقرئ فتكون «طائرًا» بمعنى تدب فيها الروح وأنت لا تملك هذا من تلقاء نفسك بل إنه لم يكن إلا ﴿بإذني﴾ إذ جعلت نفسك سببًا في حلول الحياة في تلك الصورة ونفخت فيها فقط وإذني لك هذا هو الذي أحال الطين إلى لحم وعظم وهو الذي أوجد فيه الحياة بدليل أنك لا تستطيع أن تخلق غير الطير المأذون لك بخلقه وهذا يبطل ما ينسبه لك أتباعك من القدرة العامة ﴿وتبرئ﴾ أي تشفي ﴿الأكمه﴾ وهو من ولد أعمى أو عمي بعد ولادته ﴿والأبرص﴾ البرص: مرض يحدث في الجسم بياضًا لا يزول ﴿بإذني﴾ فهذان مرضان لم أجعل لهما علاجًا والشفاء منهما هو من اختصاصي وحدي وقد أذنتك بأن تأمر لمن تريد له البرء من المرضى بالشفاء فيشفى.
﴿و﴾ النعمة الرابعة: ﴿إذ تخرج الموتى﴾ من قبورهم بعد أن يثبت موتهم ﴿بإذني﴾ أي بما منحته لك من إذن خاص. وقد ورد في الفصل الحادي عشر من إنجيل يوحنا أن المسيح عليه السلام كان يحب «لعاذر» فلما مات أرسلت إليه أخته تخبره بموته وتطلب حضوره ليحييه فلم يحضر، فوضعوه في مغارة، وبعد أربعة أيام جاء السيد المسيح ورفع عينيه إلى فوق وقال: «أيها الرب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف ليؤمنوا أنك أرسلتني» ثم صرخ بصوت عظيم مخاطبًا لعاذر «هلم خارجًا» فخرج الميت. ولم يرد في سائر الأناجيل أنه أخرج ميتًا من قبره غير «لعاذر» وقد جاء في كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرًا من العمي والبرص وأحيا ثلاثة أموات فقط. فما كان لقومه أن يؤلهوه من أجل هذه المعجزات التي لم تكن بقدرته الشخصية وإلا لاستطاع أن يمنع الموت عن نفسه.
﴿و﴾ النعمة الخامسة: ﴿إذ كففت بني إسرائيل عنك﴾ فلم أمكنهم من قتلك وصلبك ﴿إذ جئتهم بالبينات﴾ أي عندما أقمت لهم البراهين القوية على وحدانية الله {فقال الذين كفروا
حصرتها الأحاديث في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وكذا الذرة من حديث مرفوع وقاسوا عليها ما كان من القوت يدخر كالأرز مثلًا وسياق الآية يدل على أن المراد به مطلق الصدقة فالله سبحانه الذي منّ على عباده بأنه أنشأ لهم ما ذكر من الأنواع وأمر بالأكل منها أمرهم أن يؤدوا حق الله فيها يوم قطعها باقتطاع جانب منها للفقراء حسبما تسمح به نفوسهم مما زاد على حاجتهم ولذا قال بعد ذلك ﴿ولا تسرفوا﴾ أي في العطاء وهذا كما نهى رسول الله ﷺ من أراد أن يتصدق بماله كله فقال: «لا الثلث والثلث كثير» ﴿إنه لا يحب المسرفين﴾ أي حتى في الصدقة فإن النفقة على من يعول الإنسان أوجب من الإحسان للآخرين عن ابن جريج قال نزلت هذه الآية في ثابت بن شماس جد نخلًا فقال لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة ﴿ومن الأنعام حمولة وفرشًا﴾ أي أنشأ لكم منها خلقًا تستخدمونه لحمل الأثقال وتجعلون من صوفه ووبره وشعره فرشًا تجلسون عليها وتنامون ﴿كلوا مما رزقكم الله﴾ من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا منها بسائر الانتفاع ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ بتحريم شيء منها على أنفسكم لم يحرمه المنشئ والمالك لها ﴿إنه﴾ أي الشيطان الذي يحرم عليكم رزق الله ﴿لكم عدو مبين﴾ ولا أدل على عدوانه لكم من أن يبلغكم عن ربكم الكثير من مفترياته ليحرمكم من طيبات الرزق المباح ويأمركم بما يضركم ولا ينفعكم ولكي تتأكدوا من افترائه فاعلموا أنه تعالى قد خلق لكم من الأنعام ﴿ثمانية أزواج﴾ فقط لا أكثر ولا أقل ﴿من الضأن اثنين﴾ هما الكبش والنعجة ﴿ومن المعز﴾ بسكون العين وقرئ بفتحها ﴿اثنين﴾ هما التيس والعنز ﴿قل﴾ أيها الرسول إن ربي الذي خلق الخلق بنظام دقيق لا يصدر في أحكامه إلا وفق قواعد عامة يمكن تطبيقها فأخبروني ﴿آلذكرين حرم﴾ أي هل حرم الله أكل الذكر من كل واحد من الزوجين ﴿أم الأنثيين﴾ فقط ﴿أم اشتملت عليه أرحام الأنثيين﴾ أي أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت ذكورًا أم كانت إناثًا ﴿نبئوني بعلم﴾ يؤثر عن أحد رسل الله أو يستند إلى قاعدة يؤمن العقل بأن الله الحكيم هو الذي شرع تحريمها وإلا كان تخصيصكم ما حرمتم دون أمثاله جهل محض وافتراء وكذب على الله ﴿إن كنتم صادقين﴾ في دعواكم التمسك بأوامر الله فقد كانوا عند تقليد آبائهم يعتقدون أنهم على حق وأنهم إنما كانوا يأتمرون بأوامر الله كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أم تقولون على الله ما لا تعلمون﴾. ﴿ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين﴾ أي أنه أنشأ وخلق لكم من
الله بقلوبهم تائبين مستغفرين راجين كشف الشر عنهم كأنهم لا يؤمنون أو كأنهم لم يقرؤوا هذه الآيات التي تدل على أن هذا نذير بسخط الله، حتى قال بعضهم بمناسبة بناء السد العالي بمصر «لسنا بعد اليوم بحاجة إلى رحمة السماء» وفاتهم أن الصلة بالله تمنع الوباء قبل وقوعه، واتقاؤه بالأسباب المادية قد يفيد وربما لا يفيد وأن الله قد حطم خرافة التشاؤم بقوله: ﴿ألا إنما طائرهم عند الله﴾ أي أن الأمر الذي تطيرتم منه ونسبتموه إلى موسى لم يكن في الواقع إلا من عند الله الذي وضع لهذا الكون سننًا تكون فيها المسببات على قدر الأسباب والجزاء من جنس العمل وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل الله البلاء على قدر الظلم والفساد ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ هذه الحقائق وما ذلك إلا نتيجة عدم تدبرهم لآيات الله وما حوته من قصص فيها العبرة لكل عاقل. وإلا فما هي المصلحة من ذكرها في القرآن الكريم وترديدها عدة مرات. ومن أجل هذا ظل موسى ينبه آل فرعون إلى مواضع زللهم ويدعوهم للإيمان ويرجو أن يؤوبوا إلى رشدهم وهم لا يزدادون إلا عتوًا ونفورًا حتى إذ بلغ بهم الأمر حدًّا لا أمل بعده في هدايتهم إذ صارحوا موسى بما تكنه ضمائرهم ﴿وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين﴾ أي ********** من فعل الله وأنها من دواعي الإيمان به، واعتبروا دعوته من باب السحر والدجل وأعلنوا رفضهم الإيمان به نهائيًا فجاءهم الله بأنواع أخرى من العذاب لعلهم يذكرون حيث قال: ﴿فأرسلنا عليهم الطوفان﴾ أي جعلنا ماء النيل يطفو ويزداد حتى غمر الأرض بشكل غير معتاد فأوشكوا على الغرق جميعهم ثم جعلناه ينخفض من تلقاء نفسه ليؤمنوا بالله الذي يسير المياه ويجعلها تزيد وتنقص كما يشاء والذي كان في إمكانه أن يغرقهم باستمرار الطوفان ﴿والجراد﴾ أي أرسلنا عليهم جرادًا غطى جميع وجه الأرض وأتى على كل أخضر ويابس وترك الأرض كلها جرداء ثم مضى في سبيله ليشعرهم بأن هذا الحيوان ما هو إلا جند من جنود الله التي يسلطها على العصاة متى أراد دون أن يعلموا متى خلق ومن أين أتى ولماذا لا يأتي دائمًا ﴿والقمّل﴾ أي أرسلنا عليهم القمل وهو الحيوان المعروف الذي يندس في جسم الإنسان من حيث لا يعلم ولا يستطيع اتقاء أذاه مهما حاول ليشعره بأن لله جنودًا تستطيع أن تفتك به وتنقل إليه مختلف الأوبئة والميكروبات في أي وقت يريد سبحانه وتعالى، وأن انتشار هذا الحيوان بين الأمة دليل على غضب الله ونقمته ﴿والضفادع﴾ وهي الحيوانات المعروفة التي تعيش دائمًا حول المياه وقد جعلها الله تكثر وتنتشر في
الله بل إنه سيجزيهم ويعاقبهم على كفرهم وخيانتهم بمختلف الوسائل سواء في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معًا وفي هذا إشارة إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على عهد أعدائه من المخالفين له في الدين وما حرمه من خيانتهم وما شرعه من استعمال الصراحة معهم وعدم الإقدام على حربهم قبل إنذارهم ليس عن ضعف وعجز بل عن قوة، وأمر من الله القدير على إبادتهم في أي وقت يريد. ثم بين الله حكم الفريق الثاني بقوله: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ أي استعدوا لرد عدوان من يحاربكم بقدر ما تستطيعون من وسائل القوة للدفاع عن أنفسكم ولا تكلفون بما هو فوق طاقتكم: ﴿ومن رباط الخيل﴾ رباط الخيل حبسها واقتناؤها والمقصود ما يصلح لمهاجمة الأعداء واقتحام صفوفهم ساعة القتال من المعدات الحربية التي تصيب العدو في مكانه وقد أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثة للدلالة على أن رمي العدو بما يقتله من بعد أسلم من مصاولته على القرب بالسيف والرمح وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمى به العدو من رصاص وقنابل ومفرقعات وما تحملها الطائرات والصواريخ وغيرها من كل ما يستعمله العدو في الحرب: ﴿ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ أي أن الاستعداد للحرب من شأنه أن يخيف الأعداء ويمنع الحرب ويهزمهم في ساحة الوغى لا أنه يضمن النصر على الأعداء فما النصر إلا من عند الله ولذلك لم يطلب سبحانه من المؤمنين ما هو فوق طاقتهم بل اكتفى منهم بالاستعداد ولو بالنذر اليسير نظرًا لما تكفل به بعد ذلك من نصر المؤمنين بوسائل أخرى هو سبحانه أدرى بها وهو على كل شيء قدير: ﴿وآخرين من دونهم﴾ أي وترهبون به أيضًا أناسًا من غير الأعداء المعروفين الذين ناصبوكم العداء علنًا ممن لم يكن صادق العهد أو المتردد بين الكفر والإيمان أو المنافق كل هؤلاء: ﴿لا تعلمونهم﴾ أي لا تعرفون ذواتهم ولا دخيلة أمرهم بل: ﴿الله يعلمهم﴾ أي يعلم بأعدائه فإنه تعالى هو المطلع على خفايا القلوب وهو القادر على أن يزيل بسبب هذه الرهبة ما يكون في قلوبهم من شر نحوكم أو نفاق فتصلح نفوسهم ويثوبون إلى رشدهم. ولما كان الاستعداد للحرب مما يحتاج إلى مال وافر قال تعالى: ﴿وما تنفقوا من شيء﴾ نقدًا كان أو غيره قليلًا كان أو كثيرًا: ﴿في سبيل الله﴾ أي في سبيل إعداد المستطاع من القوة بمختلف أنواعها وغير ذلك: ﴿يوف إليكم﴾ أي يعطكم الله جزاءه وافيًا غير منقوص: ﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أي وأنتم بهذا تقون أنفسكم من ظلم أحد لكم فالظلم عادة لا يقع إلا على الضعيف أما القوي
لاحت لهم الفرصة المناسبة: ﴿انصرفوا﴾ أفرادًا متفرقين حتى لا يشعر أحد بانصرافهم ومن أجل هذا: ﴿صرف الله قلوبهم﴾ عن صدق الإيمان والاهتداء بآيات الله: ﴿بأنهم قوم لا يفقهون﴾ أي بسبب عدم تفقههم وفهمهم لمعاني ما يسمعون من هذه الآيات نتيجة الإعراض عن سماعها وعدم التأمل في معانيها ومراميها فأنى يرجى لهم وهذه حالتهم أن يهتدوا بآيات الله مهما نزلت ومثل هؤلاء بعض الشبان في عصرنا هذا وقد تربوا في المدارس التبشيرية التي صرفتهم عن الدين وسممت أفكارهم ببعض العقائد الفاسدة والإلحادية التي جعلتهم يتضايقون من سماع القرآن فإذا ما حضروا في مجلس تتلى فيه آيات الله أو يبحث فيه أمر من أمور الدين تراهم ينظر بعضهم إلى بعض كأنما هم يتقلبون على الجمر ويتحينون الفرص للتسلل من أمثال هذه المجالس ولو كانوا في مجلس أنس وطرب لاستمروا طوال الليل والنهار من غير ملل: ﴿لقد جاءكم﴾ يا معشر البشر: ﴿رسول من أنفسكم﴾ أي إنسان مثلكم خلق من نفس واحدة هي آدم رأس السلالة البشرية لم يتكبر عليكم ولم يدع السيادة عليكم حتى تنفروا منه وتناصبه العداء: ﴿عزيز عليه ما عنتم﴾ العنت المشقة ولقاء المكروه أي أنه يثقل عليه جدًّا عنتكم ولا يرضى أن تكونوا في دنياكم أمة ضعيفة ذليلة بعنتها أعداؤها ويعملون على إذلالها وهو يريدكم سادة أعزة كما قال تعالى: ﴿العزة لله ولرسوله وللمؤمنين﴾ وهو إلى جانب هذا أيضًا: ﴿حريص عليكم﴾ حرص على الشيء عظم تمسكه به ولم يفرط فيه أي أنه يرعاكم دائمًا ويأبى أن يترككم تتخبطون في دياجير الجهل أو الكفر والإلحاد وتردون موارد الهلاك وهو فوق كل ذلك: ﴿بالمؤمنين﴾ خاصة: ﴿رؤوف﴾ أي شديد الإشفاق: ﴿رحيم﴾ أي كثير الرحمة فهم أنصاره وهو منهم وإليهم وقد أمره الله أن يكون كذلك في معاملتهم بخلاف معاملته للكفار فقد أمره أن يغلظ عليهم: ﴿فإن تولوا﴾ عن الإيمان بالله واتباع شريعته: ﴿فقل حسبي الله﴾ أي الله سندي ويكفيني أمامه أني أديت الرسالة حقها ولم أقصر في دعوتكم وتبليغ الآيات لكم: ﴿لا إله إلا هو عليه توكلت﴾ في كل أموري: ﴿وهو رب العرش﴾ الذي يدبر من فوقه كل أمور خلقه كما قال تعالى: ﴿ثم استوى على العرش يدبر الأمر﴾ وقد وردت في وصف هذا العرش ومادته عدة روايات مأخذها من الإسرائيليات فلا لزوم لذكرها وقال ابن عباس سمي العرش عرشًا لارتفاعه: ﴿العظيم﴾ بالخفض على أنه صفة للعرش وقرئ بالرفع على أنه صفة للرب الذي لا تكيف عظمته فهو مصدر جميع العظمات وقد ورد في فضل هذه الخاتمة من
أكثر الناس} برغم ما ذكر من التشديد عليهم بعدم الشك في شيء منه والعمل بمقتضاه: ﴿لا يؤمنون﴾ بهذا حق الإيمان فلا يتخذون القرآن دستورًا لهم في الحياة ويأبون الانصياع لأحكامه ويستبدلون به الأحكام الوضعية وقد نفى الله الإيمان عن أمثال هؤلاء في سورة النساء بقوله: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا﴾.
بعد أن أشار الله إلى الفارق العظيم بين من يؤمن بالقرآن على بينة ويقين وبين من يكفر به من الأحزاب، وألزم العقلاء بعدم التردد في صحة كل ما جاء به من أحكام ووعد ووعيد وقال: ﴿ولكن أكثر الناس لا يؤمنون﴾ أخذ يفصل حال كل فريق منهم في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة مبتدأ بذكر الأكثرية من الناس غير المؤمنة فقال: ﴿ومن أظلم﴾ أي ليس في الدنيا من هو أشد ظلمًا لنفسه ولغيره: ﴿ممن افترى على الله كذبًا﴾ بأن نسب إليه تعالى شيئًا لم يصدر منه من وحي وأحكام أو زعم أن له شركاء يتقرب بهم إليه: ﴿أولئك﴾ أي من يقولون بشيء من هذا: ﴿يعرضون على ربهم﴾ يوم القيامة لمحاسبتهم على ما قالوا: ﴿ويقول الأشهاد﴾ جمع شاهد أي الذين يحضرهم الله للشهادة عليهم من الملائكة الكرام الكاتبين وغيرهم ممن أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله في سورة «ق»: ﴿وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد﴾ وقوله في سورة النساء: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا﴾ وأدى كل واحد ما يحمل من شهادة مشيرين إليهم قائلين: ﴿هؤلاء الذين كذبوا على ربهم﴾ بما نسبوه إليه تعالى من أمور لا يقرهم عليها وتتنافى مع عدله وكبريائه وروجوها بين الناس فضلوا وأضلوا فيقول الله تبارك وتعالى: ﴿ألا لعنة الله على الظالمين﴾ أي سبق أن قضيت في نظام مشيئتي بحلول سخطي ونقمتي وعذابي على الظالمين وقد عرفهم الله بقوله: ﴿الذين يصدون عن سبيل الله﴾ أي يمنعون الناس ويصرفونهم عن تدبر آيات الله التي تؤدي بهم إلى معرفته والإيمان الكامل بوحدانيته وإخلاص العبادة له: ﴿ويبغونها عوجًا﴾ أي يريدون أن تكون آيات الله عوجًا قابلة للتأويل بحيث تكون خاضعة لأهوائهم وتصوراتهم التي تستسيغ الشرك واستباحة بعض المحرمات عن طريق ما أسموه الحيل الشرعية. ﴿وهم بالآخرة هم كافرون﴾ أي حالة كونهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالجزاء إذ لو آمنوا بذلك لما صدوا عن سبيل الله ولما تلاعبوا بآيات الله وأولوها وأخضعوها
مستمدة منها وبأمر وإذن منه وهذا لا يقتضي أن تكون تلك الأعمال بعيدة عن دوائر معلوماته تعالى حتى يقال إن علمه تعالى كان أنفًا بل إن علمه سابق من الأزل وقد: ﴿أحاط بكل شيء علمًا﴾ ولا يعزب عنه مثقال ذرة: ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ فصفة العلم ثابتة لله كثبوت صفة القدرة والخلق وسائر الصفات وكل منها قائم بذاته وجار في مجراه ولا تعارض بينها لا يسأل عما يفعل من الخلق والإيجاد، كما أنه لا يحكم بعلمه بل «بحكمه» أي بحكم القرآن القائم على أساس العدل الذي أخذه على نفسه وفقًا لدستور القدر وما أنزله من الكتب بين العباد: ﴿وجاء بكم من البدو﴾ فهذا المجيء وإن كان من فعلهم إلا أنه بلا شك لم يكن إلا بسبب الضائقة التي هي من قضاء الله الذي حبس المطر عنهم سبع سنوات وهي التي حملتهم على طلب الزاد من مصر ولولاها لما فكروا في الارتحال من ديارهم ولا في طرق باب العزيز: ﴿من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي﴾ بما صوره لهم من أن حب يعقوب ليوسف قد يحرمهم من حنانه عليهم وهذا وهم فاسد لا يوسوس به غير الشيطان: ﴿إن ربي لطيف لما يشاء﴾ أي لطيف في تصرفاته يحول بلطفه دون نفاذ أحكامه القدرية ولذا رُوِيَ من دعاء النبي ﷺ «رب لا أسألك رد القضاء وإنما أسألك اللطف فيه»: ﴿إنه هو العليم﴾ بما كان وما يكون: ﴿الحكيم﴾ في تدبيره إذ جعل الإنسان محل الزلل وجعل من حقه تعالى اللطف فيما هو من أحكام القدر: ﴿رب﴾ أحمدك وأشكرك لأنك: ﴿قد آتيتني من الملك﴾ ما مكنني من ضم والديَّ وأخوتي إليَّ: ﴿وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ ما جعلته سببًا لإخراجي من السجن ونيل الحظوة والثقة عند الملك: ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ الذي اخترعهما وأنشأهما بلا مثال: ﴿أنت ولي في الدنيا والآخرة﴾ ولولا ولايتك وتوجيهك لي في كل الأمور لما بلغت هذه الدرجة الرفيعة وخلصت من الفتن التي دبرت ضدي: ﴿توفني مسلمًا﴾ أي اختم حياتي منقادًا لأوامرك واقفًا عند حدود شريعتك: ﴿وألحقني بالصالحين﴾ من آبائي السابقين، وهنا عند انتهاء هذه القصة وجه الله خطابه إلى رسوله الأمي ﷺ فقال: ﴿ذلك﴾ أي ما قصصناه عليك أيها الرسول عن يوسف وما جرى له: ﴿من أنباء الغيب﴾ التي لم يكن يعلم بها ولا تفاصيلها أحد من قومك: ﴿نوحيه إليك﴾ أي نخبرك به عن طريق الوحي بتفصيلات دقيقة من أساس القصة كيف بدأت
ذاته العلية أن يجيب دعوة الداعين ويفرج الكرب عن المكروبين فهو لا بد فاعل وثقة الإنسان بهذا من شأنها أن تكسب النفس شجاعة وإيمانًا وصبرًا واطمئنانًا وبهذا تصير الدنيا حقيرة في نظر العارفين لا يستوحشون بإدبارها ولا يطغون بإقبالها على حد قولهم:
@إذا ما رأيت الله لكل صانعًا
#رأيت جميع العالمين ملاحا.
لاحت لهم الفرصة المناسبة: ﴿انصرفوا﴾ أفرادًا متفرقين حتى لا يشعر أحد بانصرافهم ومن أجل هذا: ﴿صرف الله قلوبهم﴾ عن صدق الإيمان والاهتداء بآيات الله: ﴿بأنهم قوم لا يفقهون﴾ أي بسبب عدم تفقههم وفهمهم لمعاني ما يسمعون من هذه الآيات نتيجة الإعراض عن سماعها وعدم التأمل في معانيها ومراميها فأنى يرجى لهم وهذه حالتهم أن يهتدوا بآيات الله مهما نزلت ومثل هؤلاء بعض الشبان في عصرنا هذا وقد تربوا في المدارس التبشيرية التي صرفتهم عن الدين وسممت أفكارهم ببعض العقائد الفاسدة والإلحادية التي جعلتهم يتضايقون من سماع القرآن فإذا ما حضروا في مجلس تتلى فيه آيات الله أو يبحث فيه أمر من أمور الدين تراهم ينظر بعضهم إلى بعض كأنما هم يتقلبون على الجمر ويتحينون الفرص للتسلل من أمثال هذه المجالس ولو كانوا في مجلس أنس وطرب لاستمروا طوال الليل والنهار من غير ملل: ﴿لقد جاءكم﴾ يا معشر البشر: ﴿رسول من أنفسكم﴾ أي إنسان مثلكم خلق من نفس واحدة هي آدم رأس السلالة البشرية لم يتكبر عليكم ولم يدع السيادة عليكم حتى تنفروا منه وتناصبه العداء: ﴿عزيز عليه ما عنتم﴾ العنت المشقة ولقاء المكروه أي أنه يثقل عليه جدًّا عنتكم ولا يرضى أن تكونوا في دنياكم أمة ضعيفة ذليلة بعنتها أعداؤها ويعملون على إذلالها وهو يريدكم سادة أعزة كما قال تعالى: ﴿العزة لله ولرسوله وللمؤمنين﴾ وهو إلى جانب هذا أيضًا: ﴿حريص عليكم﴾ حرص على الشيء عظم تمسكه به ولم يفرط فيه أي أنه يرعاكم دائمًا ويأبى أن يترككم تتخبطون في دياجير الجهل أو الكفر والإلحاد وتردون موارد الهلاك وهو فوق كل ذلك: ﴿بالمؤمنين﴾ خاصة: ﴿رؤوف﴾ أي شديد الإشفاق: ﴿رحيم﴾ أي كثير الرحمة فهم أنصاره وهو منهم وإليهم وقد أمره الله أن يكون كذلك في معاملتهم بخلاف معاملته للكفار فقد أمره أن يغلظ عليهم: ﴿فإن تولوا﴾ عن الإيمان بالله واتباع شريعته: ﴿فقل حسبي الله﴾ أي الله سندي ويكفيني أمامه أني أديت الرسالة حقها ولم أقصر في دعوتكم وتبليغ الآيات لكم: ﴿لا إله إلا هو عليه توكلت﴾ في كل أموري: ﴿وهو رب العرش﴾ الذي يدبر من فوقه كل أمور خلقه كما قال تعالى: ﴿ثم استوى على العرش يدبر الأمر﴾ وقد وردت في وصف هذا العرش ومادته عدة روايات مأخذها من الإسرائيليات فلا لزوم لذكرها وقال ابن عباس سمي العرش عرشًا لارتفاعه: ﴿العظيم﴾ بالخفض على أنه صفة للعرش وقرئ بالرفع على أنه صفة للرب الذي لا تكيف عظمته فهو مصدر جميع العظمات وقد ورد في فضل هذه الخاتمة من
وسنخرج من البلاد إذا أخرجتم منها: ﴿وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ أي لا نوافق على أي قرار يصدر في حقكم: ﴿وَإِن قُوتِلْتُمْ﴾ أي بلغ الأمر حد القتال: ﴿لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ بكل ما نملك من قوى. الأمر الذي شأنه أن يحمل اليهود على الاستمرار في الدفاع عن أنفسهم والاطمئنان إلى موالاة أنصار الرسول لهم: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ﴾ بما له من كمال العلم بدخائل الأمور: ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي عبد الله بن أُبي ابن سلول وحزبه: ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ فيما قالوه لليهود: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ﴾ فليس هناك من حافز يحفزهم إلى ذلك وليس هناك رابطة تربط مصالحهم بمصالح بعض حتى يضحوا من أجلهم بشيء من النفس والمال: ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ﴾ أي ليهزمون إذ هم قليل لا يعبأ بهم وجميع أهل المدينة على غير رأيهم: ﴿ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾ أي اليهود في المستقبل وقد بين الله السبب في عدم نصرهم بقوله: ﴿لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ أي خوفًا: ﴿فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ﴾ أي لأنهم قوم لا يؤمنون إلا بالمادة ولذا فإنهم يخافون الناس وكثرتهم وما لديهم من قوى ظاهرة للعيان فيحملهم هذا الخوف الكمين في نفوسهم إلى إلقاء سلاحهم والتسليم لكم: ﴿ذَلِكَ﴾ أي أن خوفهم من الناس أكثر من الله ناشئ عن سبب واحد هو: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ أي لا يفهمون حقائق الأشياء التفصيلية فلو كانوا من الفقهاء لأدركوا أن وراء هذه القوى المادية قوى إلهية خفية يؤيد الله بها من يريد من أنصاره الواثقين به والمعتمدين عليه لا مجرد تلك الأشباح التي تدين بحركتها لقوة الروح التي فيها والتي تديرها من وراء الستار، وقد ترتب على ذلك الخوف أنهم أصبحوا: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا﴾ أي مهما كان عددهم وتجمعهم: ﴿إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾ من شدة الخوف منكم: ﴿أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ بالجمع وقرئ جدار أي أنهم قوم جبناء يخافون لقاءكم وجهًا لوجه ويظنون أن تسترهم وراء الجدار مما يقيهم من عذاب الله أو مما يكسبهم النصر عليكم وأصبح: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي أنهم إذا اجتمعوا إلى بعضهم يظهرون منتهى البأس والشدة ويقولون سنفعل كذا وكذا ويهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم شديد فيما بينهم لا فيما بينهم وبين المؤمنين: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا﴾ على رأي واحد: ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ لا تؤمن بما تقول ولا تنوي تنفيذ ما تقرر: ﴿ذَلِكَ﴾ أي عدم مطابقة ظاهرهم لباطنهم: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ أي لا يستعملون عقولهم فيما خلقت له من التدبر في عظيم خلق الله والاستدلال على وجوده تعالى ووحدانيته: {كَمَثَلِ الَّذِينَ
اعترافه بظلمه في هجر قومه وغضبه منهم إذ قال وهو في بطن الحوت –: ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾.
﴿لنبذ بالعراء﴾ وهي الأرض الخالية: ﴿وهو مذموم﴾ إذ يقال عنه إنه لم يحسن التصرف أو كان مقصرًا لم يقم بواجب الرسالة التي تقضي بسعة الصدر وتحمل الأذى وعدم اليأس: ﴿فاجتباه﴾ أي اصطفاه: ﴿ربه فجعله من الصالحين﴾ وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بمعنى لا تقف أيها الرسول مع قومك موقفًا كموقف يونس فيحيق بك ما حاق به من التربية والتأديب: ﴿وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك﴾ بضم الياء وفتحها أي يزحزحونك ويبعدونك عن موقفهم: ﴿بأبصارهم﴾ أي بكثرة تحديقهم فيك بمعنى يخوفونك بالشرر الذي يتطاير من أعينهم وقد جرى بعض المفسرين على أن المراد يصرعونك بعيونهم من الحسد ويروون عدة أحاديث صحيحة في إصابة العين منها قوله ﷺ «العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين» وتعويذ الرسول الحسن والحسين منها بقوله «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة ومن كل عين لامَّة» – وقد كان الرسول ﷺ فعلًا يتعوذ من الجان وأعين الإنس فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك والله أعلم: ﴿لما سمعوا الذكر﴾ أي كلام الله الذي تتلوه وما حواه من فصاحة وبلاغة لم يعهدوها منك قبل النبوة: ﴿ويقولون إنه لمجنون﴾ ليحطوا من قيمة ما تتلوه وهو ما أقسم الله في أول السورة بتنزيهه عنه صلى الله عليه وسلم: ﴿وما هو﴾ أي القرآن: ﴿إلا ذكر للعالمين﴾ أي تذكير وبيان وتنبيه وهداية إلى ما ينفعهم وما يضرهم فكيف يصدر كل هذا عن مجنون.
والكلأ كل هذه الأنواع الثمانية خلقها الله: ﴿مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ ليسجل بذلك نعمته عليكم لعلكم تشكرون وسيسألكم عنها يوم القيامة ويعاقبكم على كفركم بها: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ﴾ الصيحة التي تصم الآذان بشدتها ولعل المراد منها صوت نفخة الصور إيذانًا بيوم القيامة: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ﴾ يبتعد: ﴿الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ بعد أن كان يعطف عليهم في دنياه خشية أن يطالبوه بالعون الذي لا يملكه أو أن يلقوا عليه بعض المسئوليات.
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أي يشغله ويصرفه عن أهله وقرابته، والناس إذ ذاك على نوعين لا ثالث لهما أحدهما: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ أي مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء.
﴿ضَاحِكَةٌ﴾ فرحة بلقاء ربها: ﴿مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ برحمته وحسن جزائه من عظم أملها فيه وثقتها بفضله وصادق وعده وثانيهما: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ ما يصيب الإنسان من الغبار أثناء العمل: ﴿تَرْهَقُهَا﴾ تغشاها: ﴿قَتَرَةٌ﴾ ضيق وكآبة: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ﴾ الذين لا يؤمنون بالله ولا يقدرون آلاءه.: ﴿الْفَجَرَةُ﴾ المنغمسين في المعاصي والسيئات.
سورة التكوير
مكية عدد آياتها تسع وعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٢٧) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٩)﴾.


الصفحة التالية
Icon