تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (١٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (١٥٦) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
والتمهيد للظلم بما أحدثوا في التشريع من أحكام لا تتفق مع ما يرمي إليه الكتاب ﴿وإن الذين اختلفوا في الكتاب﴾ وأصروا في تكييف القرآن طبق فهمهم حتى جعلوا من الكتاب الذي أنزل للتوحيد وجمع الكلمة سببًا للتخالف والتخاذل وحرفوا دينهم وكانوا شيعًا وأحزابًا متحاربين ينتصر كل فريق منهم لدعوة إمامه ويعادي الآخرين تشيعًا وتقليدًا دون أن يردوا ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه ﴿لفي شقاق بعيد﴾ في عداوة مستحكمة لا تقوم على أساس صحيح، لأن العداوة التي تقوم على سبب معقول قد يرجى زوالها بزوال أسبابها، أما العداوة التي تنشأ عن تمسك كل فريق برأيه في الكتاب فإنها عداوة قائمة على سبب غير معقول فلا يرجى لها الزوال لأن كتاب الله حق واضح والحق أحق أن يتبع ويمكن الرجوع إليه دون حاجة إلى استمرار النزاع والخلاف؛ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ وبذلك تزول أسباب الاختلاف الذي هو مدعاة التفرق وهو سبيل الهلاك كما قال تعالى ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ فاستمرار الاختلاف في الكتاب يؤدي إلى شقاق بعيد.
وبعد أن بين الله للمؤمنين الحلال والحرام وحذرهم مما حذرهم منه من كتمان ما أنزل الله أخذ يبين لهم حقيقة عظمى يجب أن يفهموها عن هذا الدين الحنيف، و هي أنه لا عبرة بالمظاهر وإنما العبرة بما يصدر عن القلوب، حيث قال ﴿ليس البر﴾ وقرئ ﴿البرُّ﴾ و ﴿البار﴾ في نظر الإسلام ﴿أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب﴾ بأن تتجهوا إلى جهة معينة من الجهات التي تؤمرون بها فحسب ﴿ولكن﴾ بالتشديد وقرئ بالسكون ﴿البر﴾ لا يحصل إلا لمن يكون موصوفًا بالصفات الآتية:
أولًا ﴿من آمن﴾ بما يأتي:
١ - ﴿بالله﴾ أي آمن بوجود الله، ووحدانيته إيمانًا تطمئن به القلوب وتحيا به النفوس وتبتعد به الهواجس والأوهام حتى يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن من كل شيء.
الذي أنزله الله هدى للناس والعمل بمقتضاه فما عليك إلا أن تبلغهم ما أنزل عليك ولا تحاول أن تكرههم عليه قسرًا وقل لهم (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) أي أن الإنفاق لم يشرع إلا للصالح العام إذ أنه يحول دون حقد الفقراء على الأغنياء ويمنع عنهم عاديتهم وبدونه ربما اضطرت الحاجة الفقراء إلى السلب والنهب وتعكير الصفو والإخلال بالأمن وهذه العلة موجودة في الفقير المسلم وغيره على حد سواء (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) أي وإنكم بإنفاقكم إنما تقصدون وجه الله وأولئك المشركون لم يخرجوا عن كونهم من عباد الله فلا محل للتمييز بين مسلم ومشرك في الصدقة ولا بأس من تفضيل الفقير المسلم على الكافر عند التساوي (وما تنفقوا من خير) لله على عباده (يوف إليكم) أجره في الآخرة (وأنتم لا تظلمون) لا ينقص من ثوابكم شيئًا سواء كانت النفقة على مسلم أم مشرك ما دام القصد منها وجه الله.
أما فيما يتعلق بالصدقة فينبغي أن يتحرى فيها أن تكون (للفقراء) الموصوفين بالصفات الخمس الآتية: أولًا (الذين أحصروا في سبيل الله) شغلت أوقاتهم بالأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد لإعلاء كلمة الله والدفاع عن البلاد وصيانة الأمن وطلب العلم والتعليم. وثانيًا: الذين (لا يستطيعون ضربًا في الأرض) وهم العاجزون عن السعي لطلب الرزق في أطراف المعمورة حيث إذا ضاقت بهم أسباب العيش في بلد طلبوها في بلد آخر. وثالثًا: أصحاب النفوس العالية التي تأبى مذلة السؤال مع شدة الحاجة وتحب أن تظهر دائمًا بمظهر الوجاهة والكرامة بحيث (يحسبهم الجاهل) بحقيقة أمرهم (أغنياء من التعفف) هو المبالغة في التنزه عن الطمع فيما بأيدي الناس فلا يكاد يظهر عليهم أثر الحاجة من شدة بعدهم عن التزلف إلى الناس وبيع ضمائرهم من أجل الحصول على رضائهم واحتفاظهم دائمًا بكرامتهم. رابعًا: الذين يتجلى لك فقرهم و (تعرفهم بسيماهم) أي تدلك فراستك من النظر إلى وجوههم وانكسارهم أنهم ليسوا ممن يتصنع الفقر لحاجة في نفسه وأنهم ممن لا يرضى إراقة ماء وجهه. وخامسًا: الذين (لا يسألون الناس إلحافًا) لا يتخذون التسول مهنة لهم ابتغاء زيادة الرزق. قال ﷺ «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس» (وما تنفقوا من خير) إلى من تتحروا فيه هذه الصفات ابتغاء مرضات الله (فإن الله به عليم) لا يخفى عليه حسن النية فيما
لم تتوفر فيهم هذه الصفات فلا يمكن أن يساووهم في الدرجة ولكنهم لن يهضموا ما قد يكون لهم من عمل صالح ﴿وما يفعلوا﴾ وقرئ بالتاء بدل الياء ﴿من خير﴾ ابتغاء وجه الله ﴿فلن يكفروه﴾ أي لابد أن يجدوا جزاءه سواء في الدنيا عن طريق ما سنه الله من سنن تربط الأسباب بالمسببات أو في الآخرة بحسب ما وعد الله عباده العاملين ﴿والله عليم بالمتقين﴾ لا يخفى عليه ما تكنه القلوب من التقوى فيجزل عليها الأجر من وافر كرمه.
بعد أن أخبر الله عن المؤمنين من أهل الكتاب أنهم ليسوا سواء، وأن الصالحين منهم هم الذين يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون إلخ أراد سبحانه أن يشير إلى ما أنعم به على الكفار منهم من مال وبنين، ليحذر المؤمنين من التطلع إلى ما لديهم منهما في الحياة مما يعد بهجة للناظرين، فأكد لهم أن كل ذلك لا يعدو أن يكون متاعًا مؤقتًا وعرضًا زائلاً لا ينتفعون به النفع الحقيقي في الحياة الدائمة فقال ﴿إن الذين كفروا﴾ بالله ورسوله فلم يكن هدفهم في الحياة العمل لمرضاه الله بشيء مما سبق من تلاوة آياته والإكثار من عبادته والثقة به والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل نظروا إلى الحياة نظرة مادية محضة وعملوا للدنيا وحدها ﴿لن تغني عنهم أموالهم﴾ التي كانوا يجدّون في جمعها وينعمون بها في الحياة الدنيا ﴿ولا أولادهم﴾ الذين يشغلون بحبهم عن حب الله وبمرضاتهم عن طاعة الله ومرضاته وكانوا يعتزون بهم في الحياة ﴿من﴾ عقاب ﴿الله﴾ وعذابه ﴿شيئا﴾ فلا يقبل منهم قولهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا عن ذكرك وواجب طاعتك، بل إن هذا الجواب نفسه سيكون هو سر شقائهم وعذابهم ﴿وأولئك﴾ الذين كفروا بالله وشغلوا بالدنيا عن الآخرة ﴿أصحاب النار﴾ الذين يخبر الله منذ الآن أنهم أصحاب الحق فيها وأنها أعدت خصيصًا لهم ﴿هم فيها﴾ في النار ﴿خالدون﴾ دائمون بغير عودة إلى الدنيا مرة أخرى وقد بين الله السبب في هذا بقوله ﴿مثل ما﴾ كانوا ﴿ينفقون﴾ من أموال أنعم الله بها عليهم ﴿في هذه الحياة الدنيا﴾ فلم ينفقوها في سبيله بل سخروها في شهواتهم وملذاتهم ﴿كمثل ريح فيها صر﴾ أي شديد البرودة يمن الله به على عباده في أيام الشتاء لتكون بهجة لنفوسهم، ولكنها ﴿أصابت﴾ فيهم ﴿حرث﴾ زرع ﴿قوم﴾ غاشمين ﴿ظلموا أنفسهم﴾ في ذلك الحرث بزرعه في غير موسم الزرع مخالفين في ذلك ما سنه الله من سنن وما ألهمهم من تعاليم ﴿فأهلكته﴾ لضعفه وعدم قدرته على تحمل البرد ﴿وما ظلمهم الله﴾ بتلك الريح الباردة التي أعدها الله لتكون سبيلاً للسعادة والهناء ﴿ولكن﴾ بسكون
لقد أشار الله في الآية السابقة إلى حكمة جليلة من حكم التشريع الإلهي وهي أن العبرة في العبادات بمقاصدها لا بمظاهرها ولذلك نهي عن الأخذ بأسباب الصلاة إذا لم يكن الإنسان مستعدًّا لتحقيق الغرض منها بالعلم بما يقوله فيها كما أنه لم يشترط استعمال الماء للوضوء والغسل في حال قيام المانع وأمر بالعدول عن ذلك إلى استعمال التراب لنتفي بذلك ما قد يتوهم من أن القصد منهما هو مجرد النظافة ليفهم الناس بأن الغاية الحقيقية من الوضوء أو الغسل إنما هي طاعة الله والخضوع لأوامره وهي تتحقق فيما أشار إليه تعالى من التيمم لما فيه من تغبير الوجه واليدين ابتغاء مرضاة الله وقد أراد الله من عباده أن يحرصوا على توخي الإخلاص والطاعة في كل ما يؤمرون به فنبه رسوله إلى ما وصلت إليه حالة اليهود في عصره نتيجة نظرهم إلى حرفية الأحكام دون مقاصدها وما أدخلوه عليها من تأويل وتبديل فقال تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب﴾ من اليهود الذين حرفوا أو بدلوا ما جاء في التوراة ولذا قال: ﴿أوتوا نصيبًا من الكتاب﴾ إشارة إلى ما أضاعوه منها أو تجاهلوا أمره وهو موجود بنصه عندهم ﴿يشترون الضلالة﴾ من حق التحليل والتحريم عن طريق التلاعب في مقاصد الشريعة بحسب أهوائهم ﴿ويريدون أن يضلوا السبيل﴾ بمحاولتهم إقناع البسطاء من الناس بأن الحق معهم وأن ما جاؤوا به من التأويل موافق للصواب ﴿والله أعلم بأعدائكم﴾ منهم ومن أنصارهم من المنافقين الذين تظنون أنهم منكم وما هم منكم أو الذين يكيدون للإسلام بما يحاولون إدخاله فيه من عبادات ما أنزل الله بها من سلطان ﴿وكفى بالله وليًّا﴾ يتولى شئونكم بإرشاكم إلى ما فيه خيركم وهديكم إلى أقوم الطرق ﴿وكفى بالله نصيرًا﴾ لكم على أعدائكم بما يؤيدكم به توفيق للعمل بأسباب النصر الحقيقية من الاتحاد والتعاون والأخذ بأسباب القوة والاستعداد للحرب مع الثقة الكاملة بالله
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ
الحسنة وأنهم لا يريدون من وراء ذلك التعجيز ولا الاختبار ﴿اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء﴾ ممتلئة من الطعام الشهي المعد للأكل ﴿تكون لنا عيدًا﴾ أي يوم سرور وغبطة وموسمًا دينيًا ﴿لأولنا وآخرنا﴾ أي نحتفي به كل عام ونرتل فيه آيات شكرك نحن ومن يجيء بعدنا ﴿وآية﴾ أي علامة ومعجزة خالدة ﴿منك﴾ تذكر الناس في جميع الأوقات بقدرتك على تغيير السنن التي يظنها قصار النظر نواميس طبيعية لا تتغير ولا تتبدل ﴿وارزقنا﴾ الشكر عليها والإيمان بك إيمانًا كاملًا لا نحيد عنه ولا يداخلنا أي شك فيه ﴿وأنت خير الرازقين﴾ فأنت الذي ترزق كل حي من غير طلب، ودون أن ترجو جزاء. أما غيرك فلا يعطي أحدًا شيئًا إلا وهو يتوخى من وراء عطائه غاية، سواء أكانت دنيوية أو أخروية. ﴿قال الله﴾ ما دام الأمر كما ذكرت وما قصد الحواريون من قومك فاعلم ﴿إني منزلها﴾ بتشديد الزاي وقرئ بتخفيفها ﴿عليكم﴾ تحت شرط واحد هو أن تحققوا الغاية التي طلبتم المائدة من أجلها وإلا ﴿فمن يكفر بعد منكم﴾ بالله ولا يقدر لله تعالى هذه النعمة حق قدرها ﴿فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين﴾ وهنا جرى كثير من المفسرين على أن هذه المائدة قد نزلت، وسمى بعضهم أنواع الطعام الذي حوته. فمن قائل إنه سمك وخبز، ومن قائل إنه لحم وخبز، ومن قائل إنه من ثمار الجنة وإنه من كل شيء إلا اللحم. ولا دليل على كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله. بل لقد رُوِيَ عن الحسن أنه كان يقول لما قيل لهم: ﴿فمن يكفر بعد ذلك منكم فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين﴾ قالوا لا حاجة لنا بها فلم تنزل. ولعل هذا هو الصواب، لأنه لم يكن قصدهم من نزول المائدة التحدي بل مجرد الاستفهام. ويؤيد هذا أنه لم يرد في كتب النصارى ذكر لهذه المائدة بالمرة مع ذكرهم لكثير من الحوادث الماضية والله أعلم.
بعد أن أخبر الله رسوله ﷺ بما سيوجهه إلى رسوله عيسى من خطاب يقرر فيه ما له عليه من نعم كانت سببًا في افتتان قومه به، أخذ يخبره بأنه تعالى سيسأله يوم القيامة أيضًا على مشهد من أتباعه عما كانوا ينسبونه إليه من الألوهية أو ما كانوا يتقربون به إليه من عبادات وماذا سيكون جواب نبيهم إذ ذلك ليتدبروا الأمر ويستحضروا الجواب عليه أو ليتبوءوا مقاعدهم من النار فقال ﴿وإذ قال الله﴾ يوم يجمع الرسل ﴿يا عيسى ابن مريم أأنت قلت﴾ في حياتك الدنيا ﴿للناس﴾ سواء من آمن بك أم لم يؤمن {اتخذوني وأمي إلهين من دون
وليسوا وحدهم أصحاب الطباع السليمة ولذلك فمن رأيي أن الضمير عائد إلى كل من الميتة والدم ولحم الخنزير وأن المراد بالرجس لا ينحصر في النجس فقط بل يراد به مطلق القبح أما وجه استقباحه هنا فلأن الله أخبرنا بقبحه لضرر يعلمه الله فيه لا لأن الطباع السليمة تعافه فشأن لحم الخنزير في هذا الحكم كشأن الدابة التي لا تزكى الزكاة الشرعية وتعتبر في نظر المسلمين ميتة قبيحة وهي ليست كذلك عند غيرهم فالعلة إذا هي تقبيح ما حكم الله بقبحه واجتنابه عبادة أما من لم يؤمن بالله لم ينفر من أكل ما قبحه ﴿أو فسقًا أهل لغير الله به﴾ أي أن يكون ذلك الطعام مما هو خارج عن طريق الشرع بأن تقرب بذبحه لغير الله وقد نصت عدة آيات في القرآن على تحريم ما ذكر ووردت هذه الآية بصفة الحصر القطعي فهي نص قطعي في حل ما عدا هذه الأنواع الأربعة وقد أوضحنا في تفسير آية المائدة أن المنخنقة والموقوذة والمتردية وأكيلة السبع اللاتي تموت بذلك. داخلة ضمن الميتة وقد ورد في السنة النهي عن أكل لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير الجوارح فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد إلى تخصيص الآية بالأحاديث الواردة في هذا الشأن وقالوا إن الحصر في هذه الآية إنما هو بالإضافة إلى ما كان الناس يعتقدون حرمته من البحيرة والسائبة وما إليها وجرى مالك على ظاهر الآية وعمومها وحمل أحاديث النهي عما ذكر على الكراهة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال «ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه» وكانت السيدة عائشة إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت قوله تعالى: ﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا﴾ الآية وقد ثبت في الصحاح أن رسول الله ﷺ سئل عن الضب فقال «لست آكله ولا أحرمه» وفي رواية «لا أحرمه ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» وروى أبو الدرداء مرفوعًا ﴿ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله. عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئًا وتلا قوله تعالى: {وما كان ربك نسيًا﴾. وروى أبو ثعلبة الخشني عن الدار قطني مرفوعًا: «أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وبالرغم من هذا فقد اختلف العلماء في نجاسة وحرمة ما عدى ما يؤكل من هذه الأنواع مع أن قوله تعالى: ﴿على طاعم يطعمه﴾ لا يدل على نجاستها لأن النجاسة ليست مما يطعم ولا على حرمة الانتفاع بغير ما يؤكل منها لما صح عن ابن عباس أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة
غافلين} أي أن ما أصابهم لم يكن إلا نتيجة التكذيب بآيات الله والغفلة عن مراميها وعدم الاتعاظ بما فيها وها نحن أولاء نرى أمثال هذا العذاب يحيق بأطراف المعمورة من طوفان وزلازل وأمراض فتاكة مما ينذر الناس بشر مستطير هم عنه غافلون وقد فرض الله على كل مسلم يتلو كتاب الله أن يتدبر هذا ويذكر الناس به حيث قال تعالى: ﴿وذكر بالقرآن من يخاف وعيد﴾ و ﴿الذكرى تنفع المؤمنين﴾ ولا من سامع أو مجيب بل لم يعد في العالم مذكر أو متعظ حتى لقد أصبح من المسلمين في عصرنا هذا من هو أشد ضلالًا وكفرًا وأكثر بعدًا ونفورًا من الله من فرعون وقومه الذين كانوا برغم كفرهم يلجئون إلى موسى يسألونه الدعاء لهم ويعاهدونه على التوبة في ساعة الشدائد ثم ينكثون أما الآن فلا شيء من هذا بل الكل إنما يحاول أن يتغلب على الآفات والأمراض بما كشفه العلم من مخترعات يؤمنون بنفعها أكثر من إيمانهم بقدرة الله على رفعها عنهم ويعدون من التخريف والرجعية الدعوة إلى خوف الله واللجوء إليه في الشدائد. نسأل الله اللطف بنا وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منها.
بعد أن أخبرنا الله بما انتهى إليه أمره في فرعون وملئه من حلول نقمته بهم وإغراقهم في اليم نتيجة تكذيبهم لآياته وعقابهم عنها انتقل إلى ذكر ما كان من أمر موسى وقومه فقال ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون﴾ أي أعطينا اليهود الذين كان فرعون يذلهم إذلالًا عظيمًا ويقتل أبناءهم ويستحي نساءهم ويأبى عليهم الهجرة بأمر ربهم مع موسى ﴿مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها﴾ جنح المفسرون أن المراد بها بلاد الشام من الفرات إلى العريش وروى الليث بن سعد أنها أرض مصر التي كان فيها بنو إسرائيل وعندي أن المراد أرض الله من شرقها لغربها أي أنه تعالى أراد لذلك الشعب الذي كان مستعبدًا في قطعة ضيقة من الأرض لا يسمح له بتجاوزها إلى حيث أمر الله أن ينتشر في سائر البلاد الكثيرة الخيرات كأوربا وأمريكا يجني ثمارها ويتحكم في مقدراتها وإن لم يكن له دولة ولا سلطان، ومصداقًا لهذا انتشر اليهود في سائر البلاد وغدوا ملوك المال وأصحاب النفوذ الفعلي حتى على أعظم الدول كأمريكا وإنجلترا وفرنسا وغيرها وهذا من أعظم معجزات القرآن ﴿وتمت كلمة﴾ وقرئ «كلمات» ﴿ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا﴾ أي ونفذت كلمة الله ومضت نعمته على بني إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم الطويل على ظلم فرعون ليعلم من هذا سنة من سنن الله في أن جزاء الصابرين يبقى أثره حتى في أولادهم
والماكرين ويثق بتأييده له بمختلف الوسائل الخفية والمادية أراد أن يشعر المؤمنين بأن ذلك التأييد لم يكن مقصورًا على الرسول خلال حياته بل لكل من اتبع طريقه وسار على نهجه فقال: ﴿يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين﴾ أي أن الله كما هو حسبك الذي كفاك شر أعدائك هو أيضًا حسب المؤمنين وسيكفيهم أذى من يريدهم بسوء في جميع الأوقات وسائر العصور كما قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم﴾ ولأجل أن لا يسيئ المؤمنون المعنى المراد من هذه الآية ويتكلوا على كفاية الله لهم فيتقاعسوا عن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله للدفاع عن أنفسهم وضمان عزهم وسؤددهم قال تعالى: ﴿يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال﴾ أي حثهم على القتال ورغبهم فيه حتى يزول خوفه من قلوبهم وتستوي الحياة والموت في سبيل الله عندهم وبهذا تقوى معنوياتهم، وأكد لهم باسمي أنه: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون﴾ أي قادرون على الصبر وهو أمر قد يكون من الصعوبة بمكان كبير: ﴿يغلبوا مائتين وإن يكن﴾ وقرئ بالتاء بدل الياء: ﴿منكم مائة يغلبوا﴾ بقوة إيمانهم بنصر الله لهم وصبرهم على لقاء عدوهم: ﴿ألفًا من الذين كفروا﴾ بالله من الذين يعتمدون على مجرد قواهم المادية التي لا قيمة لها في جانب قدرة الله وسلطانه: ﴿ذلك﴾ أي غلب المؤمنين لعشرة أضعاف من الكفار: ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أن الكفار: ﴿قوم لا يفقهون﴾ ما تفقهون من حكمة الحرب أنها وسيلة لمقصد سام وهو مرضاة الله ونصرة الحق وتوطيد دعائم السلم وإقامة العدل وإصلاح حال العباد باتباع شريعة سمحاء تكفل لهم السعادة في الدنيا والآخرة وأن الله قد ألزمهم بعدم الفرار من الزحف ووعدهم بالنصر وتعهد لهم بوافر الأجر فلا بد لهم من الاستماتة في الحرب مهما كلفهم الأمر ولا بد من نصر الله لهم: ﴿الآن﴾ أي وفي الوقت الذي أنتم فيه حديثو عهد بالإيمان: ﴿خفف الله عنكم﴾ هذا العبء الذي ربما لا تقوى عليه أعصابكم رحمة بكم: ﴿وعلم﴾ بما تحقق في أنفسكم من هلع بالفعل الذي هو مدار التكليف والجزاء وهذا لا يتنافى مع ما اتصف به تعالى من العلم الأزلي السابق الذي هو عبارة عن الإحاطة والانكشاف بأن قوة الإيمان تقتضي أن تغلب العشرون المائتين ولكنه ليس لهذا العلم صفة تأثير كالقدرة ولا يترتب عليه جزاء أو عقاب: ﴿أن فيكم ضعفًا﴾ بفتح الضاد وقرئ بضمها: ﴿فإن يكن﴾ وقرئ «تكن»
العقيدة وأن يدافعوا عنها وأن يعملوا على نشرها لا لمصلحتهم الشخصية بل ليعم النور وتسود الفضيلة ويعيش الناس في هناء دائم وتمهيدًا لذلك أمر رسول الله ﷺ أبا بكر أن يذيع على الناس ما يأتي:
١ - «لا يدخل الجنة كافر» ومعنى هذا أن يعلم الجميع أن رضاء الله لا ينال بعد اليوم إلا باتباع دين الإسلام فمن أراد أن ينال رضاءه الذي هو وسيلة لدخول الجنة فعليه باتباع رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
٢ - «لا يحج بعد العام مشرك» ومعنى هذا أن مكة قد خلصت من الأوثان وخصصت للمؤمنين فيجب أن لا يدنو منها كل من يعبد غير الله.
٣ - «لا يطوف بالبيت عريان» ومعنى هذا القضاء على عادات الجاهلية وأن الفضيلة هي التي يجب أن تسود بعد اليوم في تلك البقعة المقدسة.
٤ - «من كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو إلى مدته» ومعنى هذا أنه لا هوادة في دين الله وإنما تحترم العهود إلى مدتها.
وأيد الله رسوله على هذه الأسس بإنزال سورة براءة فسارع بانتداب علي لإعلانها على الناس أجمعين. ففيها يأمر الله عباده المؤمنين بأن يدافعوا عن عقيدتهم التي تقوم عليها دولتهم بكل ما أوتوا من قوة وأن يقاتلوا كل من يقف في وجه تلك العقيدة بتزييفها أو الطعن فيها أو محاربتها من أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حتى يخضعوا للإسلام ويعتنقوا مبادئه ولا يقبل منهم غير ذلك لعدة أسباب نلخص منها ما يأتي:
١ - لأن الشرك الذي كان عليه الناس عند قيام رسول الله بالدعوة إلى الله كان يعبر عن منتهى الجهل والضلال ويتنافى مع كرامة الإنسانية وشرفها فلا ينبغي أن يترك أنصاره وشأنهم يعبدون من دون الله أحجارًا لا تعقل ولا تعي ولا تضر ولا تنفع.
٢ - لأنه كان إلى جانب الشرك مجموعة من العادات والتقاليد التي تنفر منها الإنسانية وتأباها النفوس وتقشعر منها الأبدان كالظهور أمام الناس عراة في الطواف بالبيت وكوأد البنات وهضم حقوق المرأة ومساواتها بسقط المتاع وانتشار الموبقات والاستخفاف بالأرواح والاعتداء
وحالًا، وهل ينعم كل منهما بما ينعم به الآخر كلًا فالأولان محرومان من كثير من النعم التي تنال بهاتين الحاستين والآخران ينعمان بهما بكل ما في الوجود من ملاذ: ﴿أفلا تذكرون﴾ أيها المخاطبون هذا المثل الحسي الملموس لتدركوا الفارق بين المؤمن الذي يستعمل حواسه فيما خلقت له فيسمع آيات الله التي توقظ حسه للتفكير في آلاء الله الماثلة أمامه فيحمله هذا على الإيمان بربه والعمل وفق هديه فيكون من السعداء الناجين، وبين ذلك الكافر الذي تأخذه العزة بالإثم فتأبى عليه نفسه أن يسمع ما لا يروق له من كلام الله حتى لا يتعظ به أو أن ينظر إلى ما حوله من المخلوقات نظرة تدقيق حتى لا يحمله ذلك على الإعجاب بخالقها ومحكم صنعها فيعيش بسبب ذلك في ضلال مبين. وهكذا شأن بعض العلماء المعاندين في عصرنا هذا الذين يسمعون قول الله: ﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ وقوله: ﴿وما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ وأمثالها كثير فيأبون إلا أن يبيحوا للناس دعاء غير الله، والاعتماد على شفاعة الشافعين، لا شك أنهم من أعداء الله الذين لا يهمهم تحطيم عقيدة التوحيد الخالص التي تجمع بين قلوب المسلمين.
بعد أن فصل الله مصير الذين يفترون على الله الكذب والذين آمنوا وعملوا الصالحات ومثل الأولين بالأعمى والأصم والآخرين بالبصير والسميع وختم الآية بقوله: ﴿أفلا تذكرون﴾ إشارة إلى أن من الممكن علاج هذا العمى وهذا الصمم عقب على ذلك بما يشعر أنه تعالى لم يترك عباده يتردون في حمأة هذا المرض العضال بل أرسل لهم من الأنبياء أطباء نفسانيين وصفوا لهم من العلاج بما هو كفيل يبرئهم من تلك الأعراض فقابلوهم بالسخرية والاستهزاء ورفضوا اتباع ما جاءوا به من وصفات تخلصهم من السيئات وقد فصل الله أخبارهم هنا ليكون فيها عبرة وعظة فقال: ﴿ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه﴾ لينير بصائرهم وينبه مشاعرهم ويخلصهم مما كانوا فيه من الردى والظلمات فقال لهم يا قوم: ﴿إني﴾ بكسر الهمزة وقرئ بفتحها: ﴿نذير﴾ أي مهدد بالعقاب: ﴿مبين﴾ أي مبين ما أعده الله للطائعين من ثواب وكل ما أدعوكم إليه هو: ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ أي خصوه وحده بالعبادة وهي الدعاء الذي هو مخ كافة العبادات التي دعا إليها سائر الرسل وقال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» لما فيه من اعتراف لله بالعجز عن كل شيء وطلب العون منه جل وعلا: ﴿إني أخاف عليكم﴾ إذا أشركتم بالله أحدًا أو
والضر وقضاء الحوائج فيشركه معه تعالى في الدعاء أو يتخذ له من دونه وسطاء وشفعاء مما يتعالى الله عنه علوًا كبيرًا الأمر الذي يتجلى مصداقه في عصرنا هذا الذي نرى الأكثرية الساحقة ممن ينتسبون إلى الإسلام لا يتورعون عن دعاء غير الله ويعكفون حول الأضرحة ويلجئون في حاجاتهم إلى الأموات بل ويلتمسون البركة والنفع حتى من قطع الأحجار وما حول الأضرحة من التوابيت الحديد والأخشاب والأنكى من هذا أن نجد الكثير من العلماء يبيح صرف مخ العبادة -الذي هو الدعاء- لغير الله ويحاول أن يبرر عملهم هذا بقوله إن هؤلاء لا ينكرون وجود الله ولا يفعلون هذا إلا توسلًا بهم إلى الله بينما هم يعلمون أن هذا هو بعينه ما كان عليه المشركون من قبل وحكاه الله عنهم في كتابه الكريم حيث قال: ﴿ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله﴾ وقوله: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾: ﴿أفأمنوا﴾ أي تلك الأكثرية من الناس: ﴿أن تأتيهم غاشية من عذاب الله﴾ أي عقوبة تغشاهم وتجللهم بالعذاب في الدنيا: ﴿أو تأتيهم الساعة بغتة﴾ أي يفاجئون على الأقل بالموت الذي لا مفر منه على حين غفلة قبل أن يتوبوا ويصلحوا من عقائدهم الفاسدة فينالوا العقوبة في الآخرة: ﴿وهم لا يشعرون﴾ بمبلغ جرمهم وما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الأليم.
بعد أن أخبر الله رسوله بما يعلمه من مدى استجابة أكثر الناس لدعوته وأنذر المشركين بحلول نقمه بهم في الدنيا أو موتهم على حين غرة قبل أن يتوبوا ويصلحوا من عقائدهم الفاسدة فينالون جزاؤهم في الآخرة. أخذ يرشده إلى واجبه حيال الدعوة وأثرها في النفوس وما يعترضها من شدائد ومتى يكتب لها النجاح فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول للناس كافة: ﴿هذه سبيلي﴾ أي أن الطريقة أو المنهج الذي رسمته لأداء رسالتي عن ربي هو سبيل سامي محض لا يداخله شيء من الشدة والإكراه وهو أن أعرض الإسلام عرضًا سليمًا قائمًا على أساس تلاوة القرآن وإيضاحه للناس: ﴿أدعو إلى الله﴾ أي إلى الإيمان بالله إلهًا واحدًا لا شريك له ولا منازع لسلطانه ولا يستحق العبادة أحد سواه وإني إذ أدعو إلى ذلك فإنما أتكلم وأنا: ﴿على بصيرة﴾ أي يقين ثابت مدعم بالحجج والأدلة الكافية لإثبات ما أدعو إليه لا مجرد دعوة قائمة على أساس التقليد الذي قد يعتريه الشك ويطغى عليه التضليل: ﴿أنا ومن اتبعني﴾ أي وسار على منهاجي بإقامة الأدلة على وجود الله ووحدانيته وانفراده بالحكم والنفع والضر: ﴿وسبحان الله﴾ أي وقل إني أنزهه تعالى عن
فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (٣٤) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (٤٧) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ
العقيدة وأن يدافعوا عنها وأن يعملوا على نشرها لا لمصلحتهم الشخصية بل ليعم النور وتسود الفضيلة ويعيش الناس في هناء دائم وتمهيدًا لذلك أمر رسول الله ﷺ أبا بكر أن يذيع على الناس ما يأتي:
١ - «لا يدخل الجنة كافر» ومعنى هذا أن يعلم الجميع أن رضاء الله لا ينال بعد اليوم إلا باتباع دين الإسلام فمن أراد أن ينال رضاءه الذي هو وسيلة لدخول الجنة فعليه باتباع رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
٢ - «لا يحج بعد العام مشرك» ومعنى هذا أن مكة قد خلصت من الأوثان وخصصت للمؤمنين فيجب أن لا يدنو منها كل من يعبد غير الله.
٣ - «لا يطوف بالبيت عريان» ومعنى هذا القضاء على عادات الجاهلية وأن الفضيلة هي التي يجب أن تسود بعد اليوم في تلك البقعة المقدسة.
٤ - «من كان له عند رسول الله ﷺ عهد فهو إلى مدته» ومعنى هذا أنه لا هوادة في دين الله وإنما تحترم العهود إلى مدتها.
وأيد الله رسوله على هذه الأسس بإنزال سورة براءة فسارع بانتداب علي لإعلانها على الناس أجمعين. ففيها يأمر الله عباده المؤمنين بأن يدافعوا عن عقيدتهم التي تقوم عليها دولتهم بكل ما أوتوا من قوة وأن يقاتلوا كل من يقف في وجه تلك العقيدة بتزييفها أو الطعن فيها أو محاربتها من أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حتى يخضعوا للإسلام ويعتنقوا مبادئه ولا يقبل منهم غير ذلك لعدة أسباب نلخص منها ما يأتي:
١ - لأن الشرك الذي كان عليه الناس عند قيام رسول الله بالدعوة إلى الله كان يعبر عن منتهى الجهل والضلال ويتنافى مع كرامة الإنسانية وشرفها فلا ينبغي أن يترك أنصاره وشأنهم يعبدون من دون الله أحجارًا لا تعقل ولا تعي ولا تضر ولا تنفع.
٢ - لأنه كان إلى جانب الشرك مجموعة من العادات والتقاليد التي تنفر منها الإنسانية وتأباها النفوس وتقشعر منها الأبدان كالظهور أمام الناس عراة في الطواف بالبيت وكوأد البنات وهضم حقوق المرأة ومساواتها بسقط المتاع وانتشار الموبقات والاستخفاف بالأرواح والاعتداء
يقدرون: ﴿فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ أي جهلوا حقيقتها وحقيقة الروح التي نفخها الله فيهم فأكسبتهم الحركة والقدرة على العمل ولولاها ما استطاعوا القيام بأي عمل في هذا الوجود: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي الخارجون عن طريق الحق ودستور الله الذي يقضي فيما يقضي به أنه: ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ﴾ العاملون لها بالإصرار على الكفر وتعمد العصيان: ﴿وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ العاملون لها باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ برضوان الله وسعادة الدارين: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ أي لو خوطب الجبل على غلاظته وقساوته بالقرآن وكان ذا عقل يدرك: ﴿لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ لما فيه من حكم وعبر وآيات بينات لا يمكن أن يجحدها أو لا يتعظ بها كل ذي عقل سليم: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ﴾ التي فصلناها من أول هذه السورة: ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ﴾ بتدبرها: ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ في عظيم قدرة الله فتخشع أجسامهم وتنفطر قلوبهم متى تصوروه بذاته وصفاته العلية وأنه تعالى: ﴿هُوَ اللهُ﴾ الخالق لجميع الكائنات وموجدها من العدم والمتصرف فيها كيف يشاء: ﴿الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أي الذي لا يستحق العبادة أحد سواه إذ هو وحده: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي الذي يعلم جميع الكائنات من خفي ومشاهد فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وليس هناك ما يمنعه من إبادة الكافرين والتنكيل بالمذنبين لولا أنه تعالى: ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ﴾ أي الذي خلقهم لمحض الرحمة من الأساس بمعنى أنه خلقهم ليدعوه فيستجيب لهم وليعملوا الخير فيثيبهم عليه دون أن يكون في حاجة إليهم فلا مصلحة له في إبادتهم أو التنكيل بهم: ﴿الرَّحِيمُ﴾ أي كثير الرحمة فلا يضن بها على مستحقيها أو كل من يرجوها ويعمل لها: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ الذي لا يستحق العبادة أحد سواه إذ هو وحده: ﴿الْمَلِكُ﴾ الحاكم المتصرف في ملكه كيف يشاء من غير معارض: ﴿الْقُدُّوسُ﴾ أي المنزه عن جميع العيوب والنقائص في الذات والصفات والأفعال والأحكام: ﴿السَّلامُ﴾ الذي يهب السلامة لعباده في الحل والترحال والقدير على حفظهم من الآفات: ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ بكسر الميم وفتحها أي الذي أمَّن عباده من أنه لا يظلمهم: ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ أي الرقيب المسيطر على جميع أعمال عباده: ﴿الْعَزِيزُ﴾ أي المنيع الذي لا ينال ولا يغالب: ﴿الْجَبَّارُ﴾ من جبر الكسر إذا أصلحه أي الذي يجبر خاطر الفقير فيغنيه والمريض فيشفيه وكل قاصد فلا يرده خائبًا: ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ يقال تكبر الرجل إذا رأى من نفسه أنه أكبر من الناس وهذا لا يكون إلا لله فما من عظيم إلا وفي الوجود من هو أعظم منه إلا الله فإنه
تحت طائلة الدستور الإلهي الذي سيؤاخذهم بمقتضاه في الحياة الأخرى وأن عليه أن لا يغضب مما يراه من إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية، أخذ يفصل أنواع العذاب التي أنزلها بمن قبلهم وحفظهم منها في هذه الحياة وما سينتظرهم من عذاب الآخرة فقال: ﴿الحاقة﴾ هي النازلة الثابتة كالحقة ولعل المراد منها الحياة الأخرى التي كل ما فيها حق لا مرية فيه والتي دعت الرسل والكتب السماوية جميعها إلى الإيمان بها: ﴿ما الحاقة﴾ أي شيء هي وهذا ما يدل على تفخيم شأنها وتعظيم مكانتها فهي الحياة السعيدة الدائمة: ﴿وما أدراك ما الحاقة﴾ أي ما أعلمك بكتبها ومدى عظمتها فأنت أدرى بها وقد أخبرت الناس عنها إذ القاعدة أن كل موضع قال فيه القرآن: ﴿ما أدراك﴾ فإن الله قد أخبر رسوله به وما قال فيه: ﴿وما يدريك﴾ فإنه لم يخبره به: ﴿كذبت ثمود وعاد﴾ من قبل: ﴿بالقارعة﴾ مؤنث القارع وهو من يدق الباب وينبه من خلفه والمراد بها القيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار: ﴿فأما ثمود﴾ فقد عجل لهم الله العذاب: ﴿فأهلكوا بالطاغية﴾ أي بالمصيبة العامة التي لم ينج منها أحد ولعلها صيحة الصاعقة التي جعلتهم في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها: ﴿وأما عاد فأهلكوا﴾ أيضًا في هذه الحياة: ﴿بريح﴾ هواء: ﴿صرصر﴾ شديد الصوت والهبوب والبرد: ﴿عاتية﴾ أي القوية الجبارة التي لا يقف شيء في طريقها: ﴿سخرها﴾ أي سلطها سبحانه: ﴿عليهم﴾ أي بأمر منه لا نتيجة لاتصالات فلكية نجومية اقتضت ذلك بدليل تحديده تعالى لوقتها: ﴿سبع ليال وثمانية أيام حسومًا﴾ أي متتابعة متوالية: ﴿فترى القوم فيها﴾ أي في خلال تلك المدة: ﴿صرعى﴾ أي مصروعين بمعنى ترى الناس إلا وهم يصرعون ويموتون الواحد تلو الآخر: ﴿كأنهم أعجاز﴾ أي أصول: ﴿نخل﴾ وفي قراءة «نخيل» شجر التمر: ﴿خاوية﴾ الخاوي خالي البطن بمعنى أنهم أصبحوا هياكل عظيمة بالية كجذوع النخل إذا بليت وخليت أجوافها: ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾ أي هل بقي من نسلهم أحد: ﴿وجاء فرعون ومن قبله﴾ بفتح القاف وفي قراءة بكسرها وفتح الباء: ﴿والمؤتفكات﴾ المدن التي أبادها الله وقلبها على أهلها من قوم لوط: ﴿بالخاطئة﴾ أي بسبب الأفعال الخاطئة: ﴿فعصوا﴾ أي عصى كل فريق منهم: ﴿رسول ربهم﴾ الذي أرسل إليهم: ﴿فأخذهم﴾ ربهم: ﴿أخذة رابية﴾ أي زائدة بمعنى أخذهم بشدة ومن غير رحمة في هذه الدنيا وظلت آثارهم تدل عليهم: ﴿إنا لما طغى الماء﴾ بمعنى ارتفع وجاوز الحد
كناسها: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ العسعسة رقة الظلام وذلك في طرفي الليل عند إقباله وإدباره.: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي أسفر بمعنى تكامل ضوؤه.: ﴿إِنَّهُ﴾ أي ما ذكر في هذه السورة: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾ هو جبريل: ﴿كَرِيمٍ﴾ يطلق الكريم من كل شيء على أحسنه فيكون المعنى أنه ما جاء به ليس هو من قوله بل هو من قول رسول لا يبدل ولا يحرف في نقل ما أرسل به: ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ في الحفظ وعدم الخطأ والنسيان وأداء الرسالة: ﴿عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ أي صاحب مكانة عند الله: ﴿مُطَاعٍ﴾ فيما يأمر به.: ﴿ثَمَّ أَمِينٍ﴾ أي معصوم من الخيانة والغدر.: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم﴾ الذي أرسل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿بِمَجْنُونٍ﴾ كما تزعمون إذ يحدثكم بما لا تهضمه عقولكم.: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ﴾ أي رآه جبريل: ﴿بِالأُفُقِ﴾ ما ظهر من نواحي الفلك ماسًّا بالأرض: ﴿الْمُبِينِ﴾ الواضح فلا محل للتشكك في صحة ما أخبر عنه: ﴿وَمَا هُوَ﴾ أي المرسل إليه محمد: ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي على ما ألقي إليه من الأمور الغيبية من الأنباء وقصص الأولين: ﴿بِضَنِينٍ﴾ أي ليس ه الذي يستأثر بعمله ويبخل بإخبار الناس بمعلوماته، وقرئ: ﴿بظنين﴾ أي بمن يعتقد في أمور الغيب على مجرد الظن فيكون متهمًا بعدم تحريه للحقائق.: ﴿وَمَا هُوَ﴾ أي الذي يتكلم به: ﴿بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ كما يزعم أهل مكة في ذلك العصر: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ في الطعن في رسالته وما جاء به من القرآن الكريم: ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي القرآن: ﴿إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي عظة للخلق أجمعين وهداية: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ أي لمن عمل منكم في طلب الاستقامة بسلوك سبلها: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ﴾ أي وما تعملون من عمل: ﴿إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللهُ﴾ أي إلا أن يكون هذا العمل موافقًا لسنن الله ونظام مشيئته: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أي وأنتم لا تستطيعون أن تخرجوا عن حدود سننه وما رسمه سبحانه من طرق للخير الشر معًا.
سورة الانفطار
مكية وآياتها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ