وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (١٦٢) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (١٧١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
٢ - ﴿واليوم الآخر﴾ أن يكون مؤمنًا باليوم الآخر إيمانًا يعلم الإنسان معه أن له حياة في عالم غيبي أسمى من هذا العالم فلا يرضى أن يحصر سعيه لهذه الدنيا ويقنع بما فيها فقط.
٣ - ﴿والملائكة﴾ أن يكون مؤمنًا بوجود الملائكة الذين هم رسل الله المنفذة لأوامره في هذا الوجود إيمانًا يجعله يرهب مالكهم وآمرهم.
٤ - ﴿والكتاب﴾ أن يكون مؤمنًا بكل ما جاء من عند الله من الكتب المنزلة إيمانًا يجعله يحرص على العمل بما جاء فيها من أحكام ليفوز بالنعمتين، نعمة الحياة الطيبة في الدنيا، ونعمة السعادة في الآخرة.
٥ - ﴿والنبيين﴾ أن يكون مؤمنًا بالنبيين والمرسلين من عند الله جميعهم إيمانًا يقتضي التفكر في ما قاموا به من دعاية لنشر الدعوة الدينية وما صادفوه في هذا السبيل وأن يتخذ المرء من تاريخهم وسيرهم مرشدًا إلى صدق أخبارهم والاهتداء بتعاليمهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم والاقتداء بهم في نشر دعوتهم.
﴿و﴾ ثانيًا ﴿وآتى المال على حبه﴾ أي أن يكون باذلًا للأموال مع فرط حبه لها في سبيل الله عن طيب نفس لكل من يراه محتاجًا ممن يأتي.
١ - ﴿ذوي القربى﴾ لأنهم أحق الناس بالبر والصلة فلا يليق بذي عاطفة نبيلة أن يتقلب في النعيم وأقرباؤه في بؤس ومتربة.
٢ - ﴿واليتامى﴾ لأنهم بموت كافلهم تجب كفالتهم على المسلمين لئلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم فيكونوا شرًّا على المجتمع الإنساني.
٣ - ﴿والمساكين﴾ لصيانتهم من شر الفاقة وذل السؤال.
٤ - ﴿وابن السبيل﴾ وهو المسافر: ليشعر بروح الإخاء الإسلامي في السفر والحضر.
٥ - ﴿والسائلين﴾ وهم الذين تدفعهم الحاجة إلى السؤال: لئلا يعودوا بعد السؤال خائبين محزونين.
تقدمون من طيبات أرزاقكم لوجهه الكريم إلى أصحاب الصفات التي أوصى بتخيرها فيجزى على ذلك الجزاء الأوفى.
بعد أن حض الله على الصدقة وبين كثيرًا من أحكامها وأشار إلى أفضل من تصرف إليهم من الفقراء ختم هذا البحث بذكر أكمل وجوه الإنفاق فقال (الذين ينفقون أموالهم) في سبيل الله ابتغاء جزائه (بالليل والنهار) ولا يحصرونها في الأيام الفاضلة دون غيرها (سرًا وعلانية) أي يجمعون في ذلك بين الفضيلتين أولئك الذين بلغوا نهاية الكمال في الإنفاق (فلهم) على الله عهدًا أن يؤتيهم (أجرهم) الذي وعدهم به، إن الله لا يخلف الميعاد (عند ربهم) في الآخرة (ولا خوف عليهم) في هذه الدنيا من الفقر فقد روى أبو هريرة عن رسول الله قوله «ما نقصت صدقة من مال» وفي الصحيح عن عمرو بن عوف مرفوعًا «إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب الله بها الكبر والفقر» (ولاهم يحزنون) على ضياع أموالهم لعظيم ثقتهم بالله وأنهم أقرضوها لمن يملك مضاعفتها وزيادتها ما هو خير من ذلك بكثير «ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور». وإن مما يؤسف له أنه لا يثق الناس في عصرنا الحاضر بهذا الوعد الإلهي ثقتهم بضمان البنوك وهذا ما جعلهم يضنون بأموالهم على الفقراء وقد أدى هذا إلى فساد المجتمع وانتشار الشيوعية التي لا سبيل إلى مقاومتها إلا بالعمل بهذه الآية من كلام الله العليم بما يصلح شؤون العالم.
بعد أن أتى الله بذكر أفضل الناس أعمالًا وهو المنفقون أموالهم في سبيله أتى بذكر أبغضهم إليه سبحانه وتعالى وهم الذين يرتكبون أسوأ أنواع المعاصي وهو الربا لما بينهما من تناسب في الشكل وتباين في الحكم إذ الصدقة عبارة عن إسعاف المعوزين بجانب من المال طاعة لأوامر الله وطمعًا في ثوابه، والربا عبارة عن مساعدة المحتاجين بالمال مقابل زيادة محدودة بالاتفاق بين المعطي والآخذ قد تعود على المحتاج بأشر النتائج عند حلول أجل السداد، وقد حث الله على الصدقة ونهى عن الربا ليسد في وجه المؤمنين سبيله ويضطرهم إلى العمل الحر والقرض الحسن فأبى بعض الناس إلا أن يحكم عقله في الأمر بعد حكم الله فلم يجد فارقًا بين البيع والربا والتبس عليه الأمر فاستحل الربا وأقبل عليه قائلًا إنما البيع مثل الربا، فأخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن هذا
النون وقرئ بتشديدها أولئك القوم الذين خالفوا سنن الله ولم يتبعوا تعاليمه هم الذين ساءوا إلى الحرث وأضاعوا مصلحتهم وجنوا عليها وكانوا ﴿أنفسهم يظلمون﴾ أي أنهم جروا الظلم إلى أنفسهم بمخالفتهم للسنن وإهمالهم اتباع الأوامر وهكذا فإن الله قد أنعم على الكفار بما أنعم من مال وبنين وأفهمهم أن هذه الدنيا لم تكن سوى مزرعة للآخرة ووقت زراعتها هو هذه الحياة وشرع لهم من الدين ما يرشدهم إلى سنن الحياة وطرق الاستفادة من تلك النعم، فإذا هم لم يحسنوا التصرف وقصروا في واجب الزرع في وقته أو زرعوا ما لا يصلح للزرع كالذين أنفقوا أموالهم في غير ما خلقت له من طاعة الله، ثم إنهم لم يجدوا لزرعهم حصادًا ولا لنفقتهم ثمرة يوم القيامة لم يكن لهم أي حق في التظلم إنما الظلم كان صادرًا منهم بعدم استفادتهم من تعاليم الله التي جاءتهم بواسطة أنبيائه فلا غرو إذا ما نالوا جزاء ذلك، وعلى نفسها جنت براقش، وكانوا لأنفسهم يظلمون.
بعد أن حذر المؤمنين من التطلع إلى ما لدى الكافرين من مال وبنين أخذ سبحانه يحذرهم من الثقة بهم وبمن شاكلهم من المنافقين والامتناع عن الإفضاء إليهم بأسرارهم فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بالله وأيقنوا بصحة ما جاء في هذا الكتاب ﴿لا تتخذوا﴾ لكم في دوركم وأعمالكم الخاصة ﴿بطانة﴾ بطانة الرجل خاصته تسرون إليهم بما في نفوسكم وتطلعونهم على دخيلة أمركم وتكون هذه البطانة ﴿من دونكم﴾ أي من طبقة أحط منكم في المكانة والدرجة ويراد بها الديانة لأن الله قد ساوى بين المسلمين فيها وجعلهم لهم العزة على من دونهم من الكفار والمنافقين، وذلك لأنهم ﴿لا يألونكم خبالاً﴾ بمعنى لا يقصرون في جلب الخبال لكم وهو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابًا كالجنون والمرض المؤثر في الفكر ﴿ودوا﴾ من صميم قلوبهم ﴿ما عنتم﴾ العنت الوقوع في الشدة والهلاك أي أحبوا كلما فيه هلاككم ﴿قد بدت البغضاء﴾ لكم ﴿من أفواههم﴾ بما يظهرونه علانية من تكذيب نبيكم وكتابكم لأن معنى هذا أنهم ينسبونكم إلى الجهل والحمق والتغفيل باعتناقكم الدين الباطل ﴿وما تخفي صدورهم﴾ من الحقد عليكم أن تكونوا في نعمة وأنتم على ما أنتم عليه من جهل وحماقة في نظرهم ﴿أكبر﴾ مما بدا لكم من بغضائهم لأن ذلك الحقد سيدفعهم لا محالة إلى الكيد لكم والعمل على سلب نعمتكم وتعكير هنائكم وأنت لا تشعرون، ﴿قد بينا لكم﴾ معشر المؤمنين ﴿الآيات﴾ وأقمنا لكم البراهين على وجوب الحذر من
وعدم الاتكال في السر على أحد سواء، ولقد أراد الله أن يعرف الناس بأولئك الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب ويبين كيفية تلك الضلالة التي هم عليها بقوله: ﴿من الذين هادوا﴾ أي اليهود من بني إسرائيل قوم ﴿يحرفون الكلم﴾ وقرئ «الكلم» كمع كلمة المخففة بتأويل الكلمات وحمل الألفاظ على غير معانيها الأمر الذي أدى بهم إلى إنكار نبوته عليه الصلاة والسلام وأولوا ولا يزالون يؤولون البشارات الواردة في كتبهم إلى يومنا هذا بأنها إشارة إلى شخص آخر لا يزالون ينتظرونه وسوغ لهم ذلك إرتكاب بعض الحل للتحرر من قيود الأحكام الإلهية ﴿ويقولون سمعنا﴾ قولك بأذاننا ﴿وعصينا﴾ أمرك بأعمالنا روى مجاهد أنهم كانوا يقولون سمعنا قولك ولكن لا نطيعك ﴿وأسمع غير مسمع﴾ أي: أنك تحاول أن تسمع من لا يستمع إليك فكلامك عبث غير معقول ﴿وراعنا﴾ أي: ويقولون راعنا ليوهموا النبي أنهم يلتمسون منه الرعاية غير أنهم ينطقون بها ﴿ليّا بألسنتهم﴾ ويقصدون بذلك السخرية ﴿وطعنًا في الدين﴾ كقولهم في التحية «السام عليكم» أي: ذو السم عليكم ويوهمون بفتل اللسان وليه في خطابهم للنبي ﷺ قولهم: السلام عليكم ـ ولذا كان الرسول يجيبهم على قولهم بقوله: «وعليكم» أي مثل ما قلتم أو قصدتم ﴿ولو أنهم قالوا سمعنا﴾ قولك ﴿وأطعنا﴾ أمرك ﴿واسمع﴾ قولك إلى الناس كافة لعلهم يهتدون ﴿وانظرنا﴾ وانظر إلينا نظر رعاية ورفق بعبارات واضحة صريحة لا نفاق ولا مواربة ﴿لكان خيرًا لهم وأقوم﴾ مما قالوه ﴿ولكن لعنهم الله بكفرهم﴾ أي غضب الله عليهم بسبب كفرهم بما أنزل عليهم وأعرض عن هدايتهم ﴿فلا يؤمنون﴾ بالله ﴿إلا قليلًا﴾ منهم ممن عاد إلى رشده وذكر الله فتاب إليه وأناب والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (٥٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا
الله} أي هل أنت دعوتهم إلى عبادتك وأمك، وصرفتهم عما أرسلت به من وجوب إفراد الله بالعبادة، وأفهمتهم أن لك شخصية ذاتية تستطيع أن تنفع أو تضر حتى تعلق الناس بك من دوني، وصاروا يوجهون لك دعواتهم، وينتظرون إمدادك لهم في النائبات ﴿قال﴾ عيسى ابن مريم ﴿سبحانك﴾ أنزهك عن أن يكون معك إله وأنت رب العالمين فهذا ما لا يقول به عاقل و ﴿ما يكون لي﴾ وأنا معترف بعبوديتي لك ﴿أن أقول ما ليس لي بحق﴾ أي أن أتجاوز حدود الرسالة التي أمرت بتبليغها للناس ولا يخفى عليك شيء من أمري ﴿إن كنت قلته﴾ أي ذلك القول ﴿فقد علمته﴾ ولا شك فإن علمك محيط بكل شيء ﴿تعلم ما في نفسي﴾ أي ما أسره وأخفيه فضلًا عما أظهرته ودعوت إليه ﴿ولا أعلم ما في نفسك﴾ مما تريده بخلقك، وما من أجله خلقت الناس وجعلت منهم سعيدًا وشقيًا ومطيعًا وعاصيًا وقدرت لكل جزاءه في الآخرة من جنة أو نار ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ بضم الغين وقرئ بكسرها في جميع القرآن. تعلم ما كان وما يكون ولا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء. ولأجل تقرير الواقع الذي ينبغي أن يترتب عليه الحساب والعقاب قال عيسى ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به﴾ أي ما أمرتني بإبلاغه لهم ﴿أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ ومعنى هذا أني لم أدعهم قط لعبادتي بل لعبادتك وحدك، وصرحت لهم بأني عبد من عبادك مثلهم تمامًا ﴿وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم﴾ فلم أسمع من أحد منهم نسبة ألوهية إليّ حتى أنهاهم عن ذلك، وإنما كنت أسمع منهم الكفر بك وإنكار رسالتي عنك فأعمل جاهدًا على دعوتهم للإيمان والسمع والطاعة وأقر الحق وأنكر الباطل أثناء وجودي بينهم ﴿فلما توفيتني﴾ توفّى مطاوع وفّى الرجل ما عليه أي أداه كاملًا. ومنه قوله تعالى: ﴿وإبراهيم الذي وفى﴾ ومعنى توفيته أنه بذل جهده في جميع ما طولب به فيكون المعنى: «بعد أن أديت الرسالة الموكولة إليّ» وليس في هذا ما يشعر بأن عيسى قد مات إذ الوفاة إنما تكون للنفس بمفارقتها للجسد أو بفقد شعورها وعاقليتها بخلاف الموت فإنه مفارقة الروح للجسد كما قال تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى﴾ انظر الفارق بين النفس والروح ص ٣٢ جزء ٣ ﴿كنت أنت الرقيب عليهم﴾ بعد انتهاء مدة رسالتي وإقامتي بينهم ومراقبتي لهم وشهادتي عليهم ﴿وأنت على كل شيء شهيد﴾ فأنت خير شهيد عليهم مدة وجودي بينهم وبعد وفاتي، ولا شهادة أصدق من
فقال «فلولا أخذتم مسكها» يعني جلدها قالت يا رسول الله أنأخذ مسك شاة ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة﴾ وأنكم لا تطعمونه وإنما تدبغونه حتى تنتفعوا به» فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته واتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: «إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها وهو اللحم فأما الجلد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال» أما اللحم فكما يحرم أكله يحرم بيعه ﴿فمن اضطر﴾ إلى أكل شيء من هذه الأنواع الأربعة لمجاعة أصابته ولم يجد غيرها حال كونه ﴿غير باغ﴾ أي راغب فيه وطالب له ﴿ولا عاد﴾ أي متعد في الأكل قد الضرورة ﴿فإن ربك غفور﴾ لا يؤاخذه بأكل ما يمسك رمقه ويدفع به الهلاك عن نفسه ﴿رحيم﴾ بعباده فلا يؤاخذهم بما هو فوق طاقتهم والضرورات تبيح المحظورات وهنا أراد سبحانه وتعالى أن ينبه رسوله إلى أنه سبق له تعالى أن حرم بعض ما أحله له لقوم معينين تحريمًا عارضًا لسبب خاص فقال ﴿وعلى الذين هادوا﴾ أي اليهود دون غيرهم من أتباع الرسل ﴿حرمنا كل ذي ظفر﴾ أي لحم كل ذي ظفر والظفر من الأصابع معروف ويكون للإنسان وغيره من الطيور والأنعام وجرى المفسرون على أنه يطلق على كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وعلق الرازي على هذه الآية بقوله بأنها تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود من وجهين «الأول» أن قوله على الذين هادوا حرمنا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة «والثاني» أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا﴾ فائدة فثبت أن تحريم السباع وذوي المخلب من الطير مختص باليهود فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين وعلى هذا نقول إن ما رُوِيَ من أنه ﷺ حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله فوجب أن لا يكون مقبولًا وهذا يقوي قول مالك في هذه المسألة، وقد عقب على هذا فضيلة الشيخ رشيد رضا بقوله: إن تضعيف الحديث من صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من جهة المتن وقد قالوا إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي وقد جمعنا بينهما مجمل النهي على الكراهة في حال الاختيار وهو مذهب مالك أ هـ. والذي أعتقده أنه لا كراهة بالمرة فالموضوع ليس محل مساومة وتوفيق بين رأيين وليس من حقنا أن نزيد في المحرمات عما حصرها الله فيه ومن الخطأ أن نحاول تبرير قول فرد في أمر نص القرآن على أنه خص اليهود بحرمته ونقول
وأحفادهم برغم ما بدا منهم من كفر أو عناد فلكل شيء عند الله جزاؤه ﴿ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه﴾ من ادعاء الربوبية واستعباد الشعب بأسره وظلمه واستخدامه في أغراض الملوك المستبدين أي أن هذا النوع من الحكم القائم على أساس ادعاء الربوبية لا يمكن أن يعود ﴿وما كانوا يعرشون﴾ من أهرامات ومنازل شامخات مفاخرين بتطاولها كما قال تعالى: ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا﴾ فدمر الله كل تلك القصور وسوى الأرض عليها حتى اكتشفها الناس بعد مئات السنين وأظهروا آثارهم لتكون عبرة لمن اعتبر. مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون﴾.
بعد أن أخبرنا الله بما كان من أمر مكافأة شعب بني إسرائيل على صبرهم الماضي انتقل إلى ذكر ما فعلوه بعد إطلاق سراحهم من قيود الذل والاستعباد وما بدا منهم من كفر وعناد فقال تعالى: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر﴾ أي بعد فلق البحر ودخولهم إلى البر الأسيوي من بلاد العرب وهي فلسطين بعد إغراق فرعون وجنوده وأصبحوا في مأمن من عدوانه ﴿فأتوا على قوم يعكفون﴾ بضم الكاف وقرئ بكسرها ﴿على أصنام لهم﴾ أي مروا بقوم يعبدون الأصنام وهي جمع صنم وهو ما يصنع من الحجر أو الخشب أو المعدن تمثالًا لشيء خيالي لا حقيقة له يعظم ويعبد ﴿قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا﴾ ماديًا نعظمه ونتقرب إلى الله بتعظيمه كما كان فرعون يوزع عليهم الأصنام ليعبدوها ﴿كما لهم آلهة﴾ أصنامًا يسجدون لها ويعتقدون أن لها أثرًا في النفع والضر وقد قال مثل هذا القول بعض أتباع الرسول ﷺ إذ مروا بشجرة يقال لها ذات أنواط كان المشركون يعلقون بها أسلحتهم تبركًا وانتظارًا للنصر بسببها فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فزجرهم عن ذلك وقال: «قلتم كما قال بنو إسرائيل ﴿اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة﴾» فدل هذا على أن كل ما يظن أن له في ذاته ************* إلى الله بتقديسه يعد صنمًا سواء كان ذلك من الجمادات أم كان من الأحياء وأن ما يوضع على قبور الصالحين من التوابيت والقباب التي من شأنها أن يعكف الناس حولها طلبًا لقضاء الحوائج وتوسلًا بأصحابها إلى الله يعد عبادة لغير الله أو إشراكًا لصاحب القبر معه جل وعلا، أما تماثيل بعض الحيوانات التي يضعها الناس على أبواب القصور وفي القرى للزينة أو للعب الأطفال فهي محرمة ولكنها لا تسمى
بالتاء بدل الياء: ﴿منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله﴾ أي أن من سنن الله التي خص بها المؤمنين في حال صبرهم واعتمادهم على الله أن يغلب الواحد منهم في حال ضعفه مثليه: ﴿والله مع الصابرين﴾ أي أن هذا عدى ما قضت به سننه تعالى من تغلب الصابرين على غيرهم في كل أمر وما أعد الله للصابرين على النوائب من الأجر العظيم.
بعد أن بين الله لرسوله ما يجب اتباعه في معاملة الكافرين وأمره بتحريض المؤمنين على القتال ليزيل خوفه من قلوبهم أخذ ينبه إلى خطأ في حكم صدر منه في موضوع الأسرى يوم بدر لا يؤاخذ عليه ولكنه ينبغي أن يوضع موضع الاعتبار في المستقبل باعتباره سنة من سنن الله في الحرب وهو يتلخص في أن الرسول ﷺ عندما تم له النصر على قريش يوم بدر وجيء بالأسرى استشار أصحابه في أمرهم فقال أبو بكر يا رسول الله بنو العم والعشيرة أرى أن نأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام، وقال عمر لا والله لا أرى رأي أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها وقال العباس وهو يسمع ما يقول أقطعت رحمك فدخل النبي ﷺ ولم يرد عليهم ثم خرج فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: ﴿فمن اتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم﴾ ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ ومثلك يا عمر كمثل نوح إذا قال: ﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا﴾ ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال: ﴿ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم﴾» وبالنظر لما جبلت عليه نفسه الطيبة من الرحمة آثر رأي أبي بكر اجتهادًا منه وأمر بأخذ الفدية من الأسرى أو الاسترقاق دون أن ينتظر حكم الله فيهم وكان هذا هو الأصل في مشروعية الرق في الإسلام ولم يسأله الصحابة عن ذلك كما سألوه عن الحكم في الأنفال وقد أخرج ابن جرير عن أبي زيد قال لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه وقال يا رسول الله ما لنا وللغنائم ونحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله وقد أراد سبحانه وتعالى بيان ناحية الخطأ في ذلك فقال: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ أثخن في
على الحريات وأكل الأموال بالباطل والغرور بالنفس والقبائل إلى غير ذلك من الأمور التي يجب على كل عاقل أن يحاربها ويزيل أثرها من الوجود.
٣ - لأن معارضة هؤلاء للإسلام إنما هي موجهة إلى جوهر العقيدة التي هي أغلى شيء عند المؤمن.
٤ - لأن وجودهم خطر يهدد الإسلام بفتنة الناس فيه وثورتهم عليه في يوم من الأيام.
٥ - لأن الله تعالى العليم بالسرائر قد أخبر نبيه في القرآن بأنهم قوم لا عهد لهم ولا ميثاق وأنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وقد بدا ذلك منهم فعلًا في معاملتهم للمؤمنين من قبل مرارًا.
أما غير هؤلاء من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وكتبه المنزلة على موسى وعيسى ولم يعترفوا برسالة محمد ﷺ وأبوا أن يتقبلوا هداية الإسلام وما جاء به من تصحيح لما أدخل على كتبهم من تحريف وتبديل فقد أوجب الله قتالهم حتى يعترفوا بالإسلام دينًا من عند الله وعندئذ يسمح لهم بالإقامة بين المسلمين في ديار الإسلام لأنهم أقرب للإسلام من غيرهم على أن يدفعوا للدولة الإسلامية الجزية المستطاعة لقاء إعفائهم من تكاليف الجهاد معهم في سبيل الله. وقد أنزل الله تعالى في شأنهم وفي مراعاة البر بهم والقسط معهم ومع أمثالهم من الكفار الذين لم يتعرضوا للإسلام بحرب ولا للمسلمين بأذى. قوله تعالى: ﴿عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾ [الممتحنة: ٧ - ٩].
وقفل الله باب الحرم في وجوه كلا الفريقين احترامًا لشعور المؤمنين وصيانة لهم من أذى تلك العقائد الفاسدة والعبادات المنكرة والعادات المستقبحة. فكانت تلك الآيات من براءة ثورة على المبادئ الهدامة والظلم والفساد وستارًا حديديًا وضع دون تسرب الفحش والضلال إلى أشرف البقاع فكان له أثره المحمود في صدر الإسلام.
اتخذتم له أندادًا ودعوتم غيره في النائبات: ﴿عذاب يوم أليم﴾ أي شديد الإيلام هو يوم القيامة: ﴿فقال الملأ﴾ وهم كبراء القوم الذين يملئون العيون أبهة والصدور هيبة: ﴿من قومه﴾ تعليلًا لرفض دعوته أربعة أسباب الأول: ﴿ما نراك إلا بشرًا مثلنا﴾ أي لست مميزًا علينا في الجنس حتى تكون أهلًا لإنذارنا وحتى نعترف لك بالنبوة والرسالة من الله، والثاني قولهم: ﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا﴾ أي إنه لم يتبعك غير البسطاء والرعاع: ﴿بادي﴾ وقرئ «بادئ» بالهمزة: ﴿الرأي﴾ أي الذين يسلمون بكل شيء في بادئ الأمر ولأول وهلة قبل التفكر فيه والنظر في حقيقته ومراميه، السبب الثالث قوله: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ أي وما نرى لك ولمن اتبعك علينا من فضل تمتازون به علينا من قوة أو كثرة أو علم أو رأي يحملنا على اتباعكم والتسليم لكم بالزعامة علينا، السبب الرابع وهو توجيه الاتهام إليهم جميعًا بقولهم: ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ أي فأنتم والحالة هذه لا تستحقون شيئًا من العناية والتقدير،: ﴿قال﴾ نوح جوابًا عن السبب الأول وهو قولهم: ﴿وما نراك إلا بشرًا مثلنا﴾ بقوله: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ أي ما دمت واثقًا من معرفتي بالله من آثاره وآلائه: ﴿وآتاني رحمة من عنده﴾ وهي النبوة والرسالة التي تميزني عنكم: ﴿فعميت﴾ بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله وقرئ بفتح العين وتخفيض الميم أي التبست: ﴿عليكم﴾ وصارت محل ارتياب لديكم فلم تؤمنوا بها،: ﴿أنلزمكموها﴾ أي هل في استطاعتي أن أقركم على الإيمان بنبوتي ورسالتي: ﴿وأنتم لها كارهون﴾ أي وأنتم كارهون تميزي عنكم، وقال جوابًا عن السبب الثاني وهو قولهم: ﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي﴾ بقوله: ﴿ويا قوم لا أسألكم عليه﴾ أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة: ﴿مالًا﴾ حتى أحرص على إرضائكم وجذبكم إليّ فسيان عندي أن يكون المستجيب لدعوتي فقيرًا أم غنيًا،: ﴿إن أجري﴾ على هذه المشقة في نشر الدعوة: ﴿إلا على الله﴾ رب العالمين الذي أرسلني وأمرني بإنذاركم. وقال جوابًا عن السبب الثالث وهو قولهم: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ بقوله: ﴿وما أنا بطارد الذين آمنوا﴾ ممن ترون أنفسكم أفضل منهم طمعًا في قربكم مني ونيل رضائكم عن دعوتي فلا فضل عند الله إلا بالتقوى وهذا أمر ليس من شأني التدخل فيه: ﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ وهو الذي سيتولى حسابهم كما قال في سورة الشعراء: ﴿إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون﴾،: ﴿ولكني أراكم قومًا تجهلون﴾ إذ تزكون أنفسكم
أن يكون له شبيهه في ذاته وصفاته: ﴿وما أنا من المشركين﴾ أي ولست بفطرتي وبما آتاني الله من علم ممن يعتقد أن لله في حكمه شريكًا أو شفيعًا أو وسيطًا: ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي﴾ وقرئ: ﴿يوحى﴾ بالبناء للمفعول: ﴿إليهم﴾ أي أن الرسل السابقين جميعهم كانوا من الرجال لا من الملائكة ولا من النساء أما من أوحي إليهن من النساء فذلك وحي خاص لأمور تتعلق بهن ولم يكن أنبياء بل سمى الله أشرفهن السيدة مريم العذراء صديقة: ﴿من أهل القرى﴾ أي ولم يكونوا من البدو الرحل جافي الطباع فلماذا يعجب المشركون من رسالتك وأنت لم تكن أقل منهم درجة ومكانة: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ أي ماذا انتهى إليه مصير من كذبهم من محق ودمار فيحذروا تكذيبك: ﴿ولدار الآخرة خير للذين اتقوا﴾ الشرك والمعاصي: ﴿أفلا تعقلون﴾ وقرئ: ﴿يعقلون﴾ بالياء أي فلا تعجب أيها الرسول من تأخر نصرنا لك فتلك سننا في نصر رسلنا، أن يثابروا على دعوتهم ويصبروا على ما يصيبهم، من أذى إلى آخر حدود الصبر: ﴿حتى إذا استيأس الرسل﴾ من هداية قومهم لما يرونه من إصرارهم وعنادهم وانهماكهم في الطغيان: ﴿وظنوا أنهم﴾ أي ظنت الرسل أن من معهم من المؤمنين: ﴿قد كذبوا﴾ بمعنى تزلزل إيمانهم بهم لطول انتظارهم للنصر وقرئ «كذّبوا» بالتشديد كما كانت تقرؤها السيدة عائشة رضي الله عنها وكانت تقول معاذ الله لم تكن الرسل تظن بربها أنه كذبها بل هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر فظنوا أن الرسل قد كذبوهم فيما أكدوه لهم من نصر الله لهم: ﴿جاءهم نصرنا﴾ في آخر لحظة: ﴿فنجيء﴾ من الهلاك: ﴿من نشاء﴾ أي من انطبق عليه نظام المشيئة الذي يقضي بنصر المؤمنين الصابرين: ﴿ولا يرد بأسنا﴾ أي لا يمنع عقابنا وبطشنا: ﴿عن القوم المجرمين﴾ المكذبين رسلنا لأنهم سائرين بأعمالهم إلى حتفهم: ﴿لقد كان في قصصهم﴾ أي قصص الرسل السابقين التي وردت في القرآن: ﴿عبرة﴾ أي سبيلًا للاعتبار ومعرفة الحكم الإلهية: ﴿لأولي الألباب﴾ أي أصحاب العقول الراجحة الذين يتدبرون آيات الله ويستدلون بالمقدمات على النتائج ويخافون سوء العاقبة: ﴿ما كان﴾ هذا القصص: ﴿حديثًا يفترى﴾ أي مجرد أقاصيص من نسيج الخيال: ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ أي ولكنه عرض لحقيقة ما دعا إليه سائر الرسل من توحيد الله وعدم الشرك به وما قوبلوا به من تكذيب وإعراض: ﴿وتفصيل كل شيء﴾ من شأنه أن يغرس الإيمان في القلوب ويحملها على طاعة
يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلّهِ
على الحريات وأكل الأموال بالباطل والغرور بالنفس والقبائل إلى غير ذلك من الأمور التي يجب على كل عاقل أن يحاربها ويزيل أثرها من الوجود.
٣ - لأن معارضة هؤلاء للإسلام إنما هي موجهة إلى جوهر العقيدة التي هي أغلى شيء عند المؤمن.
٤ - لأن وجودهم خطر يهدد الإسلام بفتنة الناس فيه وثورتهم عليه في يوم من الأيام.
٥ - لأن الله تعالى العليم بالسرائر قد أخبر نبيه في القرآن بأنهم قوم لا عهد لهم ولا ميثاق وأنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وقد بدا ذلك منهم فعلًا في معاملتهم للمؤمنين من قبل مرارًا.
أما غير هؤلاء من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وكتبه المنزلة على موسى وعيسى ولم يعترفوا برسالة محمد ﷺ وأبوا أن يتقبلوا هداية الإسلام وما جاء به من تصحيح لما أدخل على كتبهم من تحريف وتبديل فقد أوجب الله قتالهم حتى يعترفوا بالإسلام دينًا من عند الله وعندئذ يسمح لهم بالإقامة بين المسلمين في ديار الإسلام لأنهم أقرب للإسلام من غيرهم على أن يدفعوا للدولة الإسلامية الجزية المستطاعة لقاء إعفائهم من تكاليف الجهاد معهم في سبيل الله. وقد أنزل الله تعالى في شأنهم وفي مراعاة البر بهم والقسط معهم ومع أمثالهم من الكفار الذين لم يتعرضوا للإسلام بحرب ولا للمسلمين بأذى. قوله تعالى: ﴿عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾ [الممتحنة: ٧ - ٩].
وقفل الله باب الحرم في وجوه كلا الفريقين احترامًا لشعور المؤمنين وصيانة لهم من أذى تلك العقائد الفاسدة والعبادات المنكرة والعادات المستقبحة. فكانت تلك الآيات من براءة ثورة على المبادئ الهدامة والظلم والفساد وستارًا حديديًا وضع دون تسرب الفحش والضلال إلى أشرف البقاع فكان له أثره المحمود في صدر الإسلام.
تعالى صاحب الكبرياء، والعظمة لا تكون إلا لله جل جلاله: ﴿سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي نبرئه ونجله عن أن يكون له شريك في صفة من تلك الصفات التي يحاول الكفار إثباتها لسواه: ﴿هُوَ اللهُ الْخَالِقُ﴾ الذي أوجد أصول جميع الموجودات من العدم: ﴿الْبَارِئُ﴾ الصانع لسائر الأجرام المادية ومكيفها كما يريد: ﴿الْمُصَوِّرُ﴾ الذي يقدر الشكل والصفة والنوع: ﴿لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ وهي التي سمى الله بها ذاته العلية وعددها تسعة وتسعون اسمًا «مائة إلا واحدًا» وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن من أحصاها دخل الجنة»: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ أي يمجده ويشهد بعظيم قدرته: ﴿مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من كل صامت وناطق: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ المنيع الذي لا يؤثر في عزته انتقاص الكافرين لمقامه أو كفرهم بآلائه: ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يضع الأمور في مواضعها ولا يعمل أي شيء إلا عن حكمة وحسن قصد.
سورة الممتحنة
مدنية وعدد آياتها ثلاث عشرة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٧) لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ
وجاء الطوفان في عهد نوح: ﴿حملناكم﴾ أيها المؤمنون من نسل من كان في سفينة نوح ونجا من الغرق من بني الإنسان: ﴿في الجارية﴾ أي السفينة: ﴿لنجعلها لكم﴾ أي تلك الواقعة المعلومة بمعنى لنجعل من نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة: ﴿تذكرة﴾ أي عظة وعبرة: ﴿وتعيها﴾ أي تدركها وتحفظها ولا تنساها: ﴿أذن واعية﴾ أي تحيط بكل ما يلقى إليها رُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه عند نزول الآية قال لسيدنا علي كرم الله وجهه «سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي» – قال علي فما نسيت شيئًا بعد ذلك وما كان لي أن أنسى، أسأله تعالى أن يمنّ عليّ بمثلها أيضًا بعد أن فصل الله ما أنزله بالكافرين السابقين في الدنيا أخذ يصف طرفًا من أهوال يوم القيامة فقال: ﴿فإذا نفخ في الصور﴾ النفخ إخراج الهواء من الفم بقوة والصور هو البوق: ﴿نفخة﴾ بفتح التاء وفي قراءة بضمها: ﴿واحدة﴾ بمعنى إذا أعلن النفير العام مؤذنًا بقيام الساعة: ﴿وحملت الأرض والجبال﴾ أي رفعتا بقدرة الله ثم ألقيتا: ﴿فدكتا دكة واحدة﴾ أي فهدمتا على من فيها: ﴿فيومئذ﴾ أي حين تهدم الأرض والجبال: ﴿وقعت الواقعة﴾ التي كان الناس ينذرون بها وهي قيام الساعة: ﴿وانشقت السماء﴾ بمعنى تصدعت: ﴿فهي يومئذ واهية﴾ أي ضعيفة لا قوة لها ولا عزم: ﴿والملك﴾ أي جنس الملائكة الذين استثناهم الله من الصعق في قوله في سورة الزمر: ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾.
﴿على أرجائها﴾ أي أطرافها التي لم تصدع: ﴿ويحمل عرش ربك فوقهم﴾ أي يحمل العرش فوق رؤوسهم من الملائكة ثمانية وقد رُوِيَ عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ أنه قال – «أذن لي أن أحدثكم عن ملك حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه يخفق الطير سبعمائة عام» –: ﴿يومئذ تعرضون﴾ في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال – «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه وأخذ بشماله».: ﴿لا تخفى منكم﴾ بالتاء والياء أي من أعمالكم: ﴿خافية﴾ أي حتى ما خفي ودق منها حيث توزع الصحف على العباد وهي نسخ طبق الأصل مما كان الملائكة يستنسخونه ويسجلونه من أقوال الناس وأعمالهم: ﴿فأما من أوتي﴾ أي أعطي: ﴿كتابه بيمينه فيقول﴾ لمن حوله وهو ممتلئ بشرًا وسرورًا: ﴿هاؤم﴾ أي خذوا: {اقرءوا
لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَاماً كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ (١٩)}.
سورة الانفطار: لقد سبق أن افتتح الله السورة السابقة ببعض أشراط الساعة من تكوير السماء وكشطها وانكدار النجوم وتسجر البحار ثم أتى هنا بطريقة بدء خراب العالم وفناء الدنيا وفق سنن الله إذ يبدأ بتخريب الجانب العلوي أولًا ثم الجانب السفلي فقال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾ أي تصدعت وانشقت أو بمعنى تفككت أوصالها: ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾ تساقطت من أعلى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ بتشديد الجيم وقرئ بتخفيفها أي أزيلت الحواجز التي بينها فاختلطت وصارت كلها بحرًا واحدًا: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ أثيرت وظهر ما كان داخلها من الموتى أحياء: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ أي أن كل إنسان إذ ذاك يؤتى من قوة الذاكرة ما يستطيع معه أن يستعرض جميع أعماله ما كان منها لدنياه وما كان لآخرته فيحاسب نفسه قبل أن يحاسب إذ قال: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ أي ما الذي خدعك فسول لك عصيان ربك وأمنك من عقابه وجعلك تجحد نعمه وكرمه العظيم عليك وهو أجل من أن يخفى فإنه سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾ من تراب ثم من نطفة: ﴿فَسَوَّاكَ﴾ أي جعل خلقتك وفق ما اقتضت حكمته العلية: ﴿فَعَدَلَكَ﴾ بتخفيف الدال، أي جعلك معتدل القامة لا كسائر الحيوانات محنيًا، وقرئ: ﴿عدّلك﴾ بتشديد الدال، أي جعل خلقتك حسنة.
﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ أي اختار لك هذه الخلقة التي تعجب بها بعد أن كان في إمكانه أن يشوه خلقتك ويجعل رأسك كرأس حمار أو كلب مثلًا.: ﴿كَلاَّ﴾ لا ينفعكم إذ ذاك حسابكم أنفسكم: ﴿بَلْ﴾ إنكم ستحاسبون وتجزون على ما كنتم: ﴿تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ الشرائع التي أنزلت عليكم من ربكم.: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ أي وقد كان عليكم ملائكة قادرين على حفظ ما يصدر منكم من قول وعمل.: ﴿كِرَامًا﴾ أي مخلوقات من أحسن المخلوقات التي لا تحابي ولا تظلم.: ﴿كَاتِبِينَ﴾ لا يعتمدون على مجرد الحفظ بل إنهم يستنسخون صورًا طبق الأصل لجميع أعمالكم وأقوالكم وهم: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ أي منحوا قوة العلم بجميع أقوال وأعمال العباد


الصفحة التالية
Icon