صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٨٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ
٦ - ﴿وفي الرقاب﴾ أي سبيل عتق الرقاب لما في ذلك من تعاون وتساند على أحداث الأيام والليالي.
﴿و﴾ ثالثًا ﴿أقام الصلاة﴾ أي أن يكون مواظبًا على أداء الصلاة على ما ينبغي لها من التوجه إلى الله بالدعاء مع الخشوع وحضور القلب.
﴿و﴾ رابعًا ﴿آتى الزكاة﴾ أي أن يكون ممن يدفع زكاة أمواله في أوقاتها باعتبارها ضريبة قررها ووضعها الله لصلاح حال المجتمع فلا ينبغي التقاعس في أدائها ومحاولة الإفلات منها بشتى الطرق وأنواع الحيل.
﴿و﴾ خامسًا ﴿الموفون بعهدهم إذا عاهدوا﴾ أي أن يكون ممن إذا عاهدوا أوفوا بعهدهم لأن الوفاء ركن الأمانة وقوام الصدق ومحور الثقة بين الناس، ومن تعود الوفاء مع المخلوق فهو مع الخالق أشد وفاء.
﴿و﴾ سادسًا ﴿الصابرين﴾ أي أن يكون من الصابرين الذين لا يغضبون ولا ييأسون في حالات ثلاث:
١ - ﴿في البأساء﴾ عندما تستحكم بأحدهم أزمة من الأزمات التي لا يجد لها علاجًا ومخرجًا فيسلم أمره لله وهو واثق من حسن تدبيره وبهذا يكون قد أعاد الأمر إلى مرجعه وسلم القيادة إلى بارئها.
٢ - ﴿و﴾ في ﴿الضراء﴾ بحيث إذا صدم بصدمة أو حلت به كارثة أو مصيبة لم يتردد في أنها لم تكن عبثًا بل بقصد الاختبار فيستقبلها بكل صبر وترحاب مستجمعًا لها كل ما يملكه من شجاعة ورباطة جأش.
٣ - ﴿وحين البأس﴾ أي في ساحة الوغى بحيث إذا ما خاض غمار الحرب جهادًا في سبيل الله وإعلاء كلمته تذكر أن الله قد اشترى منه نفسه بجنة أعدها له فلم يحجم عن الإقدام ولم يقم
الفريق من الناس مصاب في عقله ولو أجمع الناس على سلامة قواه العقلية حيث قال (الذين يأكلون الربا) ويؤكلونه (لا يقومون) في الحياة (إلا كما يقوم) المجنون (الذي يتخبطه الشيطان) ويسيره على غير وعي وبدون هدى (من المس) أي الجنون الذي أصابه بجامع عدم الرشد في كل (ذلك) أي وإنما كانوا مثلهم (بأنهم) أي بسبب اعتمادهم على عقولهم القاصرة وأفكارهم الضيقة وإيمانهم بما توحيه إليهم تاركين حكم الله في ذلك مستحلين ما حرم الله حيث (قالوا إنما البيع مثل الربا) لا فرق بينهما ولا معنى لتحريم الربا دون البيع (و) هم يعلمون عند قولهم هذا أنه قد (أحل الله البيع وحرم الربا) ولا يمكن أن يحرم الله شيئًا إذا لم يكن فيه ضرر فقولهم هذا يعد معارضة وتكذيبًا لله لا يصدر ممن كان سليم العقل صائب التفكير، خصوصًا وأن الفرق بينهما واضح جلي كالشمس في رابعة النهار، فالبيع والمراد به استثمار المرء أمواله بنفسه أو بواسطة شركات تجارية مما يستلزم الاستعانة بالأيدي العاملة ويؤدي إلى منافع عامة شاملة وأرباح غير محدودة، وأما الربا فإن الزيادة التي تأتي منه محدودة وينفرد بها صاحب رأس المال، وقد يثقل بها كاهل المدين مما يؤدي إلى التحاسد والتخاصم والتقاطع (فمن جاءه موعظة) القرآن بالكف عن الربا (من ربه) فخضع وسلم بضرورة وجود فارق بين البيع والربا وآمن بضرر الربا (فانتهى) عن الاعتراض على أوامر الله وتاب عن فعله (فله ما سلف) ما أكل من ربا قبل ذلك ولا يكلف من الحاكم برد ما أخذه من ربا من قبل تسامحًا من الله وترغيبًا في الإقلاع عن الاستمرار فيه (وأمره إلى الله) إن شاء عذبه على ما أخذ من ربا قبل التوبة وإن شاء تحمل عنه وأرضى أصحاب الحقوق من عنده وتغمده برحمته ورضوانه إذا كان صادقًا في توبته ولم يعد إلى تعاطي الربا أبدًا (ومن عاد) إلى تعاطيه مستحلًا له (فأولئك أصحاب النار) يجزونها على ما فرط منهم قبل التوبة وبعدها و (هم فيها خالدون) دائمون دوامًا أبديًا لإصرارهم على مخالفة أوامر الله واستحلالهم ما حرم بعد ما تبين لهم الحق. وقد دلتنا هذه الآية على ما يأتي: -
١ - أن المرابين محكوم عليهم بالجنون وإن حسبوا لأنفسهم قوة في العقل لأنهم استحلوا ما حرم الله إذ جحدوا الحق ولم يصدقوا أصدق القائلين بقولهم بعدم وجود فارق بين البيع والربا في حين أن الله قد أثبت وجود هذا الفارق بتميزه بينهما في الحكم، ومن أدلة ذلك ما يأتي:
اتخاذهم بطانة لكم ﴿إن كنتم تعقلون﴾ إن كنتم من ذوي العقول النيرة التي تتدبر الأمور على حقائقها، ﴿هاأنتم أولاء﴾ اليوم لطيب سريرتكم ﴿تحبونهم﴾ والدليل على هذا الحب أنكم لا ترون مانعًا من اتخاذهم بطانة لكم ﴿و﴾ هم كما أسلفنا لسوء سريرتهم ﴿لا يحبونكم﴾ بل يبغضونكم ويحقدون عليكم ﴿وتؤمنون﴾ أنتم ﴿بالكتاب كله﴾ أي بكل ما أنزل الله من كتب على رسله باعتبارها جميعًا من عند الله وتحاولون هدايتهم إلى الإيمان، أما هم فلا يؤمنون كما آمنتم بل إنهم ليخادعونكم ﴿وإذا لقوكم قالوا﴾ في وجوهكم ﴿آمنا﴾ بالله وكلنا نعمل على طاعته وابتغاء مرضاته ﴿وإذا خلوا﴾ إلى أنفسهم ﴿عضوا عليكم الأنامل من الغيظ﴾ يقولون في أنفسهم هؤلاء الذين نعتقد أنهم جهلة حمقى يريدون هدايتنا إلى دين نجزم ببطلانه ثم لا نستطيع أن نوقفهم عند حدهم، وما أحرانا أن نكون نحن السادة لعلمنا وقدرتنا، وهم أتباع لجهلهم واحتياجهم إلى إرشادنا ﴿قل موتوا بغيظكم﴾ فقد كتب الله لنا العزة عليكم وأمرنا بدعوتكم إلى الإسلام وحسبنا أن تكتموا هذا الغيظ في نفوسكم ولا تستطيعوا إظهاره لنا ﴿إن الله عليم بذات الصدور﴾ ما تكنه قلوبنا من حسن النية وما تبيتونه من الحسد وسوء الطوية، وهو سبحانه سيجزى كلاً منا بما يستحق.
@أيا حاسدًا لي على نعمتي
#أتدري على من أسأت الأدب
@أسأت على الله في حكمه
#لأنك لم ترض لي ما وهب
@فجازاك ربي بأن زادني
#وسد عليك وجوه الطلب
﴿إن تمسسكم حسنة﴾ ولو بسيطة ﴿تسؤهم﴾ في سرهم ﴿وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها﴾ فتلك أمنيتهم ﴿وإن تصبروا﴾ عن اتخاذهم بطانة لكم رغم ما تجدونه في أنفسكم من الثقة بهم وما تأملونه من الاستفادة بنصائحهم وإرشادهم المؤدية إلى النجاح في شئون الدنيا ﴿وتتقوا﴾ أي وتحذروا نقمة الله من اتخاذهم بطانة لكم ﴿لا يضركم﴾ وقرئ بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره
بعد أن أخبر الله في الآية السابقة أنه تعالى قد لعن اليهود بسبب كفرهم وأنهم لا يؤمنون إلا قليلًا منهم عاد فوجه الخطاب إلى ذلك النفر القليل الذين لم تكن لهم يد في التبديل والتحريف أو كانوا سليمي النية منهم ومن غيرهم من الأمم فقال: ﴿يا أيها الذين أوتوا الكتاب﴾ أي يا من نزل عليهم من ربهم كتاب من كافة الأمم على ألسنة أنبيائهم ﴿آمنوا بما نزلنا﴾ الآن على عبدنا ورسولنا محمد من كتاب هو القرآن إذ أنه لم يكن إلا ﴿مصدقًا لما معكم﴾ من الكتب التي تقدسونها فإنه يتفق معها في أصول الدين وأركانه التي هي المقصد الأول من رسائل جميع الرسل فهو يأمر بالإيمان الذي تأمر جميع الكتب السابقة بالإيمان به وإخلاص العبادة له وتجنب الشرك به كما أنه يعترف برسالة سائر الرسل وكتبهم ولا يجحد نزولها من قبل الله وإنما يزيد عليها ببعض أحكام فرعية اقتضتها سنة الله بحسب نظام التدرج وارتقاء الأفكار فلا تترددوا في قبول ما جاء به وعجلوا بالإقبال عليه والعمل بما فيه ﴿من قبل أن نطمس وجوها﴾ الطمس إزالة الأثر بالمحو والوجوه جمع وجه وهو ما يبدوا للناظر من البدن أو من كل شيء أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي تحمى فيه الآثار الظاهرة ولا يقبل فيه من أحدكم عمل ﴿فنردها على أدبارها﴾ الأدبار: جمع دبر وهو من كل شيء مؤخرته وعقبه أي فنرجعها ونحيلها إلى عواقب أعماقها السابقة ﴿أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت﴾ الذين نهوا عن صيد الحيتان في يوم السبت فاتخذوا من الحيل على الله ما يجعلهم في حل من ذلك النهي مع الوصول إلى سبيل يحققون به شهواتهم في نفس الوقت إذ حبسوا الحيتان في بحيرة في ذلك اليوم ثم صادوه بعده وقد وضح الله طريقة لعنه لأولئك القوم بقوله تعالى في آية سابقة ـ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ـ والمعنى أن الإيمان مطلوب منهم منقبل أن يفاجئوا بذلك اليوم المنتظر الذي يبطل فيه مفعول الأعمال ويقفل باب التوبة
يَعْمَلُونَ (٦٦) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (٧٢) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٧٤) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَااتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللهُ
شهادتك. وإن في إنجيل يوحنا ما يثبت له عليه السلام قوله «٣٠٧ وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» وهنا أراد عيسى عليه السلام أن يستدر رحمة الله على قومه فقال ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك﴾ المنسوبون إليك والموصوفون بالتقصير في واجب طاعتك وأداء ما لك عليهم من حقوق فلا يستحقون غير العذاب ﴿وإن تغفر لهم﴾ ما كان منهم من كفر وسيئات ﴿فإنك أنت العزيز﴾ الذي لا ينال ولا يتأثر ملكه بشيء من أعمالهم ﴿الحكيم﴾ الذي لم ينزل الشرائع إلا لصلاح حال البشر في دنياهم فلا يضيره العفو عنهم في أخراهم رحمة بهم وإحسانًا ﴿قال الله﴾ جوابًا على استعطاف عيسى عليه السلام ﴿هذا﴾ اليوم أي يوم القيامة ﴿يوم﴾ بالرفع وقرئ بالنصب ﴿ينفع﴾ فيه ﴿الصادقين﴾ في الدنيا ﴿صدقهم﴾ في إيمانهم وشهاداتهم وسائر أقوالهم وأحوالهم وفق ما أخبر الله به عباده وما قطعه على ذاته العلية من وعد يقضي بأن ﴿لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا﴾ ولن يخلف الله وعده ﴿رضي الله عنهم﴾ من قبل في الدنيا لصدقهم فأمدهم بهدايته وتوفيقه وتقبل صالح أعمالهم ﴿ورضوا عنه﴾ في سرهم وجهرهم إذ وثقوا بصحة وعده واطمأنوا إلى وافر عدله ولم يداخلهم أي ريب في واسع رحمته فلا بد أن ينجز الله لهم وعده ويحقق آمالهم ويثيبهم على أعمالهم ﴿ذلك﴾ أي تبادل الرضا بين الله وعباده ﴿الفوز العظيم﴾ أي الذي يفوز به الإنسان في الآخرة بتحقيق آماله والوصول إلى منتهى غاياته فهو القائل ﴿لله ملك السماوات والأرض وما فيهن﴾ فهو الذي يمن بالرضاء عمن يحب ويجعله يرضى بقضائه ويصبر على بلوائه ويتفانى في محبته ﴿وهو﴾ بضم الهاء وقرئ بإسكانها في جميع القرآن ﴿على كل شيء قدير﴾ غير مقيد سبحانه بالسنن والعادات ولا الحكم بمقتضى الظاهر من العبادات ولا يعجزه أن يهدي الضال ويرحم العاصي ويتجاوز عن السيئات. نسأله تعالى أن يجعلنا من عباده المشمولين بالرضا، وأن يتجاوز عما يأتي منا وما مضى. وقد قلت في هذا ضمن قصيدتي نهج البردة ما يأتي:
@يا من قربت ونفسي عنك قد بعدت
#والنور منك هدى من شئت من أمم
@قد حجب الجهل عيني عنك يا أملي
#وأصبح القلب في بحر من الغمم
بكراهة ما أحل الله لنا وأخبرنا أنه من الطيبات التي حرمها الله عليهم عقوبة على عدة جرائم اقترفوها إذ يقول تعالى: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليما﴾. ﴿ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما﴾ أي بالإضافة إلى ما حرمه عليهم من لحومها باعتبارها من ذوات الأظفار والشحم الذي هو جوهر السمن أي المادة الدهنية الملتصقة باللحم والتي لا يكون بها الحيوان سمينًا واللحم لذيذًا ﴿إلا ما حملت ظهورها﴾ أي إلا الشحم الذي يعلق بالظهر ويسمى سنامًا فهذا أحله الله لهم باعتباره منفصلًا عن اللحم ﴿أو الحوايا﴾ أي المباعر والمرابض وهي المصارين والأمعاء ﴿أو ما اختلط بعظم﴾ كالعصعص والرأس والمراد به الإلية وشحم القوائم والرأس والعين والأذن ﴿ذلك﴾ أي حرمانهم من الشحم الشهي المتلصق باللحم دون الرديء ﴿جزيناهم ببغيهم﴾ أي تحريم الطيبات عليهم كان تنكيلًا بهم ولما كان هذا مظنة تكذيب اليهود ختم الله الآية بقوله: ﴿وإنا لصادقون﴾ فيما قصصناه عليك أيها الرسول من تحريمنا عليهم لحوم كل ذي ظفر وشحم البقر والغنم إلا ما استثني وأن هذا كان عقابًا على بغيهم ثم أردف هذا بقوله: ﴿فإن كذبوك﴾ في ما قررناه لك مما حرمناه عليهم ترفعًا منهم عن الإذعان بسيئاتهم التي استحقوا عليها التحريم محتجين بما في سفر الأوبين من أن الله قد أحل لهم من الحيوان ذا الأظلاف المشقوقة الذي يجتر دون غيره كالجمل والوبر والأرنب فإنه نجس لعدم انشقاق ظلفه وإن كان يجتر. والخنزير لأنه لا يجتر وإن كان مشقوق الظلف إلى غير ذلك من الإسرائيليات التي صدقها بعض المفسرين وبنوا عليها تفسيرهم ﴿فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين﴾ أي حقًّا إن رحمة الله واسعة ولكن سعتها لا تقتضي أن يعطل الله دستوره ويرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين بل قد يكون الجزاء في الدنيا مما يخفف عن المجرم العقوبة في الآخرة ويعد من رحمة الله به وقد يكون من ذلك عبرة وموعظة لغيرهم فيجتنبوا موجباتها من تحريم ما أحل الله فيظفروا بسعادة الدارين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
بعد أن ألقى الله في هذه السورة بيانًا مفصلًا في العقائد الصحيحة وأشار إلى شبهات المشركين وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث ووضح أعمالهم التي هي من مظاهر شركهم من تحريمهم لبعض الحرث والأنعام ونسبة ذلك إلى الله افتراء عليه دون أن يكون لهم أي دليل على ذلك أخذ يشير إلى شبهة من أعظم الشبهات
أصنامًا وكذلك تماثيل بعض الملوك والزعماء التي ينصبونها في الحدائق والميادين العامة للتذكير بتاريخهم وأعمالهم الحسنة للاقتداء بهم فليست من الأصنام إذ ليس فيها معنى العبادة بل الغاية منها سياسية محضة فلا حرج من الجلوس حولها للنزهة وإنما إثمها على صانعها لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة فيقال لهم أحيوا ما خلقتم» وأما الصور الشمسية فقد قال بعض العلماء بحرمتها قياسًا على ما ثبت من أن الرسول ﷺ قد أمر بهتك ستار نصبته السيدة عائشة في حجرتها وكان على هيئة الصور والتماثيل المعبودة وهذا في نظري قياس غير صحيح لعدة أسباب الأول أن السيدة عائشة عندما أنزلت ذلك الستار جعلت منه وسادة فلم ينكر الرسول عليها ذلك وسمح ببقائها في بيته بل كان يستعملها وفيها تلك الصور والثاني أن الرسول ﷺ حصر العذاب في صانعي تلك الصور وقال إنه يقال لهم «أحيوا ما خلقتم» والثالث أنه ورد في حديث آخر عن علة التحريم هي «أنهم يضاهون خلق الله» وهذه الصورة الشمسية اليوم ليس فيها مضاهاة لخلق الله وإنما هي بمثابة خيال الظل أو عكس لصورة خلق الله وما هي إلا عبارة على مرآة تلتقط ما يظهر أمامها من صور الإنسان أو خلافه من سائر الموجودات ثم تطبع في الورق وغيره ولم يقل أحد بحرمة الوقوف أمام المرآة وقد كان لهذا الاختراع فوائد كثيرة في تحقيق الشخصية وحفظ الأمن وأدلة الثبوت واكتشاف مواقع العدو في الحرب إلى غير ذلك فلا محل للقول بحرمتها. وفوق هذا فالرسول ﷺ قال عن الصور إن الصانعين لها يعذبون ولم يقل الذين يتصورون وآلة التصوير اليوم هي التي تسجل المناظر وليس للإنسان فيها إلا توجيهها إلى الجهة التي يريد أخذ صورتها وإعطاءها حظها من الإضاءة فلا إثم هنا على أحد بالمرة وإن وضعها في الغرف ما هو إلا بمثابة تذكير للناس بعظمائهم والأولاد بآبائهم فيدعون لهم بالتوفيق أو الرحمة بعد الموت فذلك مدعاة إلى الخير لا إلى العبادة والله أعلم ﴿قال﴾ موسى ﴿إنكم قوم تجهلون﴾ أن تقديس الأصنام والخضوع أمامها حتى بقصد التقرب إلى الله عبادة كما حكى الله هذا ************* يعتقد فيهم النفع والضر ويلجأ إليهم في الملمات ويدعوهم لتفريج الكربات ﴿إن هؤلاء متبر﴾ أي هالك ﴿ما هم فيه﴾ من عبادة الأصنام بما سيظهره الله من التوحيد الخالص في هذه الديار ﴿وباطل ما كانوا يعملون﴾ أي أن عملهم هذا فاسد لأنه مناف للحق الذي جاء من عند الله فلا نفع فيه ثم ﴿قال﴾ موسى لهم
الأرض أكثر القتل فيها وأثخنته الجراح أوهنته وأضعفته أي أنه لما كانت الغاية من قتال المشركين إنما هي إضعافهم وإذلالهم والتغلب عليهم والاستيلاء على أراضيهم وإخضاعهم لأوامر الله فليس من حق أي نبي أن يكون له أسرى يأخذ عليهم الفداء حتى يصل إلى الغاية التي أمر بالقتال من أجلها فأخذك الفداء من الأسرى قبل ذلك كان خطأ لأنه لا يبعد أن يعود أولئك الأسرى إلى بلادهم فيشنونها عليك حربًا قاسية لا يذكر ما أخذته منهم من فداء شيئًا في جانب ضررها: ﴿يريدون﴾ أي كل من يرغب عادة الحصول على الفداء: ﴿عرض الدنيا﴾ الزائل الفاني باكتفائهم بأخذ المال من الأسرى فداء لهم: ﴿والله يريد﴾ منهم بما شرعه من الإثخان في الأرض أن ينالوا ثواب: ﴿الآخرة﴾ بإعلاء كلمة الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد: ﴿والله عزيز﴾ يحب للمؤمنين أن يكونوا أعزاء غالبين لا يتدنون إلى مجرد المادة: ﴿حكيم﴾ يحب للمؤمنين أن يكونوا حكماء بعيدي النظر يحسبون لكل شيء حسابه ويلبسون لكل حالة لبوسها فلا يسمحون بفداء أسرى المشركين إلا وهم عنفوان قوتهم وكثرتهم لا في حال ضعفهم: ﴿لولا كتاب من الله سبق﴾ بإعطائه تعالى لنبيه الحق في الحكم بما يراه بعد المشورة في قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله﴾ وقد فعل الرسول بمقتضى ذلك الأمر فلا حرج عليه لولا ذلك: ﴿لمسكم فيما أخذتم﴾ من أموال الفداء: ﴿عذاب عظيم﴾ بالنظر لما يعلمه سبحانه وتعالى من رغبة في نفوس القوم في المال، وهنا ذكر الرسول ﷺ قول سيدنا عمر فقال: «لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك قال الله لا تعودوا تستحلون قبل أن أحل لكم»: ﴿فكلوا مما غنمتم﴾ من أموال الفداء: ﴿حلالًا طيبًا﴾ لأنه كان عن اجتهاد وحسن نية أبي بكر وتغلب جانب الرحمة على القوة في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿واتقوا الله﴾ أي احذروا أن تعودوا لمثل ذلك: ﴿إن الله غفور﴾ لما يصدر من ذنوب عباده عن جهل أو عن غير قصد: ﴿رحيم﴾ بمن يؤثر جانب الرحمة على العذاب فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي هذا إشارة إلى أن الرسول ﷺ كان معصومًا من الخطأ في التبليغ عن الله دون الاجتهاد وأن الجمهور قد يخطئون أيضًا في الرأي لا سيما في الأمر الذي يصادف هوى في نفوسهم وأن العبرة عند الله بما يعلمه من حسن النية وسلامة القصد وأنه لذلك أمضى حكم رسوله في الأسرى القائم على أساس الاجتهاد الخاطئ وأمره أن يسير فيه إلى النهاية
ولم يكد يذاع ذلك المنشور الإلهي على الناس حتى امتنع المشركون والكفار من ارتياد تلك البقعة الطاهرة من تلقاء أنفسهم ومن غير حاجة إلى صدهم عنها بالقوة وانتشر الخبر في الآفاق فأقبلت الوفود على رسول الله من كل حدب يعلنون دخولهم في الإسلام ويطلبون من يفقههم في دين الله ومن بين أولئك وفود من المشركين ووفود من أهل الكتاب فلا يجدون من رسول الله ﷺ إلا ما يزيدهم إيمانًا تامًا بالله وتصديقًا برسالته. وقد أقر الرسول كل من جاءه من الأمراء في إماراته على قومه، وقد سمي ذلك العام عام الوفود لتهافتهم على الدخول في دين الإسلام. وأوفد رسول الله معاذ بن جبل إلى أهل اليمن ليعلمهم الدين ويفقههم فيه وكانت وصيته له قوله عليه الصلاة والسلام: «يسر ولا تعسر، بشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم يسألونك مفتاح الجنة فقل شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
كما أوفد عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى قبائل نجران وهي مقاطعة من اليمن يدعوها إلى الإسلام فلما بلغهم دعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبعثوا وفدًا إلى رسول الله يعلنون إسلامهم وهكذا انتشر الإسلام في جزيرة العرب وخضع المشركون للدين الحق من غير إراقة دماء دون أن يجد الرسول حاجة إلى تنفيذ ما توعدهم به من القتال في سورة براءة. على أنه لو امتشق رسول الله الحام وتعقب المشركين الضالين في كل مكان يدعوهم إلى إطاعة أوامر الله خالقهم لم يكن في ذلك أي عدوان فالناس كلهم عبيد الله وهذا القرآن إنما أنزل من عنده تعالى لجميع البشر فمن واجبهم الانقياد إليه ومن واجبه التنكيل بكل متمرد لا يخضع لأحكامه.
هذا هو العدل وهذا هو المنطق الصحيح ولا اعتراض على هذا فالأديان التي سبقت لم تأت بمثل هذا الحكم والرسل السابقون إنما جاؤوا لشعوبهم فقط ولم يؤمروا من الله بتعميم الدعوة إلى الناس كافة بخلاف دين الإسلام فقد جاء به خاتم الرسل للناس كافة وأمر باتباع ما جاء في أول براءة فلم يتعد الرسول ذلك ولم يحاول قط أن يكره الناس على أن يكونوا مؤمنين.
ومن الغريب أن نسمع في عصرنا هذا من يتهم الإسلام بالتعصب الأعمى ومصادرة الحرية الشخصية ويتخذ من هذه الآيات دليلًا على القسوة وأنه فرض على الناس بالقوة وهو كما قدمنا بعيد عن ذلك كل البعد إذ التعصب الذي عليه المسلمون ما هو إلا تعصب ذاتي في العقيدة لما يرونه حقًّا لا شك فيه ولا شر منه كالدين والفضائل الإنسانية ورغبة صادقة في هداية الناس إليه
وتحتقرون غيركم اعتمادًا على ما لديكم من مال وجاه زائف: ﴿ويا قوم من ينصرني من الله﴾ ويخلصني من عقابه: ﴿إن طردتهم﴾ احتقارًا لهم وطمعًا في إيمانهم: ﴿أفلا تذكرون﴾ أن لهم ربًّا عادلًا لا يرضى بالمحاباة وينتصر للضعيف على القوي. وقال جوابًا عن السبب الرابع وهو قولهم: ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ وهو ما كان يظن المشركون أنه لا بد للرسول أن يكون على جانب منه وإلا كان في نظرهم كاذبًا والأمر بخلاف ذلك فقال: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله﴾ أي أني لم أزعم لنفسي ولم ينسب إلى أتباعي شيئًا كذبه الواقع حتى ترمونا بالكذب فلم نزعم أن الله قد ملكني خزائنه وجعلني من كبار المتمولين: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ أي ولم ندع العلم بالمغيبات حتى ترموني بالكذب إذا أنا لم أخبركم بما تسألونني عنه من أسرار الغيب: ﴿ولا أقول إني ملك﴾ اختلف في طبائعي وعاداتي عن طبائع سائر البشر وعاداتهم فما أنا إلا واحد منهم آكل مما يأكلون وأشرب مما يشربون وأنام كما ينامون وأنكح كما ينكحون وأرضى وأغضب كما يرضون ويغضبون ولا أمتاز عنهم بشيء من ذلك: ﴿ولا أقول للذين تزدري أعينكم﴾ أي تستهزئون بهم وتحتقرونهم لفقرهم وضعفهم: ﴿لن يؤتيهم الله خيرًا﴾ أي إنهم سيظلون على حالتهم هذه على الدوام: ﴿الله أعلم بما في أنفسهم﴾ من إيمان وتقوى سيؤديان بهم ولا شك إلى نيل السعادة والعز والجاه والمال الوفير في الدنيا قبل الآخرة: ﴿إني إذًا﴾ أي إذا قلت ذلك فيهم: ﴿لمن الظالمين﴾ لنفسي بالتقول على الله غير ما أعلمه من وعده تعالى المؤمنين بالسعادة في الدنيا والآخرة وإن في إخبار الله لرسولنا ﷺ بهذا الجواب الذي قاله نوح لقومه ما ينبغي أن يتأسى به بل وأمره صراحة به في سورة الأنعام بقوله: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾.
وما إن انتهى نوح من الرد على الأسباب التي دعت قومه إلى تكذيبه ولم يترك لهم منفذًا لتكذيبه وعدم الإيمان به ما وسعهم إلا أن: ﴿قالوا يا نوح قد جادلتنا﴾ أي خاصمتنا وحاججتنا: ﴿فأكثرت جدالنا﴾ ولم تدع لنا حجة إلا دحضتها حتى مللنا الجدل وسئمنا من كثرة إنذارك لنا: ﴿فأتنا بما تعدنا﴾ من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا وعجل به: ﴿إن كنت من الصادقين﴾ في دعوى الرسالة: ﴿قال﴾ نوح: ﴿إنما يأتيكم به﴾ أي بالعذاب: ﴿الله﴾ أي لست أنا الذي آتي به: ﴿إن شاء﴾ أي أن هذا أمر عائد نفاذه إلى مقتضى نظام مشيئة الله الأزلية فإن أصررتم جميعًا على
الله من الأدلة العقلية والسنن الكونية والشرائع السماوية: ﴿وهدى﴾ للناس في هذه الدنيا إلى ما ينفعهم وما يضرهم وما يقربهم إلى الله وما يبعدهم عنه: ﴿ورحمة﴾ في الآخرة: ﴿لقوم يؤمنون﴾ بالله فيسلكون السبل التي سنها سبحانه وتعالى لنيلها وفقنا الله إلى ذلك وتجاوز عن سيئاتنا بمحض فضله ورحمته إنه على ما يشاء قدير.
غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ
ولم يكد يذاع ذلك المنشور الإلهي على الناس حتى امتنع المشركون والكفار من ارتياد تلك البقعة الطاهرة من تلقاء أنفسهم ومن غير حاجة إلى صدهم عنها بالقوة وانتشر الخبر في الآفاق فأقبلت الوفود على رسول الله من كل حدب يعلنون دخولهم في الإسلام ويطلبون من يفقههم في دين الله ومن بين أولئك وفود من المشركين ووفود من أهل الكتاب فلا يجدون من رسول الله ﷺ إلا ما يزيدهم إيمانًا تامًا بالله وتصديقًا برسالته. وقد أقر الرسول كل من جاءه من الأمراء في إماراته على قومه، وقد سمي ذلك العام عام الوفود لتهافتهم على الدخول في دين الإسلام. وأوفد رسول الله معاذ بن جبل إلى أهل اليمن ليعلمهم الدين ويفقههم فيه وكانت وصيته له قوله عليه الصلاة والسلام: «يسر ولا تعسر، بشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم يسألونك مفتاح الجنة فقل شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
كما أوفد عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى قبائل نجران وهي مقاطعة من اليمن يدعوها إلى الإسلام فلما بلغهم دعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبعثوا وفدًا إلى رسول الله يعلنون إسلامهم وهكذا انتشر الإسلام في جزيرة العرب وخضع المشركون للدين الحق من غير إراقة دماء دون أن يجد الرسول حاجة إلى تنفيذ ما توعدهم به من القتال في سورة براءة. على أنه لو امتشق رسول الله الحام وتعقب المشركين الضالين في كل مكان يدعوهم إلى إطاعة أوامر الله خالقهم لم يكن في ذلك أي عدوان فالناس كلهم عبيد الله وهذا القرآن إنما أنزل من عنده تعالى لجميع البشر فمن واجبهم الانقياد إليه ومن واجبه التنكيل بكل متمرد لا يخضع لأحكامه.
هذا هو العدل وهذا هو المنطق الصحيح ولا اعتراض على هذا فالأديان التي سبقت لم تأت بمثل هذا الحكم والرسل السابقون إنما جاؤوا لشعوبهم فقط ولم يؤمروا من الله بتعميم الدعوة إلى الناس كافة بخلاف دين الإسلام فقد جاء به خاتم الرسل للناس كافة وأمر باتباع ما جاء في أول براءة فلم يتعد الرسول ذلك ولم يحاول قط أن يكره الناس على أن يكونوا مؤمنين.
ومن الغريب أن نسمع في عصرنا هذا من يتهم الإسلام بالتعصب الأعمى ومصادرة الحرية الشخصية ويتخذ من هذه الآيات دليلًا على القسوة وأنه فرض على الناس بالقوة وهو كما قدمنا بعيد عن ذلك كل البعد إذ التعصب الذي عليه المسلمون ما هو إلا تعصب ذاتي في العقيدة لما يرونه حقًّا لا شك فيه ولا شر منه كالدين والفضائل الإنسانية ورغبة صادقة في هداية الناس إليه
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (١٣)
سورة الممتحنة: لقد ذكر الله في السورة السابقة موالاة المنافقين للكفار وختمها بدعوة المؤمنين إلى التقوى ومحاسبة النفس ثم أخذ يشير في هذه السورة إلى نفر من المؤمنين الصادقين صدرت منهم بعض أعمال تشبه أعمال المنافقين ولكنها لم تكن عن سوء قصد ذلك أنه بينما كان رسول الله ﷺ يتجهز لفتح مكة إذ أعلمه الله إن امرأة اسمها سارة من موالي بني هاشم قد سافرت إلى مكة تحمل كتابًا إلى قريش فبعث في الحال خلفها عليًّا والزبير فأدركوها في روضة خاخ وأخذوا الكتاب منها وأتوا به إليه ﷺ فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة أحد المهاجرين الذي حاربوا معه في بدر موجهًا إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم بما عزم عليه الرسول من غزوهم فاستدعى الرسول حاطبًا وقال له: «ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ فإني لست من قريش فأردت أن أتخذ فيهم يدًا ليحموا قرابتي وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه صدقكم وأنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ولتعليم أمثال هؤلاء أنزل الله تشريعًا خاصًّا فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن عقيدة ثابتة ويقين قوي: ﴿لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ أي من
كتابيه} فإني مستبشر به لأنه أعطي إلي من الجهة اليمنى دون أن يعلم ما سطر فيه: ﴿إني ظننت﴾ أي كنت أظن في الحياة الدنيا: ﴿أني ملاق حسابيه﴾ بمعنى أني كنت أتوقع صعوبة الحساب على ما اقترفت من سيئات فكنت أخاف عذاب الله وغضبه فمنَّ الله علي بعفوه وكرمه وشملني برحمته ورعايته فلم أحاسب حسابًا عسيرًا وفزت منه بهذه البشرى التي في يدي: ﴿فهو في عيشة راضية﴾ أي عيشة منسوبة إما إلى رضاء الله أو إلى طمأنينة النفس ورضائها بما هي عليه والمراد بها أسعد أنواع العيش: ﴿في جنة عالية﴾ أي مرتفعة: ﴿قطوفها دانية﴾ أي أنه بالرغم من علوها فكل ما فيها من الثمار ميسور تناوله وفوق هذا فإنه يرحب بهم ويقال لهم: ﴿كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم﴾ أي ما سبق منكم: ﴿في الأيام الخالية﴾ أي الماضية في الحياة الدنيا بمعنى أن الله يبالغ في التلطف بهم ويشعرهم أن ما نالوه لم يكن إلا ثمرة جهدهم ونتيجة عملهم الذي يستحقون عليه كل هذه النعم وليعلموا أن وعد الله حق وحكمه عدل: ﴿وأما من أوتي﴾ أي أعطي: ﴿كتابه بشماله﴾ فإنه يستولي عليه الحزن والجزع ويشعر بالعذاب ينتظره: ﴿فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه﴾ بمعنى أنه يظهر الحسرة والندم: ﴿ولم أدر ما حسابيه﴾ أي ليتني عذبت في النار من غير أن يعرض عليّ هذا الكتاب الذي يذكرني قبائح أعمالي ويضيف إلى عذاب جسمي عذاب ضميري وما أجده في نفسي من حسرة وندامة حيث لا ينفعني كل ذلك: ﴿يا ليتها﴾ أي الساعة التي أوتي فيها كتابه بشماله: ﴿كانت القاضية﴾ بمعنى أنه كان يتمنى الموت ويفضله على أخذ كتابه بشماله: ﴿ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه﴾ أي لم ينفعني اليوم ما كنت أعتز به من مال وجاه وبينما هو كذلك في حسرة وندامة إذ يسمع صوتًا ينادي: ﴿خذوه فغلوه﴾ أي اجمعوا يديه إلى عنقه في الغل: ﴿ثم الجحيم صلوه﴾ أي أدخلوه فيها فأصل الصلي دخول ومقاساة حر النار يقال صلي بالنار إذا بلي بها: ﴿ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه﴾ أي أدخلوه بمعنى اجعلوه محجوزًا في دائرة محدودة مبالغة في إيذائه والتضييق عليه وغير هذا فإنه سيشهر به ويعلن عن جرمه وما اقترفت يداه إذ يقال: ﴿إنه﴾ أي هذا المجرم الأثيم قد ارتكب خطيئتين:
إحداهما نحو ربه والأخرى نحو المجتمع الذي كان يعيش فيه أما الأولى فهي أنه: ﴿كان لا يؤمن بالله العظيم﴾ بمعنى أنه كان يكفر بوجود الله ووحدانيته ولا يصدق بكتبه ورسله واليوم الآخر فلم يعمل في حياته لما ينفعه في هذه الحياة وفق ما أمره به الله وبهذا استحق عذابه وأما الخطيئة
وسيلقي كل امرئ جزاءه من خير ومن شر وفق وعد الله الذي ينص صراحة بما يأتي: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ﴾ الذين بروا بعهدهم له: ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ لأن الله لا يخلف وعده ولذلك فمحال أن يعذب الطائعين: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾ أي الذين يعدلون عن الحق وينقادون لما لا يرضي الله: ﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾ نار شديدة التأجج: ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ أي يدخلونها: ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي يوم الحساب: ﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا﴾ إذ ذاك: ﴿بِغَائِبِينَ﴾ أي بعيدين: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أي كيف تتصور كنه ذلك اليوم: ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أي أن كل ما تتصوره من الهول فحقيقته فوق ذلك: ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا﴾ فلا تحمل عنا ذنبًا ولا تدفع ضرًا: ﴿وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ وحده لا نصير ولا شفيع إلا من بعد إذنه.
سورة المطففين
مكية وعدد آياتها ست وثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾


الصفحة التالية
Icon