تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (٢٢٨) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
﴿فمن خاف من﴾ عمل ﴿موص﴾ وقرئ بتشديد الصاد أي صاحب الوصية ﴿جنفًا أو إثمًا﴾ أي فمن رأى في الوصية إجحافًا أو ميلًا عن العدل منشؤهما الخطأ أو العمد وأراد اتقاء ذلك بالإصلاح بين الموصي لهم وأصحاب الفروض ﴿فأصلح بينهم﴾ فأقدم على التبديل في الوصية رغبة في الإصلاح وبرضاء الجميع ﴿فلا إثم عليه إن الله غفور﴾ لمن خالف الوصية لأجل المصلحة وإقامة العدل ﴿رحيم﴾ بمن أقدم على الظلم ثم عدل عنه وأصلح أمره.
وبعد أن بين الله للمؤمنين الحلال والحرام من الأقوال والأفعال وبين لهم بعض الحقائق عن أسرار هذا الدين الحنيف أخذ يملي عليهم ما فرضه من العبادات فبدأ بواجب الصوم حيث قال ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم﴾ مبدأ ﴿الصيام كما كتب على الذين من قبلكم﴾ أي فرض عليكم كما فرض على من قبلكم من حيث الفرضية من غير نظر إلى الصفة ولا عدة الأيام ﴿لعلكم تتقون﴾ أي لعلكم تصلون إلى درجة المتقين بكبحكم جماح أنفسكم وصبركم عن ملاذ أجسامكم طمعًا في رضاء خالقكم، وإنما كان الصوم وسيلة التقوى لما فيه من وقاية سرية بين العبد وربه هي أساس التقوى وعنوان المعرفة الكاملة لله وحده ولأنه إذا سهل على الإنسان ترك الطعام والشراب والجماع خوفًا من الله كان تركه لسائر الأشياء لطاعة الله أسهل وأقرب ﴿أيامًا معدودات﴾ أيامًا قلائل هي أيام شهر رمضان ولم يدخل فيها لياليه ﴿فمن كان منكم مريضًا﴾ فعلًا ﴿أو﴾ كان ﴿على سفر﴾ متصفًا بأنه في حالة سفر ولو كان غير مرتحل فعلًا في أثناء النهار ﴿فعدة﴾ بضم التاء وقرئ بفتحها ﴿من أيام أخر﴾ أي فإنه يعدل عن الصوم إلى الإفطار فيها على أن يقضي تلك الأيام بمثلها من أيام أخر غير شهر رمضان عند القدرة وهذا ترخيص من الله بالإفطار للمريض والمسافر والله يحب أن تؤتى رخصة كما تجتنب محارمه وقد قال ﷺ «ليس من أم برم صيام في أم سفر» ﴿وعلى الذين يطيقونه﴾ يفعلونه بتكلف شديد وقرئ «يطوقونه» من الطوق أي يقلدونه كالغل في أعناقهم وقرئ «يتطوقونه» أي يتكلفونه و «يطوقونه» «ويطيقونه» و «يتطيقونه» و «يتطيوقونه» أي يحتملونه بمشقة وجهد حقيقي من غير المريض
بالمرة. أو لما يختفي وراءها من نسيئة. فلا يعقل أن يشتري إنسان درهمًا بدرهمين أو صاعًا من الشعير بصاعين إلا أن يكون هناك سر دفين.
ومن أجل هذا حرم الفضل – أي الزيادة في كل متماثل. واشترط الرسول ﷺ فيه التقابض لئلا يتخذ وسيلة للاحتيال. حيث قال صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء، ومما يؤيد ما جنحنا إليه من أن العلة في التحريم هي اتقاء كل ما من شأنه أن يكون وسيلة للاحتيال على أكل مال الغير بغير حق، ما رواه البخاري أن رسول الله ﷺ استعمل رجلًا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب – جيد – فقال أكلّ تمر خيبر هكذا – قال إنا لنأخذ الصاع من هذا بصاعين، والصاعان بالثلاثة، فقال لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا – وروى الدارقطني عن ابن إسحاق السبيعي عن امرأته، أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم المؤمنين، إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئة ثم ابتعته منه بستمائة نقدًا! فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما شريت إن جهاده مع رسول الله ﷺ قد بطل إلا أن يتوب وروى مسلم عن فضالة بن عبيد – قال اشتريت قلادة يوم خيبر بأثنى عشر دينارًا فيها – ذهب وخرز – ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينارًا فذكرت ذلك للنبي ﷺ – فقال لا يباع حتى يفصل، وروى أبو داود أن النبي ﷺ أتى بقلادة فيها (ذهب وخرز) ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير، فقال النبي ﷺ لا – حتى تميز – بينه وبينه – فقال إنما أردت الحجارة فقال النبي ﷺ لا – حتى تميز بينهما – أي أن كلا منهما يجب أن يُقوَّم.
وقد دل هذا على خطأ من يبيح بيع الأسورة من الذهب المصنوع «المشغول» بجنيهات تزيد عليها وزنًا لأن هذه الزيادة في مقابل الصنعة «الصياغة» وأجر الصانع – بينما الواجب يقضي بالتساوي في «الوزن» بينهما على أن يفرض للصنعة أجرًا إضافيًا.
النساء وقال استووا حتى أثنى على ربي فاستووا فحمد الله وأثنى عليه ودعاه بدعاء مستفيض ثم سار بهم إلى المدينة وبلغها سالمًا وكان هذا من الله نصرًا مبينًا حتى قال ابن عباس: «ما نصر رسول الله في موطن كنصره يوم أحد. فأنكروا عليه ذلك فقال بيني وبينكم كتاب الله إذ يقول: ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه﴾. ولا غرو فقد تجلت نصرة الله وتأييده لنبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بشكل واضح وفي مواضع كثيرة كالآتي:
١ - في عدم أخذه عليه الصلاة والسلام برأي عبد الله بن أبي بن سلول وجماعته من المنافقين الذين لا ينبغي أن يتخذهم المسلمون بطانة ومحلاً للاستشارة في شأن المؤمنين.
٢ - فيما كشفه الله لنبيه من سوء نية المنافقين وما يدبرونه للمسلمين الصادقين من المكائد. وكان في إقصائهم عن صفوف المجاهدين خير كثير.
٣ - في هزيمة المشركين أمام من ثبت من المؤمنين رغم قلتهم.
٤ - فيما أصاب المسلمين من هزيمة لمخالفتهم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم جماعة الرماة الذين تركوا حماية ظهر الجيش طمعًا في الغنائم عند بدء النصر للمسلمين.
٥ - في حفظ الله تعالى لأرواح من بقي من المسلمين وعودتهم إلى المدينة سالمين وكانت حياته عليه الصلاة والسلام وحياة جيشه أعجوبة من أعاجيب الحرب، فما الذي كان يرد جيش المشركين من أن يتعقبوا المسلمين ويفنوهم عن آخرهم، وهم على مرأى ومسمع منهم لولا عناية الله التي أيدت رسوله بما قذف به في قلوب المشركين من الرعب حتى عدلوا عن تلك الفكرة التي جاءوا من أجلها وهي استئصال المسلمين دون أن يحول بينهم وبين ذلك سبب من الأسباب المعتادة. حتى إن المشركين أنفسهم عندما انتصفوا الطريق تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض: إنكم لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكتهم وحدهم وتركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك النبي ﷺ فنادى الناس وندبهم إلى السير للقاء عدوهم وقال لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف وقالوا سمعًا وطاعة فسار بهم حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال
استساغوا الكذب على الله والتغير والتبديل في كتبه لم يعودوا يرون مانعًا من المروق من دينهم في سبيل شهواتهم والمتاجرة به من أجل أغراضهم حيث ذكر الله نبيه بحادثة حصلت منهم من هذا القبيل هي أن جماعة من اليهود على رأسهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجوا إلى مكة ليؤلبوا قريشًا على رسول الله ﷺ ويحرضوهم على حربه معهم فقالت لهم قريش: أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم حتى تسجدوا لآلهتنا لتطمئن قلوبنا منكم ـ فلم يجدوا في ذلك ضيرًا عليهم وسجدوا لآلهتهم فأطمع هذا أبا سفيان فقال لهم: نحن أهدى سبيلًا أم محمد؟ فلم يخجل كعب بن الأشرف أن يفضل الشرك وعبادة الأوثان عن الإيمان بالله الواحد الديان وقال: ـ بل أنتم أهدى سبيلًا. كل هذا لأجل الحصول على ثقة قريش ومناصرتهم لهم فقال تعالى ﴿ألم تر إلى الذين أتوا نصيبًا من الكتاب﴾ الذين غيروا وبدلوا فيه واكتفوا منه بمظهر من مظاهره ولم يدينوا به عن عقيدة وإيمان راسخ واستخفوا به حتى أصبحوا ﴿يؤمنون بالجبت﴾ الأصنام وكل ما يعبد من دون الله ﴿والطاغوت﴾ من طغى إذا تجاوز الحد كل متعد صارف عن طريق الخير داعي إلى الضلال يركب رأسه ويحكم هواه وما يمليه الشيطان عليه كالساحر والكاهن وما إلى ذلك ﴿ويقولون﴾ مجاملة ﴿الذين كفروا﴾ واستجلابًا لرضائهم ﴿هؤلاء﴾ الذين يعبدون الأصنام ﴿أهدى﴾ أكثر هداية ﴿من الذين آمنوا﴾ بالله ورسله وأقوم ﴿سبيلًا﴾ فهم أحق منهم بالاتباع ﴿أولئك﴾ القوم ومن على شاكلتهم من كل من يتلاعب بدينه ويغير عقيدته في سبيل مصلحته الشخصية ﴿الذين لعنهم الله﴾ غضب الله عليهم ﴿ومن يلعن الله﴾ أي: يتخلى عن هدايته ومناصرته ﴿فلن تجد له نصيرًا﴾ يقيه من عذابه أو يرد عنه ما اقتضته سننه في خلقه فلا تقوم له قائمة ﴿أم﴾ إن تلاعبهم به لم يكن نتيجة استخفافهم
أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)}.
لقد اشتملت سورة النساء على كثير من الأحكام العامة في مختلف النواحي التي هي بمثابة القواعد الأساسية لصلاح المجتمع الإنساني بأكمله في هذه الحياة الدنيا ثم أنه تعالى وجه خطابه في هذه السورة إلى من اتصف بصفة الإسلام منهم باعتبارهم آمنوا به وصدقوا بما جاء من عنده وعاهدوا رسوله على السمع والطاعة والعمل بكتاب الله وسنة رسوله مبيناً لهم القواعد الأساسية لأحكام الشريعة الإسلامية التي جاء بها خاتم النبيين من عند الله ليقيموا عليها نظم تعاملهم في الحياة وينالوا بذلك رضوان الله ورضوان رسوله ﷺ وبهذا كانت هذه السورة متممة ومكملة لما جاء في السورة التي قبلها حيث قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) العقد ما يبرم بين الطرفين من اتفاق أو عهد فالإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بنطقه وعقله ولا يرتبط إلا بقوله ولا قيمة له إلا بالوقوف عند كلمته فمن لم يكن كذلك فقد انحط عن درجة الإنسانية ولهذا أمر الله المؤمنين بالوفاء بكل ما تعاقدوا عليه وارتبطوا به عن تراض بينهم فكل قول أو فعل يعده الناس عقداً فهو عقد يجب الوفاء به ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما يثبت في الشرع وألزم العقود عقد الإيمان بالله الذي يوجب على المؤمن السمع والطاعة والعمل بكتاب الله الذي يشمل كل ما أحل الله وما حرم. ولما كان الوفاء بالعقود هو بمثابة الأصل لجميع تكاليف الله تعالى شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة وبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) البهيمة مالا نطق له والأنعام هي الإبل والبقر والغنم فكأن المراد من بهيمة الأنعام ما يماثلها من البهائم الوحشية التي من شأنها أن تصاد
<٢٢>
سورة الأنعام
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءِ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (٧) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (١٠) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (١٤) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن
كانوا مسخرين مجبورين على الشرك وتحريم ما حرموا وفق مشيئة الله التي ارتضاها لهم وأمرهم بها ودحضها بما أشار إليه من إيضاح معنى المشيئة أنها دستوره العام الذي سنه لعباده والذي يشمل ما يرضيه وما لا يرضيه من عباده الذين شاء لهم أن يكونوا أحرارًا بكل معنى الكلمة في ارتياد ما يرون لهم من الأعمال خلافًا للملائكة التي شاء الله لها أن تكون مسخرة لطاعته تسبح بحمده وتقدس له ولا تعصي له أمرًا فكانت كما شاء لها تعالى، أمر رسوله أن يعلن أصول المحرمات ومجامعها بحصرها في مخالفة ما يقابلها من أصول الفضائل والمكرمات التي جعلها الله أساسًا لما يرضيه من عباده من أعمال القلوب والأجسام فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول وأعلن للناس أجمعين أن الله الذي وهب لكم الحياة وخلق لكم كل شيء قد حرم عليكم عشرة أمور ونهاكم عن إتيان شيء منها وأباح لكم ما سواها ومنحكم كامل الخيار في الطاعة والعصيان وأمرت أن أبلغ ذلك لكم حسب أمره ﴿تعالوا﴾ يا عباد الله من إنس وجان أقبلوا علي ﴿أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ مما هو مخالف لما سأعدده لكم من الوصايا العشر الآتية الوصية الأولى ﴿ألا تشركوا به﴾ أي بالله ﴿شيئًا﴾ أي أن الله لا يطالبكم بمجرد الإيمان به بل يوجب عليكم عدم الشرك به إذ هو في مقدمة المحرمات وأعظمها سواء كان ذلك باتخاذ الأنداد والشفعاء له أو بإثبات النفع والضر لأحد من دونه وغير ذلك مما أشير إليه في الآيات السابقة ﴿و﴾ الوصية الثانية ﴿بالوالدين إحسانًا﴾ أي الإحسان بالوالدين ومعنى هذا أن الله يحرم عليكم الإساءة إلى أحد من الوالدين بأي شكل من الأشكال التي فصلها الله في آية أخرى بقوله: ﴿ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا﴾ وقد ورد في الصحيحين «أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله» فدل هذا على عظيم حقهما بتقديمه على الجهاد الذي هو من أكبر الحقوق العامة على المؤمن وليس من الإحسان إليهما طاعتهما في معصية الله أو في النهي عن فعل الخير أو ما فيه مصلحة خاصة أو عامة مما لا شأن لهما به ﴿و﴾ الوصية الثالثة قوله ﴿لا تقتلوا أولادكم من إملاق﴾ جرى المفسرون على أن المراد بهم الأولاد الصغار يقتلهم أباؤهم لفقر واقع بهم لئلا يروهم جياعًا وهذا في نظري غير مقصود لأن الرجل الذي يعز عليه أن يرى أولاده جياعًا لا يمكن أن تساعده نفسه على قتلهم وسيأتي بعد هذا نص على حرمة قتل النفس مطلقًا والذي أراه أقرب من ذلك أن يكون النهي هنا عن إجهاض الحوامل خوفًا من أن يثقلوا أنفسهم بالإنفاق عليهم في المستقبل كما هو شائع في عصرنا هذا {نحن
سئلت عن ذلك فقالت: «لقد وقف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكن بها فقد كذب من حدثك أن محمدًا ﷺ رأى ربه فقد كذب ثم قرأت ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾ ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب﴾، ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب ثم قرأت ﴿وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا﴾ ومن حدثك أنه كتم شيئًا من الدين فقد كذب ثم قرأت ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين» وقال آخرون بأن قوله تعالى: ﴿لن تراني﴾ دليل على استحالة رؤية الله في الدنيا والآخرة وعللوا ذلك بعلل فلسفية وعمدوا إلى تأويل الآيات والأحاديث الواردة في رؤية الله يوم القيامة كقوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ وما ورد في الصحيحين من أن أناسًا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر» قالوا: لا يا رسول الله قال: «فإنكم ترونه كذلك» ويلوح لي أن الآية صريحة في أن موسى طلب رؤية الله في الدنيا ولا شك أن قوله ﴿لن تراني﴾ منصرف إلى رؤيته تعالى في الدنيا دون الآخرة قطعًا فلا يشمل الآخرة ونحن لا نعلم شيئًا عن حقيقة الناس فيها ومدى ارتباطهم بالمادة ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار﴾ فإن لذلك العالم سننًا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى في الأكل والشرب والمأكول والمشروب فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره وخمرها ليس فيها غول يغتال العقل ولا يصدعون عنها ولا ينزفون، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال ابن عباس «ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء» وكذلك أمزجة أهلها هي أصح وأسلم من أمزجة أهل الدنيا حتى إنهم يأكلون ويشربون فيكون هضمهم بالتبخر ورشح العرق ولذلك فنحن لا نعلم كيف ينظرون إلى ربهم ولا كيف يسمعون خطابه لهم ولا كيف يتجلى سبحانه وتعالى عليهم في تلك الحياة وإنما المهم أن نعلم أن الله تعالى عندما سمع توبة موسى من طلب الرؤية وإيمانه باستحالتها في الدنيا ﴿قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس﴾ أي حسبك أني فضلتك على غيرك بأمرين لم أمنحهما لسواك الأولى ﴿برسالاتي﴾ وقرئ «برسالتي» أي أنك الوحيد من البشر الذي بلغتك الرسالة مباشرة بنفسي إذ قلت لك ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ أما غيرك من الرسل فكانت رسالتهم عن طريق الوحي والفضيلة الثانية ﴿وبكلامي﴾ بغير واسطة الملك إذ قال له تعالى: {أنا
عدم اضطهادها للمسلمين الخاضعين لنفوذها أو عدم التعرض لدينهم فعندئذ يجب عليكم نصرهم متى ثبت نقضها لنص العهد الذي بينكم وبينها: ﴿والله بما تعملون بصير﴾ لا يخفى عليه شيء من أمركم فحذار من التفريط في موالاة بعضكم بعضًا على هذا الأساس الذي رسمناه لكم وحذار أن يكون نصركم لمن ذكر من المؤمنين من أجل مصالح خاصة لا علاقة لها بالدين وأن يكون في ذلك خرق لحرمة المعاهدات التي بينكم وبين غيركم من الكفار: ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض﴾ أي واعلموا أن الكفر ملة واحدة والذين كفروا متضامنون متعاونون متناصرون صفًّا واحدًا في قتال المسلمين وإن تفرقوا مللًا كثيرة يعادي بعضها بعضًا فليكن تضامنكم وتناصركم أيضًا قائمًا على أساس نصرة الدين لا الشعوبية ولا القومية لتقوى رابطتكم وتقهروا أعداءكم: ﴿إلا تفعلوه﴾ أي إن لم تفعلوا ما ذكر من ولاية بعضكم بعضًا ونصرة من استنصركم في الدين والوقوف صفًّا واحدًا تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم: ﴿تكن فتنة في الأرض﴾ أي يفسح المجال لفتنة الناس عن دينهم وتخليهم عنه بما يلقيه دعاة النصرانية من الطعن في الإسلام وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين حتى يفتن كل فريق بنفسه ويحصل التخالف في الغايات وتتفرق الكلمة وتفكك الوحدة الإسلامية ويتم للكفار استعمار ديار الإسلام وإذلال أهلها دون أن يجد المسلم له نصيرًا: ﴿وفساد كبير﴾ في الأخلاق حيث تمتهن الفضيلة وتسمو الرذيلة ويتجلى قوله تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾ وهذا ما حصل فعلًا نسأله تعالى اللطف: ﴿والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا﴾ أي أن المهاجرين والأنصار من المؤمنين الأولين: ﴿أولئك هم المؤمنون حقًّا﴾ أي الذين تنطبق عليهم صفة الإيمان الحقيقية لإعراضهم عن اللذات الجسمانية بترك الأهل والوطن وبذل النفس والمال لله في سبيل رضاه: ﴿لهم مغفرة﴾ أي أن الله قد ضمن لهم مغفرة تامة تشمل جميع الذنوب والتبعات: ﴿ورزق كريم﴾ أي وضمن لهم رزقًا كريمًا والكريم من كل شيء أحسنه أي من أحسن أنواع الرزق، ولعل المراد منه رزق في الحياة وبعد الممات ذلك لأن الله سبحانه قد أخبرنا بأن من يقتل في سبيل الله دون غيره حي عند ربه يرزق. أما الصنف الرابع فقد أشار إليهم سبحانه بقوله: ﴿والذين آمنوا من بعد﴾ أي تأخر إيمانهم عن إيمان أولئك المؤمنين الأولين من التابعين لهم إلى يوم الدين: ﴿وهاجروا وجاهدوا معكم﴾ أيها المؤمنون: {فأولئك
قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٢٥) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ
موجودًا على وجه الأرض: ﴿وأهلك﴾ أي واحمل أهلك ذكورًا وإناثًا: ﴿إلا من سبق عليه القول﴾ ولقد اختلف المفسرون في المقصود بهذا الاستثناء فقال بعضهم زوجته وقال آخرون ابنه وقال آخرون كلاهما لأن الله قد قضى عليهما بالهلاك من الأزل على حد ما رُوِيَ عن رسول الله ﷺ من أن: «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» دون أن يكون للعمل أي دخل في ذلك وعندي أن المقصود به كل من لا يؤمن برسالته وقد كان نوح يعلم أن امرأته منهم لأنها كانت تتظاهر بالكفر والبغض والسخرية من نوح وعمله إذ كانت تقول عنه أنه مجنون ولذلك نهاه الله عن مخاطبته في شأنها ولما أمره أن يركب في السفينة أهله لم يركبها معه ولم يذكرها ولم يسأل الله في شأنها مع أنه سأله في شأن ابنه الذي كان لا يعلم عنه شيئًا: ﴿ومن آمن﴾ أي احمل فيها معك كل من آمن من قومك: ﴿وما آمن معه إلا قليل﴾ منهم ولم يذكر الله ولا رسوله لنا عددهم كما لم يبين أنواع الحيوانات التي حملها ولا كيف جمعها وأدخلها في السفينة فلا داعي لذكر ما قاله المفسرون في هذا الصدد لأنه على غير حقيقة وجله مأخوذ من الإسرائيليات: ﴿وقال﴾ نوح لأهله ومن آمن معه: ﴿اركبوا فيها﴾ أي في السفينة حال كونكم قائلين: ﴿بسم الله مجريها﴾ بفتح الميم وإمالة الراء وقرئ بضمها: ﴿ومرساها﴾ أي أن مجرى السفينة ومرساها هو باسم الله وأمره وقدرته فلا ينبغي الاعتماد عليها في النجاة بل على فضل الله مجريها ومرسيها كما قرئ مجاهد مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل: ﴿إن ربي لغفور﴾ يتجاوز عن سيئات كل من آمن به: ﴿رحيم﴾ لا يؤاخذهم بكفر غيرهم بل إنه يسخر لهم من الأسباب ما يضمن نجاتهم ورفاهيتهم ويعينهم على ركوبها والأمن فيها: ﴿وهي تجري بهم في موج كالجبال﴾ تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال: ﴿ونادى نوح ابنه﴾ عند ركوبه في السفينة وقبل جريانها: ﴿وكان﴾ الابن: ﴿في معزل﴾ أي في عزلة وانفراد عن والده بمعنى أنه كان قليل الاختلاط ولا يعلم من أمر عقيدته شيئًا: ﴿يا بني﴾ فتح الياء وقرئ بكسرها: ﴿اركب معنا ولا تكن مع الكافرين﴾ المحكوم بغرقهم فلم يستجب لندائه ولم يصدق أن السفينة تقي من الغرق أو أن هذا هو عذاب الله المرتقب وحسب النجاة لا تكون إلا باللجوء إلى المرتفعات: ﴿قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء﴾ دون أن يفطن إلى أن الماء سيطغى عليه قبل أن يصل إلى ذلك الجبل: ﴿قال﴾ نوح لابنه: ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله﴾ أي إن ما سيحصل اليوم ليس هو ماء يرتفع بكثرة المطر
حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)}
لقد ختم الله السورة السابقة بذكر الغاية التي من أجلها أتى بقصص الرسل السابقين وهي أن تكون موضع عبرة للناس على ممر الأزمان وأكد أنه: ﴿ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ ثم بدأ هذه السورة بما يشعر أن تلك القصص بذاتها هي ضمن آيات الكتاب التي قصد بها التشريع ووجوب الاتباع فقال: ﴿المر﴾ وتنطق هكذا ألف لام ميم راء أي أن الله يقسم بالسر الذي أودعه أو الذي يعنيه من هذه الأحرف بأن: ﴿تلك﴾ القصص التي مرت هي: ﴿آيات الكتاب﴾ أي من ضمن آيات القرآن التي أوحى الله بها إلى نبيه وأمره أن يتحدى الناس بالإتيان بسورة من مثلها: ﴿والذي أنزل إليك﴾ عن طريق الوحي: ﴿من ربك﴾ وهو القرآن بكافة آياته وسوره سواء كان قصصًا أو تشريعًا: ﴿الحق﴾ الصادر من قبل الله وقد صانه سبحانه وتعالى من دس الدساسين وكذب المفترين فلم يتطرق إليه شيء من التلاعب الذي حدث لما قبله من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ حتى ممن ينتمي إلى دين الإسلام: ﴿لا يؤمنون﴾ بأن القرآن كتاب الله الذي أنزله ليكون تشريعًا للعالم أجمع ودستورًا عامًّا يؤاخذ الناس بمقتضاه إذ لو كانوا يؤمنون به حق الإيمان لتمكن توحيد الله في قلوبهم وتجنبوا كلما يؤدي بهم إلى الشرك وطبقوا أحكامه على أنفسهم وفيما بينهم وبين بعضهم بعضًا لينالوا عن طريقه سعادة الدارين وخير الحياتين ولما كانت الدعوة إلى التوحيد هي جوهر الدين والغاية التي من أجلها أنزل القرآن، ومعرفة الله هي الأساس الذي تقوم عليه الشريعة، وتبنى عليه سائر العبادات قال تعالى: ﴿الله﴾ الذي أنزل القرآن هو: ﴿الذي رفع السماوات بغير عمد﴾ أي خلق السماوات معلقة في الفضاء ومرفوعات عن الأرض بغير عمد يسندها من تحتها
ولما كان توحيد الإلوهية إنما يأتي بعد الإيمان بتوحيد الربوبية أخذ سبحانه يبرهن على أنه هو الخالق لجميع الموجودات من مادي وغير مادي وبدأ بأهمها فقال: ﴿خلق السموات والأرض﴾ أي العالم العلوي والعالم والسفلي وكل ما فيهما من المخلوقات: ﴿بالحق﴾ أي لمقصد حق لا للعبث واللهو: ﴿تعالى عما يشركون﴾ أي عما يزعمونه لهما من اتصافهما بصفة الأزلية بل هما مخلوقتان لله ولا ينازعه أحد في صفة الأزلية ثم شرع في تعداد ما خلق فيهما وأقام الأدلة على خلقه لها بعلمه بتفاصيل طبائعها ومزاياها فقال: ﴿خلق الإنسان﴾ الذي هو سيد المخلوقات الحيوانية: ﴿من نطفة﴾ أي من أصل حقير هو قطرة ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ونفخ فيه من روحه ثم أخرجه إلى الدنيا لا يعلم شيئًا ثم سخر له من يتعهده بالطعام والشراب ومختلف أنواع الرزق حتى إذا بلغ أشده واستوى: ﴿فإذا هو خصيم مبين﴾ أي فالله يعلم أنه سيكون بطبعه خصيمًا لربه جاحدًا لنعمه منكرًا لقدرته على بعثه ونشوره إذ يكفر بالله ويعبد من دونه ما لا ينفعه ولا يضره ويقول: ﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾ ومن أجل هذا سيبعث له رسلًا تهديه إلى ما فيه سعادته وما فيه رضاء ربه: ﴿والأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والضأن والمعز: ﴿خلقها لكم﴾ أي خلقها من أجل مصلحتكم: ﴿فيها دفء﴾ وهو ما يدفأ به فيقي من البرد من أصوافها أوبارها وجلودها: ﴿ومنافع﴾ لكم من درها وركوبها وحملها واستعمالها للحرث وغير ذلك: ﴿ومنها تأكلون﴾ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحم: ﴿ولكم فيها جمال﴾ أي حسن تتجملون به وتتفاخرون بأنكم ماكلين لها: ﴿حين تريحون﴾ أي حين تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي وهي مشبعة ممتلئة ضروعها باللبن: ﴿وحين تسرحون﴾ أي تخرجونها بالغداة من حظائرها إلى حيث تسرح في أرض الله لتأكل من رزقه: ﴿وتحمل﴾ الأنعام: ﴿أثقالكم﴾ الثقل متاع المسافر: ﴿إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس﴾ هذا الوصف إنما ينطبق على الإبل في الصحراء في العصور الماضية التي لم يكن لهم من وسائل النقل سواها: ﴿إن ربكم لرؤوف﴾ قدر ضعفكم: ﴿رحيم﴾ خلق لكم ما أنتم في حاجة إليه: ﴿والخيل والبغال والحمير﴾ من الحيوانات خلقها لكم الله أيضًا: ﴿لتركبوها﴾ أي لتمتطوا ظهورها وتستعملوها في جر الأثقال: ﴿وزينة﴾ تتباهون بها بين الناس: ﴿ويخلق﴾ لهذه الأغراض: ﴿ما لا تعلمون﴾ من حيوانات وغير حيوانات التي منها السيارات والقطارات والطائرات ذلك لأن المواد الأولية التي يتكون منها هيكلها لم
قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٢٥) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ
حسن جزائه ويخاف بأسه وشديد عقابه: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي يعرض عن الإيمان بالله واليوم الآخر فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئًا: ﴿فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن إيمانه فإيمان المرء إنما ينفعه عند ربه ويجعله محل رحمته وكفره به مما يسبب له الحرمان مما أعده للمؤمنين من حسن جزاء بحسب دستور الله الذي أعلنه لعباده: ﴿الْحَمِيدُ﴾ أي الذي يثني على عمل الخير ويجزي عليه وعملًا بهذه الآيات الكريمة قاطع المؤمنون الكفار مقاطعة تامة وأضمروا لهم العداء الشديد حتى بلغ بهم الأمر أن قتيلة والدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قدمت المدينة وهي مشركة لزيارة بنتها مصطحبة معها بعض الهدايا ورفضت أسماء أن تدخلها بيتها أو تقبل هديتها حتى ذهبت إلى الرسول تستأذنه في ذلك وتسأله هل نصلها أم لا فقال لها صلى الله عليه وسلم: «نعم صلي أمك» فأراد الله جل جلاله أن يشعر المؤمنين بأن المقصود من عدم موالاة الكافرين إنما هو انتزاع ما لهم من حب في القلوب قد يحملهم على مؤازرتهم أو الأمل في الاحتماء بهم ورجاء العون منهم أما المجاملات الظاهرية التي لم تكن منبعثة من القلب فإنه لا بأس بها بل ربما كانت مطلوبة ما دامت تهدف إلى استجلاب قلوب الكفار إلى الله وترغيبهم في دين الإسلام ولذا أمر الله بعدم مجافاة الكافرين مجافاة تقطع كل صلة بينهم وعلل ذلك بقوله: ﴿عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾ أي فليكن عداءكم لهم عداء من يرجو إصلاحهم وهدايتهم بمعنى أنه ما دامت عداوتكم لهم إنما هي لوجه الله ونائشة عن كفرهم بما أنزل عليكم فلا يبعد أن يهتدوا إلى الإسلام فتزول العداوة بزوال سببها ويعود الود إلى سابق عهده: ﴿وَاللَّهُ﴾ بسيطرته على القلوب: ﴿قَدِيرٌ﴾ على أن يقلب العدو صديقًا والعدو محبًّا مخلصًا: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لمن أدرك ذنبه وخاف الله في سره وشعر بحاجته إلى الغفران فطلبه من مولاه: ﴿رَّحِيمٌ﴾ لمن يستحق الرحمة من عباده ثم أنه تعليقًا على أساس الموضوع الذي من أجله أنزلت هذه الآية وهو المبالغة في الجفاء إلى حد قطيعة الرحم أراد الله أن يضع حدًّا لذلك ويفرق بين حب القلب وأداء الحقوق والواجبات فقال: ﴿لا يَنْهَاكُمُ﴾ أي لا يمنعكم: ﴿اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي بسبب الدين: ﴿وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ بمعنى أنه لا حول لهم ولا طول كالأطفال الصغار والنساء والرجال العجز الذين لم يشتركوا في إيقاع الأذى بكم: ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ إذ أن أمثال هؤلاء من المستضعفين لا ذنب لهم وإن حرم عليكم حبهم فإنه لا ينهاكم الله عن البر بهم بمعنى العطف عليهم وتقديم ما يحتاجون إليه
سورة المعارج
﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَرَاهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (١٣) وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (١٥) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (١٦) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (٢٤) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (٣٥) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)﴾
بعد أن أوضح الله في السورة السابقة طرفًا من أهوال يوم القيامة ودعا الناس إلى الإيمان بكتابه القرآن الذي جعله معجزة لرسوله عليه الصلاة والسلام وأكد أنه منه ليس في استطاعة الرسول الكريم أن يتصرف فيه بزيادة أو نقص لم يقنع الكفار بهذا وأبوا التصديق بهذا الكتاب وقال أحد كبارهم: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ – فأنزل الله قوله: ﴿سأل﴾ فيها قراءتان منهم من قرأها بالهمزة ومنهم من قرأها بدونها: ﴿سائل﴾ منهم ربه وهو النضر بن الحارث: ﴿بعذاب واقع﴾ أي دعا بإنزاله عليهم وهم يؤمنون
حولها ويتمتع بالنظر إليها كل من يحبه الله ويقربه إليه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ لم يسميهم الله بالمجرمين إشارة إلى أنهم بأشخاصهم لم يكونوا من المجرمين بل نسب إليهم الإجرام عندما أقدموا على ما لا يرضي الله من أنهم: ﴿كَانُواْ﴾ في حياتهم الدنيا: ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وآياته: ﴿يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء وسخرية بعقولهم التي تصدق ما يلقى إليها من الأمور الغيبية والأوامر الإلهية: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ بالجفن والحاجب كأنهم يقولون انظروا إلى هؤلاء البله المغفلين الذين حرموا أنفسهم لذائذ الحياة الدنيا طمعًا في ثواب غير مضمون: ﴿وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ﴾ وقرئ: ﴿فاكهين﴾ أي متنعمين مشغولين بما هم فيه من كفر ومتاع زائل قصير الأمد ولا يحسبون للآخرة حسابًا: ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ﴾ عن الطريق المستقيم في نظرهم: ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ أي وليس من حقهم أن يعيبوا عليهم إيمانهم وأن يحكموا بضلالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم: ﴿فَالْيَوْمَ﴾ أي في يوم القيامة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ منهم بسبب عقولهم القاصرة التي أدت بهم إلى هذا المصير وهم يقولون: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ بمعنى هل نال هؤلاء إلا جزاءهم.
سورة الانشقاق
مكية عدد آياتها خمس وعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (٨) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (١١) وَيَصْلَى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (١٩) فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)﴾.


الصفحة التالية
Icon