عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
والمسافر كالشيخ الهرم والمرأة الحامل والمرضع أو من تكون أعمالهم شاقة كتكسير الأحجار والعمل في المناجم لا لمجرد الوهم إذا أفطروا ﴿فدية﴾ تتعين عليهم في حالة إفطارهم مقابل رفع المشقة عنهم وقدرها ﴿طعام مسكين﴾ علاوة على الإعادة عند القدرة فإذا لم يقدروا على الإعادة مطلقًا كما في الشيخ الهرم وعلم الله منهم ذلك فأمرهم مفوض إليه أما ما جرى عليه كافة المفسرين من أن في الآية سقط تقديره ﴿لا يطيقونه﴾ فلا أراه صوابًا إذ لو كان هذا هو المقصود لما أعجزه تعالى أن يأتي بكلمة ﴿لا﴾ والواقع أن الذين لا يطيقون الصوم كليًا بحيث يمرضون بالصوم مرضًا يقعدهم عن العمل فشأنهم كشأن المرضى فلهم الإفطار مع الإعادة من غير فدية فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والله أعلم ﴿فمن تطوع خيرًا﴾ وأطعم أكثر من مسكين واحد عن كل يوم ﴿فهو خير له﴾ لأنه زيادة في الإحسان ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ أي أن الصوم أفضل من الإفطار والإعادة مع الفدية وإن كانت زائدة عن طعام مسكين وهذا لزيادة التأكيد بالصوم وتحذير الناس من الإفطار لأبسط عذر وأقل مشقة والله كفيل بعون من آثر الصوم من أجله ﴿إن كنتم تعلمون﴾ ما في صوم هذا الشهر من المعاني الموجبة للتقوى والتي لا يعدلها شيء من الفدية قلّت أم كثرت والتي لا يكافئها صوم أي يوم من أيام السنة بالنظر لما خص الله به شهر رمضان من المميزات قال ﷺ «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وبعد أن أخبر الله المؤمنين بأنه فرض عليهم صيام أيام معدودات من غير تعيين لتلك الأيام أخذ يحددها لهم ويبين لهم حكمته في صومها ويسهل لهم سبيل الاستدلال عليها حيث قال ﴿شهر﴾ بضم الراء وقرئ بنصبها ﴿رمضان﴾ أي تلك الأيام هي شهر رمضان ﴿الذي أنزل فيه القرآن﴾ وشرفه الله ببدء نزول القرآن فيه ﴿هدى للناس﴾ مرشدًا لهم ﴿وبينات﴾ لأحكامه ﴿من﴾ أسباب ﴿الهدى﴾ وهي الآيات التي من شأنها أن تنير العقول وتهذيب النفوس وتطهير القلوب وتصلح شؤون بني الإنسان ﴿والفرقان﴾ أي الأحكام، والفروق المبينة للحق والباطل ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ أي إذا تمكن من رؤية الهلال وإلا تعين عليه أن يتم شعبان
وأنه لا يعد من ربا النسيئة ما توزعه صناديق (التوفير) الاقتصادية من فوائد على كل من يودع أمواله فيها لصيانتها واستثمارها في المشاريع التجارية والصناعية الناجحة والتي تدار بواسطة خبراء فنين على أن يحق له سحبها في أي وقت يريد حيث لا دائن ولا مدين ولا يعد هذا من الفوائد المركبة.
بل إن هذه الفائدة لمما تشجع الناس عن التوفير والمساهمة في نجاح المشاريع الإنتاجية التي تيسر العمل لكثير من العاطلين وتضمن لهم ربحًا حلالًا وتقي في نفس الوقت أصحاب رءوس الأموال من تبعة اكتنازها وعدم إنفاقها في سبيل الله، فكثيرًا ما يكون الرجل ذا مال وليس لديه من الخبرة ما يساعده، على إنمائه فيضطر إلى اكتنازه ويجره هذا إلى العذاب الأليم.
بعد أن شبه الله آكل الربا بالمجنون في تفكيره وتصرفاته واستدل على ذلك بعدم تفريقه بين البيع والربا على ما بينهما من فوارق ظاهرة، أخذ يوضح ما وضعه تعالى في كل منهما من خصائص وأسرار فقال (يمحق الله الربا) فقد قضت سنته في خلقه أن يجعل منه أداة لتقلص المال المرابي فيه ووسيلة إلى فنائه بتقادم الزمن، وأن ينزع البركة من كل ثمرة تأتي وراءه، وأن يحرم المرابي من كل عطف ورحمة أو ود وإخلاص من الناس في الدنيا وثواب الله في الآخرة (ويربي الصدقات) فيرد أضعافها إلى المتصدق من طرق لم يكن يتصورها، ولم تكن له في الحسبان، ويجعل منها وسيلة لتملك القلوب والسيطرة عليها بالود والإخلاص، وأداة للتحابب والتعاطف بين مخلوقات الله في هذه الحياة عدا ما يكون لها من الأجر العظيم في الآخرة (والله لا يحب كل كفار) لا يعترف بأن الرزق كله من عند الله فيظنه يزداد بما حرم الله من الربا (أثيم) يصر على تعاطي الربا ولا يبالي بما توعد الله به المرابين وعلى ذكر توعده تعالى المرابين بالمحق لعصيانهم ووعده للمتصدقين بالزيادة أكد وعده سبحانه وتعالى للمطيعين فقال (إن الذين آمنوا) بالله وبكل ما جاء من عنده (وعملوا الصالحات) من كل أمر يستجلب رضوان الله كمواساة المعوزين. وإنظار المعسرين (وأقاموا الصلاة) التي تذكر المؤمن بربه فتصده عن معصيته (وآتوا الزكاة) التي تزكي النفس من رذيلة البخل والحرص الدنيء، وتحبب إليها أعمال البر والإحسان (لهم أجرهم) الذي وعدوا به (عند ربهم) على كل ما ذكر (ولا خوف عليهم) من عدوان الناس لأن الله قد أخذ على نفسه عهدًا أن
من المدينة، وأقبل معبد الخزاعي إلى رسول الله ﷺ فأسلم فأمره الرسول أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء على بعد أربعين ميلاً من مكة فقال ما وراءك يا معبد؟ فقال الرجل: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله وقد ندم من تخلف عنهم من أصحابه. فقال ما تقول؟ قال ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان والله لقد اجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.
ولقد نزلت هذه الآيات بمثابة تذكير لتلك الحوادث حيث يقول تعالى: ﴿و﴾ اذكر أيها الرسول ما كان يوم أحد ﴿إذ غدوت﴾ خرجت غدوة ﴿من أهلك﴾ في يوم السبت السابع من شهر شوال في السنة الثالثة من الهجرة ﴿تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال﴾ لأجل أن تضعهم في المواضع التي يلهمك بها ربك لكسب النصر في الوقت الذي كان فيه عبد الله بن أبي وهو من بطانة جيشك يفت في عضد أنصارك ويقول لقد أطاع محمد الولدان ومن لا رأي وعصاني فما ندري علام نقتل أنفسنا هنا أيها الناس، حتى رجع بثلث الجيش ممن اتبعه وكان على شاكلته من المنافقين. ﴿والله سميع﴾ لما كانوا يقولون ﴿عليم﴾ بما في نفوس باقي رجال الجيش. ﴿إذ همت﴾ الهم حديث النفس أي توقعت ﴿طائفتان﴾ هما بنو سلمة وبنو حارثة ﴿منكم﴾ ممن كان قوي الإيمان مصممًا على الجهاد مهما كلفه الأمر ﴿أن تفشلا﴾ وقد ظنا أن الفشل محدق بهما وخافا أن لا ينتصرا، نظرًا لأنهما كانا يعلمان أن رسول الله ﷺ كان مترددًا في أمر الخروج ولكنه استكره عليه لشدة إلحاح ذلك النفر من أصحابه. وما كان لهما أن يتوقعا الفشل ﴿والله وليهما﴾ وهو القادر على أن يكسبهما النصر بقوة من عنده رغم قلتهم وانصراف المنافقين عنهم ﴿وعلى الله﴾ لا على العدة والعدد ﴿فليتوكل المؤمنون﴾ الذين يثقون بقلوبهم حقًا بأن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء بإعداده العدة وأخذ الأهبة لإقامة سننه في خلقه والتي تقضي باتخاذ الأسباب للوصول إلى المسببات من غير نسبة التأثير لشيء غير الله وحده القادر على أن يمنح النصر للفئة القليلة على الفئة الكثيرة متى أراد كما حصل في يوم بدر حيث قال ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة﴾ أي فما كان لتلكما الطائفتين أن يتوقعا الفشل والله وليهما، وما كان للمؤمنين أن يتخلوا عن التوكل على الله وأن يترددوا في نصره لهم ما داموا متبعين لأوامره عاملين على سننه وإن كانوا في قلة فأمامهم المثل القائم بنصر الله لهم في يوم بدر
بالكتاب وما جاء به وتغييرهم وتبديلهم فيه وإنما كان ذلك من أجل أن يكون ﴿لهم نصيب من الملك﴾ والسلطان ليحكموا في الناس ويقولون: إن الغاية تبرر الواسطة فهذه أيضًا نظرية خاطئة لأن الملك الذين يضحون في سبيله بدينهم يحملهم على جمع المال من أجل الاحتفاظ به ﴿فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا﴾ النقير وقية في ظهر نواة التمر وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة يضرب بها المثل في الشيء الطفيف وهذا البخل أو الاستئثار بالمال والمنافع والمرافق وحصرها في فريق دون آخر من شأنه أن يثير حفيظة الآخرين ويؤدي إلى تقويض دعائم الملك ولذا كان البخل والملك ضدان لا يجتمعان ﴿أم﴾ لا هذا ولا ذاك ولكنه الطبع الذميم فيهم يحملهم على أنهم ﴿يحسدون الناس﴾ والمراد بهم النبي وصحبه المؤمنين به ﴿على ما آتاهم الله من فضله﴾ من النبوة والسلطان ويتمنون زوال ذلك منهم، وذلك خطأ أيضًا لأن الحسد لا يؤثر في عطاء الله والحسود لا يسود ﴿فقد آتينا﴾ من قبل ﴿آل إبراهيم﴾ جد الأنبياء تكريمًا له وجزاء على إجهاده الفكر في سبيل التعرف إلى الله والصبر والثبات على عقيدته ﴿الكتاب﴾ أي: إنزال الشرائع السماوية عليهم ﴿والحكمة﴾ أي: فهم حقائق الأمور والفصل فيها بما يرضي الله ولعله يراد بها النبوة التي هي منحة من الله لا تنال إلا منه فهم أهل لذلك ولا سبيل إلى انتزاعها منهم ﴿وآتيناهم﴾ في أنفسهم ﴿ملكًا عظيمًا﴾ أي قوة ذاتية وعزة دينية تجعلهم يسيطرون على أنفسهم ويقهرون أعداءهم أو يعلون بها على من سواهم فلا يخضعون لغير الله الواحد القهار ولا غرو فلا ملك في الحقيقة إلا أن يملك الإنسان نفسه ويسخرها لما فيه نفعه لا أن تستعبده هي وتسخره لشهواتها ومن ملك نفسه استطاع أن يبسط سلطانه ويملي إرادته على غيره، وأما من عجز عن امتلاك نفسه فهو عن امتلاك غيره أعجز ﴿فمنهم﴾ أي: من الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب ﴿من آمن به﴾ بالكتاب
كالظباء وبقر الوحش وحمرها وسائر الحيوانات الطيبة للأكل ما مشي منها على الأرض وما طار في الهواء وما سبح في البحر ولما كان هذا الإطلاق يقتضي إحلالها على جميع الوجود وفي سائر الأحوال استثنى الله من ذلك بعض حالات أشار إليها بقوله (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي إلا أن تتصف البهيمة بأحد الصفات التي تمنع من أكلها وهي الواردة في الآية الثالثة من هذه السورة فلا يحل أكلها ثم قيد الحل بشرطين الأول أن تكونوا (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي حال كونكم غير مستحلين صيدها في الأماكن التي حرم الله صيدها فيها وهي أرض الحرم ومتى حُرِّم صيدها فيها فأكلها لا يحل لكل أحد والشرط الثاني (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمين بالحج والعمرة وإن كنتم في خارج حدود الحرم فيحرم عليكم الصيد والأكل مما صدتم (إِنَّ اللهَ يفعل ما يريدُ) فلا محل للاعتراض بوجه من الوجوه في إباحة أكل بهيمة الأنعام وتحريم أكل الميتة وما بعدها ولا على ما ذكر من تحريم الصيد في الحرم دون سواه أو على المحرم حتى في غير الحرم إذ أنه تعالى إنما خلقها لتكون صالحة للأكل لكل إنسان وهو جل وعلا وحده صاحب الحق في تقرير مصيرها وما يباح منها وما يحرم ومتى تحل ومتى تحرم، وبعد أن أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بالعقود وأهمها عقد الإيمان بالله الذي يوجب على المؤمن السمع والطاعة أخذ ينهاهم عمل يخل بالإيمان بالله من التهاون بحقوقه واستباحة ما حرم أو تسهيل سبيل ذلك فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا) لأنفسكم (شَعَائِرَ اللَّهِ) الشعائر جمع شعيرة العلامة التي وضعها الله دليلاً على ما يرضيه من عباده من الأمور التوقيفية التي جاء بها الرسول فلا تتصرفوا فيها بأهوائكم بزيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل قال ابن عباس ومجاهد المراد هنا مناسك الحج فقد كان المشركون يحجون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي ولا تستحلوا حرمة الشهر الحرام قيل المراد به شهر رجب الذي كانت تحترمه العرب في الجاهلية والمتبادر أنه المراد به جنس الشهر الحرام فيشمل بقية الأشهر الحرم الأربعة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وذلك بأن تُحِلُّوا لأنفسكم بدء القتال فيه (وَلَا الْهَدْيَ)
<٢٣>
أي ما أهدي إلى بيت الله من الأنعام للتوسعة على جيران بيته وإحلاله بالحيلولة دون بلوغه إلى محله
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٧) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نُرْسِلُ
نرزقكم وإياهم} وفي هذا إشارة إلى أن رزق العباد ما هو إلا من محض فضل الله الذي تعهد به لكل حي وما سعي الإنسان وكسبه إلا مجرد وسائل لاكتشافه والحصول عليه ولكنها لا تضمن كفاية حاجاته والمعنى لا تخافوا من عجزكم عن الإنفاق عليهم فإن من هيأ لكم أسباب الرزق حتى عشتم هو الذي تكفل برزق أولادكم وسييسره سبحانه لكم دون جهد منكم بل ومن حيث لا تشعرون ﴿و﴾ الرابع من الوصايا أن ﴿لا تقربوا الفواحش﴾ أي كل ما تجاوز الحد في القبح كالزنا والسرقة وشرب الخمر ﴿ما ظهر منها وما بطن﴾ أي سواء أكان ذلك في الجهر أم كان في السر ذلك لأن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها لم يكن ناشئًا عن طاعة الله بل خوفًا من مذمة الناس فلا ثواب عليها وأما من تركها ظاهرًا وباطنًا دل ذلك على حرصه على رضاء الله والخوف منه مما يستدعي رحمته وغفرانه ﴿و﴾ خامس الوصايا أن ﴿لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها﴾ بالإسلام أو عقد الذمة أو عهد المعاهدات ﴿إلا بالحق﴾ أي إلا بسبب موجب للقتل ﴿ذلكم﴾ أي ما مر من هذه الأمور الخمسة ﴿وصاكم به﴾ الله العليم بما ينفعكم وما يضركم ﴿لعلكم تعقلون﴾ أي تدركون بعقولكم ما في اتباع هذه الوصايا من خير عام للمجتمع الإنساني بأسره فتتبعونها بمحض اختياركم ومن غير إكراه فتنالوا ثمرة ذلك من الوحدة الكاملة والحب المتبادل والسلام العالمي ﴿و﴾ سادس الوصايا ﴿لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن﴾ أي في حدود ما فيه منفعته وتنميته ورعاية وجوه الغبطة من غير تكليفه ما هو أكثر من اللازم من النفقات ﴿حتى يبلغ أشده﴾ أي يصبح قادرًا على إدارة شئونه كافّة ﴿و﴾ سابع الوصايا ﴿وأوفوا الكيل والميزان بالقسط﴾ أي من غير زيادة ولا نقص بقدر المستطاع فنحن ﴿لا نكلف نفسًا إلا وسعها﴾ بمعنى أنه تعالى يتجاوز عما قد يكون هناك من فرق بسيط في الوزن والكيل غير مقصود مما يصعب الاحتراز منه ﴿و﴾ ثامن الوصايا ﴿إذا قلتم﴾ قولًا في شهادة أو حكم على أحد ﴿فاعدلوا﴾ إذ العدل أساس الملك وقطب رحى النظام في جميع الشئون الاجتماعية ﴿ولو كان ذا قربى﴾ أي لا يجوز أن تمنعكم علاقة القربى عن واجب العدل والتجؤكم إلى المحاباة فذلك مما يغضب الله ﴿و﴾ تاسع الوصايا ﴿بعهد الله أوفوا﴾ وعهد الله يشمل ما عهد الله به إلى عباده من الإيمان به وواجب طاعته لقوله تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان﴾ وما يعاهد الناس به بعضهم بعضًا أو يأخذونه على أنفسهم من نذر موافق للشرع حيث قال تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾، وقوله: {ومنهم من عاهد الله
ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} لما غيره من المرسل حتى نبينا عليه الصلاة والسلام فقد كان ينزل عليه جبريل بالوحي ويقول إن الله يأمرك بكذا وكذا. ويحتمل أن يكون الاصطفاء بفضيلة الجمع بين الرسالة والكلام معًا مما لم يكن لأحد من الرسل وقد جاء في الأخبار أن بني إسرائيل قالوا يا موسى بم شبهت صوت ربك قال إنه لا شبه له ورُوِيَ أن موسى لما كلمه ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في مسامعه من كلام الله جل وعلا والمعنى فما يكون لك أن تطمع بأكثر من هذا ﴿فخذ ما آتيتك﴾ أي ما أعطيتك من شرف الرسالة والمكالمة ﴿وكن من الشاكرين﴾ أي لا يضق صدرك لمنعك من الرؤية وأشغل نفسك بشكر ما أنعم الله به عليك وشكر ذلك لا يكون إلا بأداء واجب الرسالة ﴿وكتبنا له في الألواح﴾ وهي كل صحيفة عريضة معدة للكتابة فيها ﴿من كل شيء﴾ أي أمر من الأمور ﴿موعظة﴾ أي من شأنها أن تؤثر في القلوب ترغيبًا وترهيبًا ﴿وتفصيلًا لكل شيء﴾ من أصول العقائد والآداب والأحكام ولعلها خلاصة التوراة لقوله تعالى: ﴿ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن﴾ ﴿فخذها بقوة﴾ أي بإيمان قوي وعزيمة ثابتة على تنفيذ مقتضاها إذ التساهل في أوامر الله من شأنه أن يحمل الناس على التقاعس فيها وإهمالها كليًا ﴿وأمر قومك يأخذوا بأحسنها﴾ ذلك أن التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو مثلًا أي وادعهم إلى تفضيل ما هو أكثر حسنًا كالعفو ابتغاء مرضاة الله عن القصاص الذي فيه استيفاء للحق الخاص ﴿سأوريكم دار الفاسقين﴾ أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي من آل فرعون الذين كانوا يستعبدونكم وأنجاكم الله منهم ونصركم عليهم وقد صدق الله وكان من نتيجة عدم حرص الملوك والحكام على تنفيذ أحكام الله بكل قوة، وإهمال العلماء أمر تذكير الناس بالله وتخويفهم من عواقب المعاصي والسيئات أن أهمل المسلمون اليوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله وأصبحوا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه بل إن البعض منهم ليعمل على محاربة الدين ونشر الإلحاد بمختلف الوسائل ولا يخاف نقمة الله ولا يبالي بعذابه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعد أن أمر الله نبيه موسى أن يأخذ الألواح بقوة ويأمر قومه كي يأخذوا بأحسنها أخبره بما تقتضيه سنته تعالى في ضلال البشر بعد مجيء البينات في سائر الأديان وما يترتب على ذلك بحسب دستوره تعالى في خلقه إلى يوم الدين فقال ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض﴾
منكم} في الولاية يجب لكم عليهم من الحق والنصرة في الدين مثل الذي لهم عليكم وإن كانوا أقل درجة عند الله من الأولين لقوله تعالى: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى﴾: ﴿وأولو الأرحام﴾ أي أصحاب القرابة: ﴿بعضهم أولى ببعض﴾ أي يتعين عليهم إقامة كتل صغيرة فيما بينهم تقوم على أساس إحكام أواصر الرحم ومؤازرة بعضهم بعضًا لتكون نواة للوحدة الكبرى الإسلامية التي تجمع شمل الجميع بمثابة وحدة وولاية الأنصار والمهاجرين السابقين: ﴿في كتاب الله﴾ أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين وأوجب عليهم صلة الأرحام فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره فقد ورد في الحديث «ابدأ بنفسك فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» أي فللمستحق من كل جانب حتى يتم التضامن بين جميع أفراد الأمة الإسلامية: ﴿إن الله بكل شيء عليم﴾ أي أنه تعالى الذي شرع لكم هذه الأحكام أعلم بما يصلح أحوالكم وما فيه سعادة العالم ورفاهيته فلا تفرطوا في شيء منها.
سورة التوبة
أو براءة مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وعدد آياتها ١٢٩
{بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ
شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ
المعتاد فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب وإنما هو أمر انتقام عام من الذين كفروا بالله: ﴿إلا من رحم﴾ أي إلا من رحمهم الله ممن استحقوا الرحمة بالإيمان وصالح العمل وكانوا معه في السفينة: ﴿وحال بينهما﴾ أي بين نوح وابنه: ﴿الموج﴾ فلم يستطع الابن أن يأوي إلى الجبل كما كان يتصور: ﴿فكان من المغرقين﴾ ولم ينج من الناجين: ﴿وقيل يا أرض ابلعي ماءك﴾ أي وصدر الأمر من رب العزة على الأرض بابتلاع الماء: ﴿ويا سماء أقلعي﴾ أي كفي عن الإمطار: ﴿وغيض الماء﴾ أي غار في الأرض ونضب وجفت الأرض تمامًا: ﴿وقضي الأمر﴾ أي نفذ حكم الله بهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين: ﴿واستوت﴾ أي استقرت السفينة: ﴿على الجودي﴾ هو اسم جبل في الموصل: ﴿وقيل بعدًا﴾ من رحمة الله: ﴿للقوم الظالمين﴾ لأنفسهم بإعراضهم عن سلوك السبل التي سنها الله لنيل رحمته وفي مقدمتها الإيمان به: ﴿ونادى نوح ربه﴾ بعد استقرار السفينة وزوال الخطر مستفسرًا عن السر في إغراق ابنه دون أن يسأله له النجاة كما تصور المفسرون: ﴿فقال رب إن ابني من أهلي﴾ الذين أمرتني بحملهم معي في السفينة التي أعدت لنجاتهم: ﴿وإن وعدك الحق﴾ الذي لا مراء في تحقيقه: ﴿وأنت أحكم الحاكمين﴾ أي خير الحاكمين حكمًا فأنت الذي لا يصدر حكمه إلا عن كمال العلم والعدل والحكمة ولا يعرض له الخطأ ولا المحاباة فلماذا لم تمكنه من الركوب وتجعله من ضمن ركاب السفينة: ﴿قال﴾ الله: ﴿يا نوح إنه ليس من أهلك﴾ المطيعين لك والمؤمنين برسالتك وإلا لأطاعك وركب معك: ﴿إنه عمل غير صالح﴾ أي إنه كان يعمل عمل الكفار وهذا أمر كان يجهله نوح إذ كان الولد دائمًا منعزلًا عن أبيه ولم يكن في قلبه مؤمنًا به وبهذا تنقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وقيل إن المراد أنه أثر من آثار خيانة زوجك لك، وقال آخرون إن معنى الجملة إن سؤالك يا نوح عن هذا عمل غير صالح: ﴿فلا تسألن ما ليس لك به علم﴾ يعني الأسرار الخفية التي متى علمت بها أساءتك وهذا على حد قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾.
﴿إني أعظك أن تكون من الجاهلين﴾ الذين يحاولون العلم بالمغيبات عن طريق الكهنة والمنجمين.
وما أشبه كالتنويم المغناطيسي في عصرنا هذا من الأمور التي لو صحت وصدقها الناس لعادت عليهم بشر مستطير فالمثل يقول: «من كشف فاله شغل باله» وإني لأذكر حادثة من هذا
بل بأمر منه جل وعلا ولا يدرك أحد مداها وذلك كما: ﴿ترونها﴾ ماثلة أمام أعينكم: ﴿ثم استوى على العرش﴾ استواء يليق بعظمته وجلاله لا كاستواء الملوك على عروشهم فذات الله جل جلاله ليست كذوات المخلوقين وكذلك صفاته ليست كصفات عباده: ﴿وسخر الشمس والقمر﴾ أي ذللهما وجعلهما مسيرين في حركاتهما وفق الخطة المرسومة لهما: ﴿كل﴾ منهما: ﴿يجري﴾ بحركة دائمة وبدون توقف بكيفية معينة من البطء والسرعة حسبما أريد منهما: ﴿لأجل مسمى﴾ أي لمدة معينة فيها تتم دورتها كالسنة للشمس والشهر للقمر فإن كل منهما يجري كل يوم على مدار معين من المدارات اليومية: ﴿يدبر الأمور﴾ أي أنه مطلق الأمر في جميع شؤون خلقه إيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتة وإغناءً وإفقارًا وتنفيذ مقتضى أحكامه القدرية أو تعطيل مفعولها وفق ما يريد من عدل أو رحمة فله الأمر أولًا وآخرًا لا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عظائم الأمور عن تدبير صغارها: ﴿يفصل الآيات﴾ الدالة على كمال قدرته وبالغ حكمته فيعز الذليل ويذل العزيز ويفقر الغني ويحيي ويميت بمقتضى سنن هو واضعها ليشعر الكل بمبلغ سلطانه وهيمنته على جميع شؤون عباده: ﴿لعلكم بلقاء ربكم توقنون﴾ لأن من كانت له هذه القدرة وهذا السلطان الذي نشاهده في الدنيا لا يعجزه إعادة الحياة لنا بشكل يختلف عما نعهده، وإذا كنا نستدل على وجوده الآن بآثاره فسنراه يوم القيامة بتجلياته روى الشيخان والترمذي وأبو داود عن صهيب قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئًا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تعالى»: ﴿وهو الذي مد الأرض﴾ أي بسطها طولًا وعرضًا وإن كانت في ذاتها كروية ليثبت عليها الأقدام وينتفع الناس بخيراتها وبما في باطنها من معادن جامدة وسائلة: ﴿وجعل فيها رواسي﴾ أي أرساها بجبال راسيات شامخات لحفظ توازنها حتى لا تضطرب: ﴿وأنهارًا﴾ أي وجعل فيها أنهارًا جارية يضمن بها حياة الحيوان وينبت بها الزرع ومختلف الأغذية بما ينفع الإنسان والحيوان: ﴿ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين﴾ أي وهو الذي بحكمته جعل أصناف الثمرات مكونة من ذكر وأنثى كالحيوان تمامًا فكل شجر وزرع لا يتولد ثمره وحبه إلا عن طريق التلقيح بين عضو التذكير وعضو التأنيث وقد يكون عضو التذكير في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أخرى كالنخل وقد يكون العضوان في شجرة واحدة وزهرة واحدة كالقطن
تكن إلا من خلق الله وكذلك البنزين والزيت والفحم وغيره من وسائل تسييرها أيضًا من خلق الله بل واختراعها لم يكن إلا بإلهام من الله وقد نظمت في هذا ما يلي
@ولأجلنا الأنعام أنت خلقتها
#منها الغذاء وسترة العورات
@ومنافع شتى وفوق ظهورها
#نمضي لأقصى الأرض بالسلعات
@والأرض نحرثها بها وبروثها
#ننمي النبات ونكثر الثمرات
@وسقيتنا من بين فرث والدما
#لبنًا لنذكر تلكم الآيات
@والنحل قد أسقيتنا من جوفها
#عسلًا شهيًا طيب النكهات
@والبحر نأكل منه لحمًا طيبًا
#ولآلئًا تجنى من الصدفات
@ومن الحجارة قد جعلت معادنًا
#وجواهرًا للرزق والحليات
@والطير في جو السما أمسكتها
#وبها اقتدي الطيار في الرحلات
@والحوت يسبح في المياه كمرشد
#لسفائن تجري على الموجات
@وكذلك صيرت الغراب معلمًا
#قابيل كيف يواري السوآت
@علمتنا ما لم نكن ندري به
#حتى ملأت الأرض مخترعات
شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ
من مساعدات مادية فالله يدعو إلى الإحسان والبر بذوي الحاجة ولو كان على غير دين الإسلام: ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ بمعنى تعطوهم حقوقهم حتى من أنفسكم ولا تحالوا ظلمهم فإن الله حرم الظلم على نفسه وأبى أن يظلم الناس بعضهم بعضا ولو كانوا من الكفار: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أي العادلين: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي بسبب الدين والقتال أعم من أن يكون علنًا بالحرب والضرب أو سرًّا بإلقاء الفتن ومصادرة الحريات والحيلولة دون قيامكم بأي واجب من الواجبات التي يدعوكم إليها الدين أو أداء شعيرة من شعائره: ﴿وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ بالفعل أو عن طريق الاضطهاد وتقصدكم بالأذى بمختلف الطرق وسد سبل الارتزاق في وجوهكم حتى يضطركم إلى الهجرة من دياركم: ﴿وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ﴾ أي عاونوا الغير على إخراجكم سرًّا أو بطريق غير مباشر: ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ أي ينهاكم عن حبهم وإخلاص الود لهم وتقديم أي عون أو مساعدة لهم: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ﴾ برغم هذا الإنذار من رب العباد: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم فإن من جرب المجرب حلت به الندامة ومن لم يقبل نصيحة الله العالم بحقائق الأمور وما تخفي الصدور وأصابه الضرر من موالاة أعداء الله أمثال هؤلاء فإنما إثمه على نفسه بعد أن حدد الله موقف المؤمنين حيال المشركين بمناسبة استفتاء أسماء بنت أبي بكر أيضًا الرسول في شأن أمها التي جاءت لزيارتها وهي مشركة أراد سبحانه أن يبين حكمه أيضًا في شأن امرأة كانت مشركة هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاجرت إلى المدينة وآمنت بالله والرسول ثم ما لبثت أن لحق بها أخواها عمارة والوليد وقدما إلى رسول الله ﷺ وطلبا إليه أن يردها إليهما عملًا بمعاهدة صلح الحديبية التي تنص على (أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) فتحير الرسول في الأمر فأنزل الله آية الامتحان حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ في إيمانهن وعما جاء بهن هل كان ذلك عن غضب من أزواجهن أو فرارًا من أهلهم أو عشقًا لأحد من المسلمين أم حبًّا لله ولرسوله ورغبة في دين الإسلام: ﴿اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ أي بعد أن تذكروهن بأن الله أعلم بحقيقة أمرهن فيحب أن لا يقلن غير الحق: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ أي تأكدتم صدقهن في دعوى الإسلام والهجرة في سبيل الله: ﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ ويكون هذا بمثابة استثناء لما جاء في تلك المعاهدة أو نقضًا لها في حق النساء فقط للسبب الآتي وهو أنه: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا
بقدرته تعالى على إيقاعه بهم بمعنى أنهم آثروا حلول العذاب بهم على الإيمان بالقرآن في حال صحته ولا ريب في وقوعه: ﴿للكافرين﴾ بقدرة الله متى أراد وإنما الذي يمنع من استجابة ذلك هو ما قضى به الله من استدراجهم ولهذا لم يعجل الله عذابهم استجابة لدعائهم وإثباتًا لأن الكتاب من عنده: ﴿ليس له دافع من الله﴾ أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع أو مانع من جهته فإذا حان وقت وقوعه امتنع أن لا يوقعه الله جل جلاله: ﴿ذي المعارج﴾ المعارج جمع معرج وهو المصعد أي الذي: ﴿تعرج الملائكة﴾ وهم مخلوقات خفية منتشرة في جميع أنحاء العالم لا ترى وقد تتجسد بقدرة الله وتتزيا بزي الإنسان وتمتاز عنه بأنها مسخرة لطاعة الله وتنفيذ أوامره –: ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ –: ﴿والروح﴾ وهم من عالم القوى الخفية التي تملأ ذرات الأثير من سالب وموجب: ﴿إليه﴾ إلى البارئ جل جلاله: ﴿في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾ قال ابن عباس هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ورُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه قيل له ما أطول هذا اليوم فقال – «والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عنه من صلاة مكتوبة يصلها في الدنيا» –: ﴿فاصبر﴾ أيها الرسول على عنتهم وأذاهم: ﴿صبرًا جميلًا﴾ بحيث لا تقول حتى في سرك يا حبذا لو استجاب الله دعوتهم وأنزل عليهم العذاب الذي طلبوه وخلص العالم من شرورهم ما داموا مصرين على التكذيب إلى هذا الحد: ﴿إنهم يرونه﴾ أي العذاب الذي طلبوه: ﴿بعيدًا﴾ أي غير ممكن الوقوع: ﴿ونراه قريبًا﴾ سهلًا ميسورًا عندما يحين وقته: ﴿يوم تكون السماء﴾ القوية المتماسكة: ﴿كالمهل﴾ وهو ما كان ذائبًا من المعادن كالقطران والزيت الرقيق أي رخوة كالمائعات: ﴿وتكون الجبال﴾ الراسيات الشامخات: ﴿كالعهن﴾ أي الصوف المنفوش وفي هذا إشارة إلى أن من يفعل بالسماء والجبال كل هذا في الآخرة لا يعجزه أن ينزل بكم ما طلبتم من العذاب في الدنيا: ﴿ولا يسأل﴾ بفتح الياء وفي قراءة بضمها: ﴿حميم﴾ وهو القريب والصديق الذي يهتم بأمره: ﴿حميمًا﴾ أي لا يطلب حميم من حميمه عونًا أو شفاعة فكلهم عاجز عن أن ينقذ نفسه فضلًا عن أن يهتم بشؤون غيره مهما كان قريبًا أو حبيبًا: ﴿لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه﴾.
﴿يبصرونهم﴾ أي مع أنه يبصر كل حميم حميمه ويعرفه حق المعرفة ولكنه لا يسأله العون ولا يهتم بالتعرف إلى أخباره وشؤونه بل: ﴿يود﴾ أي يحب ويتمنى: ﴿المجرم﴾ وهو كل مرتكب للمعاصي
سورة الانشقاق: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى في السور السابقة بعض أشراط الساعة أخذ يبين هنا ماذا سيكون من أمر الناس عندئذ فقال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ انفصلت عن بعضها: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾ أي استمعت لأمره: ﴿وَحُقَّتْ﴾ أي وجدير بها أن تنقاد لأمره ولا تعصيه فهي التي عندما أمرها أن تأتي أتت طائعة: ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ﴾ بعد أن كانت كروية لتقف الخلائق جميعها على صعيدها في ذلك اليوم،: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا﴾ من الكنوز والمعادن التي كانت تحملها لصالح البشر: ﴿وَتَخَلَّتْ﴾ عنه وعادت إلى فطرتها الأولى من محض التراب: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ أي استمعت لأمر ربها وانقادت إليه وهي جديرة بذلك وعندها يقال: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ﴾ أي إنك كنت في حياتك الدنيا تجهد نفسك: ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ أي من أجل لقاء ربك بانتهاء الحياة: ﴿كَدْحًا﴾ أي تعمل أعمالًا شاقة مضنية: ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ أي فأنت اليوم ملاق عملك ماثلًا بين يديك: ﴿فَأَمَّا﴾ هذا جواب قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ وما بعدها: ﴿مَنْ أُوتِيَ﴾ أي أعطي: ﴿كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ أي من الجانب الأيمن: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ بمعنى لا يقال له: لِمَ فعلت هذا، ولا يطالب بالعذر فيه ولا الحجة عليه، روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، فقالت له: وما الحساب اليسير؟ فقال لها: ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته فأما من نوقش الحساب فقد هلك».
﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين: ﴿مَسْرُورًا﴾ فرحًا بخلاصه سالمًا من الحساب، ونجاته من العذاب: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ أي من خلفه وهذا دليل على سخط الله عليه: ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ الثبور: الهلاك، أي أنه سيقول لقد هلكت لقد هلكت،: ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ أي يقاسي حر نار شديدة اللذع والإحراق وقرئ: ﴿يُصلى﴾ بضم الياء وقد استحق هذا العذاب لسببين اثنين؛ الأول: ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ بإعطاء نفسه هواها وعدم خوفه من مولاها، والسبب الثاني: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ أي يرجع إلى ربه فيحاسب على ما اقترف في دنياه: ﴿بَلَى﴾ ليحورن وليرجعن إلى ربه وليحاسبن فيجزى على عمله خيرًا كان أو شرًا: ﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ أي عالمًا علمًا كاملًا: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ أي فلا حاجة بي إلى القسم لإثبات ما أقول لأنه ثابت لا يحتاج إلى تأييد: ﴿بِالشَّفَقِ﴾ وهو بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ أي جمع من ظلام: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ أي استوى كمل نوره ليلة تمامه: