ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ
وبعد أن خاطب الله المؤمنين وكتب عليهم الصيام وهو يعلم ما فيه من مشقة وترويض للنفس وقهر لها بترك لذاتها من الطعام والشراب والجماع، أراد الله سبحانه وتعالى أن يشعرهم بمبلغ كرمه وفضله على عباده إذ هو لا يرد لأحد مطلبًا ولا يخيب سائلًا فيما سأل، فأوحى الله لنبيه ﷺ بذلك عندما جاءه أحد الأعراب قائلًا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فسكت النبي مدة حتى أنزل الله قوله ﴿وإذا سألك﴾ أيها الرسول ﴿عبادي﴾ المعترفون بعبوديتهم لي الخاضعون لعظمتي وجلالي ﴿عني﴾ أقريب أنا منهم أم بعيد ﴿فإني قريب﴾ أي فأجبهم من تلقاء نفسك في الحال، لأن مثل هذا السؤال عائد إلى صميم العقيدة فلا يحتاج إلى استيضاح مني، ومن واجبك أن تؤكد لهم قربي منهم بما لي من كمال العلم والسلطان النافذ والهيمنة المطلقة على سائر القوى الخفية المنبثة في كل مكان والكامنة في جميع الموجودات كالروح والذرة والكهرباء ﴿أجيب دعوة الداع﴾ أي إني أخذت على نفسي أنني أجيب دعوة كل ملتجئ إلي بدعواته سواء كان مطيعًا أو مذنبًا ﴿إذا دعان﴾ بشرط أن يخصني بالدعاء مقرًا بعجزه معترفًا لي بالقدرة على تحقيق المطالب واثقًا من أني لا أرجع في وعدي ولا أبخل بما عندي. ﴿فليستجيبوا لي﴾ فما عليهم إلا أن يبادروا بالدعاء الذي هو مخ العبادة لما فيه من الدلالة على الشعور بالحاجة إلى الله والتعلق به. ويطالبوني بالإجابة ليبرهنوا بذلك على ثقتهم بتحقيق مطالبهم ومعرفتهم بربهم و ﴿وليؤمنوا بي﴾ إلهًا واحدًا قريبًا منهم قربًا لا يخفى معه على شيء من أمرهم وليثقوا بقدرتي على إجابة الدعاء وتحقيق المطالب ﴿لعلهم﴾ بذلك ﴿يرشدون﴾ يبلغون حقيقة الرشد بحصولهم على كمال الثقة بالله ودوام الاتصال به والاعتماد عليه ويدركون ما لي عليهم من حقوق الطاعة والإخلاص في سائر الأعمال التي أمرتهم بها والتي هي هيكل جميع العبادات مقابل ما منحتهم من النعم وما تعهدت لهم به من إجابة الدعاء، يا له من اعتماد على بياض، فتحه للراغبين صاحب الكرم الفياض، وما أعظم هذا من وعد كريم، لا يحق لمؤمن أن يداخله أي شك في وفاء الله به إلا إذا كان ممن ينكر صدور هذا الوعد من الله أو كان لا يجحد صدق هذا الوعد من الله ولكنه لا يثق ثقة مطلقة بأن الله سيبر به. أو كان ممن يداخله الظن بأن الله لم يكن جادًا
تصدقوا) بتخفيف الصاد وقرئ بتشديدها على المعسر بوضع الدين عنه كليًا وإبرائه منه فهو (خير لكم) من إنظاره لما في ذلك من تعاطف وتراحم وتكفير عن الماضي ابتغاء مرضاة الله (إن كنتم تعلمون) أنه معسر حقًا، أما إذا لم يكن معسرًا وعلمتم أنه إنما يتعمد المطل والظلم الذي نهى الله عنه فمطالبته وأخذ الحق منه أفضل ليفيء إلى أمر الله (واتقوا) في موضوع التشديد على المعسرين (يومًا ترجعون) بضم التاء وفتح الجيم وقرئ بفتح التاء وكسر الجيم أي تعودون (فيه إلى الله) المطلع على دخيلة أمركم والذي يعلم أنه لولا حرمانكم من الربا لما شددتم في الطلب (ثم توفى كل نفس ما كسبت) النفس من إخلاص في ترك الربا وما بقي منه وإنظار المعسر لمحض طاعة الله أو تقبل للأمر على مضض (وهم لا يظلمون) إذا اعتبروا عصاة وعوقبوا على ذلك في حالة ما إذا تركوا الربا أو ما بقي منه قسرًا ودون رضاء ولم يهملوا المعسر من أجل ذلك.
هذا وبمناسبة قوله تعالى «ثم توفى كل نفس» اختلف العلماء في حقيقة النفس والروح فمن قائل إنهما اسمان مترادفان لمعنى واحد، وعرفوها بأنها: جسم لطيف له مادة خاصة خلق منها وجعل على شكل معين وصورة معينة توجد داخل هذا البدن وهو مخالف لماهيته وينفذ في الأعضاء ويسري فيها سريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابهًا لهذه الأعضاء وأفادها منه الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها خرجت عن قبول تلك الآثار وفارقت الروح البدن وانتقلت إلى العالم الثاني.
ولا يجاريهم في هذا الرأي بعض أهل العلم والتصوف الذين يقولون إن للإنسان غير بدنه حياة وروحًا ونفسًا، وأن ما سبق من التعريف إنما ينطبق على النفس فقط لا على الروح، وأما الروح فقال بعضهم إنها من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها عن الخلق، وقال بعضهم إنها نور من نور الله وحياة من حياته، وقال بعضهم إنها معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون وأنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدابير وأنه لا يجوز عليه صفة قلة ولا كثرة وهي على ما وصفت من انبعاثها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد ولا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض ولا وزن ولا هي في العالم
﴿فينقلبوا﴾ فيرجعوا من حربكم ﴿خائبين﴾ لم يظفروا بما أرادوه من إهلاك المسلمين والقضاء على الدعوة الإسلامية عسى أن يكون في ذلك من العبر ما يهديهم إلى التسليم بصدق الدعوة وبقدرة الله العظمى ويحملهم على الإيمان به وبكتبه وبرسله.
بعد أن ذكَّر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بموقف المشركين حياله في يوم أحد أراد سبحانه وتعالى أن ينبهه إلى أمر صدر منه ما كان ينبغي له أن يصدر، ذلك أنه عليه الصلاة والسلام عندما كسرت راعيته وشج وجهه الشريف قال عليه الصلاة والسلام: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» وبلغ به التأثير مبلغًا خشي منه من تفكك المسلمين فتوجه إلى الله قائلاً على غير عادته: «اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية» فأراد الله جل جلاله أن يتم تأديب رسوله ليرفعه إلى أعلى درجات الكمال في العبودية، ويجعل منه عبرة لأمته ليفوزوا بمعرفة حقيقة توحيد الألوهية حيث قال: ﴿ليس لك﴾ أيها الرسول ﴿من الأمر﴾ وهو طلب إحداث الشيء ﴿شيء﴾ فلله الأمر من قبل ومن بعد، وما أنت إلا مأمور بتبليغ الدعوة والجهاد في سبيل الله، وليس من حقك التدخل في أمر القضاء بين العباد فما كان لك أن تغضب من كسر رباعيتك، وشج وجهك لأن هذا لم يكن إلا بمشيئة الله ودستوره الذي سنه لعباده وما يكون لك أن تستبعد فلاح من أساء إليك وتلعنهم وأنت لا تدري ما هو مراد الله فيهم، وكان الأحرى بك أن تفوض أمرهم إليه جل وعلا فهو أدرى بصالح عباده وأعلم بالحكمة في جميع تصرفاته ﴿أو﴾ بمعنى حتى كقولك لآخر: "لألزمنك أو تعطيني حقي" ﴿يتوب﴾ الله ﴿عليهم﴾ فتفرح بتوبتهم وانضوائهم تحت لوائك وربما كان هذا أنفع لك ﴿أو يعذبهم﴾ فتفرح بعذابهم أيضًا لا تشفيًا لنفسك فليس هذا من طبعك، ولكن لأنهم استحقوا العذاب ﴿فإنهم ظالمون﴾ سائرون من تلقاء أنفسهم على السنن التي تؤدي بهم إلى العذاب دون حاجة لدعائك عليهم ﴿ولله ما في السماوات وما في الأرض﴾ وما فيها من العباد صالحهم وطالحهم، وهو سبحانه رب الجميع المالك لهم فلا يمكن أن يظلم أحدًا وينزل سخطه عليه لمجرد دعوة منك، وإنما هو تعالى ﴿يغفر لمن يشاء﴾ المغفرة من عباده بطلبها واتباع السنن المؤدية إليها من الإيمان بالله وعدم الشرك به وإخلاص العباد له ﴿ويعذب من يشاء﴾ العذاب منهم بسلوك الطرق الموصلة إليه من الشرك بالله والإصرار على ما لا يرضى الله وعدم التفكير في تجنب ذلك الخطر المنتظر الذي أنذر
صدر عليهما معًا مباشرة فيكون التنفيذ حالا بهما ظاهرًا باديًا.
﴿إن الله كان عزيزًا﴾ قويًّا قادرًا على كل شيء لا يعجزه تبديل الجلود وإيصال آلام النار باستمرار إلى الأبدان والنفوس ﴿حكيمًا﴾ إذ جعل العذاب مرتبًا على ما يقدم عليه الإنسان من المعاصي التي نهاه الله عنها أو هو بعبارة أخرى نتيجة طبيعية لمن جارى الفطرة ولم يحكم العقل وهداية الله في كافة شئونه، فزاول من الأسباب ما يوصل إلى هذا المصير، فلا ينسب إليه تعالى الظلم أو القسوة بل العدل والرحمة في جميع الأحوال ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي: الذين أيقنوا بوحدانية الله بقلوبهم وأيدوا ذلك الإيمان القلبي بأعمالهم وهي عامة تشمل حتى مجرد التلفظ بكلمة الشهادة والموت عليها أو دونها حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل» كما تشمل أي نوع من أنواع العبادات والأعمال التي يزاولها الإنسان يبتغي بها طاعة الله ﴿سندخلهم﴾ في الآخرة وقد بدأ هذا الفعل بالسين لا بسوف إشارة إلى تعجيله النعيم للمؤمنين في الآخرة قبل إصلائه العذاب لأهل العذاب في ذلك اليوم ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ التي وعدهم الله بها جزاء على الإيمان والعمل الصالح ولا يخلف الله وعده فلا يمكن أبدًا أن يعذب سبحانه المؤمنين الطائعين كما رُوِيَ عن رسول الله ﷺ قوله «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله» وما من حرج أي يعفو عن المذنبين خلافًا لما يعتقده بعضهم من أن الله يعذب الطائع ﴿خالدين فيها أبدًا﴾ فلا يقض مضاجعهم خوف الموت ولا يداخل نفوسهم أي حذر من زوال ما هم فيه من نعيم مقيم ﴿لهم فيها﴾ بمقتضى وعد الله الحق ﴿أزواج مطهرة﴾ من العيوب الحسية والمعنوية
العروق بخلاف ما يتخلل اللّحم أو ما يتجمد بطبعه في داخل الحيوان كالكبد والطحال لقوله ﷺ أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ولعل الحكمة في تحريمه أنه محلاً لتولد الجراثيم الضارة والمواد العفنة.
(وَ) الثالثة (لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فهو بذاته محرم لأنه مضر بالصحة ضررا بليغاً لا يستطيع علماء الطب إنكاره وإذا كان هناك من لا يشعر بأضراره فما ذلك إلا بسبب التعود عليه فمن تعود السم لا يقتله السم ولكن عواقبه وخيمة
(وَ) الرابعة (مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) والإهلال رفع الصوت والمراد به ما ذبح تقرباً به لغير الله ولعل الحكمة في التحريم دينية محضة وهي أن التعبد بالذبح لا يكون إلا لله فمن شذ عن ذلك وذبح بهيمة تقرباً إلى غير الله فهو مشرك ويعد الأكل من لحم تلك البهيمة إقرارا للذابح في عمله وتشجيعاً له ولذا حرم وهذه الأربعة من المحرمات قد ذكرت بصيغة الحصر في سورة الأنعام بقوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به) وفي سورة النحل بقوله عز وجل (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) وختم الله هاتين الآيتين بقوله (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) وقد زاد الله في هذه السورة على المحرمات الأربع ستة أخرى خمسة منها في الحقيقة داخلة في حكم الميتة بالمعنى الشرعي أي أن موتها بدون فعل فاعل وقد كان بعض العرب يأكلونها متى علموا بحقيقة موتها فأراد الله أن يشعرهم أن العبرة بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان وفعله ولذا نص على تحريمها بالذات حيث قال
(وَ) الخامسة (الْمُنْخَنِقَةُ) أي التي أدخلت رأسها
<٢٥>
بين شعبتين من شجرة فماتت خنقاً
(وَ) السادسة (الْمَوْقُوذَةُ) وهي التي تعذب بالضرب حتى تموت
(وَ) السابعة (الْمُتَرَدِّيَةُ) وهي التي تتردى من مكان مرتفع فتموت
ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٨٨) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
بعد أن أمر الله رسوله بأن يتلو على عباده ما أوجبه وما حرمه عليهم وجاءت به سائر الرسل من قبله من الوصايا العشر التي قامت عليها الديانات كافة أراد أن يخبره بما تفرع عن تلك الأصول من شرائع لم تكن إلا لمصلحة العباد وزيادة الأجر لهم فقال ﴿ثم آتينا موسى الكتاب﴾ الذي هو التوراة ﴿تمامًا﴾ لنعمتنا ﴿على الذي أحسن﴾ في اتباع الواجبات والانتهاء عن المحرمات ورغبة في الوقوف على ما يؤدي إلى زيادة الثواب والحصول على أعلى الدرجات ﴿وتفصيلًا لكل شيء﴾ من تلك الأصول قد يخفى على قصار النظر مما قد يكون ذريعة لهم في ادعاء الجهل بالمراد منها. ﴿وهدى﴾ إلى معرفة الله ﴿ورحمة﴾ أي وسبيلًا إلى نيل رحمته ﴿لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون﴾ أي أن الله قد أنزل التوراة كوسيلة للإيمان بالبعث بعد الموت وما يكون هناك من ثواب وعقاب فيحملهم إيمانهم به على تنفيذ أوامر الله واجتناب نواهيه نظرًا لخلو الوصايا المذكورة من الإشارة إلى شيء من ذلك ﴿وهذا﴾ أي القرآن ﴿كتاب أنزلناه﴾ عليك ﴿مبارك﴾ من البركة وهي الزيادة والنماء أي أنه يزيد ويفضل على كتاب موسى في كل ما ذكر عنه ﴿فاتبعوه﴾ فيما شرعه لكم من الأحكام التفصيلية ﴿واتقوا﴾ ما نهاكم عنه وحذركم إياه ﴿لعلكم ترحمون﴾ فقد جعل الله ذلك سبيل نيل الرحمة وهنا وجه الله الخطاب إلى العرب الذين أنزل القرآن بلغتهم وعلى واحد من أبنائهم مؤكدًا عليهم وجوب اتباعه وأنه لا عذر لهم في عدم الإيمان بالله وبما جاء من عنده فقال ﴿أن تقولوا﴾ أي لئلا تقولوا يوم القيامة ﴿إنما أنزل الكتاب﴾ من عند الله ﴿على طائفتين من قبلنا﴾ وهما قوم موسى وقوم عيسى أما نحن فلم ينزل علينا كتاب ﴿وإن كنا عن دراستهم لغافلين﴾ أي وعدى ذلك فنحن في غفلة عن دراسة الكتب لجهلنا اللغة التي أنزلت بها وغلبة الأمية علينا ﴿أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب﴾ الذي أنزل على الطائفتين ﴿لكنا أهدى منهم﴾ لما لدينا من ذكاء فطري ونضج عقلي وهمة عالية، وعدم إنزال الله الكتاب لنا دليل على أنا غير مكلفين بما جاء في تلك الكتب وقد قالوا ذلك فعلًا في الدنيا بما حكاه الله عنهم في سورة فاطر بقوله: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورًا استكبارًا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله﴾. ﴿فقد جاءكم﴾ القرآن للناس كافة ﴿بينة﴾ أي دلالة واضحة وحجة قوية تدل على وحدانية الله وتتجدد مفاهيمه بتجدد الأيام وتقدم العلم ورقي الأفكار ﴿من ربكم﴾ يقطع كل عذر قد تقتبسونه ﴿وهدى﴾ لمن تدبره إلى نظم الله الاجتماعية وسننه الكونية وما فيه الخير العام بين بني الإنسان ﴿ورحمة﴾ عامة
ودون الحنين إلى تلك العبادة الفاسدة فطلبوا من موسى السامري وكان رجلًا مكاشفًا على جانب من العلم أن يصنع لهم صنمًا يتقربون به إلى الله فطلب إليهم أن يجمعوا ما كان لديهم من حلي استعاره نساء بني إسرائيل من نساء المصريين قبل خروجهم من مصر ويقدموه له ففعلوا وصنع لهم من تلك الحلي عجلًا يشبه العجل (ايبيس) الذي كان يعبده المصريون وبهذا كانوا جميعًا مشتركين في الجريمة ولذا قال تعالى ﴿واتخذ قوم موسى من بعده﴾ أي من بعد ذهابه لمناجاة ربه ﴿من حليهم﴾ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء وقرئ بكسر الحاء واللام وتشديد الياء وهي ما يتجمل به النساء من الذهب والفضة ﴿عجلًا﴾ أي هيكلًا على صورة العجل وهو ولد البقرة أو الجاموسة ﴿جسدًا﴾ هو الجسم الذي يعبر عنه بالبدن من غير روح ﴿له خوار﴾ صياح البقر بمعنى أن ذلك العجل الذي عمل من الحلي استحال إلى لحم ودم وصار يصيح كما يصيح البقر ولعل السر في هذا ما رُوِيَ من أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبًا فرسًا ما وطئ أرضًا إلا حلت فيها الحياة واخضر فيها النبات فاستعمل كشفه وعلمه في ضلال القوم وأخذ من أثر حافر فرس جبريل قبضة فنبذها في جوف هيكل العجل فتجسد وصار يخور بقدرة الله دون أن تحل فيه الحياة كما توهم بعضهم إذ لو حلت فيه الحياة لما أعجز الله أن يقول صار حيًّا ولم يقل ﴿جسدًا له خوار﴾ وهذا في ذاته أمر خارق للعادة لم يعهده بنو إسرائيل في الأصنام من قبل ولذا قال: ﴿هذا إلهكم وإله موسى﴾ الذي ذهب لمناجاته وأخذوا يوجهون إليه مختلف الأسئلة ويطلبون منه هدايتهم إلى ما يرضيه وهو لا يجيبهم وبرغم ذلك ظلوا على عبادته وقد وضح الله مبلغ جهلهم وضلالهم إذ قال ﴿ألم يروا أنه﴾ أي ذلك العجل المجسد ﴿لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا﴾ أي أنه فاقد لأبسط صفة من صفات الله وهي كلامه وهدايته العباد ﴿اتخذوه﴾ إلهًا وهم يرون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم ﴿وكانوا﴾ بهذا ﴿ظالمين﴾ لأنفسهم بعدم تدبرهم وتحكيمهم للعقل الذي وهبه الله لهم وأخذ هارون ينكر عليهم صنيعهم ويذكرهم بما كان يدعوهم إليه موسى من وجوب توحيد الله وإطاعة أمره فلم يقبلوا نصحه وقالوا له: ﴿لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى﴾ فتركهم وشأنهم إلى أن عاد موسى وأمر بتحريق العجل فحرق وهناك تثبت لهم أنه لم يكن إلهًا وأن ذلك من فتنة السامري لهم، عند ذلك شعروا بخطئهم وندموا على ما فرط منهم وحكى الله ما كان منهم بعد ذلك بقوله ﴿ولما سقط في أيديهم﴾ أي ذلوا وعجزوا عن الدفاع عن
شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يَا
العاقبة للمتقين} أي الفوز والنجاة لا بد أن يكون في جانب من يعتمد على الله ويطيع أوامره ويتقي غضبه والتهلكة والخسران للمصرين على الكفر المعتمدين على أنفسهم من دون الله. هذا وقد اختلف العلماء في أمر الطوفان هل عم الأرض جميعها أم لا، وظواهر القرآن والأحاديث تدل على أنه كان عامًّا شاملًا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم وهذا لا يقتضي أنه عم الأرض جميعها والله أعلم.
لقد سرد الله قصة نوح أول رسول بعثه جل جلاله لهداية قومه الذين لم يكن على وجه البسيطة غيرهم وسجل عليهم كفرهم وعنادهم واستحقاقهم لغضب الله الذي سبب غرقهم ما عدى أهل بيته والقليل من قومه ليحفظ الله بهم السلالة البشرية التي ما لبثت أن تفرعت ونمت وانتشرت في الآفاق ولكنهم تناسوا دعوة نبيهم وانحرفوا عن شريعته وكفروا بنعمه وكان لنوح ثلاث أبناء هم سام وحام ويافث جعل الله الهداية فيهم إذ اختار من أبناء سام نبيه هودًا أرسله إلى قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وكانت منازلهم بالأحقاف فيما بين عمان وحضرموت، وهو أبو قحطان أبو اليمن وهو أول رسول تكلم باللغة العربية من ذرية نوح وآخرهم نبينا خاتم النبيين الذي أرسله الله للناس أجمعين وجعله رحمة للعالمين ﷺ وأنزل عليه القرآن مذكرًا لما حدث لمن سبقه من المرسلين ومخبرًا بمصير الظالمين، وبعد أن فرغ من ذكر قصة نوح أخذ يفصل قصة هود فقال: ﴿وإلى عاد أخاهم﴾ في النسب والقومية: ﴿هودًا﴾ بمثل ما أرسل به جده نوح: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ وحده ولا تشركوا به شيئًا: ﴿ما لكم من إله غيره﴾ فإن الإله الحق للناس إنما هو خالقهم ومربيهم بنعمه: ﴿إن أنتم إلا مفترون﴾ إذ تزعمون أن هناك عدة آلهة تثبتون لها النفع والضر دون أن يكون لديكم دليل محسوس على ذلك: ﴿يا قوم لا أسألكم عليه﴾ أي على ما أرشدكم إليه من الخير العميم: ﴿أجرًا﴾ حتى تتهموني بطلب النفع الشخصي: ﴿إن أجري﴾ الذي أرجوه على تبليغكم إياه من الدعوة: ﴿إلا على الذي فطرني﴾ أي الذي خلقني على الفطرة السليمة من البدع الوثنية: ﴿أفلا تعقلون﴾ أي أفلا تحكمون عقولكم وتقولون أي مصلحة لهذا الرجل في أن يجد ويجتهد ويتعب نفسه ويتحمل من الأذى ما تحمل في سبيل إقناعنا بأمور لا مصلحة له من ورائها لو لم يكن محقًّا في رسالته ومخلصًا لربه: ﴿ويا قوم استغفروا ربكم﴾ أي اطلبوا من ربكم الغفران بألسنتكم ومن
جديد وهذا كما قال تعالى: ﴿أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد﴾ ولقد أنبهم الله على ضلالهم بقوله: ﴿أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير﴾: ﴿أولئك﴾ أي الذين آمنوا بوجود الله ولكنهم أنكروا أمر البعث هم: ﴿الذين كفروا بربهم﴾ لأنهم لم يؤمنوا بألوهيته وكامل قدرته وصحة وعده فدل هذا على أن الإيمان بوجود الله لا يكفي إذا لم يقترن ذلك بالإيمان بألوهيته وعظيم قدرته وما جاء في كتبه وعلى لسان رسله الأمر الذي من شأنه أن يحمل العباد على طاعته والخوف من عذابه: ﴿وأولئك الأغلال في أعناقهم﴾ أي يبعثون يوم القيامة مصفدين بالأغلال كما صرح الله تعالى بهذا في آية أخرى بقوله: ﴿إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون﴾: ﴿وأولئك أصحاب النار﴾ التي خلقت من أجل تعذيبهم: ﴿هم فيها خالدون﴾ أي هم الذين سيخلدون فيها، فدل هذا على أن غيرهم من مرتكبي الكبائر سوف لا يخلدون في النار: ﴿ويستعجلونك بالسيئة﴾ أي ومن علائم منكري البعث أنهم يظهرون لك عدم المبالاة بما تتوعدهم به من العقاب إذا هم أصروا على الكفر كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: ﴿وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾: ﴿قبل الحسنة﴾ وكان عليهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاشرح صدورنا له ووفقنا للإيمان به وأثبنا عليه: ﴿وقد خلت من قبلهم المثلات﴾ أي والحال أن ما يستعجلونك به من العقوبات قد سبق وحل بأمثالهم من المكذبين من قبل فمنهم من أخذته الرجفة ومنهم من أهلك بالخسف إلى غير ذلك فليس هناك ما يحملهم على الشك فيه والرغبة من التأكد منه: ﴿وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم﴾ أي ولو أنهم استعجلوا الحسنة قبل السيئة والهدى بدل العذاب لكان خيرًا لهم وبرغم هذا فإنه تعالى هو صاحب المغفرة التي لا تتحقق ولا تكون إلا على ما يصدر من الناس من ظلم تطغى عليه رحمة الله إذ يقول تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾: ﴿وإن ربك لشديد العقاب﴾ لمن كفر به وكذب رسله، ويتجاوز سبحانه عما دون ذلك كما قال تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ روى ابن هاشم عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية قال ﷺ «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد بالعيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد» ولذا قرن الله المغفرة
بالحرارة والرطوبة: ﴿والنجوم مسخرات﴾ تجري في أفلاكها: ﴿بأمره﴾ أي بحركة مقدرة لها لا تزيد ولا تنقص ولتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر: ﴿إن في ذلك﴾ التسخير وفق المواعيد المقررة: ﴿لآيات لقوم يعقلون﴾ أي أن كل من كان لديه ذرة من عقل لا بد أن يسلم بالبديهة أن هذا النظام العجيب لا بد أن يكون من عمل خالق حكيم: ﴿وما ذرأ﴾ أي أوجد: ﴿لكم في الأرض﴾ من عجائب المخلوقات وأنواع المعادن: ﴿مختلفًا ألوانه﴾ ومميزاته فالذهب أصفر اللون والفضة بيضاء وجماعة من البشر بيض وآخرون سمر وسود: ﴿إن في ذلك﴾ أي في اختلاف الألوان: ﴿لآية﴾ أي برهانًا ودليلًا على وجود الله ووحدانيته: ﴿لقوم يذكرون﴾ أي لأصحاب الذاكرة التي تتدبر الأمور وتجزم بأن الاختلاف في الطبائع والهيئات والمناظر لا يمكن أن يحصل عفوًا بل لا بد أن يكون لحكمه وأسباب يعلمها خالقها وموجدها، أما غير هؤلاء فإن ما هم عليه من غفلة لا تجعلهم يفكرون في مثل هذا الأمر ولا يعتبرونه آية من الآيات الدالة على وجود الله: ﴿وهو الذي سخر البحر﴾ حلوه ومالحة: ﴿لتأكلوا منه لحمًا طريًا﴾ هو السمك بأنواعه وإنما عبر عنه باللحم مع كونه حيوانًا إشارة إلى انحصار الانتفاع به في الأكل في حال طراوته دون حاجه إلى تذكية مع وجوب المسارعة إلى أكله قبل أن يتسرب إليه الفساد: ﴿وتستخرجوا منه حلية﴾ كاللؤلؤ الذي يخلق في الصدف والمرجان الذي ينبت في قاعه: ﴿تلبسونها﴾ رجالًا ونساء كلًا بحسب ما يليق به وكما يحب: ﴿وترى الفلك مواخر فيه﴾ أي وترى السفن جواري فيه تشقه ذهابًا وإيابًا إلى مختلف الجهات: ﴿ولتبتغوا من فضله﴾ أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بركوبكم عليها من أجل تبادل المصالح التجارية: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ الله بما أنعم به عليكم بنعمة البحر الذي حصلتم منه على كل هذه الفوائد: ﴿وألقى﴾ أي جعل: ﴿في الأرض رواسي﴾ أي جبالًا ثوابت لحفظ توازن الأرض خشية: ﴿أن تميد بكم﴾ أي تتحرك الأرض وتضرب فتنهال عليكم. وقد نشرت جريدة الأخبار المصرية في عددها ٢٣٣٤الصادر في ٣١ ١٢٥٩ برقية لوكالة ا. ب تقول «أصبح ٤٠ منزلًا في قرية بالانيا في بريطانيا مهددة بالدمار بسبب جبل متحرك مجاور للقرية على وشك الانهيار وسحق ما يوجد بالقرب من قاعدته.
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يَا
واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى وأردن أن: ﴿يُبَايِعْنَكَ﴾ بقبولهن الإسلام دينًا فبايعهن واشترط عليهن شروطًا خاصة لم تشترطها على الرجال إذ قبلوها وعاهدوك عليها كن مؤمنات حقًّا وإلا فلا ثقة بإيمانهن ولذلك عندما فرغ رسول الله من بيعة الرجال يوم فتح مكة أخذ في بيعة النساء وفق أمر الله وتلا عليهن قوله تعالى: ﴿عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا﴾ أي لا يعتقدن في قلوبهن أي لأحد مع الله أي سلطان أو قدرة على النفع والضر وقضاء الحوائج وهنا تصدت له هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وهي مقنعة متنكرة خوفًا من رسول الله ﷺ لأنه أهدر دمها من قبل لما صدر منها من التمثيل بالمسلمين في يوم أُحد وأكلها كبد عمه حمزة وقالت له والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والسمع والطاعة فقط وتشترك علينا أكثر فلم يرد عليها باعتبار أن ذلك أمر الله وربما خصهن سبحانه وتعالى بهذه الشروط باعتبارهن المدرسة الأولى للطفل التي تغرس في نفسه العقيدة الصحيحة وتربية على الفضيلة ومكارم الأخلاق وتحول دونه ودون الضلال والخرافات ثم قال: ﴿وَلا يَسْرِقْنَ﴾ أي يأخذن مال الغير بدون إذنهم فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا فقال أبو سفيان وكان جالسًا ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال فضحك رسول الله ﷺ وعرفها فقال لها «وإنك لهند بنت عتبة» فقالت نعم فأعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، ولعل في اشتراط هذا الشرط على النساء بصورة خاصة مع أن السرقة محرمة على الرجال والنساء ما يشر بأنه لا يحل للمرأة أن تأخذ من مال زوجها شيئًا بدون إذنه وإلا اعتبرت سارقة اللهم إلا بقدر الحاجة لما ورد في الصحيحين من أن هندًا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك» ثم قال تعالى: ﴿وَلا يَزْنِينَ﴾ فقالت هند: أو تزني الحرة، ثم قال: ﴿وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ قالت هند ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا فأنت وهم أبصر حيث كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، وقالت امرأة تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم وكن يعلمن أن المراد من ذلك هو قتل الأجنة في بطونهن ولكن يتجاهلن هذا لغاية في نفوسهن فتبسم رسول الله ﷺ وضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى ثم قال:
استثنى الله من بني الإنسان، من اتصف بخلال ثمانية، أولها قوله: ﴿إلا المصلين﴾ أي الذين فرضت عليهم الصلاة فلم يكتفوا فيها بمجرد الأداء، بل أقبلوا عليها بشغف وحب زائد باعتبارها هي سبيل الاتصال بمالك الأرض والسموات، يقف فيها العبد بين يدي مولاه كل يوم خمس مرات يتجه إليه بقلبه، ويخضع ويذل بجوارحه، ويسأله ما هو في حاجة إليه وهو واثق بنيل ذلك منه. وبهذا تكمل المعرفة ويتم اليقين ويجتمع له صلاح الدنيا والدين ويصدق عليه أنه من المصلين: ﴿الذين هم على صلاتهم دائمون﴾ ومن كان هذا شأنه يستوي في نظره الشر والخير على حد قول من قال:
@إذا ما رأيت الله لكل صانعًا
#رأيت جميع العالمين ملاحا
فإذا أصيب بكارثة أو حلت به مصيبة لم يجزع لأنه يعلم أن الجزع لا يجديه شيئًا بل عليه أن يعمل للتخلص منها باتخاذ الأسباب مستعينًا بالله لإدراك الغايات. وإذا أنعم الله عليه بنعمة، أدرك أنها من فضل الله فبادر إلى شكرها باستعمالها فيما خلقت له: الصفة الثانية قوله: ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ أي الذين يؤمنون بأن الرزق أساسه من عند الله ولم يكن لهم فيه من فضل إلا مجرد العمل لاكتشاف مواضعه ولذلك فإنهم يعتقدون أن لله حقًّا صريحًا معلومًا في أموالهم وهو الزكاة لا بد من أدائه لمستحقيه من سائل يستجدي الناس أو محروم عاطل عن العمل ليس لديه ما يكفيه ويخجل من أن يبدي حاجته إلى من ربما لا يعطيه فالناس كما قال الشاعر:
@ولو سئل الناس التراب لأوشكوا
#إذا قيل هانوا أن يملوا ويمنعوا
وإن من يعترف بحق الله في أمواله فيخرجه عن طيب نفس لا شك أنه لا يحزن على ما نقص من مال أنعم الله به عليه ولا يضن به في سبيل مرضاته لثقته بوفاء الله بوعده له بالمضاعفة لما كان خالصًا لوجهه.
الصفة الثالثة قوله: ﴿والذين يصدقون بيوم الدين﴾ أي الذين يثقون بصحة البعث والنشور في يوم القيامة الموعود فهؤلاء لا يجزعون من الموت الذي هو أكبر المصائب ويسترخصون أرواحهم في ميادين الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
العصور وما فعل بالجناة وما أعد لهم من عذاب، وأقسم سبحانه على ذلك بجميع العوالم فبدأ أولًا بما هو ظاهر وخفي من السماء التي تعلونا وكواكبها المشهودة وما أودعها الله من عوالم وقوى لا نراها ولا ندرك حقائقها ثم ثنى بالقسم بما هو خفي وغيب محض وهو يوم القيامة وما يكون فيه من حساب وعقاب وجنة ونار وختم ذلك بالقسم بكامل ما يقع عليه الحس من شاهد ومشهود فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ الاثني عشر وهي منازل الكواكب والشمس والقمر التي يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يومًا ثم يستقر ليلتين، وتسير الشمس في كل برج منها شهرًا ستة منها شمال خط الاستواء وستة في جنوبه فالتي في شماله هي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة، والتي في جنوبه هي الميزان والعقرب والقوس والجدي الدلو والحوت وتقطع الثلاثة الأولى في ثلاثة أشهر أولها اليوم العشرون من شهر مارس وهذه المدة في فصل الربيع وتقطع الثلاثة الثانية في ثلاثة أشهر أيضًا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه وهذه المدة هي فصل الصيف وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضًا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر وهذه المدة هي فصل الخريف وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضًا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر وهذه المدة هي فصل الشتاء.
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ هو يوم القيامة الذي هو بداءة الحياة الأخرى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ أي كل ناظر ومنظور من جميع مخلوقات الله: ﴿قُتِلَ﴾ أي لعن وحكم عليهم بالقتل والتعذيب وقرئ: ﴿قتّل﴾ بتشديد التاء: ﴿أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ الذين حفروه وهم أناس من بني إسرائيل خددوا أخدودًا في الأرض ثم أوقدوا فيه نارًا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالًا ونساء من المؤمنين بالله عز وجل وأرادوا أن يرجعوهم عن دينهم فأبوا فقذفوهم في: ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ بفتح الواو وقرئ: ﴿الوقود﴾ بضم الواو أي الذين أوقدوا النار: ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ أي ساعة إيقادها: ﴿وَهُمْ﴾ أولئك الذين بلغ من قسوتهم وإمعانهم في الكفر أنهم كانوا: ﴿عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ أي أنهم كانوا يشرفون على تعذيبهم وإحراقهم: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي ليس من سبب لهذا الإحراق وهذا التشفي والنقمة: ﴿إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ أي إلا لأنهم ثبتوا على إيمانهم ولم يخافوا بأسهم ويغيروا دينهم طمعًا في رضاء الله: ﴿الْعَزِيزِ﴾ أي المنيع الذي ينال ولا يُغلَب: ﴿الْحَمِيدِ﴾ الذي