يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (٢٦٩) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (٢٧٠) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُواْ
في وعده هذا بل كان – تعالى الله عن ذلك – هازلًا أو مجاملًا أو مخادعًا أو كان يحسب أن الأمر الذي يطلبه مما يصعب على الله تحقيقه أو يقصر عنه إحسانه جل وعلا. ولا جرم أن المؤمن إذا تطرق إلى ذهنه أحد تلك الاحتمالات فقد إيمانه والعياذ بالله، وهو بهذا سد على نفسه الطريق وصرعه الشك في استجابة الله للدعاء.
ولكي يمحق الله الشك في قلوب أمثال هؤلاء الذين تعوزهم الثقة بالله والقدرة على تحقيق وعده والاستجابة لمن يدعوه أكد هذا الوعد الحق الكريم وحض ورغب في الدعاء باعتباره عبادة لا يحجم عنها إلا المستكبرون حيث يقول جل شأنه ﴿وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾.
أليس من العار أن يخلف عظيم وعدًا قطعه على نفسه أمام الناس والجماهير. فكيف يجوز في الأذهان أن الله يخلف وعده، وكيف لا يقدر علماؤنا قيمة وعد الله بإجابة الدعاء. وأن يقيدوه بقيود. ويعلقوا إجابته على شروط تقلل من أهميته وتضعف من أثره. بل إن بعض الناس قد تمادوا فأساؤوا استعماله وأفقدوه كثيرًا من مزاياه كسلاح بتار في يد المؤمن الصحيح. إذ يقولون إنه لا بد لاستجابة الدعاء من أن يكون صادرًا من إنسان خال من الذنوب والآثام ولو تعمقوا قليلًا لوجدوا أن المثقل بالذنوب والأوزار هو أحوج الناس إلى اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى الذي جعل استجابة الدعاء وتحقيقه من دلائل وحدانيته وسنة من سننه التي لا تتبدل. ولقد قضى في دستوره الأزلي أن يكون الدعاء سبيلًا إلى تحقيق مطالب كل محتاج سواء أكان صالحًا أم فاسقًا. مؤمنًا كان أم كافرًا. كما أن سقي الأرض بالماء سبيل إلى إنبات العشب والأشجار سواء بسواء حيث يقول جل شأنه ﴿أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلًا ما تذكرون﴾.
ولا خارجة عنه ولا مجانبة ولا مباينة، وتعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاورة ولا بالمساكنة ولا بالالتصاق ولا بالمقابلة وإنما هو بالتدبير له فقط، وما الحياة إلا المظهر الخارجي للدلالة على وجود الروح.
ثم إن الثابت في القرءان والسنة أن النفس ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بذلك فقال «ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم» وقال «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي».
وتطلق أيضًا على الذات بجملتها كما في قوله تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم» وقوله «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها» و «كل نفس بما كسبت رهينة» ولم تطلق الروح في القرآن على البدن ولا على النفس ولا عليهما معًا ولذا أمسك البعض عن تعريفها وقالوا إنها من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها عن الخلق؛ مستدلين على هذا بقوله تعالى «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».
على أن الباحث في حقائق الأمور لا يجد في كل ما ذكر عن الروح ما يصورها لنا تصويرًا حقيقيًا يقربها إلى أذهاننا بما يقنع الضمير فليس هناك ما يثبت لنا أنها جوهر أو عرض ولا أنها جسم نوراني أو غير نوراني ومن أين لنا أنه تعالى أخفى أمرها عن الخلق فلا مطمع في معرفتها والآية الكريمة إنما تقول إنها من أمر ربي وأن السائلين عنها في ذلك الوقت لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا. فدل هذا على أنه متى أوتي الناس من العلم أكثر مما أوتي من قبلهم جاز أن يعرفوها.
وقد توصل العلم في العصر الأخير إلى اكتشاف القوى الكهربائية وطرق توليدها واستدلوا على وجودها بأثرها الخارجي الذي استخدموه في مصالحهم الحيوية دون أن يتمكنوا من العثور على كيان خاص لها يمكن لهم وصفه أو تعريفه بأكثر من أنها قوة من قوى الله الخفية، وعلى ضوء هذه المعلومات استطعت أن أتبين حقيقة الروح بأنها ليست من صفات الجسد؛ ولا من أجزاء ماهيته، بل إنها قوة من قوى الله الخفية، أشبه بقوة الكهرباء وسائل توليدها معلومة وأثرها في الخارج ظاهر، وهو الحياة التي توجد الحركة والنمو في جسم الحيوان والنبات على حد سواء، وحقيقتها
الله به العاصين في الحياة الأخرى ﴿والله﴾ من بعد ذلك ﴿غفور رحيم﴾ من شأنه التجاوز عن سيئات المسيئين ورحمة من يستحق الرحمة منهم بمحض كرمه ولكنه أجل من أن يعذب الطائعين بمحض الرغبة أو لدعاء أحد عليه حتى ولو كان نبيًا لأن هذا يتنافى مع عدله ولم يكن داخلاً ضمن مشيئته، وقد حصل وتاب الله على من لعنهم رسول الله ﷺ وحسن إسلامهم، وكان أبو سفيان سببًا في فتح مكة من دون إراقة دماء. وقد بسطنا الكلام على هذا في كتبنا «مستقبلك في يدك» وعند تفسيرنا للآية ٢٨٤ في الجزء الثالث. وإنه ليسوؤني أن أجد بعض قرائي لا يزال متأثرًا ببعض العقائد الفاسدة عن الله جل وعلا وقد جمدت أفكارهم عند الحد الذي قرره لهم مشايخهم من أن كل شيء في الحياة قسمة ونصيب وأمر مقدر في الأزل لا يمكن للإنسان أن يجد عنه محيصًا فضلاً عن أن يقرر بنفسه مصيره. حتى أن بعض العلماء في دمشق قد أعجب بما جنحت إليه من تفسير قول الله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ وإعادة الضمير فيهما إلى من يعني العبد وقال إنه حقًا كلام جميل ومنطق معقول إلا أنه عندما سألني عمن قال به من المفسرين وأجبته بأنه لا أحد إلا أن هذا مما فتح الله به عليّ من ظاهر الآية وما يوافق مقتضى العدل الإلهي فقال إذن المسألة فيها نظر؟ كما قال لي آخر من كبار علماء السلف في هذه البلاد: إنه اطلع على جميع كتب المفسرين فلم ير أحدًا منهم قال بهذا ولو كان ما جنحت إليه حقًا لما خفي على فطاحلهم أمثال الألوسي والرازي والزمخشري وغيرهم من عهد السلف الصالح حتى الآن فأجبته أن فضل الله لا يحد وهو سبحانه يؤتي الحكمة من يشاء وإنني إذ أتجه هذا الاتجاه لا أجد في هذا خروجًا عن طريقة السلف الصالح ولم أجنح إلى التأويل في الآية ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ بل إني طبقت أبسط قاعدة من قواعد اللغة العربية وهي إعادة الضمير إلى أقرب مذكور وهو في الآية اسم الموصول الذي يشير إلى العبد لا إلى الله وتؤيدني في هذا الإتجاه آيات الله التي تنص صراحة على أنه تعالى قد سن طريق الخير وطريق الشر وترك الناس أحرارًا في اختيار ما يشاءون كما قضت رحمته أن يجعل دخول الجنة والنار معلقًا بمشيئة الإنسان وسبيل الأولى الإيمان والعمل الصالح وسبيل الثانية الكفر وسيء العمل حيث قال: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا
﴿وندخلهم ظلًّا ظليلًا﴾ الظل من الليل جنحه ومن القيظ شدته وهو عبارة عن الرفاهية ونضارة العيش والظليل دائم الظل أي نعيمها دائم الظل.
لقد ضمن الله لعباده المؤمنين دخول الجنة على أن يقيموا الدليل على صحة إيمانهم بما يقدمونه من أعمال صالحات فأصبح من حق كل أحد أن يتساءل عن المراد بتلك الأعمال الصالحة ولذا أخذ سبحانه وتعالى يملي على الناس ما يرضيه منهم ومن أعمالهم التي من شأنها أن تصلح أحوال المجتمع وتوفر الثقة بين أفراده وتقضي على أساس الخلاف والعدوان وهو يتلخص في مادتين أساسيتين هما: إعطاء كل فرد الحق من نفسه وتكليف الغير ذلك بمثل وبعبارة أخرى عدم الظلم والضرب على يد الظالم وقد عبر عن ذلك بقوله: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ والأمانة: من الأمن وهو: طمأنينة النفس وزوال الخوف ويراد بها أداء ما وجب لغيرك عليك من حق أو ما أؤتمنت عليه من جميع الأمور حسية كانت أو معنوية وسواء كانت من باب المعلومات والديانات أو من باب الأعمال والمعاملات وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
١ ـ رعاية الأمانة مع الرب فيما أودعه لدى الإنسان من أعضاء وحواس ينبغي أن يحفظها الإنسان سليمة من كل دنس وأن لا يستعملها إلا فيما يرضي خالقها وبارئها قال ابن عمر رضي الله عنه: خلق الله فرج الإنسان وقال: هذا أمانة خبئتها عندك فاحفظها إلا بحقها.
٢ ـ رعاية أمانة الإنسان مع نفسه بأن يختار لها ما ينفعها ويصلح أمرها ويجنبها كل ما يضرها في دنياها وآخرها ومن ذلك أن لا يغشها أو يخدعها بل يصارحها بحقائق الأمور ويهديها سواء السبيل قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
(وَ) الثامنة (النَّطِيحَةُ) هي التي نطحتها أخرى فماتت
(وَ) التاسعة (مَا أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما افترسه أكلة اللحوم من الوحوش كالأسد والذئب فالمقتولة بإحدى هذه الحالات الخمسة حكمها كحكم الميتة التي حرمت (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) منها قبل موتها فيحل ويكفي في صحة إدارك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة كحركة العين أو الذنب ومعنى التذكية في اللغة إتمام فعل خاص يقال ذكى فلان البهيمة إذا أزهق روحها وإن بدأ بذلك غيره وليست التذكية مخصوصة بالذبح بل يراد بها أن تكون بفعل الإنسان وهي في كل شيء بحسبه بدليل قول الرسول ﷺ (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم وأصحاب السنن ومثل الذبح في التذكية ما تتم به الإماتة كنحر البعير وطعن المتردية في البئر وخنق الجارح الصيد ففي حديث عدي بن حاتم في الصحيحين (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) وفي رواية (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة)
(وَ) العاشرة من محرمات الطعام (مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) والنصب حجارة حول الكعبة كان العرب في الجاهلية يتعبدون بالذبح عليها ولذا حرم تقليدهم في الذبح عليها ولو لم يذكر اسم غير الله عليها وبهذا تكون محرمات الطعام أربعة بالأجمال وعشرة بالتفصيل.
وبعد أن فصل الله المحرمات من المطعومات شرع في ذكر ما يحرم من الأعمال التي تتنافى مع الإيمان بالله وإفراده سبحانه بالأمر والنهي فقال (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) والمراد بالاستقسام طلب الإنسان معرفة ما يقسم له عن طريق الأزلام وهي ثلاثة قطع من الخشب على هيئة السهم كان العرب في الجاهلية يكتبون على أحدها «أمرني ربي» وعلى الثانية «نهاني ربي» ولا يكتبون على الثالثة شيئاً فإذا أراد
<٢٦>
أحدهم سفراً أو غزواً أو زواجاً أو بيعاً أو نحو ذلك حرك هذه الأزلام وأخرج واحداً منها فإذا خرج ما كتب عليه «أمرني ربي» اعتبر ذلك أمراً من الله ومضى في تنفيذه وإذا خرج «نهاني ربي» اعتبر هذا نهياً
(٩٠) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ
للبشر الذين يتبعون تعاليمه حتى ولو كانوا من غير المسلمين إذ هي كفيلة بتأمين الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم وعن طريقها يمكن إيجاد وسط خال من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض ﴿فمن أظلم ممن كذب بآيات الله﴾ ولم يؤمن بها ﴿وصدف عنها﴾ أي أعرض عنها إعراضًا شديدًا يؤدي إلى تنفير الناس منها ﴿سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا﴾ أي يستمرون على الإعراض والصد عنها ﴿سوء العذاب بما كانوا يصدفون﴾ يمعنون في تنفير الناس من الأخذ بها.
بعد أن أخبر الله رسوله عن الأسباب الداعية لما شرع للناس من شرائع وأمرهم باتباعها ولم يبق عذرًا لأحد في عدم الإيمان بالله وبما جاء من عنده وأنذر المكذبين المعرضين عن آياته بسوء العذاب في الآخرة أخذ يحدد لهم الوقت الذي يمكن أن يقبل الله منهم الإيمان فيه فقال ﴿هل ينظرون﴾ أي ينتظرون بمعنى ليس أمامهم من غاية تنتهي إليها فرصة الإيمان بالله ﴿إلا﴾ أحد ثلاث غايات لا بد من الوصول إلى واحد منها الأولى ﴿أن تأتيهم﴾ وقرئ «يأتيهم» ﴿الملائكة﴾ لقبض أرواحهم فلا يقبل منهم الإيمان كما قال تعالى في سورة النساء ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا﴾ الغاية الثانية ﴿أو يأتي ربك﴾ عليهم بآفة سماوية مفاجئة لم تكن في الحسبان بأمر منه كما قال تعالى في سورة الحشر ﴿فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا﴾ وفي سورة النمل ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك﴾ فلا يقبل منهم الإيمان كما قال تعالى لفرعون ﴿آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾ الغاية الثالثة ﴿أو يأتي بعض آيات ربك﴾ الموجبة للإيمان الاضطراري والتي لا يقبل معها الإيمان وقد أشار إليها تعالى بقوله: ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا﴾ ويراد بها آخر أشراط الساعة رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا» وأخرج البخاري في تاريخه أنه «إذا أراد الله أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب -أي المحور- فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها» وقد كان الناس يستبعدون ولا يصدقون بإمكان هذا حتى قال بعض علماء الفلك اليوم في أوربا أنه بدأ تطور في حركة الشمس وأنه إذا دام الحال على هذا فإنه سيأتي يوم تطلع فيه الشمس من مغربها ﴿قل انتظروا﴾ أي توقعوا ما ليس
أنفسهم ﴿ورأوا أنهم قد ضلوا﴾ أي أيقنوا بأنهم كانوا على ضلال فيما فعلوا ولم يتوبوا ولم يطلبوا الغفران بما سنه تعالى من الأعمال بل ﴿قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين﴾ أي أقسموا أنه لا يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله فهي التي تحول دونهم ودون الخسران المبين في الدنيا والآخرة واكتفوا بهذا القدر فلم يفلحوا إذ العلم بالضلال والندم على الذنب والأمل في الرحمة كل هذا لا يقتضي عفو الله وغفرانه ما لم يصحب ذلك بسلوك السبيل الذي سنه الله لنيل الغفران من الإيمان والعمل الصالح.
ولما كان الله جلا جلاله يعلم ما كان من بني إسرائيل من عبادتهم للعجل أثناء مناجاته تعالى لموسى وإعطائه الألواح لم يرد أن يخفي ذلك عنه بل إنه أشعره بذلك في نهاية المناجاة إذ قال: ﴿فإنا قد فتنا قومك﴾ أي اختبرنا مبلغ إيمانهم ﴿وأضلهم السامري﴾ إذ زين لهم الشرك دون الإيمان فما أن علم موسى بهذا حتى استشاط غضبًا وعاد من فوره إلى قومه ليتبين تفاصيل ما حصل وأخبرنا الله بما كان منه بعد ذلك حيث قال ﴿ولما رجع موسى إلى قومه غضبان﴾ أي وهو ممتلئ بغضًا من قومه وراغب في الانتقام منهم على ما فعلوا من الضلال ﴿أسفًا﴾ أي حزينًا في نفسه على ما بذله من جهود من أجل إسعادهم وهدايتهم لم يقدروها قدرها ولم تصل بها إلى الغاية التي كان يرجوها لهم من الإيمان الكامل وبادر بخطابهم موبخًا ومؤنبًا ﴿قال بئسما خلفتموني من بعدي﴾ فقد لقنتكم التوحيد ونهيتكم عن الشرك وبينت لكم مفاسده وسوء عواقبه حين رأيتم القوم الذين يعكفون على أصنام لهم فكان الواجب عليكم أن تخلفوني باقتفاء سيرتي ولكنكم عملتم ضد ذلك إذ صنعتم صنمًا وزعمتم أنه هو إلهكم وإلهي ولست أدري ما الذي حملكم على هذا ﴿أعجلتم أمر ربكم﴾ العجلة طلب تقدم الشيء قبل وقته بمعنى كأنكم تستعجلون سخط الله عليكم بإصراركم على ما نهيتكم عنه ﴿وألقى الألواح﴾ من يده إشعارًا لهم بشدة غضبه ويأسًا من هدايتهم وإنذارًا لهم بما سينالهم من جراء عملهم، وصب جسام غضبه في خليفته هارون ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ أي بشعر رأسه وبلحيته ﴿يجره إليه﴾ من شدة غضبه عليه وهو يقول: ﴿يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري﴾ فأخذ هارون يهدئ من روعه ويناشده الإخوة أن لا يتعجل في الحكم عليه بالخطأ قبل أن يسمع دفاعه عن نفسه لئلا يشمت به أعداؤه ﴿قال ابن أم﴾ بفتح الميم مشددة وقرئ بكسرها على تقدير أمي وحذف ياء الإضافة ومعناه يا من خرجنا من بطن واحد لأن هذا
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (٥٣) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (٦٥) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)}
لقد اشتملت سورة براءة على الكلام عن المشركين وأهل الكتاب والمعاهدات ونبذها والمنافقين وهم من يسمون في عصرنا الحاضر «الطابور الخامس» وفضح أسرارهم ووصفهم وصفًا كاملًا يعرف المؤمنين بهم في جميع الأوقات وأمر بنبذهم وأخذ الحيطة منهم وهددهم وتوعدهم بأنواع العذاب وختم السورة بأنهم يتضايقون من سماع آيات الله ثم أخذ في هذه السورة يبث الإيمان في قلوب عباده ويفند ما قد يعرض على قلوبهم من شبهات تزلزل إيمانهم أولها إنكار الوحي مما يؤدي إلى التشكك في آيات القرآن فأقسم جل جلاله بالسر الذي أودعه أو الذي يعنيه بقوله: ﴿الر﴾ وتقرأ هذه الحروف بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا. ألف. لام. راء. بفتح الراء غير مهموز وقرئ بكسر الراء على الإمالة على أن: ﴿تلك﴾ لعل المراد منها ما أشير إليها في نهاية سورة التوبة بقوله: ﴿وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون﴾.: ﴿آيات الكتاب الحكيم﴾ التي أوحى الله بها إلى عبده وما يكون لأحد أن يتشكك في ذلك فهو معجزة الله الخالدة لا من حيث روعة بيانه التي تحدى بها فصحاء قومه فحسب كما جرى عليه المفسرون بل من حيث أسلوبه في الجزم بكل ما يتحدث به عما كان من قصص الأولين وما يكون من الحوادث على مر السنين الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أنه من رب العالمين العليم بحقيقة كل شيء ولولا ذلك لاحتاط في الأمر حتى لا يكذبه التاريخ ولا تصدقه الأيام فلا يعتمد عليه. وفوق هذا فإنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة من سنن الكائنات إلا أشار إليها ودعا الناس إلى تدبر الآيات والتفكر في خلق الأرض والسموات وما فيها من عجائب ومعجزات توصل الإنسان
قلوبكم: ﴿ثم توبوا إليه﴾ بعدم إقدامكم على ما يغضبه بعد ذلك: ﴿يرسل السماء عليكم مدرارًا﴾ أي ينزل عليكم من السماء مطرًا بقدر ما أنتم في حاجة إليه كما يدر اللبن من ثدي الأم بقدر حاجة أولادها: ﴿ويزدكم قوة إلى قوتكم﴾ التي تعتدون بها والتي كانت هي سبب طغيانكم، وقد أشار إلى ذلك الله تعالى بقوله: ﴿فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون﴾.
﴿ولا تتولوا مجرمين﴾ أي لا تنصرفوا معرضين عما أدعوكم إليه مما جعله الله وسيلة فعالة لسعة الرزق واكتساب القوة التي لا تستمد إلا منه، فالإنسان ضعيف بشخصه يتأثر من الشوكة تصيبه والألم يقعده عن العمل، ولكنه قوي بالله الذي وهبه الحياة وهو الذي يحفظه من الأمراض ويعينه على تحمل الآلام: ﴿قالوا﴾ جوابًا على هذه الدعوة الصادقة والأدلة المقنعة: ﴿يا هود ما جئتنا ببينة﴾ أي إن كل ما ذكرته لا يعد كافيًا لإثبات رسالتك عن الإله الذي تزعمه: ﴿وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك﴾ أي وما نحن بالذين نترك عبادة ما وجدنا عليه آباءنا لمجرد أن تقول لنا قولًا فنصدقه وأنت بشر مثلنا: ﴿وما نحن لك بمؤمنين﴾ أي إنا لا نؤمن بما تقول أبدًا: ﴿إن نقول﴾ أي ما جوابًا على دعواك وحججك هذه: ﴿إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾ أي إن ما تعانيه من متاعب في سبيل دعوتنا وإن لم يكن في مقابل طمع في أموالنا كما تقول فليس هو عن إخلاص لله بل لا بد أن يكون بعض آلهتنا قد ألحق بك شيئًا من الأذى والسوء فحملك هذا على مناصبتهم العداء انتقامًا لشخصك منهم: ﴿قال﴾ هود: ﴿إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه﴾ أي إني أبرأ وأنفي ما تثبتونه لبعض آلهتكم من أذى لحقني أو يلحق أحدًا من الناس فلا يملك النفع والضر أحد سوى الله وإذا لم تؤمنوا بذلك: ﴿فكيدوني جميعًا﴾ أي اجتمعوا أنتم وجميع آلهتكم ودبروا ما استطعتم من كيد للإيقاع بي: ﴿ثم لا تنظرون﴾ أي ونفذوا ما دبرتم لهلاكي ولا تشعروني به ولا تدعوا لي فرصة كافية لتوقي أذاكم فإني غير خائف ولا وجل منكم وواثق من أن الله سيبطل كيدكم: ﴿إني توكلت على الله ربي وربكم﴾ أي إني وكلت أمر حفظي وخذلانكم إلى من هو أقوى منكم جميعًا ومن بيده مقاليد أمركم وفي قبضته حياتكم
بالعقاب في مواضع كثيرة من القرآن ليجمع الإنسان بين الرجاء والخوف: ﴿ويقول الذين كفروا﴾ بالله ولم يؤمنوا برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ أي هلا أجرى الله على يده معجزة شخصية خارقة للعادة كعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى حتى يعرف أنه حقًّا رسول الله، فلا تكترث بقولهم هذا وأعلم أن طريقتك في الرسالة تختلف عن طريقة من سبقك من الرسل الذين أرسلهم الله إلى أقوامهم وأجرى على بدهم من خوارق العادات ما يدل على صلتهم بالله ليثبت رسالتهم الأمر الذي حمل أتباعهم على التعلق بأشخاصهم وتقديسهم واتخاذهم مع الله شركاء، ومن أجل هذا لم يجعل الله لشخصك دخلًا في إثبات رسالتك بل أنزل عليك الوحي بالقرآن من قبل أن تؤمر بتبليغه ثم أمرت بتلاوته ودعوة الناس إلى الإيمان بأنه كلام الله والعمل بمقتضاه وتحديهم بالإتيان بسورة من مثله: ﴿إنما أنت منذر﴾ أي إن مهمتك والحالة هذه محصورة في إعلام الناس به وتحذيرهم من عواقب مخالفته: ﴿ولكل قوم هاد﴾ بالتنوين وحذف الياء وقرئ بالوقف على الياء أي ولكل قوم من آيات القرآن ما يهديهم إلى الإيمان بالله فمنهم من تؤثر فيه آيات الوعيد فيخاف الله ويؤمن به ومنهم من تجتذبه آيات الوعد إلى الرغبة في الإيمان ومنهم من يتعظ بما فيه من عبرة وما يحكيه من سنن لا يسعه معها إلا أن يؤمن بالله واضعها، فالقرآن في جملته وتفاصيله إنما أنزل ليكون هدى للعالمين وقد قال تعالى: ﴿ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورًا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب تفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا﴾ ومعنى هذا أن الكثير من الناس أنكروا أن يكون القرآن من جنس المعجزات وأبو إلا أن يكون للرسول معجزة خاصة به تحكموا في نوعها وطالبوه بها فلم يجارهم الرسول ﷺ على رأيهم ولم ينسب لنفسه شيئًا من ذلك وأمره الله في القرآن أن يقول: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ ولأجل إقناع العامة برسالة الرسول الأعظم ﷺ نسب إليه العلماء كثيرًا من المعجزات كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الكثير من الطعام القليل إلى غير ذلك من الأمور التي لا
﴿وأنهارًا﴾ تنحدر من الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخرها الله لرزق أهلها: ﴿وسبلًا﴾ أي طرقًا ممهدة للسير فيها: ﴿لعلكم تهتدون﴾ بواسطتها إلى إيجاد التعارف فيما بينكم: ﴿وعلامات﴾ أي معالم الطرق وهي الأشياء التي يهتدي بها لمعرفة سائر البلدان من جبال ورياح بل إن من الناس من يتعرف الطرق بواسطة شم ترابها: ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾ بالليل في البراري والبحار.
بعد أن أقام الله الأدلة والبراهين على وجوده بخلقه لجميع الكائنات وبيانه الغاية من خلقها، أخذ يوضح ما يترتب على ذلك الخلق من إبطال عبادة غيره تعالى ووجوب حبه والتعلق به دون سواه فقال: ﴿أفمن يخلق﴾ ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والأشجار والجبال: ﴿كمن لا يخلق﴾ أي لا يقدر على خلق شيء أصلًا لا يستويان مكانة وقدرًا بل لا بد أن يكون القادر على الخلق أفضل من العاجز عن ذلك: ﴿أفلا تذكرون﴾ أي أفلا تتذكرون هذه الحقيقة وهي عدم التساوي وهي من الوضوح بحيث لا تفتقر لأكثر من مجرد التذكر: ﴿وإن تعدوا نعمة الله﴾ عليكم بما وهبكم من نعمة السمع والبصر والذوق وكل صغيرة وكبيرة من أجزاء جسمكم وحمايتكم من سائر الأمراض وتسخيره لكم ما أنتم في حاجه إليه: ﴿لا تحصوها﴾ أي لا يمكن حصرها وضبط عددها فضلًا عن أداء واجب شكرها وإن من أجل نعمه تعالى عليكم ما سيشملكم به من الرحمة والغفران حيث قال: ﴿إن الله لغفور﴾ لما يكون منكم من تقصير في أداء واجب شكره: ﴿رحيم﴾ بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بل وأجل أمر عقابكم على ما يصدر منكم من الكفر والسيئات إلى يوم القيامة وترك لكم متسعًا من الوقت للعمل لنيل رضوانه: ﴿والله يعلم ما تسرون﴾ في قلوبكم من المقاصد والغايات وقرئ «يسرون» بالياء بدل التاء: ﴿وما تعلنون﴾ من الأقوال والأعمال لا يخفي عليه شيء من ذلك فيجزيكم على ما يصدر منكم من أعمال الجوارح المنبعثة عن سبق النية وقرئ «يعلنون» بالياء بدل التاء: ﴿والذين يدعون﴾ بالياء للفاعل وقرئ على صيغة المجهول أي والأصنام التي يوجه إليها الكفار دعائهم: ﴿من دون الله﴾ ويرجون منهم النفع وقضاء الحوائج: ﴿لا يخلقون شيئًا﴾ أي ليس لهم أي أثر في الخلق والتكوين: ﴿وهم يخلقون﴾ أي بل هم بذاتهم مخلوقون لله فلا يصح أن يكونوا آلهة تعبد كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون﴾ أي
أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)}
لقد اشتملت سورة براءة على الكلام عن المشركين وأهل الكتاب والمعاهدات ونبذها والمنافقين وهم من يسمون في عصرنا الحاضر «الطابور الخامس» وفضح أسرارهم ووصفهم وصفًا كاملًا يعرف المؤمنين بهم في جميع الأوقات وأمر بنبذهم وأخذ الحيطة منهم وهددهم وتوعدهم بأنواع العذاب وختم السورة بأنهم يتضايقون من سماع آيات الله ثم أخذ في هذه السورة يبث الإيمان في قلوب عباده ويفند ما قد يعرض على قلوبهم من شبهات تزلزل إيمانهم أولها إنكار الوحي مما يؤدي إلى التشكك في آيات القرآن فأقسم جل جلاله بالسر الذي أودعه أو الذي يعنيه بقوله: ﴿الر﴾ وتقرأ هذه الحروف بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا. ألف. لام. راء. بفتح الراء غير مهموز وقرئ بكسر الراء على الإمالة على أن: ﴿تلك﴾ لعل المراد منها ما أشير إليها في نهاية سورة التوبة بقوله: ﴿وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون﴾.: ﴿آيات الكتاب الحكيم﴾ التي أوحى الله بها إلى عبده وما يكون لأحد أن يتشكك في ذلك فهو معجزة الله الخالدة لا من حيث روعة بيانه التي تحدى بها فصحاء قومه فحسب كما جرى عليه المفسرون بل من حيث أسلوبه في الجزم بكل ما يتحدث به عما كان من قصص الأولين وما يكون من الحوادث على مر السنين الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أنه من رب العالمين العليم بحقيقة كل شيء ولولا ذلك لاحتاط في الأمر حتى لا يكذبه التاريخ ولا تصدقه الأيام فلا يعتمد عليه. وفوق هذا فإنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة من سنن الكائنات إلا أشار إليها ودعا الناس إلى تدبر الآيات والتفكر في خلق الأرض والسموات وما فيها من عجائب ومعجزات توصل الإنسان
﴿وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ قالت هند إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق قال ابن عباس: المراد أن لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، ذك لأن المرأة إذا التقطت ولدًا فإنما تلتقطه بيديها وتمشي إلى أخذه برجليها أي بمحض اختيارها فإذا أضافته إلى زوجها فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ويراد بهذا أن تلحق المرأة ابنها من الزنا بالفراش ويؤيد هذا المعنى قول رسول الله ﷺ عندما نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة وأيما رجل حجد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» ثم قال: ﴿وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ قالت هند ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف مما تأمرنا به تنهانا عنه قالت امرأة من المبايعات إنه كان فيما أخذ علينا رسول الله أن لا نخبش وجها ولا ننشر شعرا ولا نشق جيبًا ولا ندعو ويلًا ونهانا عن اتباع الجنائز وورد في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»: ﴿فَبَايِعْهُنَّ﴾ على ذلك أي متى قبلن منك هذه الشروط: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ﴾ عما صدر منهن في الماضي وهنا قال ﷺ «فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» وفي رواية: «فإن وفيتم فلكم الجنة».
﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي أن من شأنه تعالى التجاوز عن سيئات المسيئين ورحمة من يستحق الرحمة منهم ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بتأكيد ما جاء في أولها من عدم اتخاذ أعداء الله أولياء فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ فإن في توليهم إغضابًا لله جل وعلا ولق كان غضب الله عليهم ناشئًا من أنهم قوم: ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ﴾ بإنكارهم البعث وما يترتب عليه من عدم العمل للآخرة: ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ أي كيأس الكفار من عودة الحياة إلى الأموات مرة أخرى بمعنى أنهم يئسوا من الحياة الأخرى كيأسهم من عودة الحياة إليهم.
سورة الصف
مدنية وعدد آياتها أربع عشرة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الصفة الرابعة قوله: ﴿والذين هم من عذاب ربهم مشفقون﴾ أي الذين صدقوا بما أخبر به الرسل وجاء في الكتب عن أمر الحساب والعقاب والجنة والنار فعظمت في أعينهم سيئاتهم وخافوا الله في سرهم وهم واثقون: ﴿أن عذاب ربهم غير مأمون﴾ بمعنى أنه تغلب عندهم جانب الخوف على الرجاء فاستصغروا مصائب الدنيا في جانب عذاب الله في الآخرة وقابلوها بالصبر ابتغاء الأجر فكانوا من الفائزين الذين لا تؤثر فيهم الأحداث ولا يبتغون غير وجه الله.
الصفة الخامسة قوله: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ أي الذين أيقنوا بعلم الله بجميع حركاتهم وسكناتهم وتصوروه مطلعًا عليهم حتى في خلواتهم فحملهم ذلك على مراقبته ساعة انبعاث الشهوات فصانوا فروجهم من العبث وخجلوا أن يراهم سبحانه في أمر لا يرضيه: ﴿إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم﴾ أي إلا أن يكون ذلك وفق ما أحل الله من النكاح وملك اليمين: ﴿فإنهم﴾ والحالة هذه: ﴿غير ملومين﴾ أي لا يشعرون في أنفسهم بملامة ولا توبيخ ضمير لأنهم يؤمنون بأنهم إنما يستعملون فروجهم لما خلقت له: ﴿فمن ابتغى وراء ذلك﴾ أي غير ما أحل الله وحض عليه رسوله: ﴿فأولئك هم العادون﴾ أي المعتدون على حقوق الله والناس، الذين لا يهمهم مقاومة هوى النفس وخذلان الشيطان والعمل في سبيل رضاء الله.
والصفة السادسة قوله: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ المراد بالأمانة: الإيمان بوحدانية الله لقوله تعالى في سورة الأحزاب –: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا﴾ – والمراد بالعهد عهد الله الذي أخذه على عباده من إخلاص العبادة له وعدم الإشراك به والإيمان برسله والخضوع لأحكامه وشرائعه من اتباع الأوامر واجتناب النواهي فمن يراعي هذا الواجب لا شك أنه يثق بأن وعد الله حق فلا يداخله أي شك في حفظ الله وعونه له ويزول من قلبه خوف غيره والاعتماد على سواه وبهذا يستأصل الهلع من قلبه ويؤتى من قوة الله ما يوجهه إلى طاعته والاهتداء بهديه.
الصفة السابعة: قوله: ﴿والذين هم بشهاداتهم قائمون﴾ وفي قراءة: ﴿بشهادتهم﴾ بالإفراد وهم الذين يصدعون بالحق ولا يخافون فيه لومة لائم ولا يكتمون ما لديهم من علم فينصرون بذلك الحق على الباطل ويقيمون العدل على أساس متين.
يقدر الإحسان ويجزي عليه بأحسن منه: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ والقادر على فنائها فهو نعم المولى ونعم النصير: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي فهو لا شك يعلم بما أصابهم من تعذيب وحرق بالنار من أجله فلا بد أن يثأر لهم ممن أقاموا بتعذيبهم وحرقهم. ولذا أصدر الله أمره في مثل هذا الموضوع حكمًا عامًا يتعلق بالمعتدين والمعتدى عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أي كل من حاول فتنة المؤمنين في دينهم أو التأثير فيهم لترك الإيمان بالله بمختلف الوسائل والمغريات: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ أي ينتهوا عن عملهم ويرجعوا إلى الله بطلب الرحمة والغفران والتكفير عن السيئات: ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ جزاءًا عامًا على ما بذلوه من جهود لتشكيك المؤمنين وفتنتهم في دينهم: ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ أي وسيعذبون أيضًا عذابًا خاصًا لما اقترفوه من إحراق أو أي ضرر أوقعوه بالمؤمنين، هذا في حق المعتدين أما في حق المعتدى عليهم فقد قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وثقوا بوحدانية الله ثقة تامة لا يعتريها الشك ولا يزلزلهم إفك الأفاكين أو إضلال المضلين أو عذاب الطغاة المجرمين: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وهذه الأعمال أعم من أن تكون إيجابية من كل ما يقرب إلى الله أو سلبية من الصبر على الأذى مثلًا فإن الله قد قطع على نفسه عهدًا لا يخلفه منذ الأزل بأن: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ فلا محل للشك في بلوغ ذلك في الآخرة فإن الله لا يخلف وعده: ﴿ذَلِكَ﴾ أي حصول الإنسان منذ الآن على وعد الله هذا هو: ﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ فمن عرف من نفسه أنه قوي الإيمان بربه واحترز من الشرك بأنواعه وأيقن بأنه إنما يريد بأعماله وجه ربه فليطمئن بمستقبله في الآخرة لأن رحمة الله قد قضت بهذا ولئن عصى ربه أو أجرم فواجب عليه أن يذكر قول الله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ فهذا كاف لأن يحمله على التوبة والندم والرجوع إلى الله بطلب العفو والغفران: ﴿إِنَّهُ هُوَ﴾ الذي قضت سنته في خلقه أنه: ﴿يُبْدِئُ﴾ الخلق ليؤمنوا به ويعملوا له: ﴿وَيُعِيدُ﴾ أشخاصهم في حياة أخرى ليجزيهم على ما كانوا يعملون: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ أي ومن شأنه سبحانه وتعالى غفران الذنوب في الآخرة: ﴿الْوَدُودُ﴾ الذي يتودد لعباده بمختلف النعم في الحياة الدنيا ليعرفوه ويحكموا صلتهم به وهو سبحانه: ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ العرش: سرير الملك ولذا يطلق على الملك صاحب العرش،: ﴿الْمَجِيدُ﴾ صاحب العزة والرفعة بضم الدال صفة لاسم الموصول، وقرئ بكسر الدال صفة للعرش، وهنا ضرب الله الأمثال بمصير من كان كأصحاب الأخدود فقال: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ وهم: