يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٢٨١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)
بعد أن لقن الله عباده في السورة السابقة ما يرضيه منهم من حمده والاعتراف بعظيم سلطانه ووافر رحمته، واستحقاقه وحده للعبادة والاستعانة، وطلب الهداية منه لأقوم الطرق التي تستدر نعمه وتقي من نقمه، أخذ يبين في هذه السورة السبيل العملي الموصل إلى تلك الغاية فقال ﴿الم﴾ وتنطق هكذا (ألف. لام. ميم) وقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أنها وأمثالها أسماء للسور المبتدأة بها.
وقال ﷺ «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه» أي فلا علاقة بينهما، وتصديقًا لهذه الحقيقة استجاب الله لدعوة إبليس وهو متلبس بالمعاصي. مصر على مناصبة الله العداء عندما قال ﴿انظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراط المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ فرد الله عليه بقوله ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ نعم ليس له على عباده من سلطان بعد أن زودهم بسلاح مضاد لإبليس هو وعده تعالى لهم بإجابة الدعاء وهداية من شاء لنفسه الهداية.
وقد جرؤ بعضهم على الله جرأة ما بعدها من جرأة وإن كانت عن حسن نية أو عن سوء فهم إذ قالوا إن الله ليس ملزمًا بإجابة الدعاء مع أن الله قد ألزم نفسه بها بمقتضى هذا الوعد الكريم ووعد الحر دين فكيف بوعد الله رب العالمين حتى إن الرسول ﷺ قد نهانا عن أن نعلق طلبنا للرحمة والغفران على مشيئة الله وأمرنا أن نطلبها بشدة وإلحاح باعتبار أن ذلك حق من الحقوق التي منحها الله لعباده من غير إكراه بل منحها إياهم بمحض اختياره جل وعلا فلا يمكن بعد أن يتنصل عنها بحال من الأحوال حيث قال «إذا دعا أحدكم فلا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له» وإذا كان هذا شأن طلب الرحمة والغفران فكيف بطلب ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الحياة؟ وإذا كان رب العزة لا يبر بوعده فكيف يطالب بالبر به سواه، وبمقتضى هذا يجب أن نقرر ما نريد لأنفسنا وندعو الله بقوة أن يحققه لنا ونحن واثقون من استجابته لنا وأن ما طلبناه سيكون فنؤهل أنفسنا لبلوغ ذلك بمباشرة الأسباب المؤدية إليه فإذا دعا أحد منا ربه أن يكون دكتورًا فيجب أن يعتقد بأنه سيكون دكتورًا فيدخل مدرسة الطب وهو واثق بنجاحه فلا بد أن ينجح وإذا دعا أحد ربه أن يبلغه الحج فعليه أن يأخذ في أسبابه من إعداد المال وإحضار الجواز وحجز التذكرة للإحجاز لا أن يظل ينتظر ما سيكون أو أن يحجز تذكرة إلى جهة أخرى مما يدل على عدوله عن مقصده ولا معنى لأن نحيل إلى الله أمرًا قد فرغ منه وبت فيه ورتب حصوله على عمل الإنسان
سر لا يعرف ودليلي على أن الروح قوة من قوى الله أن الله تبارك وتعالى لم يكرم آدم ويأمر الملائكة بالسجود له إلا عندما تفضل فنفخ فيه من روحه، فالتكريم إذًا لم يكن لشخص آدم بل لروحه التي نفخها فيه، وقد جهل هذا إبليس فغوى، وإن في قوله تعالى «ونفخت فيه من روحي» ما يصور لنا حقيقة النفح بأنه لم يكن سوى مجرد تسلط قوته تعالى على جسم الإنسان، وأن هذا هو الذي أكسبه الحياة والحركة كتسلط التيار الكهربائي من المستودع العام في الأسلاك الممتدة في الفروع بحيث يجعلها محلًا للإضاءة. ثم أنه تعالى أخبرنا أن عملية نفح الروح منه جل وعلا تتكرر عند خلقه لكل واحد من نسل آدم حيث قال «الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون». وهذا لا يعني أن شيئًا ماديًا أو جوهرًا نورانيًا قد جرى في جسم الإنسان كسريان الماء في العود أو الزيت في الزيتون ولا يعني أن الإنسان قد حل فيه جزء من ذات الله كما أن تسلط القوة الكهربائية على الأسلاك لا يعني أن الكهرباء قد حلت فيها وصيرتها جزءًا منها، بدليل أن السلك الذي فيه الكهرباء لا يزيد وزنه عن السلك الخالي منها بل إن البطارية الفارغة، لا يزيد وزنها إذا شحنت بقوة الكهرباء. فالروح على العموم إنما يراد بها قوة الله التي إذا تسلطت على الأجسام وهبتها الحياة، وتطلق على الوحي الذي إذا نزل على الأنبياء وهبهم خوارق العادات أو العلم بما هو فوق مستوى سائر المخلوقات فهي سر من أسراره التي لا سبيل إلى معرفة كنهها قال تعالى «وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا». وتطلق على الإلهام الذي يلقي به الله في نفس الإنسان في قوله «يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده». فهذه الروح التي هي القوة مشتقة من أمر الله الذي يقول عنه تعالى «إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون» وهي تسمو عن المادة وهي غير الملائكة كما يتصورون وإنما أطلقت على جبريل في قوله تعالى «نزل به الروح الأمين». تجوزًا باعتباره هو الذي نزل بذلك الوحي من ربه كمثل قوله تعالى «واسأل القرية» بدليل أن الله تعالى قد فرق بين الروح والملك في عدة آيات حيث قال «تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر». تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة «.
وبدليل أن الله لم يجمع الروح في القرآن بل أتى بها دائمًا بلفظ الإفراد إشارة إلى ما أسلفنا من أن الروح في الجميع واحدة، ومما يؤيد قولنا بأن الروح قوة من قوى الله الخفية أو الأمر الذي يلقي منه
نضيع أجر من أحسن عملا * أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا} ونحن أمام هذه الآيات الكريمة لا يحق لنا أن نقول إن الله تبارك وتعالى يمكن أن يعدل عن قوله هذا الذي جعل مشيئة الإيمان أو الكفر من حق العبد دون أن يقضي به عليه ويدخل النار من يشاء الجنة بالإيمان والعمل الصالح ويدخل الجنة من يشاء النار بالكفر والإعراض عن الهداية لمحض إرادته تعالى سبحانك اللهم هذا إثم مبين بل يجب أن نثبت لله صفة من أهم صفاته جل وعلا وهي هداية من يشاء لنفسه الهداية وننفي عنه ضلال أحد من عباده فذلك مما يتنزه الله عنه ويتعين أن يكون عائدًا إلى مشيئة العبد حيث يقول تعالى: ﴿قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب﴾ أي يضل من يشاء الضلال من الكفار والظالمين ويهدي المنيبين إليه كما قال: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ ﴿والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ وقال أيضًا: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون﴾ ومعنى الآية أنه تعالى لو قضت مشيئته أن يكون الناس كلهم صالحين أو طالحين لفعل ذلك ولكن مشيئته تعالى قضت أن يكون منهم الصالح ومنهم الطالح ولذا جعل أمر الضلال والهداية عائدًا لمشيئتهم واحتفظ لنفسه بأمر حسابهم وعقابهم وسيسائلهم عن أعمالهم التي يستحقون عليها الجنة أو النار وهو بعد ذلك غفور رحيم وقد اختص الله جل وعلا بهداية كل من يريد لنفسه الهداية وحض على طلبها منه وحده إذ جعلها لب لباب فاتحة الكتاب وقدم لها بما ينبغي من الحمد والثناء وخالص الدعاء حيث قال: ﴿الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ ودعا الرسول إلى تلاوتها في كل صلاة حيث قال ﷺ «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
وعندما حاول الرسول هداية عمه أبي طالب ودعا له بها رد الله عليه بما يشعر أن هداية الناس ليست موقوفة على من يحبه هو. بل عائدة إلى ما يشاء الإنسان لنفسه حيث قال: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ أي من يشاء الهداية من عباده فلو شاءها عملت لهدينا وهكذا فإن من لم يشأ لنفسه الهداية بسلوك سبلها أو لم يطلبها وظن أنه ليس في حاجة إليها وتوهم
٣ ـ رعاية الأمانة مع سائر الخلق ويدخل في ذلك رد الودائع وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدل الحكام مع الرعية وعدم إفشاء السر وستر العيوب وعدل الحكام مع الرعية والعلماء مع العوام بإرشادهم إلى سبيل النجاح والفلاح بما استحفظوا عليه من سائر العلوم ولذا قال تعالى في آية أخرى ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ وقد طبق الرسول الأعظم ﷺ هذا بمنتهى الدقة عندما فتح مكة إذ رُوِيَ أن رسول الله ﷺ لما دخلها أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة باب الكعبة دونه وأبى أن يدفع مفاتحها إليه وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فانبرى له علي بن أبي طالب ولوى يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ودخل الرسول ﷺ البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله عمه العباس أن يعطيه مفاتيح البيت ويجمع له السقاية والسدانة فسكت رسول الله ﷺ وظل يطوف ومعه المفتاح ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أولى بمفاتيح الكعبة من سواه وهو صاحب الحق في إعطائها لمن يراه والكعبة قبلة الجميع وليست ملكًا خاصًّا لبني عبد الدار حتى يستأثروا بمفاتيحها وبالرغم مما بدا من عثمان بن طلحة من ممانعته له في إعطائها إليه وما بدا من كفره برسلاته وطلب عمه العباس لها وبالرغم عن كل هذا تلا رسول الله ﷺ قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ وأمر عليًّا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه فجاء عثمان إلى الرسول وقال: «أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذها خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم» ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده حتى اليوم وفي هذا تنبيه إلى أنه لا يجوز إقصاء موظف من وظيفته أو عامل من عمله الذي يزاوله
من الله فلم يقدم على فعله وإذا خرج خالياً تريث في الأمر ثم أعاد الكرة حتى يتعين له أحد الأمرين.
وظاهر أن تحريك الأزلام وإخراجها وما كتب عليها إنما كان بعمل الإنسان دون أن يأذن به الله فنسبة ذلك إليه تعالى افتراء عليه والرضوخ لأحكامها شرك به فقد روى ابن حاتم الطائي عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال جئت النبي ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب قال يا عدي اخرج عنك هذا الوثن وتلا قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال ﷺ أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بأقوالهم؟ قلت نعم قال هو ذاك. أي أن إطاعة الأحبار والرهبان فيما يحللون ويحرمون هو اتخاذهم أرباباً من دون الله وإطاعة الأزلام فيما تأمر به كذلك من باب أولى ولذا قال عنه تعالى (ذَلِكُمْ) أي جميع ما سبق من المحرمات (فِسْقٌ) أي الإقدام على عمل محرم خروج عن طريق الحق ودين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومثل هذا ما يفعله بعض علماء هذا العصر باسم الاستخارة من استلهام أمر الله عن طريق المسبحة فيمسكون جانباً منها ثم يعدون حبات المسبحة واحدة بعد أخرى وهم يرددون قولهم على الأول أفعل وعلى الثانية لا أفعل وهكذا إلى نهايتها فإن كانت الحبة الأخيرة أفعل فعل وإلا ترك ظناً منهم أن هذا الترجيح إنما جاءهم من عند الله مع أن الرسول ﷺ عندما شرع الاستخارة لم يقل أن الجواب عليها سيأتي عن طريق عمل الإنسان بل كان يقول «إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ثم ليقل اللهم أني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللّهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» قال ويسمي حاجته فإذا شرح الله صدره لشيء أمضاه فجعل عليه الصلاة والسلام
<٢٧>
انشراح الصدر دليلا على رضاء الله لمن كان مؤمنا حقاً بالله مفوضاً الأمر كله متكلا على اختياره تعالى
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا
أمامكم سواه من إحدى هذه الثلاث وأرجعوا إلى الله قبل حلول واحد منها وفوات الأوان ﴿إنا منتظرون﴾ ذلك عن إيمان ويقين ولذلك نحن مؤمنون عاملون لما يرضي الله على قدر المستطاع.
بعد أن حصر الله المحرمات فيما يخالف الوصايا العشر التي جاء في نهايتها قوله ﴿وهذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ وأردف ذلك بما يشير إلى أنه تعالى لم ينزل التوراة والقرآن إلا لهداية الناس إلى الحق وتجنبهم سبل الضلال وأكد الأمر باتباع القرآن قبل فوات الأوان بإحدى حالات ثلاث أراد سبحانه وتعالى أن ينبه الأفكار إلى الغاية التي من أجلها شرع الاتباع وهو الاتحاد وعدم التفرقة والانقسام فالإسلام بريء من ذلك فقال ﴿إن الذين فرقوا﴾ التفريق الفصل بين أجزاء الشيء الواحد وجعله فرقًا وأبعاضًا وقرئ ﴿فارقوا﴾ من المفارقة للشيء وهي تركه والانفصال منه ﴿دينهم﴾ وتفريق الدين كالإيمان ببعض الكتب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل شيء منه لأن الدين واحد لا يتجزأ ﴿وكانوا شيعًا﴾ شيعة الرجل أتباعه وأنصاره الذين يقولون بقوله ويؤيدونه في رأيه خطأ كان أو صوابًا ﴿لست﴾ أيها الرسول ﴿منهم في شيء﴾ أي لست مسؤولًا عما يصدر منهم من تفرق وتشييع ذلك لأن الإسلام الذي جئت به يبرأ منهم ولا يقرهم على تفرقهم ويمنع الحكم الذي يختلف باختلاف الآراء ويأمر الجميع بالرجوع إلى حكم الله الذي ورد في كتابه والانصياع إليه دون غيره من الأحكام فهذا هو سبيل الوحدة الكاملة وما التفرق، إلا مدعاة التنازع وسبيل الفشل والخذلان وقد توعد الله المتفرقين في دين الإسلام بالعذاب بقوله في سورة آل عمران ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾ وقد روى عمر بن الخطاب أن النبي ﷺ قال لعائشة «يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة أنا منهم بريء وهم مني براء» ذلك لأنهم يظنون في أنفسهم أنهم على حق فلا يرجعون عن رأيهم فيضلون ويضلون ولا يتوبون وبهذا يخرج الأئمة المجتهدون في فروع الأحكام دون أصولها الذين لم يدعوا العصمة من الخطأ ولم يدعوا الناس إلى تقليدهم تقليدًا أعمى بل أمروهم بالاجتهاد وتحري الحقائق إذ قالوا جميعًا ما معناه إذا صح الحديث فهو مذهبي وارموا بقولي عرض الحائط ولما ورد في الحديث من أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران، ولكنه لا يخلى أتباعهم ومقلدوهم من المسؤولية أمام الله لتشيعهم لأقوالهم واستنتاجاتهم التي ربما لا تتفق مع مفهوم الآيات
أدعى للعطف والرقة ﴿إن القوم استضعفوني﴾ فلم يلتفتوا إلى كلامي ولم يسمعوا نصحي ﴿وكادوا يقتلونني﴾ إذا أنا لم أكف عن نصحهم، وذلك من عظم تأثرهم بما رأوه من تطور في حال العجل واعتقادهم بألوهيته وقد عجزت عن إرجاعهم عن ضلالهم ﴿فلا تشمت بي الأعداء﴾ من أصحاب العجل الذين هم أعداء الله وأعداؤنا جميعًا ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ فإني بريء منهم ومن أعمالهم وقال جوابًا على قوله: ﴿ما منعك أن تتبعني﴾ وفي آية أخرى ﴿لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي﴾ فيما إذا تركتهم وجئت إليك وهنا لم يجد موسى أمامه إلا أن يلجأ إلى الله ﴿قال رب اغفر لي﴾ ما وجهته لأخي من قول وفعل ليس لي فيه أي حق ﴿ولأخي﴾ فيما إذا قصر في ردع القوم عن الضلال خشية على نفسه من القتل ﴿وأدخلنا في رحمتك﴾ التي وسعت كل شيء ﴿وأنت أرحم الراحمين﴾ ولم يتعرض لذكر قومه لما كان يتوقعه لهم من الهلاك ولكن الله جل جلاله أوحى إليه بما يطمئنه بأنه لطف بهم فقضى عليهم بعقوبة خاصة سيطبقها عليهم وعلى أبنائهم في هذه الحياة حيث قال ﴿إن الذين اتخذوا العجل﴾ أي جميع من اشتركوا في صنع العجل وعبادته وزعموا أنه إله موسى بأنه ﴿سينالهم غضب من ربهم﴾ ومن يغضب الله عليه يضع له البغض في قلوب عباده ﴿وذلة في الحياة الدنيا﴾ الذي ضد العز وهو أمر يشعر به الإنسان في نفسه فيخاف من كل شيء ويخضع لكل عزيز ولا يعتمد على نفسه عند الشدائد والنائبات بمعنى أن يجعل الله ذلك طابعًا خاصًّا بهم، وهكذا كان وأصبحت الذلة طبعًا ثابتًا فيهم حتى إنه عندما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة: ﴿قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ وما زالوا أذلة مشردين حتى يومنا هذا في سائر أنحاء المعمورة مبغوضين من سائر الأمم الأمر الذي حمل «هتلر» زعيم ألمانيا النازية على إبعادهم من أراضيه واضطرت بريطانيا إلى إسكانهم في فلسطين ثم منحتهم حق تأسيس وطن قومي لهم من غير حرب وساعدتها أمريكا وغيرها من الدول على إقامة حكومة وهمية أيدوها بأساطيلهم ومعداتهم الحربية ليحموها وهم خائفون وما زالوا يمدونها بأنواع الإمدادات ويقذفون إليها بيهود العالم تحت ستار الهجرة
بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ
إلى اكتشافها واستخدامها بما وهبه الله من قوة العلم وهو الذي: ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾ وما هذه المخترعات الحديثة من السيارات والطائرات التي نشاهدها إلا من ضمن خلقه جل وعلا القائل: ﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ حيث لا جدال في أن المواد الأولية لكل هذه الموجودات لم تكن إلا من خلق الله وما توصل المخترعون إلى ما توصلوا إليه إلا عن طريق العلم بخواص الأشياء وسنن الكائنات بل إن التفكير في كل ذلك لم يكن إلا بأمر من الله جل وعلا: ﴿أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجلٍ منهم﴾ أي هل كان إيحاؤنا إلى واحد من الناس أمرًا نكرًا يستوجب تعجبهم كأن في مشاركتهم له في البشرية ما يمنع من اختصاص الله إياه بأمر الوحي مع أن الوحي في حقيقته عبارة عن كل ما يلقى إلى الغير ليعلمه فالوحي من الله أمر لا بد منه لجميع مخلوقاته يحتاجون إليه لحياتهم الخاصة بما من شأنه أن يؤدي لعمار هذا الكون كما قال تعالى: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ -: ﴿وأوحى في كل سماء أمرها﴾ –: ﴿وأوحينا إلى أم موسى﴾ –: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي﴾ وهذا قد يكون بالكشف عن بعض الأمور الخفية عن طريق الرؤيا الصادقة أو النفث في الروع والإلهام للخير لمن صفت نفسه وأنيرت بصيرته واستقام في عمله وخلصت عبادته فلا محل لإنكاره ولما كانت أوامر الله المراد تعميمها على البشر كدستور واجب الاتباع للدلالة على ما يرضيه سبحانه وتعالى من عباده وما يغضبه والتي بمقتضاها سيحاسب الناس فيثابون ويعاقبون في الآخرة لا يتسنى إلقاؤها لكل فرد بذاته بل لا بد من إذاعته ونشره أرسل الله الرسل وأوحى إليهم بكتب تتلى عليهم لتبليغها إليها للعمل بمقتضاها وأجرى على يد أولئك الرسل من خوارق العادات ما يثبت صلتهم بالله ليصدقهم الناس فيما ينسبونه إليه من أحكام عن طريق الوحي فلا بد من التسليم أيضًا به ومثل هذا الوحي لا يكون إلا للأنبياء فقط ولذا خصه بالذكر إذ قال: ﴿أن أنذر الناس﴾ وقد جعل الله تبارك وتعالى رسالة نبينا ﷺ للناس كافة، حيث قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا﴾.: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا﴾. وقال صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». ولذلك أوحى الله إليه ﷺ خلاصة سير أشهر أنبيائه ورسله الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلًا، وفصل له في القرآن
وموتكم: ﴿ما من دابة﴾ تدب على الأرض: ﴿إلا هو آخذ بناصيتها﴾ الناصية مقدم شعر الرأس، وهذا إشارة إلى أن بيده تعالى زمام كل حي إن شاء منعه وإن شاء أفلته فإذا أراد سبحانه أن يحمي عبدًا من أذى عطل الأسباب وحال دون وقوع الأذى: ﴿إن ربي﴾ في طريقة حكمه بين العباد: ﴿على صراط مستقيم﴾ لا يضن بنصرة الحق متى اتبع أنصاره ما سنه تعالى لذلك من سنن من أهمها الثبات عليه والدفاع عنه والجهاد في سبيله بالنفس والمال: ﴿فإن تولوا﴾ أي أعرضوا عن قولك ولم يؤمنوا بالله: ﴿فقد﴾ أديت الرسالة وحسبك أن تقول لهم: ﴿أبلغتكم ما أرسلت به إليكم﴾ وما على الرسول إلا البلاغ وحقت عليكم بهذا كلمة العذاب: ﴿ويستخلف ربي قومًا غيركم﴾ إذا هو أهلككم بإصراركم على الكفر بمعنى أن موتكم لا يحدث فراغًا في ملكه لأنه تعالى سيملؤه بغيركم: ﴿ولا تضرونه شيئًا﴾ أي إن توليكم عن الإيمان لا يضر الله شيئًا فهو الغني عنكم وعن عبادتكم، وهذا يستلزم عدم ضرر رسوله أيضًا: ﴿إن ربي على كل شيء حفيظ﴾ أي أنه تعالى حريص على المحافظة على مقتضى سننه وتنفيذ كل ما تعلقت به مشيئته من النظم والمقدرات في المواعيد المقدرة لها ولذلك فإنه أمهل قوم هود إلى حين ثم قال: ﴿ولما جاء أمرنا﴾ بهلاكهم بريح صرصر عاتية: ﴿سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا﴾.
﴿نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا﴾ أي بطريقة خاصة بهم بحيث لم تؤثر فيهم تلك الريح أو لم تصب ديارهم مع أنها عمت البلاد بأسرها: ﴿ونجيناهم من عذاب غليظ﴾ أي شديد الغلظ غير معهود في العالم وهو ما عبر عنه في سورة الذاريات بقوله: ﴿وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم﴾ وقوله في سورة القمر: ﴿إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر﴾. ﴿وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم﴾ الدالة عليه بعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان: ﴿وعصوا رسله﴾ أي جنس الرسل بعصيان رسوله إليهم وإنكار رسالته فإن عصيان الواحد عصيان للجنس كله: ﴿واتبعوا أمر كل جبار عنيد﴾ أي لم يخضعوا إلا للقوة ومن يملكها من الأمراء والرؤساء الطغاة المستبدين: ﴿وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة﴾ أي لحقتهم وأدركتهم لعنة الله بما أصابهم من أثرها في هذه الحياة الدنيا: ﴿ويوم القيامة﴾ أي وستتبعهم أيضًا لعنة الله في الآخرة على رؤوس الأشهاد:
يمكن أن تسمى معجزات فالمعجزة أمر خارق للعادة أو مغاير للسنن التي لا يملك أمر تغييرها أحد غير الله وقد أجراها على أيدي أنبيائه بقصد التحدي لإثبات رسالتهم عن ربهم وإشعارًا لهم بوافر قدرة الله وعظيم سلطانه ليعرفوه ويؤمنوا بوجوده ويحكموا صلتهم به ويعتمدوا عليه الاعتماد كلهم، ولهذا كانوا يقولون إنها بإذن الله وتحدوا أقوامهم بها فهي إذن ليست من فعل الأنبياء أنفسهم وإنما هي من فعل الله مرسلهم والرسول ﷺ لم يحاول قط أن يؤيد رسالته بشيء من خوارق العادات المذكورة التي نسبت إليه بل أبى الله في هذه الآية وغيرها أن يجعل له معجزة غير القرآن، أما ما قالوا عنه أنه من المعجزات فما هو في الواقع إلا من باب الكرامات التي أكرم الله بها رسله السابقين ولم تكن من معجزاتهم ولا يبعد أن يكرم الله بها أحد من عباده المؤمنين على ممر الأزمان نتيجة لجوئهم إليه تعالى بالدعاء في الملمات حيث قال: ﴿ونوحًا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين﴾: ﴿وأيوب إذ نادى ربه إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معه رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين﴾ وإن مما يؤسف له أن الكثير من العلماء لم يكتف بتسمية ما ذكر معجزات بل قالوا «ما كان معجزة لنبي يكون كرامة لولي» ويعنون بهذا أن في استطاعة الولي أن يأتي بشيء من خوارق العادات وقضاء الحاجات بما له عند الله من الكرامات، الأمر الذي أدى إلى رواج الشعوذة وانتشار الخرافات وكثرة مدعي الولاية ممن يحسبون أنفسهم على شيء من التقوى والصلاح لكثرة ما يؤدونه من الصلوات وما هم عاكفون عليه من الذكر في الحلقات وتعلق الناس بهم واللجوء إليهم في النائبات، وفاتهم أنه مضى زمن المعجزات بانتهاء عهد الرسالات التي كان يدعمها الله بشيء من خوارق العادات وجاء زمن النور، منذ بدأت شريعة الإسلام بالظهور وقد ملأ القرآن بالآيات التي ترشد المسلم إلى أن هناك من العلوم ما يأتي بالكثير من خوارق العادات حتى تكون فتنة لقاصري النظرات، بما حدثنا به تعالى من قصة السحرة تجاه فرعون إذ: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى
خلقكم وخلق الحركة التي مكنتكم من صنع هذه الأصنام التي هي من قوة الروح التي جعلكم قادرين على صنع هذه الأصنام بشكلها الحاضر وبدونها لم يكن في استطاعتكم صنعها: ﴿أموات﴾ أي جمادات: ﴿غير أحياء﴾ أي لا ترجى لها الحياة: ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ أي وليس لديهم أي شعور أو إحساس بالحياة الأخرى وأمر البعث الذي هو من لوازم التكليف ولا يعلم بوقته إلا الله، وهنا أخذ جل جلاله يدعو الناس إلى الإيمان بوحدانيته ويقيم الدليل على ذلك بعلمه تعالى بالأسباب التي من أجلها يصر الكفار على إنكار التوحيد فقال: ﴿إلهكم إله واحد﴾ لا شريك له يؤمن بوحدانيته كل ذي عقل سليم فهذا النظام الكوني العجيب يدل دلالة قاطعة على أن المتصرف فيه لا يمكن أن يكون إلا إلهًا واحدًا إذ لو كان آلهة متعددة لفسد ولم يستقم له حال: ﴿فالذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ وينكرونها لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع فيما يستوجب العقاب ولهذا تظل: ﴿قلوبهم منكرة﴾ لوحدانية الله والرغبة في ثوابه: ﴿وهم مستكبرون﴾ أي حال كونهم مستكبرين عن الرجوع إلى دعوة الحق: ﴿لا جرم﴾ أي ولا بد أن يكون هذا منهم ولكن لا لأنه تعالى قهرهم عليه بل لأنه علم ما سيكون منهم ولا بد أن يكون منهم وسببه: ﴿أن الله يعلم ما يسرون﴾ أي أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على الكفر لم يكن من أجل شبهة خطرت لهم بل إنه مبني على ما جبلوا عليه من تقليد آبائهم والكبرياء التي تحول دونهم والرجوع إلى الحق: ﴿وما يعلنون﴾ من إنكارهم للقرآن وعدم الاعتراف بأنه كلام الله وشرعه: ﴿إنه﴾ تعالى: ﴿لا يحب المستكبرين﴾ أي جنس المستكبرين فكيف بمن يتكبر عن الرجوع عن الباطل إلى الحق وعن الضلال إلى الهدى.
بعد أن أقام الله البراهين على بطلان عبادة غيره ووجوب الإيمان بوحدانيته وأخبر بما قضت به سنته من إنكار قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإصرارها على الكفر أخذ يذكر الأسباب التي أدت إلى ذلك الإنكار وفي مقدمتها عدم تصديقهم برسالة رسوله والطعن في الكتاب المنزل عليه معجزة له ومن أجل ذلك لا يصغون إليه ولا يهتدون بهدية ولا يؤمنون بما جاء فيه عن الآخرة والحساب والعقاب فقال: ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي المنكرين للحياة الأخرى: ﴿ماذا أنزل ربكم﴾ في القرآن من تشريع: ﴿قالوا أساطير الأولين﴾ أي إن ما في القرآن ما هو إلا عبارة عن قصص مرتبة لمن مضى من الأمم فهي ليست شريعة تقتدى: ﴿ليحملوا﴾ بقولهم هذا المعبر عن إنكار
إلى اكتشافها واستخدامها بما وهبه الله من قوة العلم وهو الذي: ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾ وما هذه المخترعات الحديثة من السيارات والطائرات التي نشاهدها إلا من ضمن خلقه جل وعلا القائل: ﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ حيث لا جدال في أن المواد الأولية لكل هذه الموجودات لم تكن إلا من خلق الله وما توصل المخترعون إلى ما توصلوا إليه إلا عن طريق العلم بخواص الأشياء وسنن الكائنات بل إن التفكير في كل ذلك لم يكن إلا بأمر من الله جل وعلا: ﴿أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجلٍ منهم﴾ أي هل كان إيحاؤنا إلى واحد من الناس أمرًا نكرًا يستوجب تعجبهم كأن في مشاركتهم له في البشرية ما يمنع من اختصاص الله إياه بأمر الوحي مع أن الوحي في حقيقته عبارة عن كل ما يلقى إلى الغير ليعلمه فالوحي من الله أمر لا بد منه لجميع مخلوقاته يحتاجون إليه لحياتهم الخاصة بما من شأنه أن يؤدي لعمار هذا الكون كما قال تعالى: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ -: ﴿وأوحى في كل سماء أمرها﴾ –: ﴿وأوحينا إلى أم موسى﴾ –: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي﴾ وهذا قد يكون بالكشف عن بعض الأمور الخفية عن طريق الرؤيا الصادقة أو النفث في الروع والإلهام للخير لمن صفت نفسه وأنيرت بصيرته واستقام في عمله وخلصت عبادته فلا محل لإنكاره ولما كانت أوامر الله المراد تعميمها على البشر كدستور واجب الاتباع للدلالة على ما يرضيه سبحانه وتعالى من عباده وما يغضبه والتي بمقتضاها سيحاسب الناس فيثابون ويعاقبون في الآخرة لا يتسنى إلقاؤها لكل فرد بذاته بل لا بد من إذاعته ونشره أرسل الله الرسل وأوحى إليهم بكتب تتلى عليهم لتبليغها إليها للعمل بمقتضاها وأجرى على يد أولئك الرسل من خوارق العادات ما يثبت صلتهم بالله ليصدقهم الناس فيما ينسبونه إليه من أحكام عن طريق الوحي فلا بد من التسليم أيضًا به ومثل هذا الوحي لا يكون إلا للأنبياء فقط ولذا خصه بالذكر إذ قال: ﴿أن أنذر الناس﴾ وقد جعل الله تبارك وتعالى رسالة نبينا ﷺ للناس كافة، حيث قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا﴾.: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا﴾. وقال صلى الله عليه وسلم: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». ولذلك أوحى الله إليه ﷺ خلاصة سير أشهر أنبيائه ورسله الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلًا، وفصل له في القرآن
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (١٤)
سورة الصف: لقد أمر الله المؤمنين في السورة السابقة بعدم موالاة الكافرين وضرورة انتزاع حبهم من القلوب أسوة بإبراهيم والذين آمنوا معه ليكون ظاهرهم كباطنهم وختمها بما ينبغي اشتراطه على النساء لصحة إسلامهن ثم أخذ يملي على المؤمنين في هذه السورة ما يغضبه وما يرضيه منهم ليكونوا على علم تام بحقيقة الإيمان وما ينبغي أن يتصف به المؤمنون فأخبرهم أولًا بعلمه بما لا يعلمون أو ما لا يتصورون حيث قال: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من كل ناطق وصامت وحي وجماد تسبيحًا لا تفقه ماهيته فلا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأعمالكم وسركم وجهركم: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز﴾ في سلطانه: ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تصرفاته الذي اقتضت حكمته أن يربط الأسباب بالمسببات ويجعل الجزاء على الأعمال مقترنة بالنيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ بهذه الحقيقة: ﴿لِمَ تَقُولُونَ﴾ بألسنتكم فعلنا كذا أو سنفعل كذا: ﴿مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ أي في حين أنكم لم تفعلوا ذلك
الصفة الثامنة قوله: ﴿والذين هم على صلاتهم يحافظون﴾ أي يأتون بها على أكمل وجه من التوجه إلى الله بالقلب وإعطائها حقها من الخضوع والخشوع وسائر الأركان: ﴿أولئك﴾ من توفرت فيهم كل هذه الصفات قضى الله أن يكونوا في الحياة الأخرى: ﴿في جنات مكرمون﴾ فلا بد أن ينالوا ذلك جعلنا الله منهم برحمته وكرمه. وبعد أن ذكر الله طبيعة الإنسان التي فطر عليها وعدد الصفات التي يستطيع أن ينال سعادة الدارين وخير الحياتين بواسطتها عن طريق كسبه واتباع هدى ربه، أخذ يندد بالكفار الذين ينكرون البعث ويحسبون أن الجنة التي أخبر عنها الرسول إنما تكون في هذه الحياة فقط وفي استطاعة كل واحد منهم أن يحصل عليها بجده واجتهاده ولذلك كانوا يتجمعون حول رسول الله ﷺ حلقًا حلقًا وفرقًا فرقًا يستمعون لأحاديثه ويهزئون بها ولا ينخرطون في صفوف المؤمنين ويقولون لئن دخل هؤلاء الجنة في الآخرة كما يزعم محمد فسندخلها قبلهم في هذه الحياة فأنزل الله قوله: ﴿فما للذين كفروا قبلك﴾ أي عندك وفي الجهة التي تليك: ﴿مهطعين﴾ مقبلين عليك بأبصارهم: ﴿عن اليمين وعن الشمال عزين﴾ أي جماعات متفرقة واحدها عزة وهي العصبة من الناس بمعنى لم لا يلتفون حولك ويستمعون لحديثك ويهتدون بهديك كما هو شأن أتباعك: ﴿أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم﴾ النعيم ضد البؤس والمعنى هل يظن أولئك الكفار أن الحياة الدنيا هي دار نعيم لا بؤس فيها ولذلك فإنهم يعتقدون أن كل واحد منهم لا بد أن يسعد فيها متى نال غايته ونعم بشهواته: ﴿كلا﴾ إنهم مخطئون وليس الأمر كما يتوهمون فما الحياة الدنيا بدار نعيم وما خلقوا لمجرد قضاء هذه الأيام المعدودة فيها فقط بل: ﴿إنا خلقناهم مما يعلمون﴾ أي من أجل ما يعلمون فيها من أخبار نبلغهم بها عن طريق رسلنا وكتبنا من أن هناك حياة أخرى سعيدة دائمة تنتظرهم وأن عليهم أن يعملوا لنيل السعادة الحقيقية فيها الأمر الذي ينكرونه ويعرضون عنه بعدم الالتفات حول الرسول ﷺ والاهتداء بهديه والعمل وفق تعاليمه: ﴿فلا أقسم﴾ أي ولا حاجة بي لإثبات هذا الأمر وهو البعث بعد الموت وما يكون بعد ذلك من جنة ونار فقد تكلمت عنه مرارًا وأيدته بمختلف البراهين: ﴿برب المشارق والمغارب﴾ أي الذي جعل الشمس تشرق من الجهة التي تسمى بالمشرق وتغرب في الجهة التي تسمى بالمغرب بمعنى الذي أحكم هذا النظام العجيب وقدره تقديرًا: ﴿إنا لقادرون على أن نبدل﴾ نظام حياتهم الدنيا بنظام آخر في الحياة الأخرى: ﴿خيرًا منهم﴾ أي أفضل
﴿فِرْعَوْنَ﴾ وقومه وما فعلوه مع موسى وما حاق بهم من الغرق: ﴿وَثَمُودَ﴾ وما كان من تكذيبهم نبيهم صالحًا واستمرارهم في العصيان حتى أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين،: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ أي أن جميع الكفار لا يزالون مصرين على التكذيب بالله واليوم الآخر،: ﴿وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾ بقواه المنبثة في كل مكان: ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي ما يصيبهم من عذاب وهلاك وعقاب ثابت مقرر في نظام القضاء والقدر الذي أنذروا به واشتمل عليه كتاب الله: ﴿قُرْآنٌ مَّجِيدٌ﴾ بضم الدال أي شريف وعظيم وقري: ﴿مجيد﴾ بكسر الدال لإضافة أي قرآن رب مجيد.
﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ -بكسر الظاء- عند الله، وقرئ: ﴿محفوظ﴾ بالرفع صفة للقرآن.
سورة الطارق
مكية وعدد آياتها سبع عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (١٠) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)﴾.
بعد أن أكد الله في السورة السابقة علمه بكل ما حصل من المظالم في العصور الماضية وما اقتضته إرادته في حق الظالمين والمظلومين أخذ يبين مبلغ سيطرته وهيمنته التامة على جسم الإنسان فأقسم على ذلك بأعظم ما تراه العيون من جليل مخلوقاته فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ وهي كل ما علاك: ﴿وَالطَّارِقِ﴾ الآتي ليلًا: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ إشارة إلى أنه شيء عظيم الشأن رفيع القدر وقد جرى نسق القرآن على إيضاح كل ما قيل عنه: ﴿ما أدراك﴾، أما ما قيل عنه: ﴿ما يدريك﴾ فإنه لم يخبر به كقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾، وقد أوضح الله المراد به هنا بقوله: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ الذي يثقب ضوؤه ظلام الليل عند الصباح: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ أي ملك يتولى حراسة كل عرق وشريان وكل جزء في داخل جسم الإنسان أن يختلط بغيره ولولا ذلك لما استقام حاله وأفسدت طبيعته، كذلك هو الذي يتولى حفظ ما يصل إلى المعدة من المواد


الصفحة التالية
Icon