والمعنى الحقيقي لها لا يعلمه إلا الله وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «إن لله في كل كتاب سرًّا وسر القرآن في أوائل السور» ونقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: «يا كهيعص – يا حم عسق» أي أنه اعتبرها من أسماء الله ويغلب على الظن أنها أسماء مقسوم بها مع حذف أداة القسم كقوله تعالى: ﴿يس والقرآن﴾. ﴿ن والقلم﴾. ﴿ق والقرآن﴾. فهذه أسماء أردفت بمقسوم بها مما يشعر بأنها مقسوم بها أيضًا فكأن المولى جل وعلا يقسم بالسر الذي أودعه في ﴿الم﴾ أن ﴿ذلك الكتاب﴾ الذي نزل به جبريل على نبيه محمد بن عبد الله وهو القرآن الكريم حق ﴿لا ريب فيه﴾ أنه من عند الله وقد أنزله تعالى ليكون ﴿هدى﴾ أي سبيل هداية إلى الله لما حواه من أدلة وبراهين ساطعة تقنع كل عاقل بوجود الله ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال ﴿للمتقين﴾ أي لمن اتقى الله وخافه في سره والمتقون هم الذين يحذرون الوقوع في النائبات بمعنى أن الله قد جعل القرآن أداة وقاية لمن أراد وقاية نفسه من كل سوء في الدنيا والآخرة وهم من تتوفر فيهم صفتان الأولى الإيمان بالغيب وما يترتب على هذا من العمل لرضاء الله بالفعل والبذل والثانية التصديق بما أنزل على الرسل من كتب تبين أحكام الله وما يضرهم وما ينفعهم في الدنيا والآخرة وقد أشار إلى الصفة الأولى بقوله ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ الغيب كل ما غاب واستتر أي أنهم هم الذين يصدقون بكل ما تخبرهم به من الأمور الغيبية عن وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته ويسلمون بذلك تسليمًا مطلقًا تعبر عنه ألسنتهم وأحوالهم إذ هم يعتقدون ولا يجحدون بأن وراء هذا العالم المحسوس عالم آخر غير منظور هو عالم القوى الخفية التي لا يعلم حقيقتها غير الله ومن أجل هذا فهم يحسبون لمالكها حسابًا في تقديرهم ويخافون بأسه فيهتدون بهديه ﴿ويقيمون الصلاة﴾ الصلاة في اللغة الدعاء وقال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية «الدعاء هو العبادة» وحقيقتها إظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل أو كليهما معًا وهذا ما يتحقق تمامًا في صلاة المسلمين التي علمها لنا الرسول الأعظم ﷺ من الركوع والسجود بين يد الله والتوجيه إليه بأنواع الذكر ومختلف الأدعية وهي المقصودة هنا بدليل قوله تعالى: ﴿ويقيمون﴾ فإقامة الصلاة معناها الإتيان بجميع حقوقها من كمال الطهارة واستيفاء الأركان والسنن والتوجه إلى الله بالتلاوة والذكر والدعاء في أوقاتها المعلومة فإن لم يفعل المصلي ذلك لا يعد مقيمًا لها
نفسه وجده واجتهاده، ولا محل لتعليق أمر إجابة الدعاء على مشيئته تعالى والمشيئة إنما تتعلق بالأمور الكلية والسنن المضطردة التي لا تختلف، وإذا فرض أنا دعونا الله بشيء فلم يتحقق ذلك الشيء في الحال فليس معنى هذا أن الله لا يريد أن يحققه أو أنه لم يستجب له وعلينا أن نذكر أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع على نفسه عهدًا بإجابة الدعاء وجعل الناس أحرارًا فيما يطلبون لم يقيد نفسه بوقت معين لتحقيق رغباتهم فذلك بالنسبة له تعالى متوقف على متابعة الداعين للسنن التي وضعها، والدستور الذي ألزم نفسه به، وقد خلق جل وعلا السموات والأرض في ستة أيام وكان في إمكانه أن يخلقها في لحظة واحدة ليسن للناس طريقة التريث والانتظار فكل شيء عنده بميقات ومن أجل هذا أمر الله عباده بالصبر والمثابرة على العمل ومتابعة السنن دون أن يداخلهم أي شك في بلوغ الغايات بما حكاه على لسان نبيه يعقوب لأولاده عندما أمرهم بالبحث عن يوسف وأخيه من أن اليأس من روح الله بمثابة الكفر به حيث قال ﴿يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾.
وإذا كان الله يحارب اليأس في قلوب عباده فإنه سبحانه وتعالى يأمرهم بعدم القنوط من رحمته حتى فيما كان خارقًا للعادة إذ القنوط من رحمة الله التي هي فوق النظام والسنن يعد ضلالًا وجحودًا لقدرته بما حكاه من قصة نبيه إبراهيم عليه السلام إذ بشرته الملائكة بالولد وهو شيخ لم ينجب قط في حياته ﴿قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا نبشرك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون﴾.
﴿فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم﴾.
﴿قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد﴾.
أن جبريل عليه السلام عندما كان ينزل بالوحي على نبينا عليه الصلاة والسلام كان يشعر به كصلصلة الجرس وهو أشده عليه حتى يفصم عنه فيعي ما قال فيتحدث به قالت عائشة: (ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصد عرقًا) وفي رواية أنه كان إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل وقد أشار تعالى إلى أن الروح قوة بقوله» أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه «. وقوله» ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون «فلم يعد هناك شك في أن النفس غير الروح وأن الروح الموجودة فينا جميعًا ما هي إلا قوة من قوى الله الخفية المستمدة منه والباقية ببقائه، والحياة التي فينا هي مظهر من مظاهر تلك القوة الإلهية في الخارج ولولا الروح أو تلك القوة ما كان على وجه البسيطة كائن حي بل لم تكن الأشياء التي تتمثل فيها الروح موجودة، فالروح ليست جوهرًا أو عرضًا ولا هي جسم نوراني مودع في البدن كما يقولون بل إنها أعظم قوة في الوجود وهي ليست بعيدة عنك أيها القارىء الكريم ولا متمركزة في مكان ما من مخك أو قلبك ولا في الجهاز العصبي من جسمك بل إنها في كل ذرة من ذرات وجودك إنها ليست بعيدة عنك بل هي تحوطك من كل جانب إنها في الهواء الذي تستنشقه والفراغ الذي حولك إنها القوة التي تحرك كل شيء في الوجود وهي ليست مختفية في أجواء السماء أو تحت ظلمات الثرى وهي ليست كامنة في داخل ذاتك بل هي تشمل هذه الذات وغيرها من سائر الذوات وهي التي بتسلطها عليك استطعت أن تفعل كل شيء وعن طريقها يمكنك أن تحصل على كل أمنية عزيزة لديك من صحة وسعادة ونجاح، فما دامت الروح مثلها كمثل قوة الكهرباء يأخذها الناس في بيوتهم من مخزن توليد واحد بمقادير مختلفة على حسب حاجتهم لاستعمالها فمنهم من يأخذها بمقدار صغير لمجرد الإضاءة ومنهم من يأخذها بمقدار أكبر لاستعمالها في تحريك الآلات ومختلف الصنائع التي تدر عليهم أنواع الرزق فكذلك الروح التي وهبها الله لنا منا من يكتفي في استعمالها لما يحفظ له الحياة من طعام وشراب ومنها من يستعملها لحمل الأثقال والعمل لما ينفع الناس، ومنا من يستعملها لما يصلح حاله في دنياه وأخراه، فلا يضن الله على كل واحد من عبيده بالقدر الذي يحتاج إليه، فاحرص على أن توسع دائرة عملك في الحياة، ليزيدك الله من قوة الروح ما ينجحك في مسعاك حتى تبلغ مناك. وإذا كان الله قد وهبك جانبًا من قوة الروح التي مكنتك من الحركة بدل السكون فاحرص أن يكون
أن ما هو فيه من نعم الله ما هو إلا من عمل الطبيعة فقد قال تعالى في حقه ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا﴾.
وأعتقد أن السبب الذي حمل أولئك العلماء المتقدمين على إعادة الضمير، في الآية الكريمة إلى الله لا إلى من يعني العبد هو تأثرهم بما كان عليه حال الناس في العصور الماضية من الحكم الاستبدادي الذي يجعل الملك ذاتًا غير مقيدة في أحكامها ويوجب على الرعية السمع والطاعة واستجداء الرحمة عن طريق الشفاعة فقالوا في أنفسهم إذا كان هذا شأن ملوك الدنيا فلا شك أن الله سبحانه وتعالى أولى وأحق بذلك إذ هو خالق الخلق الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقد تطور الزمن واختلفت المفاهيم وظهر لنا منافاة الحكم الفردي للعدالة وأن أفعال الله التي لا يسأل عنها حقًا هي غير أحكامه التي قيدها سبحانه بمبدأ الدستور القائم على أساس العدل الكامل، وقد أعلنه لعباده وأمر الرسل أن يحكموا بين الناس بمقتضاه حيث قال: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون * وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون * وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ وأخبرنا تعالى أن قضاءه في ذلك اليوم إنما يكون بحسب ما أعلنه من قبل من أحكام لا لمجرد المشيئة حيث قال الله: ﴿إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم﴾ وأنه تعالى قد
والذي هو أهل له لغرض شخصي أو لمجرد الهوى والعاطفة.
ثانيًا: ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ والحكم بالشيء عبارة عما إذا وجب لإنسان على غيره حق أن تأمر من وجب عليه ذلك الحق بدفعه إلى من هو له والعدل من عدل السهم قومه وعدله وعدل فلانًا لفلان سوى بينهما وعدل الطريق جعله مستقيمًا وهو ضد الظلم بمعنى المساواة بين الناس باعتباره واحدًا منهم أي أن يتوخى الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن يحكم بينهم كما لو كان هو أحد الخصوم فلا يقضي عليهم إلا بما يرضاه لنفسه ولا يمتزج حكمه بغرض آخر ﴿إن الله نعما يعظكم به﴾ أي: ونعم هذا الأمر الذي يعظكم الله به وهو أداء الأمانة باعتبارها الأصل في طبع الإنسان بوازع الفطرة والدين والخيانة خلاف الأصل والعدل لا يطلب إلا في حال الحكم بين الناس عند عدم مراعاتهم لواجب الأمانة ﴿إن الله كان سميعًا﴾ لكل المسموعات فهو يسمع بما تحكمون به فيما يعرض عليكم من القضايا ﴿بصيرًا﴾ لكل المبصرات فلا يخفى عليه شيء مما تؤدونه من الأمانات لأربابها.
بعد أن أمر الله عباده بأداء الأمانات وحمل الناس على أدائها بمراعاة واجب العدل فيما إذا أسند إليهم أمر الحكم بينهم عاد فوجه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بالتزام واجب الطاعة إذ لا ثمرة في أحكام لا تنفذ ولا خير في شعب لا يرضخ إلا للقوة ولما كانت الطاعة تقتضي الخضوع والاستسلام لما يلقى على الإنسان من أوامر وهذا ما يتنافى مع ما جاء به الإسلام من مبادئ الحرية والمساواة عدد الله جل وعلا من تجب طاعتهم بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿أطيعوا الله﴾ بالعمل بكتابه المنزل من عنده وهو القرآن ﴿وأطيعوا الرسول﴾ محمد بن عبد الله
فإن الله في هذه الحالة يشرح له صدره لما فيه نفعه أما من كان ميالا إلى عمل شيء وعمل الاستخارة كتقليد ظاهري وأصر على رغبته حتى بعد الاستخارة فهذا لا يعد من انشراح الصدر في شيء وقد شبه فريق من العلماء الاستقسام بالمسبحة بعمل القرعة وهو تشبيه ظاهر الفساد إذ القرعة إنما تكون بين شيئين أو أشياء متساوية يختار كل واحد ما يريد منها بمحض رغبته دون حاجة إلى استلهام الخيار من الله في هذا. وقد الحق بعض الفقهاء باستخارة المسبحة الاستخارة بالقرآن بأن يفتح المصحف فإن وجد فيه آية خير قدم على العمل وإلا فلا ولا شك أن استلهام الأمر من القرآن أو غيره والاعتقاد أن ذلك من الله حكمه حكم الاستقسام بالأزلام. أما أن يكون في حيرة ويسمع شيئاً من القرآن يؤدي إلى انشراح الصدر فيستبشر به فهذا يعد من باب الفأل الحسن الذي كان يعجبه عليه الصلاة والسلام (الْيَوْمَ) أي بعد أن أوضحت لكم ما يحل وما يحرم عليكم (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) فلا مطمع لهم في الزيادة فيه أو النقص منه ولا أمل لهم في إتباعكم لأحكامهم التي تتنافي مع ما أنزل عليكم من عند الله (فَلَا تَخْشَوْهُمْ) إذا هم أكرهوكم على معصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَاخْشَوْنِ) في السر والجهر فإني وحدي صاحب الأمر والنهي القادر على التنكيل بمن عصاني ومثوبة من أطاعني وخاف بأسى (الْيَوْمَ) أي في عصركم هذا الذي نضجت فيه المدارك وحكمت فيه العقول في أمر تقبل الهداية (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ولم يفرط الله فيه من شيء بل جعله تبياناً لكل شيء فهو والحالة هذه جامع لكل ما يصلح شؤون الناس في حياتهم الدنيا والآخرة ويمكن تطبيقه في كل زمان ومكان (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) إذ جعلتكم أخر الأمم وخصصتكم بالعزة من بعدي حيث قلت (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ووعدتكم بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها حيث قلت (وعد الله الذين
<٢٨>
آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ) الذي هو دين الفطرة والسلام ومكارم
أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (١٢٨) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (١٣٠) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (١٤٢) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
أو أحاديث الرسول ومن أجل هذا أحال الله أمر هؤلاء المقلدين المتشيعين لآراء الفقهاء إليه جل وعلا حيث قال ﴿إنما أمرهم إلى الله﴾ العليم بمن يمكنه أن يتحرى الحقائق ويميز بين الصواب والخطأ من أقوال الأئمة فيتغافل عن ذلك ويأبى إلا أن يتشيع لأقوال مشايخه ومن هو أمي جاهل قد يكون له بعض العذر في تقليده ﴿ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون﴾ من الأعمال صحيحها وفاسدها وما ترتب عن تفرقهم وتشيعهم من أضرار وسيئات وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ قوله «افترقت اليهود على إحدى وسبعين وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة" قالوا من هي يا رسول الله قال «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» ومن حديث أنس بن مالك بلفظ «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون ما حرم الله» وقانا الله شرهم.
وهذا يعني أنه لا يحق للمسلم أن يحكم بكفر من خالفه أو ضلال من قلد إمامًا غير إمامه فأمر ذلك عائد إلى الله العليم بحقائق الأمور.
بعد أن أعلم الله الوصايا العشر وما تبعها من الشرائع لمصلحة العباد رحمة بهم وبرأ رسوله من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا وقال إنه سينبئهم بما كانوا يفعلون أردف ذلك بذكر ما يترتب على تلك الأنباء من جزاء على الأعمال في يوم الحساب بحسب دستوره السماوي القائم على أساس الرحمة بعباده فقال ﴿من جاء﴾ ربه يوم القيامة ﴿بالحسنة﴾ من كل أمر يرضي الله ﴿فله عشر أمثالها﴾ أي أن الله سيعطيه بدلًا عنها عشر حسنات مثلها وقرئ «عشر» بالتنوين و «أمثالها» بالرفع على الوصف ومعنى هذا أن مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها أمر قد تفضل الله به وجعله من دستوره لكل من أتى بالحسنة من حيث هي حسنة وهذا عدا ما هنالك من مضاعفات كثيرة قطع الله بها وعودًا متكررة على أعمال خاصة كقوله تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة﴾ وقوله ﴿مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم﴾ الأمر الذي يدل على تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين في الصفات النفسية كالإخلاص في النية والإكثار من صالح العمل ﴿ومن جاء﴾ ربه يوم القيامة ﴿بالسيئة﴾ من كل أمر يغضب الله ويخاف ما أوصى به ﴿فلا يجزى إلا مثلها﴾ أي لا يعاقب إلا عقوبة سيئة واحدة {وهم لا
ليتخلصوا منهم بدليل ما تقوله أمريكا «إن هؤلاء اليهود يطردون من أوربا شر طردة وأنهم كانوا مهددين بالإبادة الشاملة لو لم تمكنهم من الفرار إلى المكان الوحيد في العالم الذي يقبلهم وهو إسرائيل ولذلك فإن الواجب الإنساني يدعونا لجمع التبرعات لهم» بينما يزعم بن جوربون رئيس وزراء إسرائيل إن هؤلاء المهاجرين كانوا يتمتعون بالمساواة الكاملة في البلاد التي هاجروا منها ولكنهم جاءوا كيهود ليدعموا الدولة اليهودية بزعمه وفقًا لخطة استعمارية مدبرة بينها وبين تلك الدول، ونحن على يقين بأن تأسيس هذه الدولة وتجمع يهود العالم في فلسطين لم يكن إلا بتدبير إلهي لتنفيذ أمر الله فيهم القاضي بنشوب معركة بينهم وبين المسلمين تنتهي بفنائهم عن آخرهم بأيدي المؤمنين وبإذن رب العالمين كما أخبرنا بذلك الرسول الأعظم ﷺ يؤيد هذا ما يسره الله من نجاح الثورة المصرية التي حررت مصر من النفوذ الأجنبي وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وقهر دول الاستعمار والانتصار عليهم في بورسعيد وتأديب إسرائيل وإرجاعها إلى قواعدها مخذولة مهانة وقيام الجمهورية العربية المتحدة واتحاد العرب جميعهم وتضامنهم ضدها وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن العزة والنصر لا ينالان بكثرة العدد والعدة وإنما ينالان بالتضامن والاتحاد وعدم الانقسام في قوله تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ وهذه هي سياسة الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة في حله للأحزاب وعمله للاتحاد وأخذه بالأسباب لإعداد القوة بقدر المستطاع لإرهاب الأعداء عملًا بقوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ أي إن ذلك لم يكن إلا لمجرد الإرهاب والواقع إن النصر بيد الله كما قال تعالى: ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ وهو المسئول أن يحقق لنا وعده فهو القائل: ﴿وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾.
﴿وكذلك﴾ أي بمثل هذا الجزاء من غضب الله والذل في الحياة ﴿نجزي﴾ في هذه الحياة الدنيا ﴿المفترين﴾ على الله الكذب والمراد بهم المبتدعة في دين الله حيث قال سفيان بن عتيبة: «كل صاحب بدعة ذليل» قال الحسن البصري: «إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هاجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين» فهذه عقوبة الله لهؤلاء في الدنيا أما بالنسبة لعقوبة الحياة الأخرى فلها نظام عام فصله الله بقوله ﴿والذين عملوا السيئات﴾ من أي نوع كان بما في ذلك عبادة العجل والكفر بالله ﴿ثم تابوا من بعدها﴾ أي من بعد فعلها ﴿وآمنوا﴾ بالله إلهًا واحدًا لا شريك له ﴿إن ربك من بعدها﴾
إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (٨٧) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩١) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦) الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ
الكريم مناقبهم وفضائلهم الكسبية والوهبية، وأمر بالاقتداء بها حيث قال تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ وبهذا اجتمع له عليه الصلاة والسلام من الكمال في شتى النواحي ما كان متفرقًا فيهم، وقد شهد الله له ﷺ بأنه لم يشذ عما كان عليه أولئك الرسل، وأنه كان متعبًا لكل ما يوحي به إليه من القرآن، وأنه كان مصدقًا لما كان عليه سائر المرسلين من قبل، حيث قال تعالى: ﴿قل ما كنت بدعًا من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين﴾.: ﴿بل جاء بالحق وصدق المرسلين﴾ فهو خاتم النبيين وآخر الصلة من البشر بين الخالق والمخلوقين، وقد ختم الله بنبوته اصطناع الأنبياء وقفل باب الرسالة في وجوه الأدعياء فلم يعد يصطفي لهذه المنزلة والمقام الرفيع إنسانًا وسوف لا يؤتى غيره من البشر قرآنًا وكان فيما أتى به من أخبار الأمم السابقة حجة قائمة على أنه من علام الغيوب، وإلا فمن أين له كل تلك الأخبار، وهي لم تدون في كتاب من الكتب السابقة قبل كما وردت في القرآن الكريم؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ومن أجل هذا انقطع نزول الوحي بعده بقصد الرسالة إلى الناس ويراد به التكليم الإلهي الوارد في قوله تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب * أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم﴾.
وقد وصفه الرسول الأعظم ﷺ عند ما سأله الحارث بن هشام بقوله: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول» وهذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى وقد وقف الله تعالى نزوله بعد خاتم الرسل. وحظر على الناس أن يزعموا نزوله عليهم لما في ذلك من كذب عليه تعالى، إذ الوحي بهذا الشكل حق لا مرية فيه. أما غيره من أنواع الوحي كالرؤيا والإلهام، فقد يكون حقًّا من عند الله، وقد يكون بتأثير نفسي، أو توجيه من الشيطان. ومن أجل هذا حذر الله جل وعلا عباده من الكذب عليه ونسبة شيء إليه عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيءٌ﴾ ولهذا لما ادّعى مسيلمة بن حبيب النبوة وزعم أنه قد
﴿ألا إن عادًا كفروا ربهم﴾ بجحود آياته وعصيان رسله وما جاءوا به: ﴿ألا بعدًا لعاد قوم هود﴾ من رحمة الله لأنهم حرموا أنفسهم من نيلها بأعمالهم وعدم الرغبة فيها حتى حل بهم عذاب الله.
بعد أن سرد الله قصة نبيه هود الرسول الأول من العرب وما لقي من قومه من الإصرار على تكذيبه، وما أصابهم من جراء ذلك من الهلاك بريح صرصر عاتية أتى بذكر قصة نبيه صالح الرسول الثاني من العرب الذي اختاره لهداية ثمود وهي قبيلة من قبائل العرب مساكنهم بالحجر من أرض الحجاز مما يلي الشام بالقرب من خليج العقبة فقال: ﴿وإلى ثمود﴾ أرسلنا: ﴿أخاهم صالحًا﴾ يدعوهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة فصدع بالأمر: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ أي الجئوا بدعائكم وطلب العون في حياتكم وقضاء حوائجكم إليه فإنه: ﴿ما لكم من إله غيره﴾ أي ليس من يستطيع أن يحقق لكم أمانيكم أحد سواه: ﴿هو أنشأكم﴾ أي بدأ خلقكم: ﴿من الأرض﴾ بخلق أبيكم آدم من طينها ثم جعل خلقكم من النطفة التي تتحول في الرحم إلى علقة فمضغة فهيكل عظمي يحيط به اللحم والدم: ﴿واستعمركم فيها﴾ أي جعل على يدكم عمارها بمختلف المباني الضخمة حيث وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا﴾ ولولا ما آتاكم الله من القوة والقدرة على النحت ما استطعتم ذلك: ﴿فاستغفروه﴾ على ما بدر منكم من اعتزاز بالقوة وكفر بالله: ﴿ثم توبوا إليه﴾ أي أقلعوا عما نهاكم عنه مما لا يرضيه: ﴿إن ربي قريب﴾ من عباده بما له من جميع القوى المهيمنة على جميع الموجودات والتي هي الأصل في كافة الذرات: ﴿مجيب﴾ لدعاء من دعاه وفقًا لما قطعه على ذاته العلية من وعد لن يخلفه حيث قال: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ أما غيره من الأصنام التي تدعونها فإنها لا تسمع ولا تجيب: ﴿قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًا﴾ أي كنت موضع رجاءنا لحل مشاكلنا والحكم بيننا لما لك من المكانة السامية في نفوسنا ولما اتصفت به من الرأي الصائب والعقل الناضج: ﴿قبل هذا﴾ أي قبل أن تدعونا إلى تبديل ديننا أما وقد بلغ بك التهور إلى جد التسلط على عقولنا والتحكم في عقائدنا فقد انتفت ثقتنا بك وانقطع رجاؤنا منك: ﴿أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا﴾ أي كيف تجرأ على تزييف من هم أكبر وأرجح عقلًا منك من آبائنا وتظن أنا من البساطة بحيث ننقاد إليك ونتبعك ونؤثرك على ما تلقيناه عنهم: ﴿وإننا لفي شك﴾ أي والحال إنا لواقعون في شك: ﴿مما تدعونا إليه مريب﴾ أي بجعلنا نتهمك ونظن
قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى» وما أخبرنا به جل وعلا من أعمال الشياطين والملائكة بقوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ وما حكاه لنا من قدرة العفاريت ومن له علم من الكتاب على فعل المعجزات من نقل العروش من مكانها إلى مسافات بعيدة في أسرع من لمح البصر حيث قال تعالى حكاية عن نبيه سليمان مع بلقيس ملكة سبأ عندما: ﴿قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به من قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم﴾ وقد أثبتت الحوادث كل هذا وجاء العلم اليوم بكثير من خوارق العادات بما اخترعه العلماء من نقل الحديد بالطائرات ونقل الصور والأصوات، إلى جميع الجهات في لحظات ولم يعد هنالك أي شك في قدرة الإنسان على الإتيان بشبه المعجزات إذا ما صفت نفسه واتصلت بعالم القوى عن طريق الروحانيات أو دراسة سنن الكائنات ولم تعد خوارق العادات دليلًا على القرب من الله بل إنها أصبحت من منتجات العلم واستخدام قوى الله، وربما كانت من الفتن التي توجد في النفس شيئًا من الغرور، مما يؤدي إلى سوء المصير فالولاية في ذاتها لا تفيد الولي نفسه في دنياه وآخرته حتى تنفع غيره والدين لم يفرض علينا إثبات الكرامة لشخص بعينه عدى من كرمه الله في كتابه ولم يسمح لنا بتقليدهم واتباعهم إلا في حدود ما أمر الله به من العبادات وقد عرف الله لنا أولياؤه الصالحين بما يسهل لكل إنسان أن يعتبر نفسه من عدادهم بقوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نزلًا من
الشريعة المحمدية: ﴿أوزارهم﴾ أي جزاء ضلالهم: ﴿كاملة﴾ لا ينقصها نكبة أصابتهم في الدنيا ولا عمل صالح أتوه كما وعد الله عباده المؤمنين بقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾.
﴿يوم القيامة﴾ أي يحملون معهم أوزارهم يوم القيامة لينالوا عليها جزاءهم: ﴿ومن أوزار الذين يضلونهم﴾ أي ويحملون أيضًا بعض أوزار الذين كانوا هم السبب في ضلالهم: ﴿بغير علم﴾ من العوام الذين كانوا يصدقونهم في مزاعمهم ولا يعلمون أنها من الضلال فيشاطرونهم الوزر والعذاب وهو بمثابة التنبيه على أن تقليد العامة للعلماء المضلين لا يكون عذرًا لهم أمام الله وإن العالم الذي يمكنه أن يبحث ويميز بين الحق والباطل ويقصر في هذا الواجب ويرضى لنفسه أن يكون مقلدًا في الضلال فإنه يحمل وزره كاملًا ووزر من قلده وضل بضلاله يوم القيامة: ﴿ألا ساء ما يزرون﴾ أي بئس شيئًا يزرونه ما ذكر: ﴿قد مكر الذين من قبلهم﴾ أي ولقد سبق للأمم السابقة أن دبروا المكائد واخترعوا الحيل الفاسدة لتغطية الحقائق والطعن فيما أنزل على رسلهم من الكتب: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ أي فكان جزاؤهم أن الله قد أفسد مكائدهم من أساسها ولم ينجهم من ضرها بل أنزل بهم من العذاب ما لم يتصوروه شأنهم في هذا شأن كل بنيان يقيمه أصحابه على غير أساس متين، ويحسبون أنه من القوة بحيث يمكنهم البقاء فيه آمنين، لا يلبث أن تتصدع قواعده ويهوي سقفه على ساكنيه فيهلكوا أجمعين وهم لا يشعرون.: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم﴾ أي يرميهم بذل الخزي على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم وهذا العذاب أشد وقعًا على النفوس من عذاب الأبدان: ﴿ويقول﴾ الله لهم موبخًا وفاضحًا: ﴿أين شركائي الذين كنتم﴾ تتخذونهم شركاء لي في نفعكم وضركم وكنتم: ﴿تشاقون﴾ بفتح النون وقرئ بكسرها: ﴿فيهم﴾ أي تخاصمون الأنبياء ودعاة التوحيد الخالص في شأنهم إذ تزعمون أنهم سيشفعون لكم عندي ويخلصونكم من عذابي فليتقدموا بالشفاعة لكم: ﴿قال الذين أوتوا العلم﴾ من الأنبياء وأنصارهم: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ ولئلا يظن أن المراد بالكافرين الذين ينكرون وجود الله أو حتى وحدانيته ظاهرًا لا باطنًا عرفهم بقوله: ﴿الذين تتوفاهم﴾ وقرئ «يتوفاهم» بالياء بدل التاء: ﴿الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ أي حالة كونهم مصرين على ضلالهم بزعمهم أن لله أشخاصًا يمكن الانتفاع بجاهم وشفاعتهم: ﴿فألقوا السلم﴾ أي فاستسلموا
الكريم مناقبهم وفضائلهم الكسبية والوهبية، وأمر بالاقتداء بها حيث قال تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ وبهذا اجتمع له عليه الصلاة والسلام من الكمال في شتى النواحي ما كان متفرقًا فيهم، وقد شهد الله له ﷺ بأنه لم يشذ عما كان عليه أولئك الرسل، وأنه كان متعبًا لكل ما يوحي به إليه من القرآن، وأنه كان مصدقًا لما كان عليه سائر المرسلين من قبل، حيث قال تعالى: ﴿قل ما كنت بدعًا من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين﴾.: ﴿بل جاء بالحق وصدق المرسلين﴾ فهو خاتم النبيين وآخر الصلة من البشر بين الخالق والمخلوقين، وقد ختم الله بنبوته اصطناع الأنبياء وقفل باب الرسالة في وجوه الأدعياء فلم يعد يصطفي لهذه المنزلة والمقام الرفيع إنسانًا وسوف لا يؤتى غيره من البشر قرآنًا وكان فيما أتى به من أخبار الأمم السابقة حجة قائمة على أنه من علام الغيوب، وإلا فمن أين له كل تلك الأخبار، وهي لم تدون في كتاب من الكتب السابقة قبل كما وردت في القرآن الكريم؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» ومن أجل هذا انقطع نزول الوحي بعده بقصد الرسالة إلى الناس ويراد به التكليم الإلهي الوارد في قوله تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب * أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم﴾.
وقد وصفه الرسول الأعظم ﷺ عند ما سأله الحارث بن هشام بقوله: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول» وهذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى وقد وقف الله تعالى نزوله بعد خاتم الرسل. وحظر على الناس أن يزعموا نزوله عليهم لما في ذلك من كذب عليه تعالى، إذ الوحي بهذا الشكل حق لا مرية فيه. أما غيره من أنواع الوحي كالرؤيا والإلهام، فقد يكون حقًّا من عند الله، وقد يكون بتأثير نفسي، أو توجيه من الشيطان. ومن أجل هذا حذر الله جل وعلا عباده من الكذب عليه ونسبة شيء إليه عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيءٌ﴾ ولهذا لما ادّعى مسيلمة بن حبيب النبوة وزعم أنه قد
الشيء أو لا تريدون فعله فأنتم في الحالتين كاذبون فقد رُوِيَ أن هذه الآية نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد وددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فلما أمروا بالجهاد كرهوا ذلك وشق عليهم أمره كما رُوِيَ أيضًا أنها نزلت في شأن القتال يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر: ﴿كَبُرَ مَقْتًا﴾ المقت شدة البغض: ﴿عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ أي أن تكونوا قوالين غير فعالين في كل ما يصدر منكم روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله ﷺ وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي يا عبد الله تعال أعطك فقال لها رسول الله ﷺ «ما أردت أن تعطيه» قالت تمرًا قال: «أما إنك لو لم تفعلي كتب عليك كذبة».
﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ﴾ بكسر التاء وقرئ بفتحها: ﴿فِي سَبِيلِهِ﴾ أي من أحل نيل رضاه وإعلاء كلمته: ﴿صَفًّا﴾ متحدًا مستويًا منظمًا واحدًا بعد الآخر ولذا كان رسول الله ﷺ يتولى بنفسه تسوية الصفوف في الصلاة والجنود في ساحات القتال ليمرنهم على الطاعة والاتحاد وقد أخذت الدول عنه هذه القاعدة في التعاليم العسكرية إلى ما قبل الحروب التي استعملت فيها الطائرات والمدافع الثقيلة: ﴿كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ أي مثبت ملتصق بعضه ببعض بحيث لا يجد العدو بين أفراده ثغرة ينفذ منها مثل القتال بالسيف في ساحة الحرب القتال أيضًا بالقلم واللسان في الحرب الباردة فإن وحدة الصف في الحرب والمقاومة لها أثرها الفعال في اكتساب النصر كما تقضي بذلك سنة الله في الخلق، والمعنى إذا كنتم مؤمنين حقًّا وأردتم العزة والكرامة فلتكونوا جبهة واحدة فعالين لا قوالين ولتكونوا متحدين لا متفرقين ولا متخاذلين، وهنا أمر الله رسوله أن يضرب للمؤمنين الأمثال على ذلك فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ أي واضرب لقومك مثلًا في مخالفة القول لما ينويه الإنسان في صدره بقصة موسى مع قومه إذ كانوا كلما جاءهم بمعجزة طلبوا سواها وعندما أمرهم بذبح البقرة أظهروا الطاعة ووجهوا إليه عدة أسئلة عنها ليتحرروا من ذبحها ويتخلصوا من طاعته حتى قال لهم: ﴿يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ بمحاولتكم تكذيبي وتزييف معجزاتي وإحراجي ووضع العراقيل دون قيامي بأداء الرسالة التي عهد بها إليّ: ﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ﴾ في سركم: ﴿أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ﴾ بمعنى أني لا أجزم بعلمكم
من نظام حياتهم هذه وعيشًا أحسن من عيشهم هذا المعجبين به: ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ أي لم يسبقنا أحد في الخلق ووضع السنن بمعنى أنا نحن الذين خلقنا الكون من أساسه ووضعنا نظمه ونحن القادرون على تبديل ما نرى تبديله لا معارض لنا: ﴿فذرهم﴾ أي دعهم وشأنهم ما داموا مصرين على كفرهم وعنادهم والاستهزاء بك دون أن يتعظوا بما جئتهم به من البيانات: ﴿يخوضوا﴾ في أحاديثهم بغير علم وبما توحي به إليهم نفوسهم الشريرة المعاندة: ﴿ويلعبوا﴾ لعب ضد جد أي فعل فعلًا لا يجدي نفعًا بقصد اللذة واللهو وإضاعة الوقت: ﴿حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون﴾ بحشرهم فيه بعد انقضاء هذه الحياة وذلك: ﴿يوم يخرجون من الأجداث﴾ أي القبور: ﴿سراعًا﴾ أي مسرعين: ﴿كأنهم إلى نصب﴾ بضم النون والصاد الشيء المنصوب وفي قراءة بضم النون وسكون الصاد وفي قراءة بفتح النون وسكون الصاد: ﴿يوفضون﴾ أي يسرعون بمعنى أنهم جميعًا يتجهون مسرعين إلى موضع معين كأنما هم يعرفونه من قبل: ﴿خاشعة أبصارهم﴾ خافضين أبصارهم مطأطئين رؤوسهم نحو الأرض: ﴿ترهقهم ذلة﴾ أي لحق بهم الذل عند ما تبين لهم ضلالهم وقد رأوا: ﴿ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ أن ينال المحسن فيه جزاء إحسانه بدخول الجنة والمسيئ جزاء إساءته بدخول النار وقانا الله منها برحمته وكرمه.
الغذائية فيوزعها على كل أجزاء الجسم كل بحسب حاجته وهو أيضًا يتولى حراستكم وحفظكم من كل أذى أو سوء لا يريد الله إبقاءكم وفي كلمة: ﴿لَّمَّا﴾ قراءتان الأولى بتشديد الميم والثانية بتخفيفها: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ أي ويستطيع الإنسان أن يتصور هذا ليتأكد منه إذا هو نظر إلى حقيقة خلقه فإنه: ﴿خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ﴾ أي ينصب من الإنسان بسرعة وقوة لا قبل له على وقفه وهو المني: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ﴾ أي العمود الفقري في الظهر ويسميه العامة سلسلة الظهر: ﴿وَالتَّرَائِبِ﴾ عظام صدر المرأة فما هو الذي أحال ذلك الماء الدافق إلى لحم ودم وعروق وأعضاء وهل يتصور أن تتصل كل هذه العناصر وتؤدي واجباتها دون أن يكون هناك حارس يشرف على حركتها ويتعهدها بالعناية والتنظيم بأمر من الله خالقها الذي أقسم أنه وضعه عليها حارسًا: ﴿إِنَّهُ﴾ أي الله الخالق له: ﴿عَلَى رَجْعِهِ﴾ أي الإنسان: ﴿لَقَادِرٌ﴾ يوم القيامة فمن خلقه من ماء وجعل عليه حارسًا لا يعجزه أن يرجعه كما كان: ﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ أي تختبر: ﴿السَّرَائِرُ﴾ هل كانت مطابقة للأعمال فرب فعل يكون ظاهره حسنًا وباطنه قبيحًا وربما كان بالعكس: ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ﴾ على إخفاء شيء والتظاهر بعكسه في ذلك اليوم: ﴿وَلا نَاصِرٍ﴾ يدرأ عنه العذاب: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ التي ترجع الماء إلى الأرض بعد تصاعده منها ذلك أن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتتبخر المياه ثم تتجمع سحبًا فيبسطها الله في السماء فترجعها مطرًا إلى الأرض ويصيب برحمته من يشاء: ﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ التي تتشقق فتبتلع ماء المطر: ﴿إِنَّهُ﴾ أي ما أقسمت عليه من هيمنتي التامة على كل ذرة من ذرات وجودكم: ﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ لا مراء فيه: ﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ أي لا يقصد منه مجرد التخويف والإرهاب فليتصوروا ذلك تمامًا في جميع حركاتهم وسكناتهم وقد جعلت لهم من كامل الخيار ما يجعلهم يفكرون ويدبرون ويفعلون ما يشاءون: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ أي يدبرون في الخفاء أمورًا يقصدون بها الاحتيال والمكر والخداع وإخفاء نور الحق ويعملون على تحقيقها ظنًّا منهم بأنه لا علم لي بها: ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ بعدم الاكتراث بهم وإحالتهم إلى سنن الكون التي أعلمتهم بها من قبل على لسان رسلي والتي تقضي بأن يحصل كل إنسان في الحياة على ما يشاء ويصل إلى غايته وينال جزاء عمله يوم الحساب فلا يعد هذا كيدًا يتعالى الله عنه علوًّا كبيرًا وإنما هو بمثابة تدبير مضاد لإحباط كيدهم: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا تدع عليهم باستعجال