﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ أي أنهم من فرط إيمانهم بالغيب يدر كون أن ما هم فيه من رزق سواء أكان حلالًا أم حرامًا ما هو إلا من محض كرم الله وإحسانه الذي يسر لهم سبله، وأقدرهم على نيله. ولا ينسبونه إلى مجرد أنفسهم وجهدهم، ولذلك فإنهم يشكرونه بالإنفاق منه على مستحقيه ابتغاء مرضاته، ثم أشار سبحانه إلى الصفة الثانية للمتقين بقوله: ﴿والذين يؤمنون﴾ أيضًا ﴿بما أنزل إليك﴾ من ربك أي يعترفون لك برسالتك عنه، وبالقرآن الذي أخبرتهم بأنه أنزل إليك ﴿وما أنزل من قبلك﴾ على الرسل السابقين من الكتب التي أخبرتهم عنها ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾ اليقين: هو الاعتقاد المطابق للواقع ولا يقبل الشك ولا الزوال. وقد حصل لهم هذا عن طريق الإيمان بما جاء في جميع الكتب من ذكر يوم القيامة والحياة الأخرى ﴿أولئك على هدى من ربهم﴾ في هذه الحياة لأنهم يسيرون على ضوء ما رسمه لهم تعالى من خطط تنفعهم في دينهم ودنياهم؛ وهو سبحانه وتعالى العليم بكل ذلك ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ في الآخرة، لأنهم ساروا وفق السنن التي سنها الله لسعادة الآخرة أما من لم يهتد بالقرآن، ولم يؤمن بالغيب، ولم يصدق بكتب الله المنزلة على رسله. فأولئك لا سبيل إلى هدايتهم. وكدليل على أن القرآن وحده هو سبيل الهداية لمن أرادها عن طريق تقوى الله. قال تعالى: ﴿إن الذين كفروا﴾ بالغيب ولم يؤمنوا بغير المادة ويظنون أنه لا شيء وراء المحسوسات فغنهم ينفرون من ذكر ما وراء ما يشاهدونه من المرئيات، ويهزؤون بمن يقولون بوجود ما لا يصل إليه تفكيرهم ﴿سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ فتلك طبيعة كل من يعتمد في فهمه للأمور على مجرد حواسه الظاهرة من غير تفكير وتدبر في حقائق الأمور، وأسرار الكائنات على ضوء هداية الله. وقد نجم عن إعراضهم عن الإيمان، وكفرهم بالغيب، وعدم اعتدائهم بالقرآن، واعتمادهم على مجرد حواسهم الظاهرة أن ﴿ختم الله على قلوبهم﴾ ليس المراد بهذا أن الله قد طبع عليها بطابع الكفر، وقضى به عليها فلا تؤمن أبدًا كما يتصوره البعض، بل المراد أنها بعدم طلبها الهداية ومقاومتها للدعوة إلى معرفة الله والاتصال به تعطلت فيها هذه الرغبة، وفقدت الأسباب التي تدعوها إلى البحث عن حقائق الإسلام ومحاسنه فلم تعد تفهم شيئًا عنه، ولم يدخلها غير ما رسخ فيها من الكفر، كما تقضي بذلك سنة الله في كل شيء ﴿وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة﴾ أي جعل ستارًا وحجابًا يحول بينهم وبين الاهتداء بما تحت سمعهم وبصرهم من سائر المخلوقات الظاهرة. وكلها تدل على وجود خالق لها وهو الله،
ولذا كان اليأس من استجابة الدعاء وتحقيق الآمال بمثابة العدول عن الطلب الذي من شأنه أن يفسد مفعول الدعاء ويحول دون بلوغه.
وقد جعل اليأس من غفرانه تعالى للذنوب من أعظم السيئات التي تجلب سخطه كما ورد في حديث قدسي عن الله جلت قدرته قوله «وما غضبت على أحد كغضبي على مذنب أذنب ذنبًا فاستعظمه في جنب عفوي» وبلغ من كمال فضله تعالى على الإنسان، وهو يعلم أنه كثير النسيان قليل الجلد على ملاقاة الحدثان، أن أمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يدعو المذنبين إلى عدم القنوط من رحمته، حيث قال: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون﴾. ولا يغرب عن البال أن الرسول ﷺ قد أخبرنا أن هناك من الأسباب ما يحول دون استجابة الدعاء منها أن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم حيث قال ﷺ «ما من عبد يدعو بدعاء إلا أتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» ومنها أن يكون الداعي غير جاد في طلبه أو واثق من نيله أو متجه إلى غير الله بقلبه فالدعاء في هذه الحالات لا يستجاب له لقوله ﷺ «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» ومنها أن يكون الداعي يائسًا من استجابة دعائه في حال تأخر بلوغ المراد حيث قال ﷺ «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي».
وإن مما يؤسف له أن تتوافر كل هذه العلل في نفوس الناس في عصرنا الحاضر مما أدى إلى إبطال مفعوله بل إنهم اتخذوه وسيلة للهو وإضاعة الوقت عن طريق المدائح والتوسلات، والوظائف والأوراد جهرًا في الحلقات، بينما يقول تعالى ﴿ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾. والمراد بالمعتدين في هذه الآية المتجاوزين في الدعاء حد الضراعة فقد امتدح الله دعاء نبيه زكريا ﴿إذ نادى ربه نداء خفيًّا﴾ وثبت في الصحيحين عن أبي موسى
اتجاهك دائمًا نحو الجانب الذي يرضي الله واحذر أن تندفع إلى الجانب الذي حذرك منه فتظلم بهذا نفسك.
ولقد اختلف العلماء في مصير الأرواح والأنفس هل هو الفناء أم الخلود؟ فقالت طائفة إنه الخلود وإنها لا تبلى لأنها روحانية خلقت من الملكوت فإذا صفت رجعت إلى الملكوت وقال آخرون إنها تبلى لقوله تعالى» كل شيء هالك إلا وجهه «.
والذي يظهر لنا على ضوء ما أسلفناه من التفرقة بين النفس والروح، أن الروح قوة من قوى الله فهي خالدة بخلود الله واتصالها بالأحياء عبارة عن اتصال القدرة بالمقدور.
وأما النفس فهي التي تفنى لأنها مخلوقة لها بداية ونهاية، يدل على ذلك قوله تعالى»
كل نفس ذائقة الموت «، و» كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام «وبهذا يكون تفسير قوله تعالى» ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين «أن الموتة الأولى هذه المشهورة وهي للبدن بزوال الحياة عنه والثانية للنفس بالقضاء عليها يوم ينفخ في الصور والحياتين الأولى هذه الحياة الدنيا بنوعيها، والثانية هي الحياة الأخرى وتبدأ من يوم البعث وهي الحياة الدائمة، وما هذه الحياة الدنيا إلا كمقدمة لها، وقد أثبت العلم أخيرًا أن هناك عوالم أخرى غير منظورة في عالمنا الذي نحن فيه منها عالم النفوس أي الموجودات الخفية كالملائكة والجان ومنها عالم الروح أي القوى وهو عالم أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره أعجب من آثار الأبدان، بل إن كل ما في عالمنا من الآثار الإنسانية هو من تأثير تلك العوالم، فالنفوس والأبدان تتعاون على التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتتفرد النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن، ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس.
وقال بعض العلماء الأقدمين إن العلاقة بين الروح والنفس والبدن على أنواع فقد تجتمع الثلاثة في حياتنا العادية، وقد تنفرد الروح بالبدن من غير النفس في حالة النوم سواء كان طبيعيًا أو بتأثير آخر – كالبنج أو التنويم المغناطيسي مثلًا – وقد تتصل النفس بالبدن من غير الروح، وذلك بعد مفارقة الروح للبدن في حالة الموت المعروف وتظل النفس سابحة بمفردها في العالم غير المنظور إلى نهاية هذه الحياة الدنيا، وذلك يوم النفخ في الصور الذي قال عنه سبحانه «ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون»
وإذ ذاك
أعطى للناس حق الدفاع عن أنفسهم بمقتضاه حيث قال: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون﴾. وقد شرع الله الحساب والعقاب وأكد لنا أنه سيجزي الناس بأعمالهم ومن أجل هذا وكل إلى الملائكة أمر تحضير الوثائق والمستندات لإدانة من يستحق الإدانة باستنساخ صور طبق الأصل لكل ما يقول الناس وما يعملون لعرضها في يوم الحساب حيث قال: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ فلا محل للقول بأن فاعل يشاء عائد إلى الله لما فيه من إبطال للمعنى المراد بالحساب وتحضير المستندات.
وكتب لي عالم آخر من باكستان يقول إنه قرأ كتابي فما وجد فيه شيئًا مخالفًا للحق والحقيقة إلا إعادة الضمير في يشاء إلى من لا إلى الله لأن هذا مخالف لما اتفق عليه المتقدمون والمتأخرون وأخاف أن يجعلك العامة والخاصة عرضة لما لا أرضاه لك وقد قال رسول الله ﷺ أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم والقرآن إنما أنزل للناس كافة وفيهم من هو ذو فهم كامل وناقص ومنهم عالم وجاهل وبدوي وحضري وجميعهم فهموا أن الفاعل في يشاء عائد إلى الله فقوله تعالى: ﴿لله ملك السماوات والأرض﴾ إعلانه لقدرته الكاملة وسلطته القاهرة والجملتان بعده ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ كأنهما برهان قاطع وقانع لذلك الإعلان إذ الملك القادر ذو القدرة الكاملة يفعل ويحكم حسب مشيئته لا يتوقف حكمه وفعله على مشيئة المغفور له ولا المعذب وقوله تعالى ﴿والله غفور رحيم﴾ كأنه نتيجة لذلك الدليل والمدلول ولو كان فاعل الفعلين في الآية المذكورة عائدًا إلى من لاختل هذا النسق الحسن. وقد أجبت فضيلته على الموضوع بأن اتفاق المتقدمين والمتأخرين على تفسير كلام الله لا يوجب أن يكون ذلك هو مراد الله بل إن التفسير الصحيح هو ما ينطبق على قواعد اللغة وتؤيده معاني الآيات الأخرى من كتاب الله فالقرآن يفسر بعضه بعضًا. وإن فيما جنحت إليه من التفسير معنى لم يطرقه أحد من المتقدمين وهو أنه تعالى مع أنه المالك لكل ما في الأرض والسماء المتصرف في جميع الكائنات دون معارض سوف لا يستبد فيهم كما هو شأن ملوك الدنيا الظالمين بل إنه تعالى بما له من كامل الحقوق وواسع الرحمة تفضل فشرع دستورًا علق بمقتضاه الغفران والعذاب على مشيئة عباده منة وكرمًا وأرسل وأنزل الكتب لتنذر الناس بأحكامه ووعده ووعيده وإن في قوله تعالى بعد ذلك ﴿والله غفور رحيم﴾ لمعنى آخر يدل على أن رحمته فوق عدله وأنه تعالى من شأنه أن يتجاوز عن سيئات المسيئين بعد
باعتباره رسولًا أمينًا اختاره رب العزة لتبليغ رسالته إلى خلقه وتوضيح ما أشكل فهمه من آياته وتبين شريعته فكل ما يأتي به من الأقوال والأفعال سنة تقتدى وأوامر تطاع إذ هو داخل ضمن ما فوض إليه أمره من قبل ربه وبمقتضى رسالته وقد أعاد الله ذكر لفظ الطاعة إشارة إلى أن السنة أصل من أصول الشريعة الإسلامية بعد القرآن ثم قال تعالى: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ أي جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين الذين يرضونهم الناس في التحكيم بينهم في الأمور الخاصة والعامة من العلماء والرؤساء والزعماء والقادة وأصحاب الرأي من الكتاب والأدباء إذ المفروض في أمثال هؤلاء أن يكونوا من خيار الناس وأن قوله تعالى: ﴿منكم﴾ فيه إشارة إلى اشتراط أن يكون أولو الأمر من جماعة المؤمنين الذين يعملون الصالحات وأن إجماع جماعة المؤمنين هؤلاء يعد إجماعًا للأمة وأن إجماع أولي الحل والعقد من المسلمين على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص من الكتاب والسنة الذين يتعين الأمر بطاعتهما يعد أصلًا ثالثًا من أصول الشريعة الإسلامية ولا يراد به وجوب طاعة كل فريق لما يقضي به سلطانه أو الحاكم عليه وإلا لقال وأطيعوا من ولي الحكم فيكم، ولما كان أهل الحل والعقد ليسوا بمعصومين وإجماعهم على أمر لا يمكن أن يقال عنه إنه مطابق لما يرضى الله فلا يكون قاطعًا وقد يختلف أولو الحل والعقد في الحكم الواحد نبهنا الله جل وعلا إلى هذا بقوله: ﴿فإن تنازعتم﴾ أي: مجموع الأمة مع أولي الأمر أو تنازع أولو الأمر فيما بينهم ﴿في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ وذلك بعرض الموضوع على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من القواعد العامة والسنن المطردة بطريق القياس على الأشباه والنظائر فما كان موافقًا لهما يعد قاطعًا ويجب الأخذ به وما كان مخالفًا فإنه غير صالح ولا يجب الأخذ به ومثل هذا لا يقع في الأحكام الأساسية في الدين وإنما يتصور ذلك فيما يحدث في بعض المسائل
الأخلاق وسائر المكرمات والجامع لخلاصة ما سبقه من الديانات (دِينًا) قيما متمشياً مع العقل والمنطق السليم وبعيداً عن البدع والخرافات وسيء المعتقدات هذا الدين الذي لا يحل غير الطيبات ولا يحرم إلا ما فيه فساد الكائنات (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى مخالفة شيء من أحكام هذا الدين الذي رضيه الله له (فِي مَخْمَصَةٍ) أي في حالة توازي المخمصة وهي سد الجوع التي تخمص البطن بمعنى أنها تشرف على الهلاك حال كونه (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير مائل إليه أو راغب فيه بقلبه أو متجاوز في ذلك قدر الضرورة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذ الإنسان على ذلك لما يعلمه من أمر اضطراره إليه وعدم رغبته فيه بقلبه.
لقد بين الله لرسوله ما يحل وما يحرم من المطعومات والأعمال التي كانت عليها قريش في عهد الجاهلية ولما كانت شريعته عليه الصلاة والسلام متممة لما سبقها من الشرائع وناسخة لبعض أحكامها أخذ يملي سبحانه وتعالى على رسوله قاعدة كلية من قواعد الشريعة الإسلامية التي ينبغي أن يسار عليها في معرفة ما يحل وما يحرم بالنسبة لتلك الشرائع فقال (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) في أثناء تعاملهم مع أهل الكتاب مما هو حلال أو حرام عندهم (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) والطيب كل ما ليس فيه ضرر بالنفس أو الجسم وأما ما يضركم فهو خبيث محرم عليكم وقد شرح الله الخبيث فيما حرمه في الآيات السابقة (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) جمع جارحة وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور بواسطة (مُكَلِّبِينَ) مختصين والمكلب هو مؤدب
<٢٩>
الجوارح ومروض السباع (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ما حل صيده ومع مراعاة استمرار تعهد الجوارح بالتعليم لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت فتصطاد لنفسها ولا تمسك لصاحبها وإمساكها له شرط في حل صيدها له (فَكُلُوا) هذا جواب لقوله تعالى وما علمتم من الجوارح (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تصيده لأجلكم (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ظاهر هذا أن التسمية عند الأكل غير أن ما ورد عن رسول الله يدل على أن المراد بالتسمية عند إرسال الجوارح حيث قال «إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل» وفي رواية «فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك
غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ
يظلمون} أي الذين جاءوا بالسيئات لا يظلمون بمعنى لا تجحد حسناتهم بل تضاعف كما تضاعف حسنات المحسنين فإن رجحت حسناتهم على سيئاتهم دخلوا الجنة بأعمالهم الحسنة التي ضاعف الله لهم ثوابها برحمته لا كما يتصور بعضهم من أنه لا قيمة للعمل في دخول الجنة فالحقيقة أن الذي جعل العمل الصالح سبيل دخول الجنة هو الله برحمته والذي قضى بمضاعفة أجر الحسنة هو الله أيضًا من واسع رحمته فإذا قلنا إن العمل الصالح شرط في دخول الجنة فهذا لا يتنافى مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحدكم عمله الجنة ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك بقوله فمن هم بحسنة فلم يعملها كتب الله له عنده حسنة كاملة فإن هو همّ بها وفعلها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هو همّ بها وفعلها كتبها الله سيئة واحدة» اللهم وفقنا لصالح العمل لنكون أهلًا لرحمتك يا أرحم الراحمين.
لقد اشتملت هذه السورة على بيان ما يريد الله دعوة الناس إليه من التوحيد الخالص وتجنب الشرك ودحض شبه الكافرين ثم أمر رسوله ﷺ بأن يختمها بخلاصة وافية عن المبادئ السامية التي دعا إليها وطبقها على نفسه فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول يا خاتم النبيين لقومك وسائر الأمم ﴿إنني هداني ربي﴾ بمعرفته تعالى بمحض كرمه وبوحي منه ﴿إلى صراط مستقيم﴾ إلى طريق واضح لا اعوجاج فيه ﴿دينًا﴾ أي أن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي جئت به ﴿قيمًا﴾ بفتح القاف وتشديد الياء على وزن سيد أي الذي يسود سائر الأديان ويصحح ما بها من أخطاء كما يتولى قيم الوقف سائر شئونه وقرئ «قيمًا» بكسر القاف وفتح الياء ﴿ملة إبراهيم﴾ أي أن هذا الدين هو الذي هدى الله به إبراهيم إلى معرفته وصيره من أجله إمامًا للناس أجمعين وقد كان إبراهيم ﴿حنيفًا﴾ أي مائلًا عن جميع ما سوى الله مما عليه آباؤه من عبادة الأوثان ﴿وما كان﴾ إبراهيم قط ﴿من المشركين﴾ مع أنه نشأ في محيط كله شرك وضلال الأمر الذي يدل صراحة على أنه لم ينل الهداية إلا من الله نتيجة لرغبته في التعرف إلى مولاه ﴿قل إن صلاتي﴾ التي أصليها بهذا الشكل الخاص والتي أدعوا الناس إلى أن يقلدوني في أوضاعها ﴿ونسكي﴾ النسك في اللغة العبادة ولكنه كثر استعماله في القرآن والحديث في عبادات الحج وخصوصًا منها الذبائح و ﴿محياي ومماتي﴾ أي كل عمل ينفعني في حياتي وبعد موتي ﴿لله رب العالمين﴾
أي من بعد التوبة والإيمان ﴿لغفور﴾ لا يؤاخذ الله الناس عليه فالإسلام يجبّ ما قبله ﴿رحيم﴾ ينعم برحمته على من سلك السبيل إليها من الأعمال الصالحات.
عندما اطمأن موسى على قومه من الهلاك بما علمه من حكم الله فيهم وفي غيرهم من الأمم وأن في الوقت متسعًا لهدايتهم وحصولهم على رحمة الله وغفرانه انشرح صدره وبدأ يفكر في استئناف الدعوة وتبليغ الرسالة حيث قال تعالى ﴿ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح﴾ التي ألقاها من قبل لدراستها والعمل على نشرها وتبليغها لقومه ﴿وفي نسختها﴾ المأخوذة عن اللوح المحفوظ ﴿هدى﴾ إرشاد من الخالق سبحانه وتعالى ﴿ورحمة﴾ من الله ﴿للذين هم لربهم يرهبون﴾ أي الذين يرهبون الله لذاته باعتباره خالقًا لهم قادرًا على أن ينزل بهم العذاب بهم في كل وقت إذا هم عصوه فهم في خوف دائم أبلغ من الخوف من عذاب الله المنتظر يوم القيامة ولكنه لا يجدي إذا لم يقترن بالتوبة ولذا قال موسى لقومه: ﴿يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم﴾.
﴿واختار موسى قومه﴾ جرى المفسرون على أن موسى تخير من قومه بحذف حرف الجر وعندي أن المراد أنه اختار زعماء قومه أصحاب الكلمة فيهم الذين يمثلونهم وكان عددهم ﴿سبعين رجلًا﴾ وسار بهم ﴿لميقاتنا﴾ الذي حددناه لهم للاعتذار عن عبادة العجل والتوبة وتجديد الإيمان لينالوا غفران الله ورحمته فلما أتوا ذلك المكان قالوا لموسى: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة﴾ فصعقوا من هولها ﴿فلما أخذتهم الرجفة﴾ أي ارتعدت فرائصهم حتى ماتوا من الرعب. وخشي موسى أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم فتوجه إلى ربه بالدعاء ﴿قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي﴾ أي حبذا لو اقتضت مشيئتك بهلاكي وهلاكهم من قبل خروجنا فإني طمأنتهم بمغفرتك وجاءوا معي للاستغفار فماذا يقول قومهم إذا لم يعودوا معي وأنا على ثقة بأن هذا لن يكون منك ﴿أتهلكنا بما فعل السفهاء منا﴾ من الذين عبدوا العجل ﴿إن هي﴾ أي الفكرة التي لوحت بصنع العجل وتجسده وخواره لم تكن ﴿إلا فتنتك﴾ أي اختبارك الذي أخبرتني عنه من قبل بقولك ﴿إنا قد فتنا قومك من بعدك﴾. ﴿تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء﴾ أي من شأن الفتنة أن تظهر ما انطوت عليه سرائر الناس من ضلال يستحقون عليه العقوبة أو هداية ينالون بها حسن الجزاء بحسب سنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق وقد تم الاختبار وقضيت
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (١١٦) لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ
أوحي إليه في آخر عهد رسول الله ﷺ فلقبه الرسول بلقب الكذاب وأمر بقتاله، فقاتله أبو بكر الصديق في عهد خلافته، وقتله وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه. وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، كما سمى الرسول ﷺ مدعي النبوة من بعده بالدجال حيث قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كلهم يدعي النبوة». وإن فيما أتى به رسول الله من القرآن الجامع لأخبار الرسل والكتب السابقة التي لم يكن يعلمها هو ولا قومه، والداعي إلى دين يضمن هداية الناس إلى ما يصلح دينهم ودنياهم على مر السنين والأيام دون أن يأتي أحد بعده بمثل ما أوتي لدليل على أنه خاتم النبيين. وفيما أودعه الله من محبة له ﷺ في قلوب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف لغاتهم، وتباعد ديارهم، من مبدأ دعوته حتى اليوم، حبًّا يتجدد ولا يخبو برغم تقادم العهد به، وبرغم تقلص الإيمان من قلوب كثير من المسلمين لمعجزة لله خالدة لقوم يعقلون. أحيانا الله على سنته، وأماتنا على محبته، ولا أحرمنا شفاعته صلى الله عليه وسلم.: ﴿وبشر﴾ التبشير مقابل الإنذار وهو من تمام ما أوحي به إلى الرسول: ﴿الذين آمنوا﴾ برسالتك وما أوحي إليه: ﴿أن لهم قدم صدقٍ عند ربهم﴾ أي أنهم مقدمون عند ربهم لإذعانهم بالوحي وصدقهم في الإيمان في الوقت الذي: ﴿قال الكافرون﴾ عن الرسول الموحى إليه: ﴿إن هذا لساحرٌ مبين﴾ وقرئ «لسحر مبين» أي القرآن الموحى به، والقصد من كل ذلك إنما هو عدم تصديقهم برسالة الرسول وما أوحي به إليه من ربه.
لقد أراد الله جل جلاله تثبيت الإيمان في قلوب عباده ففقد ما يعرض على قلوبهم من شبهات حول القرآن والوحي ثم أخذ يعرفهم بذاته العلية تعريفًا لا يدع مجالًا لإنكار منكر ويشعرهم بمدى سلطانه وتفرده بالحكم بين عباده حكمًا دستوريًا عادلًا لا يشوبه أي تدخل من أحد من خلقه ويحرم على الناس اللجوء إلى سواه فقال: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض﴾ فما من أحد يستطيع أن ينكر وجود السموات التي تعلونا والأرض التي نعيش عليها ولا يمكن للعقل البشري أن يتصور إمكان وجود كل هذه الإجرام دون أن يكون لها خالق فليكن إيمان الجميع أنه سبحانه هو الخالق لها، وهنا تلتقي أفكار كل عاقل ثم إنه تعالى أراد أن يخبرهم بالنظام الذي سنه وطبقه في خلقه للسموات والأرض وليشير إلى ما سنه في خلق كل شيء
بك السوء: ﴿قال يا قوم أرأيتم﴾ أي أخبروني بما ترونه في شأني: ﴿إن كنت على بينة﴾ أي ثقة ويقين: ﴿من ربي﴾ أي بوحدانية الله الذي أدعوكم لعبادته: ﴿وآتاني منه رحمة﴾ أي تفضل علي ووهبني رحمة خاصة منه إذ جعلني نبيًّا مرسلًا إليكم: ﴿فمن ينصرني من الله﴾ أي يخصلني من عذابه: ﴿إن عصيته﴾ بكتمان الرسالة أو ما يسوءكم من بطلان عبادة أصنامكم وتقليد آبائكم وأنا واثق بأنه لا أحد يستطيع ذلك منكم إذن فلا أبالي سواء كنت مرجوًا عندكم أم لا: ﴿فما تزيدونني﴾ بما تقولونه لي وترغبوني فيه للإحجام عن أداء الرسالة: ﴿غير تخسير﴾ أي غير يقين بأني خسرتكم ولا أمل لي في هدايتكم،: ﴿ويا قوم﴾ لا أريد أن أطيل عليكم الكلام وها أني أنذركم الإنذار الأخير: ﴿هذه ناقة الله لكم آية﴾ أي معجزة، قال بعض المفسرين إن وجه إعجازها كونها إنها خلقت من الجبل وإنها من غير أم وأب ولذا نسبها الله إليه وليس هناك ما يؤيد هذا وربما كان الأقرب منه أن صالحًا قد أشار إلى ناقة من ضمن النوق الماثلة أمامهم أراد الله أن يغير أطوارها بشكل غير مألوف ويجعلها تأكل وتشرب في يوم واحد ما يأكل ويشرب القوم أجمعون كما قال تعالى في سورة الشعراء: ﴿قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم﴾ لتكون معجزة لهم خاصة ومثلًا قائمًا على مدى قدرة الله، ولذا قال: ﴿فذروها﴾ لا تعارضوها: ﴿تأكل في أرض الله﴾ في جميع المراعي لا يصدها أحد منكم عن أرضه: ﴿ولا تمسوها بسوء﴾ إذا هي أتت على جميع زرعكم: ﴿فيأخذكم﴾ كلكم: ﴿عذاب قريب﴾. وهنا بدأت الناقة رعيها وأخذت تأكل مما حولها: ﴿فعقروها﴾ أي نحروها دفاعًا عن زرعهم غير مصدقين بالإنذار ولا مبالين بالوعيد: ﴿فقال﴾ صالح: ﴿تمتعوا في داركم ثلاثة أيام﴾ أي إن الله منحكم منه رحمة إذ لم يعاجلكم بالعذاب بل أمدكم في العمر ثلاثة أيام تنعمون فيها بمختلف اللذائذ: ﴿ذلك﴾ أي العذاب الذي أنذرتكم به: ﴿وعد﴾ من الله: ﴿غير مكذوب﴾ على الله بل صادر منه جل وعلا فلا يمكن إلا أن ينفذ: ﴿فلما جاء أمرنا﴾ بإنجاز وعدنا بعذابهم: ﴿نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا﴾ خاصة من العذاب: ﴿ومن خزي يومئذ﴾ بجر الميم وقرئ بنصبها أي ونجيناهم من خزي ذلك اليوم فيما إذا لم يقع العذاب بالكافرين من قومه: ﴿إن ربك﴾ أيها الرسول أو أيها السامع: ﴿هو القوي﴾ الذي لا يعجزه شيء: ﴿العزيز﴾ الذي لا يعاند: ﴿وأخذ الذين ظلموا الصيحة﴾ الصوت الشديد وقد فسرها الله تعالى بالصاعقة التي أحدثت زلزلة في الأرض
غفور رحيم ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين} وبمقتضى هذه الآيات فإنك أيها القارئ الكريم إذ تؤمن بالله وتثق بصدق هذه الآيات يجب ألا يداخلك أي شك فيما أقوله من أن في استطاعتك أنت أن تكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأن تنال سعادة الدنيا والآخرة متى آمنت بالله واستقمت في عملك بمعنى طبقت دستور الله في حياتك وحرصت على اتباع كل ما فيه رضاء ربك والابتعاد عما يغضبه بقدر المستطاع وحذار أن تخدع بمن يزعمون لأنفسهم شيئًا من الكرامات أو العلم بالمغيبات ولا تؤمل في أحد منهم شيئًا من المدد والنفحات أو قضاء الحاجات ولا يداخلك أي شك في أن الإنسان إذا قوي إيمانه بالله أكرمه وحقق له سبحانه جميع الرغبات ولو كانت من خوارق العادات.
بعد أن حكى الله قول الذين كفروا: ﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ ورد عليهم بحصر مهمة رسوله في مجرد إنذار الناس بالقرآن الذي جعله الله المعجزة الوحيدة له والذي هو خاتمة المعجزات الخالدة على ممر الأزمان أراد أن يحطم الأسس التي تقوم عليها دعوى المعجزات وهي العلم بالمغيبات والعون في النائبات ومنح النفع لسائر المخلوقات والتحكم في المقدرات فقال: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ من سائر أنواع المخلوقات من ذكر وأنثى واحد أم متعدد تام التكوين أم ناقصة وما لونه وما شكله وكل جزء من أجزاء جسمه: ﴿وما تغيض الأرحام﴾ أي ما يكون في الرحم من الأسباب الحقيقية لعدم الحمل بتاتًا: ﴿وما نزداد﴾ أي ما يكون سببًا لكثرة الأولاد أو قلتهم مما لا يعلم حقيقته غير الله فليس من حق أحد أن يدعي العلم بشيء من ذلك حتى تكون له معجزة: ﴿وكل شيء﴾ من أي نوع من أنواع المخلوقات: ﴿عنده﴾ أي في نظام الله الكوني: ﴿بمقدار﴾ خاص به فمواعيد الحمل عند الإنسان غيرها عند سائر الحيوانات ولكل حي في الوجود أوصافه ومميزاته الدقيقة عما سواه فمن قدر له أن يكون طويلًا لا يستطيع أحد أن يأتي بمعجزة تجعله قصيرًا ومن قدر له أن يكون أسود فلن يستطيع أحد أن يأتي بمعجزة تغير لونه وتجعله أبيض: ﴿عالم الغيب﴾ أي ما وراء الماديات من عالم القوى وما يجول في الخاطر من النيات: ﴿والشهادة﴾ أي ما هو تحت نظر الإنسان من الأمور المشاهدة بالنظر أو المكبرات كالجراثيم «الميكروبات» التي تولد كثيرًا من الأمراض كما قال تعالى «وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين» وفي هذا تنبيه إلى إحاطة علم الله بكل ما بدا
وانقادوا قائلين: ﴿ما كنا نعمل من سوء﴾ في دنيانا وهو كما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين﴾ وذلك نظرًا لأنهم كانوا يعارضون ولا يعترفون في حياتهم الدنيا بأن دعاء غير الله عبارة لما يزعمون أنهم شفعاء لهم عنده وأن التقرب إليه لا يعد شركًا فكان جوابهم أن قال لهم: ﴿بلى﴾ كنتم تعملون أعظم السوء إذ لم تصدقوا قول الله تعالى: ﴿فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ واعتمدتم على شفاعتهم فلم تجدوهم: ﴿إن الله عليم بما كنتم تعملون﴾ أي وقد سبق في علم الله صدور ذلك منكم من قبل خلقكم وقد تأيد العلم بما صدر منكم من عمل فلا محل لجحوده: ﴿فادخلوا أبواب جهنم﴾ فإنها مفتحة لكم: ﴿خالدين فيها﴾ دخولًا لا خروج بعده: ﴿فلبئس مثوى﴾ أي مكان إقامة وخلود: ﴿المتكبرين﴾ عن الرضوخ للحق الذي أساسه الإيمان بأن حكم الله في خلقه قائم على أساسا العدل المطلق الخالي من شوائب الشرك من اتخاذ الوسطاء والشفعاء.
بعد أن بين الله السبب الذي حال دون الكافرين والإيمان بالآخرة وهو عدم اعترافهم بالقرآن كتابًا منزلًا وقولهم عنه إنه أساطير الأولين، وذكر أنهم يحملون أوزارهم وبعض أوزار أتباعهم وعرفهم بأنهم الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم بينما هم لا يعترفون بظلمهم وأخبر أن مصيرهم إلى جهنم أتبع ذلك بذكر ما سيكون من أمر المؤمنين بالله ورسوله وما أنزل عليه وما أعده لهم في الآخرة من نعيم مقيم ليكون وعد هؤلاء مذكورًا مع وعيد أولئك فقال: ﴿وقيل للذين اتقوا﴾ الشرك وكل ما يؤدي إليه: ﴿ماذا أنزل ربكم﴾ في القرآن: ﴿قالوا﴾ أنزل: ﴿خيرًا﴾ أي تشريعًا مفيدًا نافعًا يضمن: ﴿للذين أحسنوا﴾ أعمالهم: ﴿في هذه الدنيا حسنة﴾ لأنه ينظم معاملة الناس ويسعد متبعيه في هذه الحياة وينيلهم كل ما هو حسن من نعم الله: ﴿ولدار الآخرة خير﴾ أي وثواب الآخرة ونعيمها خير مما يناله الإنسان في هذه الدنيا: ﴿ولنعم دار المتقين﴾ أي وأنعم بالآخرة التي هي دار المتقين: ﴿جنات عدن﴾ أي وهي عبارة عن بساتين ذات أشجار مثمرة كثيرة الظل: ﴿يدخلونها﴾ دون أن يتكلفوا بزرعها وإعدادها: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ يمتعون أنظارهم برؤياها: ﴿لهم فيها ما يشاؤون﴾ أي وقد أطلقت لهم الحرية الكاملة في عمل كل شيء، لا حرج عليهم من فعل شيء فليس هناك محظورات أو محرمات خلافًا لحياتهم الدنيا التي كانوا مقيدين بعدة تكاليف: ﴿كذلك﴾ أي يمثل هذا المتاع في الجنة من غير تعب وإطلاق
أوحي إليه في آخر عهد رسول الله ﷺ فلقبه الرسول بلقب الكذاب وأمر بقتاله، فقاتله أبو بكر الصديق في عهد خلافته، وقتله وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه. وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، كما سمى الرسول ﷺ مدعي النبوة من بعده بالدجال حيث قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كلهم يدعي النبوة». وإن فيما أتى به رسول الله من القرآن الجامع لأخبار الرسل والكتب السابقة التي لم يكن يعلمها هو ولا قومه، والداعي إلى دين يضمن هداية الناس إلى ما يصلح دينهم ودنياهم على مر السنين والأيام دون أن يأتي أحد بعده بمثل ما أوتي لدليل على أنه خاتم النبيين. وفيما أودعه الله من محبة له ﷺ في قلوب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف لغاتهم، وتباعد ديارهم، من مبدأ دعوته حتى اليوم، حبًّا يتجدد ولا يخبو برغم تقادم العهد به، وبرغم تقلص الإيمان من قلوب كثير من المسلمين لمعجزة لله خالدة لقوم يعقلون. أحيانا الله على سنته، وأماتنا على محبته، ولا أحرمنا شفاعته صلى الله عليه وسلم.: ﴿وبشر﴾ التبشير مقابل الإنذار وهو من تمام ما أوحي به إلى الرسول: ﴿الذين آمنوا﴾ برسالتك وما أوحي إليه: ﴿أن لهم قدم صدقٍ عند ربهم﴾ أي أنهم مقدمون عند ربهم لإذعانهم بالوحي وصدقهم في الإيمان في الوقت الذي: ﴿قال الكافرون﴾ عن الرسول الموحى إليه: ﴿إن هذا لساحرٌ مبين﴾ وقرئ «لسحر مبين» أي القرآن الموحى به، والقصد من كل ذلك إنما هو عدم تصديقهم برسالة الرسول وما أوحي به إليه من ربه.
لقد أراد الله جل جلاله تثبيت الإيمان في قلوب عباده ففقد ما يعرض على قلوبهم من شبهات حول القرآن والوحي ثم أخذ يعرفهم بذاته العلية تعريفًا لا يدع مجالًا لإنكار منكر ويشعرهم بمدى سلطانه وتفرده بالحكم بين عباده حكمًا دستوريًا عادلًا لا يشوبه أي تدخل من أحد من خلقه ويحرم على الناس اللجوء إلى سواه فقال: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض﴾ فما من أحد يستطيع أن ينكر وجود السموات التي تعلونا والأرض التي نعيش عليها ولا يمكن للعقل البشري أن يتصور إمكان وجود كل هذه الإجرام دون أن يكون لها خالق فليكن إيمان الجميع أنه سبحانه هو الخالق لها، وهنا تلتقي أفكار كل عاقل ثم إنه تعالى أراد أن يخبرهم بالنظام الذي سنه وطبقه في خلقه للسموات والأرض وليشير إلى ما سنه في خلق كل شيء
وإيمانكم حقًّا برسالتي إذ لو كنتم تعلمون أو تؤمنون برسالتي لما حاولتم إعجازي وإيذائي: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا﴾ زاغ البصر: انحرف واضطرب بمعنى أنهم عندما اضطربوا في الرد على هذا السؤال الموجه إليهم من موسى ولم يجرؤوا على نفي إيذائه ومحاولتهم إعجازه: ﴿أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ أي أظهر بذلك زيغ قلوبهم وكشف عن حقيقة أنفسهم وما كانوا يضمرون من كفر وفق سنته تعالى التي عبر عنها الشعراء بالتجارب بقولهم:
@إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
#جُعل اللسان على الفؤاد دليلًا
@وهما يكن من امرئ من خليقة
#وإن خالها تخفى على الناس تعلم
﴿وَاللَّهُ﴾ في دستوره: ﴿لا يَهْدِي﴾ أي لا يمنح الهداية إلى السبيل السوي: ﴿الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي الذين يخرجون عن طريق الحق الذي رسمه الله لهم وأرشدهم إليه والمعنى أن الله قد جعل للهداية طريقًا فمن لم يسلكه فإنه يعتبر غير راغب فيها فليس ثمة من سبيل لهدايته: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ أي واضرب لقومك مثلًا في ضعف الإيمان والتقاعس عن أوامر الله بعيسى إذ قال لبني إسرائيل من بعد موسى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ الذي جاءكم بها موسى من قبل: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ وهو محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ولا نبوة ولا رسالة من بعده وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾.: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم﴾ أحمد: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي بآيات القرآن البينات التي تدل على صحة رسالة من مولاه: ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي أنهم كفروا بها وأبوا أن يعترفوا برسالته وقالوا إن القرآن لا يدل على رسالتك من الله بل يعبر عن مبلغ فصاحتك وبلاغتك من البيان لسحرا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي ومن أقبح ظلمًا: ﴿مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرًا وعدم تحكيمه عقله فيما يعرض في القرآن من حجج وآيات: ﴿وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ﴾ أي بينما هو يدعي من قِبَل ذلك الرسول إلى الإسلام والإيمان بالله لا لشخصه: ﴿وَاللَّهُ﴾ في دستوره ونظامه الكوني: ﴿لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفهسم بعدم طلبهم للهداية عن طريق العقل والفهم لكلام الله وتدبر آياته و {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا
سورة نوح
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (١٢) مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً (٢٠) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً (٢٨)﴾
لقد أخبر الله رسوله في السورة السابقة بما وصلت إليه حماقة قومه وإصرارهم على الكفر حتى إنهم آثروا إنزال العذاب بهم عن الإيمان بما جاء به من الحق. وأمره بالتذرع بالصبر الجميل وتوعد الكافرين بأنواع العذاب في الآخرة وختم السورة بقوله: ﴿إنا لقادرون على أن نبدل خيرًا منهم﴾ ثم أردف ذلك في هذه السورة بذكر قصة نوح وما قاساه من عنت قومه وإغراق الله الكافرين منهم وإبدالهم بمن هم خير منهم فكأنها وقعت موقع التدليل على عظيم قدرة الله على ذلك فقال: ﴿إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم﴾ أي أنه تعالى حصر مهمة نبيه نوح في مجرد الإنذار وقد صدع بأمر ربه و ﴿قال﴾ لهم: ﴿يا قوم إني لكم نذير مبين﴾ من قبل الله
العذاب والهلاك،: ﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ أي إمهالًا قليلًا لعلهم يتعظون ويهتدون ولا تهددهم بعنف وشدة فيركبون رءوسهم من الغيظ فلا يرجى صلاحهم بالمرة.
سورة الأعلى
مكية عدد آياتها تسع عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥) سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى (٦) إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٧) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾.
بعد أن أكد الله في سورة البروج علمه بكل ما حصل ويحصل من الظالمين وبين في السورة التي قبل هذه مبلغ سيطرته وهيمنته على جسم الإنسان أخذ يملي على رسوله واجب الإنسان حيال ربه، وخطاب الله لرسوله محمد خطاب للناس كافة الذين أرسل إليهم فقال: ﴿سَبِّحِ﴾ أي مجد: ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ بمعنى اعترف له بالفضل في سرك وجهرك: ﴿الأَعْلَى﴾ منك مقامًا ومكانًا فهو مشرف على جميع حركاتك وسكناتك: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ كل شيء: ﴿فَسَوَّى﴾ أي أقام أمره بحسب ما يلزمه ويصلحه وهو: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ﴾ الأحكام وفرض العقوبات وسن السنن ومهد الطرق للخير والشر معًا فجعل جزاء الإيمان الجنة وجزاء الكفر النار وجعل النار تحرق والسم الكثير يقتل وبعض الأعشاب تشفي السقم ومختلف الأمراض وصير السعي وسيلة للرزق وهكذا: ﴿فَهَدَى﴾ الناس إلى ما يضرهم وما ينفعهم بما وهب لهم من نعمة العقل الذي يميزون به النافع من الضار والغث من السمين،: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ أي ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزرع والعشب: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً﴾ أي هشيمًا باليًا بعد مدة وزمن محدود: ﴿أَحْوَى﴾ أي متغيرًا لونه وفي هذا إشارة إلى أنه هو الذي جعل من سننه الموت بعد الحياة: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ أي سنهب لك ملكة القراءة ونجعلك قارئًا فقط ولا سبيل لتدوين معلوماتك عن طريق الكتابة ومن أجل هذا سنجعلك قوي الذاكرة:


الصفحة التالية
Icon