وهذه الغشاوة هي أيضًا نتيجة عدم رغبتهم في الاستدلال بها على وجود خالقها جل وعلا وفي إمكان كل كافر من العلماء الماديين والمخترعين في عصرنا هذا أن يزيل هذه الغشاوة عن سمعه وبصره، وذلك بتوجيه أفكاره في عظمة الإله الخالق ودقة صنعه ونظامه الكوني العجيب، ويتخذ من ذلك سبيلًا إلى الإيمان به وطلب الهداية منه عن طريق هذا القرآن ليكون من المهتدين ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ في الآخرة جزاء إعراضهم عن طلب الهداية عن الطريق الذي سنه الله لها وهو القرآن الذي أنزله خصيصًا لهذه الغاية.
بعد أن ذكر الله حقيقة المتقين والكافرين، وما قضت به سنته تعالى في حقهم، أخذ ينبه الأفكار إلى أن هناك نوعًا آخر يدَّعون الإيمان بألسنتهم دون قلوبهم، بينما هم قوم معتدون بأنفسهم، متحررون في أفكارهم، مستهزئون بغيرهم، لا يعتقدون بوجود الله، ولا يدينون بدين، وإنما يسعون في الحياة لإشباع شهواتهم، ويجاملون كل فريق لقضاء مصالحهم، ويهزؤون من كل صاحب دين، ولا يكترثون بحساب ولا عقاب. فقال ﴿ومن الناس من يقول﴾ قولًا لا يعتقد بصحته، ولا يقصد حقيقته هو ﴿آمنا بالله وباليوم الآخر﴾ بألسنتهم لا يتجاوز إيمانهم حناجرهم، ويحسبون بذلك من المؤمنين ﴿وما هم بمؤمنين﴾ حقًّا وهم يظنون أنهم بإعلان الإيمان باللسان دون القلب ﴿يخادعون الله﴾ العليم بما يقصدون من وراء هذا القول من أهداف ﴿والذين آمنوا﴾ من قومهم لإرضائهم واستمالتهم إليهم ﴿وما يخدعون﴾ في الواقع ﴿إلا أنفسهم﴾ لأن دعواهم الإيمان بألسنتهم خدعة لا تجعلهم في عداد المؤمنين، ولا تخفى على الله المطلع على السرائر، ورضاء المؤمنين عنهم في هذه الحياة لا يقيهم من عذاب الله، فهم بذلك قد أضروا أنفسهم ﴿وما يشعرون﴾ بمبلغ الضرر الذي تردوا فيه لأن هذه المخادعة منهم دليل على عدم معرفتهم لله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع ﴿في قلوبهم مرض﴾ ومرض القلب هو عدم طمأنينته واستقراره ﴿فزادهم الله مرضًا﴾ إذ ابتلاهم بمرض الخوف من الناس فهم في حذر دائم، وعدم اطمئنان من افتضاح سرهم ولذا تراهم على الدوام ينافقون ويداهنون ﴿ولهم عذابٌ أليمٌ﴾ في الآخرة ﴿بما كانوا يَكذبون﴾ بفتح الياء وتخفيف الدال وقرئ (لا يُكذّبون) بضم الياء وتشديد الذال أي في دعوى الإيمان بقصد تضليل البسطاء ﴿وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض﴾ أي انتهوا عن هذا ولا تشككوا الناس في عقائدهم ولا تغيروا نفوسهم وأفكارهم بما تبثونه فيها من إلحاد وضلال ومبادئ عدامة مغايرة
الأشعري رضي الله عنه قال كنا مع النبي ﷺ في سفر فجعل الناس يجهدون بالتكبير فقال الرسول ﷺ «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم» وروى أحمد وأبو داود عن ابن أبي وقاص أنه سمع ابنًا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها وكذا وكذا. وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت من شر كثير وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم» ولقد صدق رسول الله وأصبحنا في وقت استخف الناس فيه بالدعاء واعتدوا فيه وصاروا يرسلونه من أفواههم بلا حساب ومن غير قصد ودون يقين بالإجابة أو تصور لله أثناء ترتيلهم لحزب البر والبحر، وما أشبه ذلك من الأدعية ودلائل الخيرات من غير وعي كالببغاء ففقدنا بهذا أعظم سلاح ندرك به مدد الله.
وعندما أخبر الله المؤمنين بأنه كتب عليهم الصوم في شهر رمضان باعتباره هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وعلموا أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر حسبوا أن الجماع فيه يخل بحرمته ولو كان ذلك بعد وقت الإفطار لأن ذلك مما لا يتفق مع ما عليه الصائم في النهار من تقوى وعبادة فصاروا لا يباشرون النساء طوال شهر رمضان ليلًا، وكان منهم من إذا صام رمضان فأمسى ونام حرم على نفسه الطعام والشراب حتى يفطر من الغد، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهاهم عن كل هذا ويبين لهم الحكمة فيه حيث قال ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث﴾ وهو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة وقرئ ﴿الرفوث﴾ ﴿إلى نسائكم﴾ إذ ﴿هن لباس﴾ من الملابسة وهي المخالطة ﴿لكم وأنتم لباس لهن﴾ وذلك لأن الرجل والمرأة يعتنقان عادة بالليل ويضم كل واحد منهما إلى صاحبه كالثوب الذي يلبسه، فمن الحرج العظيم الامتناع عن المباشرة ومن أجل هذا أحلها الله بالليل للصائمين ﴿علم الله أنكم﴾ بتحريمكم الجماع على أنفسكم من غير أن يأمركم الله بهذا ﴿تختانون﴾ أي تخونون ﴿أنفسكم﴾ وأي خيانة للنفس أعظم من صدها عما أحل الله لها وإيهامها بأن في ذلك
تبدأ الحياة الأخرى، وفصلوا الأمر بقولهم: إن الله قد جعل الدور ثلاثًا، دار الدنيا ودار البرزخ، ودار القرار، ووضع لكل دار أحكامًا تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأنفس تبع لها ولذلك جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافها، وجعل أحكام البرزخ على الأنفس والأبدان تبع لها، فكما تبعت النفوس الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت لألمها والتذت وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان النفوس في البرزخ في نعيمها وعذابها، وكما كانت النفوس هنا خفية والأبدان ظاهرة فستكون النفوس هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها، وتجري أحكام البرزخ على النفوس التي تباشر أسباب النعيم والعذاب فتسري منها إلى الأبدان، وضربوا لذلك مثلًا بحال النائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على نفسه أصلًا والبدن تبعًا لها، وقد يقوى حتى يؤثر على البدن تأثيرًا مشاهدًا فتراه يقوم من نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، والسر في هذا أن الحكم لما جرى على النفس استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس فإذا كانت النفس تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد النفس هناك أكمل وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع فإذا كان يوم الحشر في دار القرار تتحد النفوس مع أبدانها ويشتركان في الشعور بالنعيم والعذاب ويصير الحكم عليهما معًا مباشرة ظاهرًا باديًا.
ومما يستدل به على التمييز بين النفس والروح قوله تعالى «وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار» وقوله تعالى «الله يتوفى الأنفس» أي بفقد حاستها وعاقليتها «حين موتها» أي ينتزع النفوس من أبدانها التي فقدت الحياة «والتي لم تمت في منامها» أي وفي حالة النوم أيضًا «ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى» أي ويعيد نفس النائم إلى بدنه الحي لتتبوأ مركزها فيه إلى موعد معين، وإمساكه سبحانه وتعالى للنفس التي قضي عليها الموت لا يمنع ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردًا عارضًا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا، وكما أن النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ لأنها من غير نفس فلا يحس ولا يشعر مع أنه يتحرك وقد يمشي ويتكلم، كذلك الميت إذا أعيدت نفسه إلى جسده كانت له حياة أخرى عكس حياة النائم فإنه
ذلك ولكنه أجل من أن يعذب الطائعين بما له من كمال القدرة والسلطان فهذا ما يتنافى مع عدله ولم يكن داخلاً ضمن نظام مشيئته فهو القائل ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون﴾ ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾. والآيات في هذا الباب كثيرة تؤيد هذا المعنى وهو في نظري أحسن من النسق الذي جرى عليه المفسرون والذي قلتم كأنه برهان قاطع وقانع لإعلان قدرته الكاملة وملكه وسلطته القاهرة لأن ذلك مما لا يحتاج إلى برهان وإني بهذا إنما أثبت الناس كامل الخيار وأحضهم على عمل الصالحات ولا أنكر أن علمه تعالى سابق أزليًا لأعمال العباد وما تقتضيه رحمته بمن يريد منهم.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الإيمان بهذه الحقيقة عن طريق فهم كلام الله على النحو الذي أوضحناه وتنزيهه تعالى عن الحكم الكيفي القائم على مجرد الرغبة والإرادة وأن نقنع الناس أن كل ما يصيبه الإنسان في الحياة وبعد الممات عائد إلى محض إرادته الشخصية وعمل يده وفق دستور الله ومقتضى عدله لا إلى إرادة الله خالقه فهذا هو المنطق والقول الحق الذي جاء به القرآن الذي: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾.
ولئن كان موضوع القضاء والقدر قد سبب زلل كثير من العلماء السابقين وانتسابهم إلى فرق قدرية وجبرية ومعتزلة فإن تأثر الناس بما يقوله بعض العلماء من أن الله جل وعلا غير مقيد بما قطعه على ذاته العلية من وعده بإدخال الطائعين الجنة والكافرين النار بل إنه لا مانع يمنعه أن يفعل العكس لأنه الحاكم المطلق الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون هو الذي حملهم على تشبيهه تعالى بملوك الدنيا وتلمس الوسطاء له والشفعاء لديه وهو الذي أبعدهم عن الإيمان الكامل بعدله وصدق وعده وهم لا يشعرون.
لقد نهى الإسلام عن عبادة الأشخاص وتقليد الآباء في العقائد والأقوال وأمرنا أن نجل الله عن كل نقيصة ونقدسه عن كل ما يزري بمقامه العظيم فما بالنا نرضى أن ننسب إلى حكمه بين عباده ما لا يرضاه ملوك هذا العصر لأنفسهم وطريقة حكمهم؟
الفرعية فإن لم يكن هذا يعمل بالإجماع ولذا كان القياس أصلًا رابعًا من أصول الشريعة الإسلامية وإن كان هو في نفس الوقت بمثابة شرط ـ في صحة الإجماع، أي احصروا طاعتكم فيما يأتي من الله أولًا ومن رسوله ثانيًا وما يأمر به أولو الحل والعقد من المؤمنين ثالثًا بشرط أن لا يكون مخالفًا لما جاء في الكتاب والسنة رابعًا لا تخضعوا بقلوبكم لغير ذلك من الأحكام القائمة على أساس الهوى والشهوات والتي تملى عليكم من الأمراء والحكام المستبدين لقوله صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبه أو كرهه إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» ﴿إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ ـ هذا إشارة إلى أن الطاعة يجب أن تكون ناشئة عن خوف من الله واتقاء عذابه في الآخرة لا أن تكون منبعثة عن الخوف من أذى الحكام في هذه الدنيا فذلك ما لم يأمر الله به ولا يعد الخروج عليهم من أجله معصية الله بل إن تقويمهم وإصلاح ما أعوج منهم يعد من أكبر درجات طاعة الله فإن من أفضل الأعمال عند الله كلمة حق عند سلطان جائر ﴿ذلك﴾ أي وجوب الطاعة وحصر السلطة في الله والرسول والرجوع إلى ما جاء عنهما من الأحكام وبعبارة أخرى العمل بشريعة الإسلام ﴿خير﴾ لكم من تأسيس حكومتكم وإصلاح جميع شئونكم وأنفع من كل ما عداه من النظم الوضعية حتى الدستورية منها التي تجعل الأمة مصدر السلطان ونوابها هم أصحاب الحق في التشريع من دون الله العالم بما يصلح شئون الناس ويقيم العدل وينشر الأمن والسلام بينهم ﴿وأحسن تأويلًا﴾ أي مالًا وعافية ـ لأنه قانون ثابت لا يتغير ولا يتبدل باختلاف الحكام وتنازع السلطات.
بعد أن أمر الله عباده المؤمنين بالطاعة ووجوب حصرها في الله والرسول وأولي
لا تدري أيهما قتله» وفي رواية «فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره» وقد روى البخاري والنسائي عن عائشة أن قوماً قالوا يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال «سموا عليه أنتم وكلوا» وهذا يؤيد أن المراد بالتسمية عند القتل وأنه في حال الجهل يكتفي بالتسمية عند الأكل. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أيها المؤمنون بتحري تنفيذ ما أمركم به فلا تأكلوا ما حرّم من الخبيث الضار ولا ما صادت الجوارح غير المعلمة المتمرنة أو التي لم تذكروا اسم الله عند إرسالها بل لابد من مراعاة الدقة في تطبيق أحكامه جل وعلا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فإنه تعالى قد وضع للكائنات سنناً لا تخطيء وأنظمة لا تتغير وربط المسميات بالأسباب ورتب الجزاء على أحكامه القدرية في الدنيا والآخرة معاً فإن من المعاصي ما يزيل النعم ويوجب العذاب في الآخرة (الْيَوْمَ) أي في هذا الوقت الذي أكملت فيه الشرائع وأوقف فيه إرسال الرسل (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) جميعها فلم يعد هناك محل للتشديد على أنفسكم ولا الأخذ بمن يحرم عليكم شيئاً منها (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوها أو صادوها كيف ما كانت تذكيتها وصيدها ولا محل لما يراه بعض المتشددين في
<٣٠>
في عصرنا هذا من أن العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب كالتوراة والإنجيل قبل التحريف والتبديل دون من ينتمي إليها وهي محرفة كما هو الحال الآن ذلك لأن الله تعالى قد أحل كل طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهن على الحال الذي كانوا عليها في زمن التنزيل وقد وصفهم الله فيه بأنهم حرفوا كتبهم ونسوا حظاً مما ذكروا به وأكل الرسول ﷺ فعلاً من الشاة التي أهدتها له اليهودية ووضعت له السم في ذراعها. وأجمع جمهور الصحابة والتابعين على الاكتفاء بانتمائهم إلى النصرانية حتى روى ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله قال ابن زيد أحل الله طعامهم ولم يستثن شيئاً وقال أبو الدرداء اللهم عفواً إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم وأمر بأكله (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) لأنهم جميعا يؤمنون بالله كما تؤمنون وإن اتخذوا معه أبناء وشفعاء بخلاف الوثنيين ممن يعبدون غير الله فلا يحل
صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٥)}
لقد جنح المفسرون إلى أن هذه السورة مكية إلا آية واحدة هي قوله تعالى: ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة﴾ فإنها مدنية، وقال آخرون إلا اثنتين نزلتا في المدينة في رجل من اليهود، وقال آخرون إلا ثلاثًا وقال آخرون إلا ست آيات. مع أنه ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «ما نزل عليَّ سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وقد بعث إليّ بها مع جبريل خمسين ملكًا وخمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما يقر الماء في الحوض. ولقد أعزني الله وإياكم بها عزًّا لا يذلنا بعده أبدًا فيها دحض حجج المشركين ووعد الله من لا يخلفه» ويرجع السبب في اختلاف المفسرين حول هذا الباب إلى اختلاف الروايات في أسباب نزول الآيات. وقد قال فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره إنه ثبت أن بعض الآيات كانت تصدق على وقائع تحدث بعد نزولها أو قبله. فتذكر للاستشهاد أو للاحتجاج بها من الواقعة منها، فيظن من سمعها حينئذ من الصحابة ولم يكن سمعها من قبل أنها نزلت في تلك الواقعة. وكثيرًا ما كان يقول الصحابي إن آية كذا نزلت في كذا وهو يريد أنها نزلت في إثبات هذا الأمر أو حكمه أو دالة عليه، فيظن الراوي عنه أنها نزلت عند حدوث ذلك الأمر، والصحابي لا يريد ذلك. وقد نقل السيوطي هذا المعنى عن ابن تيمية والزركشي. والتحقيق أن مثل هذا يعد من التفسير لا من الحديث المسند اهـ. وأحمد الله أني لم أتقيد في تفسيري للآيات بما قيل عن أسباب نزولها لعلمي بأن القرآن إنما نزل دستورًا عامًّا لسائر الناس، فلا يمكن أن يكون خاصًّا بحوادث معينة ولأسباب محدودة. بل ربما يكون الرسول ﷺ قد نطق بالآيات من قبيل الاستشهاد بكلام الله في عدة مرات فأدى هذا إلى اختلاف الروايات. وقد نص الفقهاء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والذي يهمني هو ذكر وجه ارتباط هذه السورة بما قبلها فسورة المائدة قد اشتملت على محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه أو ما ينفرد به كل
أي لا أقصد به غير طاعة الله ونيل رضاه ﴿لا شريك له﴾ في ربوبيته حتى يستحق أن أشركه معه في العبادة والعمل من أجله ﴿وبذلك﴾ أي بإخلاص العبادة لله والتبرؤ من الشرك الجلي والخفي ﴿أمرت﴾ أمرني ربي عن طريق الوحي ولا يعبد الرب إلا بما أمر ﴿وأنا أول المسلمين﴾ أي أول من بدأ بتطبيق ما أوحي به إليه على نفسه من شريعة الإسلام ﴿قل أغير الله﴾ خالق الخلق ومربيهم ﴿أبغي ربًّا﴾ أي أطلب ربًّا آخر أشركه في عبادتي ودعائي والتوجه إليه في سري أو ذبح الذبائح أو نذرها له لينفعني أو يمنع الضر عني ﴿وهو رب كل شيء﴾ أي والحال أنه تعالى رب جميع الموجودات بما فيها تلك الأصنام وصانعوها ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضررًا ﴿ولا تكسب كل نفس إلا عليها﴾ أي والحال أني أعلم أن من دستور الله في خلقه أن لا تكسب كل نفس إثمًا إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ الوزر في اللغة الحمل الثقيل أو الإثم أي لا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها قال ابن عباس: إن المراد لا يحمل أحد ذنب غيره وبهذا ينتفي ما يزعمه النصارى من أن «المسيح» اليسوع قد فدى بصلبه أتباعه من العذاب ولا يتعارض مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» ذلك لأن الجزاء أو العقاب في هذه الحالة لا يكون على عمل الآخرين بل على ما ترتب عليه من أثر في الهدى أو الضلال كما يدل على هذا قوله تعالى: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾ ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» إذ الصدقة والعلم إنما هما من عمل الإنسان نفسه وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم بنص القرآن وصح في الحديث إن ولد الرجل من كسبه والحديث صريح في أن انتفاع الميت إنما هو بدعائه له لا بعمله، يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد» وإنما رُوِيَ عن ابن عباس والسيدة عائشة جواز صيام الولد أو حجه أو صدقته عن والديه ولا سيما إذا كان ذلك حقًّا ثابتًا بأصل الشرع أو نذر أو وصية لأن حقوق الله أحق بالقضاء من حقوق العباد أما قياس عمل غير الولد على عمله فباطل لا أصل له ومثل إسقاط الصلاة عن طريق تمليك جانب من المال إلى الفقراء واسترجاعه منهم لقاء بعض دريهمات فإنه من البدع المنكرة وأما ما جرت به العادة من قراءة الفاتحة أو
فيهم بما قضيت فلماذا أصبت زعماءهم بالرجفة الآن ﴿أنت ولينا﴾ صاحب الأمر النافذ فينا ﴿فاغفر لنا﴾ ما اقترفه القوم من عبادة العجل ولا تؤاخذهم على ذلك ما داموا قد جاءوا إليك مستغفرين ﴿وارحمنا﴾ أي منّ علينا برحمة منك تؤهلنا لطاعتك والعمل بما يرضيك ﴿وأنت خير الغافرين﴾ المتجاوزين عن الذنوب مهما عظمت ﴿واكتب لنا في هذه الدنيا﴾ حياة طيبة ﴿حسنة﴾ تساعدنا على طاعتك والقيام بواجب شكرك ﴿وفي الآخرة﴾ من الجزاء وفق ما وعدتنا ﴿إنا هدنا إليك﴾ أي تبنا إليك وآمنا بك ورجعنا إلى الحق الذي أنزلته لنا وهو بهذا إنما يعبر عن قومه الذين جاء بزعمائهم للاستغفار فرد الله لهم الحياة حيث قال في آية أخرى ﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون﴾، وأجاب على دعاء موسى بما يفهمه أن الرجفة التي أصابت زعماء قومه لم تكن عقوبة على الأمر الذي فتنهم به وهو عبادة العجل فذلك أمر قد انتهى فعلًا وإنما الذي أصابهم كان بسبب ما اقترفوه أخيرًا من إصرارهم على الكفر وقولهم: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ إذ ﴿قال عذابي أصيب به من أشاء﴾ أي من المستحقين له بمقتضى مشيئتي الأزلية فإني لا أعذب أحدًا بغير جرم صدر منه ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ أي أما رحمتي فمطلقة غير مقيدة بنظام المشيئة فقد أمن بها على من أحب لا معارض لي، ولا محل للوم عليّ، وهنا استدرك الله جل جلاله الأمر ولم يرد أن يجعل أمر الرحمة مفروضًا إلى ذاته العليا فحسب بل أراد أن يشعر عباده بمن سيمنحهم تلك الرحمة الواسعة ويرشدهم إلى السنن التي سنها لنيلها حتى لا يتوهموا أنها تنال بمجرد الشفاعة والوساطة دون العمل فكل شيء عنده تعالى بنظام ومقدار حيث قال ﴿فسأكتبها﴾ لأصناف ثلاثة فصلها بقوله ﴿للذين يتقون﴾ الله في سرهم ويخافون بأسه فينتهون عن معاصيه ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي يؤدون ما فرضه الله على أموالهم وأنفسهم من حقوق وإنما خص الله الزكاة بالذكر من دون سائر العبادات لأن التخلي عن المال ابتغاء مرضاة الله هو أكبر عمل إيجابي يدل على تمكن الإيمان من قلب الإنسان، وفي هذا إشارة إلى شدة حب اليهود للدنيا وافتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله فإن من اتصف بهاتين الصفتين من قوم موسى في وقته فسيكتب الله لهم رحمته وأما من يأتي من نسلهم فلا يكتفي منهم هذا لنيل رحمة الله بل لا بد أن يكونوا كما قال تعالى ﴿والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ أي الذين يصدقون بجميع كتب الله المنزلة على سائر الرسل وهم ﴿الذين يتبعون الرسول﴾ الذي يأتي في آخر الزمن ﴿النبي الأمي﴾ أي الذي لم يتلق العلم على أحد
لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٢١) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (١٢٧) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١٢٨) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)}
لم يكتب الصحابة ومن بعدهم البسملة في أولها لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور أما علاقتها بما قبلها فقد ختم الله سورة الأنفال بوضع قواعد العلاقات التي يجب أن تقوم بين المؤمنين وولاء بعضهم لبعض في المناصرة والمساندة وقسمهم إلى أربعة أصناف وأوجب عليهم مناصرة من يستنصر بهم من المؤمنين المقيمين في ديار الكفار في حالة ما إذا اعتدى على دينهم بشرط أن لا يكون للكفار المعتدين سابق عهد مع المؤمنين وافتتحت هذه السورة بتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب والمعاهدات ونبذها، وبناء على ما حدث بين الرسول وكفار قريش من أحداث انتهت بنزول هذه السورة رأيت من الواجب سردها إتمامًا للفائدة وليعلم الناس مبلغ رغبة الرسول ﷺ في السلم وتمسكه بالعهود وأسباب نزول هذه السورة والغاية منها والقواعد التي يجب أن يسار عليها بين المسلمين وغيرهم من المشركين.
بيعة الرضوان
لم يدر في خلد الرسول ﷺ أن يهاجم قريش ويعتدي عليها أو أن يفتح مكة ويخرجهم منها ولكنه رأى في المنام أنه سيدخل المسجد الحرام مع أصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فأخذ يفكر في أمر سفره إلى مكة وذكر ما كانت قريش قد عرضت عليه من صلح على
فقال: ﴿في ستة أيامٍ﴾ أي إنه تعالى قد سن سنة التمهل والتأني في خلقه لها ولكل شيء وجعله سنة بين العباد: ﴿ثم استوى على العرش﴾ لقد اختلف العلماء في معنى الاستواء وتفرقوا شيعًا فقال فريق منهم إنه تعالى استوى على عرشه بمعنى اعتدل واستقام عليه كاستواء الملوك على عروشهم وهؤلاء هم المشبهة الحلوليون الذين لم يدركوا معنى قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ وقال علماء الخلف أن المراد إنه تعالى استولى على عرشه وقد عطلوا صفة من صفات الله التي وصف بها نفسه بمثل هذا التأويل ومن رأي علماء السلف الصالح. إنه تعالى مستو على عرشه استواء يليق بجلاله من غير تكيف وإذا كنا نسلم بأن جميع هذه الموجودات هي من صنع صانع ونؤمن بأنه الله، فلا بد لنا أن نوقن أنه تعالى لم يكن قبل خلق السموات والأرض أحد سواه وأنه تعالى هو القديم الأزلي ولا شك أنه عندما أوجد هذا العالم قد ألقى به في زاوية محدودة من قضائه الواسع غير المنظور أو غير المعلوم لدينا وقد أخبرنا سبحانه أنه جعل فوق سماء هذا العالم عرش ملكه ثم استوى عليه ومعنى هذا أن العالم المادي هو المحدود وأنه أسفل من عرش الرحمن، ومن هنا يجب أن نجزم بأنه تعالى أعلى من جميع المخلوقات علوًا حقيقيًا لا علو مرتبة ولا نستطيع أن نتصور كيفية استوائه على ذلك العرش ولا أن نعين مكانه جل وعلا من هذا العالم، المخلوق المحدود والمعروف الجهة أما الله الخالق فغير محدود ولا معروف الجهة. ويمكننا أن نمثل لذلك ولله المثل الأعلى بأن صانعًا أوجد عدة صناديق من خشب وألقى بها في زاوية مما يملكه من أرض واسعة له ثم صنع كرسيًا من الحديد أكبر من تلك الصناديق ثم وضعه بأعلاها ثم استوى عليه فهل يفهم من هذا ما يحدد مكان الصانع كلا وما الذي يمكن تحديده في هذه الحالة الكرسي والصناديق أم الصانع لها ولا شك إن قول الصانع الكرسي بأنه استوى عليه لا يقيده باستوائه عليه على الدوام كما لا يمكن أن يحدد موضع الصناديق بأكثر من أنها أسفل من كرسي الصانع دون باقي الجهات بالنسبة للفضاء الواسع فالله سبحانه بهذا الاعتبار أعلى من جميع المخلوقات ولا يمكن أن تتصور من قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ أنه جلس عليه أو اتخذ من ذلك العرش محل إقامة دائمة له أخذ على نفسه أن لا يبرحه أبدًا خصوصًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى شطر الليل أو ثلثه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى هل من داع فيستجاب له
ورجفة في القلوب فضعف القوم من الهلع وماتوا، وقد توصل العلم الحديث إلى اختراع القنابل الصوتية من ضمن الأسلحة الحربية: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ أي ساقطين على وجوههم لم ينج منهم أحد: ﴿كأن لم يغنوا فيها﴾ أي كأنهم في سرعة زوالهم لم يقيموا فيها البتة: ﴿ألا إن ثمود كفروا ربهم﴾ فحاق بهم ما حاق: ﴿ألا بعدا لثمود﴾ عن رحمة الله نتيجة إعراضهم وإصرارهم على الكفر والعناد.
لقد ذكر الله قصة إبراهيم عليه السلام في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته هي الأساس لسائر الأديان ومنها ما هو متعلق بإسماعيل وقومه العرب وبناء البيت الحرام وإسكانه هنالك وعلى ذكر ما حل بقوم نوح وهود وصالح من العذاب وما سيذكره عن قصة لوط وإهلاك قومه أتى بذكر أخبار الملائكة لإبراهيم عن ذلك وما جرى أثناء زيارتهم له من أحاديث وما بلغت به امرأته من بشارة كانت مثار تعجب لها فقال: ﴿ولقد جاءت رسلنا﴾ وهم جمع من الملائكة على صورة الإنس: ﴿إبراهيم بالبشرى﴾ أي بقصد إعلامه بالخير دون الشر: ﴿قالوا سلامًا﴾ أي جئنا لنسلم عليك سلامًا: ﴿قال سلام﴾ أي عليكم السلام يعني أنه حياهم بأحسن تحية دون أن يعرف أشخاصهم ولذلك أكرمهم كما يكرم سائر ضيوفه عادة: ﴿فما لبث﴾ أي لم يبطأ: ﴿أن جاء بعجل حنيذ﴾ العجل ولد البقر والحنيذ الذي يشوى في حفرة من الأرض على الحجارة المحماة لا على النار مباشرة وقدمه إليهم ليأكلوا: ﴿فلما رأى أيديهم لا تصل إليه﴾ أي لا تمتد لتناوله والأكل منه على خلاف عادة الضيوف: ﴿نكرهم﴾ أي استنكر عليهم ذلك وشعر بأنهم ليسوا من البشر الذين يأكلون الطعام فلا بد أن يكونوا من الملائكة: ﴿وأوجس﴾ أي توقع نكبة: ﴿منهم﴾ أي من مجيئهم على سورة الآدميين خلافًا للعادة: ﴿خيفة﴾ أي فزعًا أن يكونوا مأمورين بتنفيذ أمر مسيء في قومه وأدركوا هم ذلك من ملامح وجهه: ﴿قالوا لا تخف﴾ فنحن لا نريدك بسوء: ﴿إنا أرسلنا إلى قوم لوط﴾ لإهلاكهم ولوط هو ابن أخيه وأول من آمن به: ﴿وامرأته﴾ أي امرأة إبراهيم: ﴿قائمة﴾ أي كانت في تلك الأثناء واقفة لخدمتهم تسمع ما يقولون وقد أنكرت عدم تناولهم طعامها وكانت خائفة مثل زوجها وما إن سمعت قولهم حتى سرى عنها الحزن: ﴿فضحكت﴾ سرورًا بالأمن من الخوف أو بقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة: ﴿فبشرناها بإسحاق﴾ أي
للعيان وما سيتوصل العلم إلى معرفته مما كان في طي الخفاء فلا يستطيع أحد أن يأتي بمعجزة تجعله يحيط بكل ذلك: ﴿الكبير﴾ الذي يصغر في جانب عظمته كل كبير: ﴿المتعال﴾ وقرئ «المتعالي» بالياء أي المرتفع عن جميع مخلوقاته فهو مطلع عليهم والخلق جميعهم أسفل منه فلا يخفى عليه شيء مما يصدر منهم من قول أو عمل: ﴿سواء منكم من أسر القول ومن جهر به﴾ فإنه تعالى يراكم ويسمع من أحاديثكم ما كان سرًّا أم جهرًا وهو كما قال في آية أخرى: ﴿وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى﴾ بل: ﴿ويعلم ما تخفون وما تعلنون﴾ كما أنه يعلم من أفعالكم كل حركة أو سكون: ﴿ومن هو مستخف بالليل﴾ أي لا يخفى عليه من أعمالكم شيئًا سواء منكم من هو مختف في عقر داره في ظلام الليل الدامس: ﴿وسارب بالنهار﴾ أي ظاهر بذهابه في سربه أي طريقه في وضح النهار فلديه تعالى يستوي أمرهما وعلمه بهما على حد سواء. وهنا أشار تعالى إلى انفراده بالعون عند النائبات فقال: ﴿له معقبات﴾ أي أنه تعالى جعل لكل إنسان ملائكة يعقب بعضها بعضًا لا تنفك عنه: ﴿من بين يديه﴾ أي أمامه: ﴿ومن خلفه﴾ أي من وراءه بمعنى جميع جهاته مهمتهم معه أنهم: ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ لقد تحير المفسرون في إدراك معنى الحفظ من أمر الله مع أن أمر الله نافذ فكيف يحفظ منه ومن أجل هذا قالوا إن المعنى بأمر الله وعندي أن اللفظ جار على مجراه وأن الملائكة تحفظ الإنسان من أوامر الله القدرية ويتجلى مفعول هذا الحفظ فيما أودعه الله في الكرويات البيضاء في جسم الإنسان التي أثبت الطب أن مهمتها الدفاع عن الجسم ضد البرد وابتلاع الجراثيم الضارة التي تفد إليه من الخارج كذلك يتجلى مفعول هذا الحفظ فيما أودعه الله في الكبد من المزايا التي من أهمها إبادة السموم التي تتشكل في جسم الإنسان من الداخل والتي هي من أمر الله وكذلك يتجلى مفعولها في الأسرار التي ينجو بها الإنسان من المخاطر في كثير من الأحوال بطرق لم تكن في الحسبان فتدلنا على أن هناك ملائكة ذوات قوى خفية هي التي كانت سببًا في النجاة فإذا ما حصل حريق مثلًا فلاشك أن الحريق من شأنه أن يهلك سكان تلك الدار وعندئذ تبدو مهمة الملائكة إذ تحرس وتنجي من الموت من لم ينته أجله بعد حيث يقال إن فلانًا نجا بأعجوبة وما الأعجوبة في الواقع إلا حراسة من وكل الله إليهم أمر حفظه من الملائكة، قال سيدنا علي «ما من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق فإذا جاء القضاء خلوا بينه وبين القدر» فليس من حق أحد أن يأتي بمعجزة
الحرية للإنسان فيها: ﴿يجزي الله المتقين﴾ أي الذين راقبوا الله في الدنيا فخافوا عقابه وانتهوا عن كل ما يغضبه وقد وصفهم الله بقوله: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين﴾ أي طاب لهم إخراج الملائكة لنفوسهم من أجسامهم عند نزع الروح منها وفرحوا بلقاء رضوان الله بالوفاة ولم يأسفوا على الحياة ونعيمها الزائل لزهدهم فيها ووثوقهم برحمة الله: ﴿يقولون﴾ أي يقول الملائكة لهم يوم القيامة: ﴿سلام عليكم﴾ أي لا خوف عليكم اليوم: ﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ من أعمال صالحة وعدكم الله بحسن الجزاء عليها والله لا يخلف الميعاد.
بعد أن بين الله السبب في ضلال الكافرين ومصيرهم ومصير المؤمنين أخذ يذكر الكافرين بما هم سائرون إليه حتمًا إذ هم لم يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم فيحل بهم ما حل بمن سبقهم من الأمم فقال: ﴿هل ينظرون﴾ أي ماذا ينتظر المكذبون بآيات الله: ﴿إلا أن تأتيهم الملائكة﴾ الموكول إليهم قبض أرواحهم وانتزاع أنفسهم وهذا أمر محتوم لا مفر منه: ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ باستئصالهم: ﴿كذلك﴾ أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب بالرسل: ﴿فعل الذين﴾ خلوا: ﴿من قبلهم﴾ من الأمم السابقة فأنزل الله بهم عذاب الاستئصال: ﴿وما ظلمهم الله﴾ إذ عجل لهم العذاب بعد أن أنذرتهم رسلهم به: ﴿ولكن كانوا﴾ بعدم تصديقهم لتلك الإنذارات والاستمرار في الضلال: ﴿أنفسهم يظلمون﴾ إذ عرضوها لحلول ما يترتب على ذلك الضلال وفق سنن الله: ﴿فأصابهم سيئات ما عملوا﴾ أي أن الذي أصابهم ما كان إلا نتيجة ظلمهم لأنفسهم وإصرارهم على الأعمال التي تؤدي إلى مثل ذلك المصير: ﴿وحاق بهم﴾ أي أحاط بهم: ﴿ما كانوا به يستهزئون﴾ من العذاب الذي كانت تتوعدهم به الرسل من قبل.
لقد ذكر الله السبب الأول من أسباب إنكار أمر البعث وهو عدم اعتراف الذين لا يؤمنون به بالقرآن كتابًا منزلًا الأمر الذي حملهم على عدم الأخذ بما جاء فيه ثم أردف ذلك بذكر سبب آخر لإنكار البعث هو عدم اعترافهم بالحاجة إلى إرسال الرسل وما يوعدون إليه من عبادة الله، لاعتقادهم بأن الله قد شاء لآدم بالسعادة من الأزل فسعد. وشاء لإبليس الشقاء فشقي، والناس في هذه الحياة مسيرون وفق مشيئته تعالى لا طاعة ولا عصيان فكل شيء من الله ولا قدرة للإنسان على معارضة أمره، ولما كانت هذه العقيدة باطلة وهي منبعثة من وساوس الشيطان الذي هو أول من نسب ضلاله إلى الله حيث قال: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض
فقال: ﴿في ستة أيامٍ﴾ أي إنه تعالى قد سن سنة التمهل والتأني في خلقه لها ولكل شيء وجعله سنة بين العباد: ﴿ثم استوى على العرش﴾ لقد اختلف العلماء في معنى الاستواء وتفرقوا شيعًا فقال فريق منهم إنه تعالى استوى على عرشه بمعنى اعتدل واستقام عليه كاستواء الملوك على عروشهم وهؤلاء هم المشبهة الحلوليون الذين لم يدركوا معنى قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ وقال علماء الخلف أن المراد إنه تعالى استولى على عرشه وقد عطلوا صفة من صفات الله التي وصف بها نفسه بمثل هذا التأويل ومن رأي علماء السلف الصالح. إنه تعالى مستو على عرشه استواء يليق بجلاله من غير تكيف وإذا كنا نسلم بأن جميع هذه الموجودات هي من صنع صانع ونؤمن بأنه الله، فلا بد لنا أن نوقن أنه تعالى لم يكن قبل خلق السموات والأرض أحد سواه وأنه تعالى هو القديم الأزلي ولا شك أنه عندما أوجد هذا العالم قد ألقى به في زاوية محدودة من قضائه الواسع غير المنظور أو غير المعلوم لدينا وقد أخبرنا سبحانه أنه جعل فوق سماء هذا العالم عرش ملكه ثم استوى عليه ومعنى هذا أن العالم المادي هو المحدود وأنه أسفل من عرش الرحمن، ومن هنا يجب أن نجزم بأنه تعالى أعلى من جميع المخلوقات علوًا حقيقيًا لا علو مرتبة ولا نستطيع أن نتصور كيفية استوائه على ذلك العرش ولا أن نعين مكانه جل وعلا من هذا العالم، المخلوق المحدود والمعروف الجهة أما الله الخالق فغير محدود ولا معروف الجهة. ويمكننا أن نمثل لذلك ولله المثل الأعلى بأن صانعًا أوجد عدة صناديق من خشب وألقى بها في زاوية مما يملكه من أرض واسعة له ثم صنع كرسيًا من الحديد أكبر من تلك الصناديق ثم وضعه بأعلاها ثم استوى عليه فهل يفهم من هذا ما يحدد مكان الصانع كلا وما الذي يمكن تحديده في هذه الحالة الكرسي والصناديق أم الصانع لها ولا شك إن قول الصانع الكرسي بأنه استوى عليه لا يقيده باستوائه عليه على الدوام كما لا يمكن أن يحدد موضع الصناديق بأكثر من أنها أسفل من كرسي الصانع دون باقي الجهات بالنسبة للفضاء الواسع فالله سبحانه بهذا الاعتبار أعلى من جميع المخلوقات ولا يمكن أن تتصور من قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ أنه جلس عليه أو اتخذ من ذلك العرش محل إقامة دائمة له أخذ على نفسه أن لا يبرحه أبدًا خصوصًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى شطر الليل أو ثلثه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى هل من داع فيستجاب له
نُورَ اللهِ} الذي يشع من بين ثنايا كتبه وعلى ألسنة رسله: ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي بمجرد طعن يرمونه به ومزاعم يختلقونها بقولهم إنه سحر وإنه كذب: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ أي مظهر حقيقة دعوته في سائر البلاد وكافة العصور والأوقات وكفيل بنفاذها إلى القلوب الطاهرة والعقول المتحررة من تقليد الآباء العصبية الجاهلية: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ بالله وآياته مهما حاولوا كبته وخفاءه أي بالرغم عنهم: ﴿هُوَ﴾ أي الله: ﴿الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ محمدًا بن عبد الله: ﴿بِالْهُدَى﴾ أي القرآن الذي جعله الله سبيل الهداية لمن أراد أن يهتدي: ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الذي هو الإسلام باعتباره آخر الشرائع السماوية: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي لجليه ويعلنه: ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أي جميع الأديان: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ أي الداعون إلى التثليث وأكبر برهان على هذا ما نراه اليوم من قيام معظم الدول المسيحية بإذاعة آيات القرآن الداعية إلى التوحيد الخالص من محطاتها والسماح للمسلمين بالدعوة إلى الله وبيان مزايا الإسلام منها بحيث لم يعد لأحد من النصارى العذر في عدم سماعه أو العلم به ولله الحجة البالغة.
بعد أن أخبر الله المؤمنين بما يبغضه وما يحبه منهم وضرب لهم الأمثال وحذرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى أخذ يرسم لهم طريق السعادة في الدنيا والآخرة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ الإيمان نقيض الكفر أي المصدقين بما أنزل على محمد بن عبد الله: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ أي أرشدكم: ﴿عَلَى تِجَارَةٍ﴾ رابحة مضمونة النتائج: ﴿تُنجِيكُم﴾ بالتخفيف وقرئ بتشديد الياء: ﴿مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فالناس في هذه الحياة إنما يتعاطون التجارة ويعملون لزيادة الربح لغرض واحد قد يحصلون عليه أو لا يحصلون ألا وهو النجاة من محنة الفقر وآلامه وهذه التجارة التي أصفها لكم تضمن لكم النجاة من شيء اسمه عذاب أليم سواء في هذه الحياة أو في الحياة الأخرى وهذه التجارة لا تكلفكم رأس مال كبير قد يعسر عليكم الحصول عليه كلا بل إنه سهل وسهل جدًّا على ثلاث درجات الدرجة الأولى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فالإيمان بالله صلاح ماض قاطع يعمل العجائب ويأتي بالمعجزات ذلك لأن معناه اليقين الكامل بوحدانية الله وإنه وحده النافع الضار الفعال لما يريد ولا راد لحكمه ولا مغير لسنته وهذا ما يحمل الإنسان على أن يكون دائم الصلة بالله في الحياة فلا يرجو غيره ولا يعتمد على سواه بل يلقي بنفسه تحت إشرافه ويتكل عليه الاتكال كله ويسأله بلوغ الآمال وقضاء الحوائج فلا يخيبه الله أبدًا وينال من طمأنينة النفس ما يشعره بحقيقة السعادة.
أبلغكم أنه تعالى يأمركم بثلاثة أشياء الأولى: ﴿أن اعبدوا الله﴾ والعبادة في اللغة الدعاء ومعناه أن يتوجه الإنسان بجميع طلباته صغيرها وكبيرها إلى الله وهو يعتقد أنه لا يملك تحقيقها أحد سواه وهذا هو التوحيد الكامل الذي جاءت به جميع الرسل من عند الله، ولذا قال ﷺ الدعاء مخ العبادة وفي رواية الدعاء هو العبادة.
الثانية قوله: ﴿واتقوه﴾ أي راقبوه بمعنى ثقوا بأنه تعالى مطلع على كل ما تخفون وما تظهرون ولا يخفى عليه شيء من أمركم فاحذروا أن يراكم في أمر لا يرضيه.
الثالثة قوله: ﴿وأطيعون﴾ أي اقتدوا بي فيما آمركم به أو أفعله أمامكم من الأمور التعبدية وثقوا أنكم إذا وافقتم على ما ذكر وطبقتموه بكل دقة فإن الله يعدكم بشيئين أحدهما في الحياة الأخرى وهو أنه تعالى: ﴿يغفر لكم من ذنوبكم﴾ أي كل ما كان من ذنوبكم وهذا من كمال فضل الله إذ لو قال يغفر لكم ذنوبكم لكان معناه أن لا يؤاخذ على مجموع الذنوب ولكنه قد يؤاخذ على بعضها والثاني في هذه الحياة الدنيا وهو قوله تعالى: ﴿ويؤخركم إلى أجل مسمى﴾ أي أنه تعالى يزيد في عمركم حتى تبلغوا الألف بعد أن كانت أعماركم لا تتجاوز التسعمائة وقد دل الله بهذا على أنه تعالى قد جعل لعمر الإنسان في الحياة حدين أو ميقاتين حدًّا أدنى متروكًا أمر تقديره إلى عمل الإنسان يزيد وينقص وفق السنن المقدرة لذلك والتي أخبر الله بها في هذه الآية وقد أكد الرسول ﷺ هذه الحقيقة بما ثبت في الصحيح عنه أنه قال «إن صلة الرحم تزيد في العمر» وإنه «لا يزيد في العمر إلا البر» أما الحد الأكبر أو النهاية الكبرى لعمر الإنسان فهذا ما لا يزيد ولا ينقص وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله: ﴿إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر﴾ ثم قال: ﴿لو كنتم تعلمون﴾ إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أن اتباع أوامر الله مما يؤدي إلى حصول الإنسان على هاتين النعمتين في الآخرة والدنيا ولقد ظل نوح يدعو قومه إلى ما أمرهم به الله فلما يئس منهم شكاهم إلى الله: ﴿قال رب إذ دعوت قومي ليلًا ونهارًا﴾ أي في مختلف أوقاتي: ﴿فلم يزدهم دعائي إلا فرارًا﴾ أي هربًا مني وتباعدًا عني: ﴿وإني كلما دعوتهم﴾ في السر فرادى ومجتمعين إلى العمل بما أمرتني به على سبيل النصح: ﴿لتغفر لهم﴾ أي ليستحقوا مغفرتك كما وعدتهم قابلوني بأربع حالات الأولى أنهم: ﴿جعلوا أصابعهم في آذانهم﴾ أي صموا آذانهم عن سماع كلامي وامتنعوا عن الإصغاء إلي فلم يسمعوا شيئًا مما أقول، والثانية: ﴿واستغشوا ثيابهم﴾ أي تغطوا بها كي لا يسمعوا ولا يروا وجهي
﴿فَلا تَنسَى﴾ شيئًا من كل ما تسمع: ﴿إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾ أي إلا ما قضت مشيئة الله في نسيان مثله من الأمور التافهة التي تعرض على الإنسان في حياته اليومية وليست بذي بال: ﴿إِنَّهُ﴾ أي الله وحده هو الذي: ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ أي إنه الذي تفرد بالعلم بكل شيء وعدم نسيانه: ﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾ هذا عطف على: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ أي نجعلك مندفعًا وموفقًا: ﴿لِلْيُسْرَى﴾ اليسرى الطريقة السهلة خلاف العسرى أي أن جميع أعمالك ستكون وفق مرضاة الله وتؤدي بك إلى أن تكون من أهل اليمين الفائزين ومعنى هذا أنك ستكون معصومًا من الزيادة والنقصان فيما تقول ومن الخطأ فيما تفعل: ﴿فَذَكِّرْ﴾ أي فمن واجبك أن تذكر الناس وتنصحهم وتدعوهم إلى الهدى بأقوالك وأفعالك: ﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ أي في الوقت الذي ينفع فيه التذكير أما في حالة ما إذا لم يجد التذكير فلا تجهد نفسك وتحملها فوق طاقتها في التذكير والنصح بل دع كل إنسان وشأنه فلست عليهم بمسيطر وقد قضت سنة الله في الخلق أنه: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾ أي أن الذكرى لا تنفذ إلا إلى قلب يؤمن بالله ويخشى بأسه: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا﴾ أي يأبى الإصغاء إلى الذكرى: ﴿الأَشْقَى﴾ أي الكثير الشقاء بمعنى المصر على عناده في عدم الإصغاء لقوله الحق وهو: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ أي يدخلها وقد أعدت لأمثاله نار جهنم التي هي النار الكبرى؛ أما النار الصغرى فقد تكون في هذه الحياة ويراد منها ما يقاسيه الإنسان من أنواع المتاعب والعذاب.
﴿ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا﴾ أي من الخصائص تلك النار ألا يموت الإنسان فيها خلافًا لنار الدنيا التي من طبعها أن تميت الناس: ﴿وَلا يَحْيَا﴾ أي أن العذاب يكون فيها مستمرًا لا منقطعًا: ﴿كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب﴾: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ فاز ونال حقيقة السعادة: ﴿مَن تَزَكَّى﴾ أي من زكى نفسه من أدران الكفر والشرك وعمل السيئات بالاستماع للذكرى والاتعاظ بما يتلى عليه من كتاب الله: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾ أي قدر نعمه عليه: ﴿فَصَلَّى﴾ مخلصًا لوجهه الكريم صلاة منشؤها أو الدافع إليها محبة الله والخوف من عقابه: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾ أي وأنتم بفطرتكم كبشر تفضلون: ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي سعادتها العاجلة وزخرفها ولو كان زائلًا: ﴿وَالآخِرَةُ﴾ أي في حين أن الآخرة: ﴿خَيْرٌ﴾ سعادة وهناءة إذ لا عمل فيها ولا إجهاد في طلب الرزق: ﴿وَأَبْقَى﴾ لأن حياة الآخرة لا يعقبها فناء بخلاف الدنيا فإنها حياة يعقبها موت،: {إِنَّ