لسنن الله ومناواة لدستوره السماوي ﴿قالوا إنما نحن مصلحون﴾ نسعى ونجد في عمار الأرض ومحاربة الفقر وتوفير أسباب السعادة للبشر كافة ﴿ألا إنهم هم المفسدون﴾ لعقائد الناس وما جاءهم من الله من أنظمة تفيدهم في دنياهم وآخرتهم وأما ما يدعونه من إصلاح مخالف لما جاء في كتاب الله فهو الفساد بعينه ﴿ولكن لا يشعرون﴾ هم بهذه الحقيقة ما داموا لا يعترفون بوجود الله، ولا بكتبه السماوية ﴿وإذا قيل لهم آمنوا﴾ بوجود الله ووحدانيته ﴿كما آمن الناس﴾ من قوم موسى وعيسى ومحمد بن عبد الله من آبائكم وأجدادكم ﴿قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ من القوم الغابرين المخرفين المتمسكين بالأديان التي اتخذوها أفيونًا للشعوب يخدرون بها أعصاب البسطاء والسذج. ونحن نجل أنفسنا من أن نكون منهم فلا تنطلي علينا ترهاتهم ﴿ألا إنهم هم السفهاء﴾ السفيه: الجاهل الذي لا يبلغ درجة الرشد بحيث لا يهمه إلا إرضاء عاطفته ومنفعة جسمه وإشباع شهوته ولا شك أن كل جماعة يقوم نظام حياتها الاجتماعي على أساس متعة الجسم، واستباحة الملذات فقط دون اعتبار للقيم الروحية والشرائع السماوية ما هو إلا نظام فاسد والمتمسكون به قوم سفهاء لا محالة ﴿ولكن لا يعلمون﴾ هم بسفههم وجهلهم، إذ يظنون أن مجرد العقل يكفي لهداية الناس إلى ما فيه صلاحهم. ومن أجل هذا تراهم يسنون الأنظمة والشرائع المدنية الوضعية على أساس ما يرونه في نظرهم خيرًا، ويحاولون تنفيذ الأحكام وفق ما يقررون، وفاتهم أن الله خالق الخلق هو أدرى بما فيه إصلاح عباده، وأن سلطانهم ورقابتهم على الناس لا تكفي لتنفيذ أحكامهم وأن الدين وحده هو الذي يهيمن على النفوس، والخوف من الله هو الذي يحمل الإنسان في السر على الإذعان لأوامره، وبهذا كان الدين هو الوسيلة الوحيدة لضمان صلاح المجتمع، ونشر السلام العالمي ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ بألسنتهم مجاملة لهم وتليين بينا هم يسخرون منهم في سرهم ﴿وإذا خلوا إلى شياطينهم﴾ الذين يوحون إليهم بتلك المبادئ ويوجهونهم إلى الضلال ﴿قالوا إنا معكم﴾ متحدون في الرأي ﴿إنما نحن مستهزئون﴾ ساخرون بأولئك القوم السذج البلهاء الذين يتمسكون بالأديان ﴿الله يستهزئ بهم﴾ أي في حين أن الله هو الذي يستهزئ بهم ويسخر منهم إذ يراهم يحسبون لأنفسهم شيئًا من القدرة وهو يعلم أنهم في ملكه أضعف من نملة كالهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد ومن دلائل استهزائه بهم أنه تعالى يفسح لهم المجال ﴿ويمدهم﴾ بمختلف العلوم والمعارف التي تساعدهم على الغرور بأنفسهم لينظر ماذا
إرضاء لله بينما هو بذلك يعرضها لسخطه وعقابه لتحريمه عليها ما أحل الله لها ﴿فتاب عليكم﴾ لما يعلمه الله من عدم علمكم وحسن قصدكم واكتفى منكم بإقلاعكم عن عملكم الماضي ﴿وعفا عنكم﴾ وغفر لكم ﴿فالآن﴾ بعد أن ظهر لكم أن لا منافاة بين حرمة هذا الشهر والوقاع فيه ليلًا وقد أبيح لكم ذلك صراحة ﴿باشروهن﴾ المباشرة: الإفضاء بالبشرتين، يكنى بها عن الجماع أي من غير حرج أو إثم ﴿وابتغوا﴾ واقصدوا ﴿ما كتب الله لكم﴾ من وراء ذلك من لذة يعقبها نسل يوحد الله ﴿وكلوا واشربوا﴾ وأقلعوا عن تصوركم الماضي من أنه إذا صام أحدكم رمضان فأمسى ونام حرم عليه الطعام والشراب حتى يفطر من الغد، وقد بين بهذا صفة الصوم حيث أباح الأكل والشرب فيه طوال الليل ﴿حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ بطلوع الفجر ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾ إلى غروب الشمس لا إلى حصول الظلمة، وعلى ذكر إباحة مباشرة النساء في ليالي رمضان استثنى الله سبحانه وتعالى من ذلك حالة واحدة هي أن يكون المرء معتكفًا في أحد المساجد للعبادة فلا يليق به أن يباشر النساء ولذلك قال ﴿ولا تباشروهن﴾ أي النساء ﴿وأنتم عاكفون في المساجد﴾ أثناء اعتكافكم في المساجد سواء كان ذلك في رمضان ليلًا أم في غيره ليلًا ونهارًا ﴿تلك﴾ أي ما تقدم من قوله – ﴿أحل لكم ليلة الصيام﴾ – إلى هنا ﴿حدود الله﴾ التي فرضها ﴿فلا تقربوها﴾ فلا تتعرضوا لها بالتغيير والتبديل والزيادة والنقص ﴿كذلك يبين الله لكم آياته﴾ أي وبمثل هذا النحو من تفصيل أحكام الصوم وحقيقته وحكمته وثمرته ورخصه يبين الله آياته أكمل بيان ﴿للناس لعلهم﴾ بذلك ﴿يتقون﴾ الله فلا يجرؤون على التحليل والتحريم في كل أمر من تلقاء أنفسهم دون أن يكون لهم مستند من كتاب الله وسنة رسوله.
بعد أن فرض الله على المؤمنين الصوم وبين لهم الأوقات التي يجب الإمساك فيها عن الطعام والشراب والجماع وهي أيام رمضان، ثم بين الأماكن التي ينبغي الانتهاء فيها عن النساء أخذ يبين لهم الحالات التي يجب الامتناع فيها عن أكل الأموال فقال ﴿ولا تأكلوا﴾ بأي أنواع الأكل ﴿أموالكم بينكم﴾ أي لا يستولى بعضكم على مال
يحس ويشعر، ولكنه لا يتحرك لأنه من غير روح وقد وردت آيات وأحاديث عديدة تدل على بقاء النفس وتعارفها بعد مفارقة أبدانها إلى أن يرجعها الله في أجسادها يوم القيامة حيث الحياة الأخرى الدائمة فقد قال تعالى «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم» وفي الحديث عن جرير قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنا أن نفارقك فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك «فأنزل الله» ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا».
وثبت عن رسول الله ﷺ «إن الميت يسمع قرع المشيعين له إذا انصرفوا عنه» وأنه قال «ما من رجل يزور قبر أخيه إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم» وفي الحديث «أنه لما مات بشر ابن البداءة بن معمر وجدت عليه أمه وجدًا شديدًا وقالت يا رسول الله لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول الله ﷺ نعم. والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رءوس الشجر» وكان لا يهلك هالك بعد ذلك من بني سلمة إلا أرسلت معه أم بشر السلام إلى ابنها، وفي حديث آخر أن رسول الله ﷺ قال «إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه ماذا فعل فلان وماذا فعلت فلانة وهل تزوجت فلانة»؟ وفي الصحيحين عنه ﷺ «أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا قال له عمر يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابًا».
ولقد كان الأقدمون يتصلون بالنفوس في العالم غير المنظور بواسطة المنام ثم توصل العلم أخيرًا إلى مخاطبة النفوس وإن سموها أرواحًا – لعدم تفرقتهم بينهما – بواسطة التنويم المغناطيسي فثبت من كل هذا اتصال النفوس ببعضها بعد الوفاة وأنها حية حياة برزخية. ولهذا قلت:
كفانا جمودًا أو كفانا غفلة فديننا دين العقل والحكمة الذي يتطور بتطور الزمن ويزداد إشعاعًا كلما ارتقى العقل البشري واتسعت دائرة المعارف وقامت الأدلة والشواهد الكونية على عظيم قدرة الله ومحكم تدبيره.
لقد قصر علماؤنا اليوم في الدعوة إلى الله وانصرف معظمهم إلى تدريس الفقه الإسلامي المستنبط من بعض الآيات التي سميت بآيات الأحكام متجاهلين ما وراءها من باقي الآيات التي تدعو إلى توحيد الله ومحبته والخوف من عقابه وجمدوا في فهمهم لكلام الله عند الحد الذي فسره لهم مشائخهم ولم يحاولوا استنباط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله فكان هذا هو السبب الرئيسي في خمود شعلة الإسلام وضعف المسلمين ولا سعادة للعالم اليوم إلا بتفهم حقيقة الدعوة الإسلامية ونشرها على وجهها الصحيح الخالي من البدع والخرافات وسيء المعتقدات ليسطع النور وتعم رحمة الله على الجميع.
إن الأفكار اليوم قد ارتقت والعقلية العالمية نضجت وأصبحت على أتم استعداد لتقبل الهداية التي يقرها العقل وتقبلها النفوس بفطرتها ودون إطالة نظر أو تفكير.
وكتب لي دكتور من مصر يقول: كيف نوفق بين ما هو في علم الله القديم الأزلي وبين ما تقوله يا أستاذ من أن الله يمحو ويثبت في أم الكتاب حسب أعمال العباد فأجبته أن العلم بالشيء سواء كان حادثًا أو قديمًا لا يستلزم وجود المعلوم، وعلم الله لا يتعلق بالأشياء تعلق تأثير وإيجاد فلا تعارض بينه وبين أحكامه جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى إذ يعلم أن عبده سيذنب يعلم أنه سيؤاخذه أو سيغفر له ويعلم أنه ضل ومع ذلك قد يهديه ويعلم سيئات أعماله وأنه لا يؤاخذه لأسباب خفية لم يطلع عليها الملائكة الكاتبين ويعلم سبحانه أن عمر عبده قصير ولكنه يعلم أنه سيأتي من الأعمال ما يستحق معه طول العمر أو أن عمره طويل ولكنه يعلم أنه سيأتي من الأسباب ما يدعو إلى قصره كما أشار تعالى إلى هذا بقوله: ﴿والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير﴾.
الأمر من المؤمنين أراد سبحانه وتعالى أن يبين ما لها من شأن عظيم في الإسلام بحيث لا يتحقق معنى الإيمان من غيرها ولذا وجه الله الخطاب إلى نبيه عليه الصلاة والسلام فقال: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون﴾ أي: يقولون بألسنتهم لك ﴿أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ أي: يدعون الإسلام ويتسمون باسم المسلمين في الظاهر بينما هم في سرهم لا يحرصون على الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل الحل والعقد من المؤمنين بل إنهم ﴿يريدون﴾ أي يودون في سرهم ﴿أن﴾ يعدلوا عنه و ﴿يتحاكمون إلى الطاغوت﴾ أي: حكم الفرد أو الحكم بالرأي والاستبداد وما يزينه الشيطان للناس من الأحكام التي تتنافى مع ما أنزل الله ﴿وقد أمروا﴾ صراحة في التنزيل الذي يزعمون الإيمان به ﴿أن يكفروا به﴾ إذ يقول تعالى في موضع آخر ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ فلو كانوا مؤمنين حقًّا بصحة ما جاء في الكتاب ما اختاروا عن حكم ربهم بديلًا ولما كانت ألسنتهم تعبر عن غير ما في قلوبهم ﴿ويريد الشيطان﴾ الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان ﴿أن يضلهم ضلالًا بعيدًا﴾ بما يزينه لهم من تفضيل حكم المخلوق على حكم الخالق والأخذ بالرأي الذي يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله ﴿وإذا قيل هلم تعالوا﴾ نحتكم ﴿إلى ما أنزل الله وإلى الرسول﴾ ونرد إليهما ما نتازعنا فيه من الأحكام كما أمرنا الله ﴿رأيت المنافقين﴾ الذين يزعمون الإيمان ويريدون الاحتكام إلى غير ما جاء من عند الله ﴿يصدون عنك صدودًا﴾ أي: يظهرون ما يضمرون ويحتكمون فعلًا إلى غيرك ولا يرضون بحكم الله ﴿فكيف﴾ يكون الشأن في أمرهم ﴿إذا أصابتهم مصيبة﴾ ووقعوا في بعض المشاكل الاجتماعية والأزمات السياسية والفوضى الخلقية في الحياة ﴿بما قدمت أيديهم﴾ أي نتيجة إعراضهم عن أحكام الله التي ما وضعت إلا لإصلاح أحوال المجتمع الإنساني
أكل طعامهم ولا يحل الزواج بهم (وَالْمُحْصَنَاتُ) بفتح الصاد وكسرها قراءتان أي النساء الحرائر (مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حل لكم زواجهن على حد سواء (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي متى دفعتم لهن دون أولياء أمورهن مهورهن إذ لا ولاية لغير المسلم على ابنته المسلمة فلا بد من دفع المهر لها بالذات حالة كونكم (مُحْصِنِينَ) أي قاصدين بذلك إحصان أنفسكم وأنفسهم بالإعفاء عن الزنا (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي غير قاصدين بإيتائهن الأجور مجرد سفح الماء أي قضاء الشهوة وهو الزواج بغير سنة ولا كتاب فهذا لا يحل فلا يقال يحل الزنا مع من كانت على غير ديننا (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) أي ولا متخذين منهن أخدانا من غير قصد الزنا فهذا أيضاً لا يحل ويقصد بهذا الإشارة إلى أن الإسلام يجعل للمرأة من أهل الكتاب حرمة كحرمة المرأة المسلمة وشرفاً يجب أن يحافظ عليه وإن في نصه تعالى على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا ما يشعر بأنه ليس لنا أن نزوجهم بنسائنا لئلا يكن تحت إمرتهم ولا طاعة لهم عليهن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) الإيمان هو التصديق بكل ما أوحاه الله من جميع أحكامه التي منها
<٣١>
إباحة طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) في الدنيا بسلوكه ما لا يرضي الله من سنن (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لأنه لم ينل ثواب الطائعين فقد روى قتادة أن بعض المسلمين قالوا كيف نتزوج نساء من كان على غير ديننا فأنزل الله هذه الآية فالمراد بالإيمان القرآن باعتباره هو المشتمل على بيان كل ما لابد منه في الإيمان
بعد أن قرر الله بعض الأحكام التي تختلف فيها الشريعة الإسلامية عما سبقها من الشرائع أخذ يشرح ما تمتاز به صلاة المسلمين عن الصلاة عند غيرهم من الملل بما يسبقها من مقدمات الطهارة من الحدثين الناشئ أصغرهما عن إدخال الشراب والطعام إلى المعدة فلولا الشراب والطعام لما كان البول والغائط وأكبرهما عن النكاح الموجب للغسل فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) وكنتم محدثين حدثاً أصغر فتوضؤا بدليل قوله فيما بعد وإن كنت جنباً فاطهروا ثم بين صفة الوضوء بقوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والمراد بالغسل إسالة الماء على الوجه لإزالة ما عليه من وسخ وغيره والوجوه
منهما واختتمت بأن ﴿لله ملك السموات والأرض وما فيهن﴾ فناسب أن يجيء بعدها هذه السورة، لما اشتملت عليه من إثبات الصانع ودلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين. وقد بدأها الله سبحانه وتعالى بخلق السموات والأرض وما فيهن من ظلمة ونور ومدى سلطانه على كل شيء حيث أمر رسوله أن يقول ﴿الحمد لله﴾ أي إن الحمد حقيقته وكليته لا ينصرف إلا لله وحده لأنه سبحانه مصدر كل نعمة تستوجب الحمد فهو ﴿الذي﴾ بكمال قدرته ﴿خلق السماوات والأرض﴾ أي الذي أوجد الأجرام المادية في كل من العوالم السماوية والأرضية ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ من الأمور المعنوية التي تدرك بالحس والمشاهدة ولا تلمس بالأيدي. والمعنى أنه تعالى هو الذي قسم الموجودات إلى جواهر وأعراض ﴿ثم الذين كفروا بربهم﴾ أي أنكروا وجوده من الملاحدة والطبيعيين ﴿يعدلون﴾ عن الاعتراف له جل شأنه بتوحيد الربوبية بخلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، بل ينسبون ذلك إلى عمل الطبيعة وغيرها مما لا تأثير له من المخلوقات، ولو عقلوا لعلموا أنه لا بد لهذا الكون العجيب في مخلوقاته وأحواله من خالق ومبدع ﴿هو الذي خلقكم﴾ أي خلق أصل السلالة البشرية وهو آدم عليه السلام ﴿من طين﴾ وهو التراب الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين ﴿ثم قضى﴾ لكل حي في الوجود أجلين ﴿أجلًا﴾ معلقًا ومرتبطًا بسبب من الأسباب التي جعلها الله وسيلة للموت كالغرق والحرق وغيره من الأمور المفاجئة. وهذا الأجل يزيد وينقص وفق السنن المقدرة لذلك. وقد أشار الله إليه بقوله في آية أخرى: ﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب﴾ أي أن ذلك معلوم لديه. وأخبرنا الرسول ﷺ أن في استطاعة الإنسان أن يطيل هذا الأجل بقوله: «إن صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله: «لا يزيد في العمر إلا البر» وأما الأجل الآخر فقد أشار إليه تعالى بقوله ﴿وأجل مسمى عنده﴾ أي لا يتقدم ولا يتأخر. وقد أشار الله إليه بقوله في آية أخرى ﴿إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر﴾ ﴿ثم أنتم﴾ أيها البشر المخاطبون من كفار وأهل كتاب ﴿تمترون﴾ أي تشكون في أن الموت في الحالين لم يكن إلا بقضاء الله وقدره ولا تدركون أنه تعالى الذي جعل للأسباب تأثيرًا في المسببات لا يعجزه أن يدرأ عنكم أثرها وينجيكم من شرها ويؤخر سبحانه موتكم إلى الأجل المسمى عنده متى أراد وهذا مما يتنافى مع توحيد الألوهية ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ لقد حسبت الجهمية من
القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات فهذا لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف ولم يؤثر عن أحد من الصحابة وهم من أحرص الناس على صالح الأعمال ولو فعلها الصحابة لنقل ذلك إلينا بالتواتر وأمر قبول هذا التنازل من الأحياء إلى الأموات راجع إلى الله رب العالمين ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ من العبادات التي تتوجهون بها إلى غير الله والخارجة عن حدود ما هدى الله رسوله إليه من الدين القيم ﴿وهو﴾ أي الله الذي لا أبغي غيره ربًّا ﴿الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ الخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره ويقوم مقامه أي الذي استخلفكم في أرضه تملكونها وتستخرجون كنوزها وخيراتها وتتصرفون فيها بمختلف التصرفات منذ أن أمر آدم بالهبوط من الجنة ومنحه الإرادة المطلقة والخيار الكامل إلى جانب ما أوتي من العلم والعقل الذي يميز به الخير والشر والنافع والضار مما يجعله أهلًا للخلافة عنه وتحمل المسؤولية عن كل تصرفاته ﴿ورفع بعضكم فوق بعض درجات﴾ في الخلق والغنى والفقر والقوة والضعف والعلم والجهل والعز والذل ﴿ليبلوكم في ما آتاكم﴾ أي أن هذا التفاوت كان من سننه تعالى في خلقه ليكون وسيلة للعمل وبذل الجهد لطلب الكمال والتنافس في عمل الخير ونيل أكبر قسط من ثواب الله ﴿إن ربك سريع العقاب﴾ لمن كفر به ولم يقدر نعمة الله عليه بالاستخلاف في الأرض بأن ترك العمل لإحيائها واستخراج كنوزها إذ يسلط عليها من يستعمر أرضه ويحرمه الاستفادة منها في هذه الحياة ﴿وإنه لغفور رحيم﴾ لا يؤاخذ الناس على القصور في هذا الباب في الآخرة اكتفاء بما نالهم من الحرمان في الدنيا.
وجه الاتصال بين هذه السورة وما بعدها أنه تعالى لما ختم هذه بقوله: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب﴾ ثم أردف ذلك بسورة الأعراف التي تشير إلى أول من استخلف في الأرض من البشر وهو آدم وأبناؤه الأعلون ومن استخلف من بعدهم من قوم نوح وعاد إذ قال لهم نبيهم ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد﴾ وما حاق بهم من العقاب السريع الذي توعدهم به في الدنيا قبل الآخرة. وسميت بالأعراف لأنها أشارت إلى أوائل الأمم وأعاليها.
ولم ينقل أن الله قد بعث نبيًّا أميًّا غير نبينا ﷺ فكانت الأمية من أكبر آيات الله الشاهدة على صدقه في دعوى الرسالة إذ لا يعقل قط أن رجلًا نشأ في الصحراء بين قوم أميين ولم يتلق العلم على أحد يمكن أن يتطور حاله في كبره بين عشية وضحاها من أمي إلى عالم جليل يأتي قومه بكتابه القرآن الجامع لأخبار الأولين والآخرين وفيه من العلوم الدينية والكونية والاجتماعية ما يصلح عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وسائر أعمالهم وأحكامهم ﴿الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل﴾ وسنأتي في آخر الآية ببيان ما جاء في التوراة والإنجيل عنه ﴿يأمرهم بالمعروف﴾ عرف الشيء علمه والمعروف الإحسان أي أن دينه يقوم على أساس العلم والمعروف ودعوة الناس بالإحسان دون القسوة ﴿وينهاهم عن المنكر﴾ من كل أمر تأباه النفوس الظاهرة ولا ترضاه ويتجافى عنه الإيمان الصحيح. روى الإمام أحمد عن ابن حميد وأبي أسيد عن رسول الله ﷺ قوله: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنفره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه».
﴿ويحل لهم الطيبات﴾ التي تفيدهم في حياتهم ولا ضرر فيها على صحتهم وأموالهم ﴿ويحرم عليهم الخبائث﴾ من كل ما تمجه الطباع السليمة وتستقذره ﴿ويضع عنهم إصرهم﴾ الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه ويمنعه عن الحركة ﴿والأغلال التي كانت عليهم﴾ في عهد موسى وقد ورد في الحديث عن رسول الله قوله: «بعثت بالحنفية السمحاء» وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن «بشرا ولا تنفروا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا» ﴿فالذين آمنوا به﴾ بعد بعثته ﴿وعزروه﴾ أي عظموه ووقروه ﴿ونصروه﴾ بكل ما يستطيعون ﴿واتبعوا النور الذي أنزل معه﴾ أي الشريعة التي جاء بها ﴿أولئك هم المفلحون﴾ أي الفائزون برحمة الله العظمى ورضوان دون سواهم وهذه بشارة عظمى ووعد قاطع من الله برحمته للمسلمين الذين يؤمنون برسالته ﷺ ويعزروه وينصروه ويحرصوا على اتباع شريعته كما أمر من غير زيادة ولا نقصان وهنا نعود فننقل ما ورد في التوراة والإنجيل ببشارة ببعثة رسولنا عليه الصلاة والسلام وإن كان اليهود والمسيحيون ينكرون هذا فنقول جاء في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين عن وعد الله لإبراهيم عليه السلام في حق إسماعيل عليه السلام في الترجمة المطبوعة
يد عمه أبي طالب أساسه أن يكف عنهم ويكفوا عنه وأن يدعهم ودينهم ويدعوه ودينه فقام وأخبر قومه بأمر الرؤيا وحضهم على السفر إلى مكة زائرين معتمرين لا يريدون قتالًا ولا ينوون محاربة قريش في عقائدهم شأنهم في ذلك كشأن سائر الزائرين من مختلف الجهات واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه لهذا الغرض، وخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة الموافق فبراير ٦٢٨م وساق معه سبعين بدنة هديًا وأحرم بالعمرة ليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا للبيت معظمًا له ومضى في سبيله حتى بلغ عسفان فألفى بها بشير بن سفيان الكعبي فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا بنسائهم وأطفالهم قد لبسوا جلود النمور ونزلوا بوادي طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدًا فأرسل الرسول ﷺ عثمان بن عفان إلى مكة برسالة إلى أبي سفيان وعظماء قريش، فلما فرغ من رسالته قالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف أما محمد فلا فقال لهم ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ فاحتبسوه عندهم ولم يردوا جواب الرسالة حتى قيل إن عثمان قد قتل، ولما اتصل خبر هذه الشائعة برسول الله قال لا نبرح مكاننا حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى بيعته على الموت دون بلوغ غايتهم وأن لا يفروا أبدًا فبايعوه تحت شجرة هناك على ذلك. لم يثنهم عن ذلك ما هم عليه من قلة في الرجال والعتاد لأن إيمانهم بالله كان قويًّا وثقتهم به تعالى لا حد لها وقد تجردت نفوسهم من خوف الموت فلم يضعوه في حسابهم بل إنهم نظروا إليه كباب يلجون منه إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. يجب أن يتسابقوا إليه ليظفروا بما وعدهم به ربهم الذي لا يشكون في صدق وعده ومن أجل هذه سميت هذه البيعة ببيعة الرضوان إذ أنهم لم يبايعوا الرسول فيها ولديهم شيء من الأمل في النصر أو الحياة بل إنما بايعوه على تسليم نفوسهم للرسول يتصرف فيها كيف يشاء ويضحي بها في سبيل الله وابتغاء مرضاته. وما كادت تصح منهم العزيمة حتى تقبل الله منهم هذه التضحية وأبقى على حياتهم الغالية فصرف قلوب زعماء قريش عن قتل عثمان بل وألقى في قلوبهم الرعب وتوالت الأخبار على الرسول بأن ما بلغه عن قتل عثمان لا أساس له من الصحة وكانت لتلك البيعة ذكرى طيبة في قلوب المسلمين تدعوهم إلى جمع الكلمة ومنتهى التضحية حتى أدى بهم الأمر إلى تقديس
حتى ينفجر الصبح» فهو سبحانه يفعل ما يشاء لا معارض له، كما لا يمكن أن نفهم من استوائه تعالى على عرشه استواء يشبه استواء الملوك على عروشهم لأن الله تعالى ليس بشخصية مادية حتى يكون استواؤه كاستواء المخلوقين ونحن لا نعلم صفة ذلك العرش حتى نعلم كيفية استوائه عليه أو نزوله منه فلا يسعنا إلا أن نثبت لله الاستواء والنزول ولا نكيف هذا بل نقول إنه ليس كاستواء المخلوقين ونزولهم لأنه ليس كمثله شيء بل استواء ونزولًا لائقين بجلال الله وعظمته كما أنه لا يجوز لنا أن نؤول استواءه على العرش بالاستيلاء عليه لأن الله جل وعلا مستول على كل شيء لا على العرش وحده دون باقي الأشياء: ﴿يدبر الأمر﴾ التدبير في اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومبادئها وأدبارها وعواقبها بحيث تكون المبادئ مؤدية إلى ما يراد منها وما تنتهي إليه بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي سن السنن وجعل لكل غاية وسيلة ولكل مقصد سبيلًا لا يمكن لأحد أن يتخطاه فكلما يحصل في هذا الوجود من أعمال الإنسان الاختيارية ما هو إلا وفق تدبير الله الذي قدره جل وعلا وكل من صار على الدرب وصل: ﴿ما من شفيعٍ﴾ في الدنيا أم في الآخرة: ﴿إلا من بعد إذنه﴾ لمن ارتضى وقد أبى على رسوله وأكرم خلقه أن يشفع في حياته لأمه التي ماتت قبل بعثته وأذن له بالشفاعة للعشرة المبشرين بالجنة: ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ ومع ذلك لم يتقبل الله شفاعته وكذلك الحال في يوم القيامة وقد أوضحنا المعنى المراد بإذنه بأنه تعالى إذا أراد أن يرحم عبدًا لا توازي حسناته سيئاته ولو كان مغمورًا بالسيئات أوعز إلى أحد من خلقه كالأطفال مثلًا بالشفاعة له وأذن له بها فالشفاعة بهذا الاعتبار ما هي إلا تكأة أو وسيلة لإيصال رحمة الله إلى عباده ولم يكن لشخص الشفيع أي فضل على المشفع فيه من أجل ذلك.
ولا يجوز الاعتماد على شفاعة أحد ما عند الله حتى ولا الأنبياء بل: ﴿لله الشفاعة جميعًا﴾ وله الفضل كله: ﴿ذلكم﴾ الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن يأذن لمن ارتضى: ﴿الله ربكم﴾ الذي ربى أجسامكم وساس أموركم وأصلح أحوالكم: ﴿فاعبدوه﴾ أي فالجئوا إليه وادعوه كلما تحتاجون إليه فإنه تعالى يسمع النداء وقد أخذ على نفسه أن يستجيب الدعاء: ﴿أفلا تذكرون﴾ هذه الحقائق التي لا جدال فيها وتنسبونها أو تتجاهلونها بعبادة غيره ولجوئكم إلى سواه في النائبات.
فكافأها الله على ذلك بأن أمر ملائكته أن يتموا عليها سرورها إذ بشروها بغلام اسمه إسحاق: ﴿ومن وراء إسحاق يعقوب﴾ بفتح الياء وقرئ بضمها والمراد بالوراء كما قال ابن عباس ولد الولد أي أنه سيكون لإسحاق ولد اسمه يعقوب: ﴿قالت يا ويلتا﴾ هذه كلمة تقولها النساء عندما يفاجئن بأمر مهم من بلية أو فضيحة تعجبًا واستنكارًا: ﴿أألد وأنا عجوز﴾ قاطع الحيض أي في سن اليأس من الحمل: ﴿وهذا بعلي﴾ أي زوجي وأشارت إلى إبراهيم: ﴿شيخًا﴾ كبيرًا لا يولد لمثله ولد: ﴿إن هذا﴾ الذي بشرتموني به: ﴿لشيء عجيب﴾ خارق للعادة: ﴿قالوا أتعجبين من أمر الله﴾ هذا استفهام إنكاري بمعنى أنه لا ينبغي لك أن تعجبي من شيء هو من خصائص الله جل جلاله فمجيء الولد إنما يكون بقضاء الله الذي إذا أمر به حصل ولو لم تتوفر أسبابه ولو أن مجرد توفر أسباب الحمل توجب حصوله لما حرمت الولد من عهد الصبا: ﴿رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت﴾ أي وإن في توالي نعم الله ورحمته عليكم أهل بيت إبراهيم من النبوة والمعجزات والتوفيق للخيرات ما لا يجعلك تعجبين من أن يمن عليكم الله بالولد الصالح في مثل سنك: ﴿إنه حميد﴾ مستوجب لأنواع الثناء والحمد: ﴿مجيد﴾ صاحب الشرف والكرم الذي لا يضن على أصفيائه المخلصين بما هم في حاجة إليه: ﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع﴾ أي تبينت له الحقائق وعرف أن أولئك الرسل لا يقصدونه بسوء وزال ما كان يساوره من الرعب: ﴿وجاءته البشرى﴾ بالولد واتصال النسب بولد الولد أخذ: ﴿يجادلنا في قوم لوط﴾ أي يستجدي لهم الرحمة ويتذرع ببعض الأسباب التي منها قوله في سورة العنكبوت: ﴿ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطًا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين﴾ وقد علل الله تعالى هذه المجادلة من إبراهيم بما جبل عليه من سمو النفس وكامل الرحمة إذ قال: ﴿إن إبراهيم لحليم﴾ لا يحب المعاجلة بالعقاب: ﴿أواه﴾ أي كثير التأوه مما يسوءه ويؤلمه: ﴿منيب﴾ أي يرجع إلى الله في كل أموره، ولذا قال الله تعالى: ﴿يا إبراهيم أعرض عن هذا﴾ أي لا تأخذك فيهم رحمة ولا شفقة ولا تحزن على ما يصيبهم من العذاب: ﴿إنه قد جاء أمر ربك﴾ أي أن الله قد أمد لهم كثيرًا حتى جلبوا لأنفسهم هذا الهلاك بسوء أعمالهم وفق قدر الله الذي حل بأمثالهم من قتل: ﴿وإنهم آتيهم عذاب غير مردود﴾ أي لا يرد بجدال ولا تقبل فيه شفاعة من أحد وهذا ينفي بتاتًا ما يزعمه
يدعي بها لنفسه القدرة على دفع الخطر أو الوقاية من الشرور والآثام أو يقول إن هذا كان ببركة فلان أو بسر الولي الفلاني أو لأجل النذر الذي نذر له كما أنه تعالى قد سن لحياة البشر نظامًا علق بمقتضاه أعمال الظاهر على ما تكن السرائر فلا سبيل لأحد أن يغيرها حيث قال: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ من نعمة وسعادة أنعم بها عليهم فيزيلها عنهم ويسلبها منهم ويذيقهم بدلها بؤسًا وشقاء لهوى في نفسه أو استجابة لرغبة أحد من خلقه ممن يزعم لنفسه شيئًا من الكرامات وخوارق العادات بل وفق ما وضعه لذلك من سنن يعود أمر تطبيقها إلى الناس أنفسهم فإذا هم حافظوا على النعم بشكرها والعمل على تنميتها بفعل الصالحات بقيت لهم: ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ من اتجاه نحو الخير إلى الشر فتتطلع نفوسهم إلى نهج غير الذي كانت عليه فتتبعها الجوارح ويتحول بذلك حالها من حال إلى حال وفقًا لتلك الأعمال ومصداقًا لهذه الآية فإن الله لم ينتزع العزة من عباده المؤمنين ويحكم الأجانب في رقابهم إلا عندما ضعف الإيمان في قلوبهم وتعدد المعتقد فيهم من دون الله وجاروا الغرب في اعتمادهم على الماديات فسلبوا نعمة الأمن وسعادة الحياة واستعمرهم من كان في مؤخرة الأمم: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له﴾ يظن الكثير من الناس أن كل ما يعترض الإنسان في هذه الحياة من مصائب ومحن هي بإرادة الله بمعنى محض رغبته التي إذا تعلقت بأمر فهو لا بد كائن كما يدل عليه ظاهر هذه الآية فإذا أصيب الإنسان بمرض نسبه إلى إرادة الله وإذا عالجه وشفي منه نسب الشفاء إلى الطبيب المعالج، وهذا من ضعف الإيمان أو عدم فهم معاني آيات القرآن فكل شيء بإرادة الله وهو سبحانه الذي جعل من الأسباب ما يؤدي إلى وجود الداء كما جعل من الأسباب ما فيه الدواء وكلاهما بإرادة الله التي كشفت للناس عن حقيقة الأمرين وهدتهم النجدين ومكنتهم من سلوك كلا السبيلين فإذا ما عرضوا أنفسهم لأسباب الأمراض وأصيبوا بها كان ذلك بإرادة الله وإذا ما توقوها أو عالجوها وشفوا منها كان ذلك أيضًا بإرادة الله لا أن المرض أو الشفاء أمر مترتب على رغبة في ذات الله سابقة بمرض عبده أو شفائه بصورة خاصة وقد بسطنا هذا الموضوع في الصفحة ١٢ من الجزء الثامن من هذا التفسير وقلنا إن إرادة الله تنقسم إلى قسمين إرادة كونية نظامية ثابتة وهي التي سبقت مشيئته تعالى بخلق جميع الكائنات وما سن لها من نظم تسير عليها ويؤاخذ الله الناس بمقتضاها وهذه تشمل ما يحبه تعالى وما يبغضه من عمل فصله لهم وأرشدهم إلى سبله وطريق الوصول إليه
ولأغوينهم أجمعين} اعتبر الله تصديقها والقول بها شركًا منافيًا لما أنزل الله فقال: ﴿وقال الذين أشركوا﴾ مع الله إبليسًا لأنهم صدقوا غوايته وكفروا بما أنزله على رسله وما جاء في كتبه إذ قالوا: ﴿لو شاء الله﴾ أن نعبده وحده: ﴿ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا﴾ أي لم يكن في استطاعتنا أن نعبد غيره فنحن بعبادتك لذلك الغير طائعون لله منفذون لما قضي به علينا وشاءه منا: ﴿ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ أي لم يكن من حقنا أن نحرم شيئًا على أنفسنا لم يسمح لنا بتحريمه فهو صاحب الأمر المطلق الذي أنطقنا وأنطق كل حي: ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا القول وتحت تأثير هذه العقيدة الفاسدة من وحي الشيطان: ﴿فعل الذين من قبلهم﴾ أي كان الناس في العصور الغابرة يستبيحون لأنفسهم كل شيء ويقولون هذه إرادة الله وما قضت به مشيئته فينا التي لا راد لها، ولذلك لم يعبئوا بدعوة الرسل إليهم للإيمان، ولا يزال كثير من المسلمين اليوم يقول مثل هذا القول وهو لا يدري بأن هذا هو الضلال بعينه وقد رد الله على قولهم هذا بما يدل على أنه لو كان الأمر كما يزعمون لما أرسل الله لهم رسلًا تصحح مفهومهم لمعنى المشيئة وتؤكد لهم أن مشيئة الله هي أحكامه العامة أو نظامه الذي شاء المخلوقات عليه من الأزل والذي أعلنه لعباده على لسان رسله بما يحبه وما يكرهه منهم وهو ينقسم إلى قسمين أحكام قاطعة تسمى بالقضاء النافذ الذي لا دخل لمخلوق فيه كالخلق والتكوين والتذكير والتأنيث وأحكام موقوتة ومعلقة بشرط أو شروط لا تنفذ إلا بتوافرها تسمى بالقدر وقد علق الله أمر نفاذها على مشيئة الإنسان وعمله وهي عبارة عن السنن والأنظمة التي وكل الله أمر تطبيقها إلى الناس في هذه الحياة لينالوا عليها الجزاء عاجلًا أم آجلًا وإلى هذا أشار بقوله: ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾ أي أن إرسال دليل قائم على بطلان ما يزعمون إذ أن مهمة الرسل محصورة في تبليغ الرسالة تبليغًا يوضح ما اقتضته مشيئته تعالى الأزلية من حرية الإنسان الكاملة في هذه الحياة وإفهامه أن هداية الله له معلقة بسلوكه السبل التي سنها لنيل رضاه بمحض اختيار الإنسان كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا كما أن ضلاله للإنسان مبني على إعراضه من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن سلوك سبل الهدى من الإيمان والعمل الصالح وسلوك سبل الضلال كما قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب
حتى ينفجر الصبح» فهو سبحانه يفعل ما يشاء لا معارض له، كما لا يمكن أن نفهم من استوائه تعالى على عرشه استواء يشبه استواء الملوك على عروشهم لأن الله تعالى ليس بشخصية مادية حتى يكون استواؤه كاستواء المخلوقين ونحن لا نعلم صفة ذلك العرش حتى نعلم كيفية استوائه عليه أو نزوله منه فلا يسعنا إلا أن نثبت لله الاستواء والنزول ولا نكيف هذا بل نقول إنه ليس كاستواء المخلوقين ونزولهم لأنه ليس كمثله شيء بل استواء ونزولًا لائقين بجلال الله وعظمته كما أنه لا يجوز لنا أن نؤول استواءه على العرش بالاستيلاء عليه لأن الله جل وعلا مستول على كل شيء لا على العرش وحده دون باقي الأشياء: ﴿يدبر الأمر﴾ التدبير في اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومبادئها وأدبارها وعواقبها بحيث تكون المبادئ مؤدية إلى ما يراد منها وما تنتهي إليه بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي سن السنن وجعل لكل غاية وسيلة ولكل مقصد سبيلًا لا يمكن لأحد أن يتخطاه فكلما يحصل في هذا الوجود من أعمال الإنسان الاختيارية ما هو إلا وفق تدبير الله الذي قدره جل وعلا وكل من صار على الدرب وصل: ﴿ما من شفيعٍ﴾ في الدنيا أم في الآخرة: ﴿إلا من بعد إذنه﴾ لمن ارتضى وقد أبى على رسوله وأكرم خلقه أن يشفع في حياته لأمه التي ماتت قبل بعثته وأذن له بالشفاعة للعشرة المبشرين بالجنة: ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ ومع ذلك لم يتقبل الله شفاعته وكذلك الحال في يوم القيامة وقد أوضحنا المعنى المراد بإذنه بأنه تعالى إذا أراد أن يرحم عبدًا لا توازي حسناته سيئاته ولو كان مغمورًا بالسيئات أوعز إلى أحد من خلقه كالأطفال مثلًا بالشفاعة له وأذن له بها فالشفاعة بهذا الاعتبار ما هي إلا تكأة أو وسيلة لإيصال رحمة الله إلى عباده ولم يكن لشخص الشفيع أي فضل على المشفع فيه من أجل ذلك.
ولا يجوز الاعتماد على شفاعة أحد ما عند الله حتى ولا الأنبياء بل: ﴿لله الشفاعة جميعًا﴾ وله الفضل كله: ﴿ذلكم﴾ الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن يأذن لمن ارتضى: ﴿الله ربكم﴾ الذي ربى أجسامكم وساس أموركم وأصلح أحوالكم: ﴿فاعبدوه﴾ أي فالجئوا إليه وادعوه كلما تحتاجون إليه فإنه تعالى يسمع النداء وقد أخذ على نفسه أن يستجيب الدعاء: ﴿أفلا تذكرون﴾ هذه الحقائق التي لا جدال فيها وتنسبونها أو تتجاهلونها بعبادة غيره ولجوئكم إلى سواه في النائبات.
والدرجة الثانية أن تؤمنوا: ﴿وَرَسُولِهِ﴾ أي أن تثقوا بأن محمدًا لم يكن سوى رسول قد خلت من قبله الرسل لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا وإنما هو يبلغكم رسالة ربه فلا تتخذوه مع الله شريكًا ولا تطرونه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم بل قولوا عبد الله ورسوله وائتمروا بأمره وانتهوا عما ينهاكم عنه واتبعوا سنته تنالوا سعادة الدنيا والآخرة. الدرجة الثالثة: وهي أقصى درجات الإيمان قوله: ﴿وَتُجَاهِدُونَ﴾ أي تبذلون ما في وسعكم: ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي لإعلاء كلمته والحصول على رضاه: ﴿بِأَمْوَالِكُمْ﴾ التي منَّ الله بها عليكم بأن تضعوها فيما يدعوكم إليه الإسلام من عون كل محتاج وإعداد العدة للقتال ونصر دين الله بمختلف الوسائل: ﴿وَأَنفُسِكُمْ﴾ بمعنى لا تضنوا بأرواحكم تقدمونها عن رغبة واختيار في ساحة الوغى من أجل رفع راية الحق ونصر دين الله والدفاع عن ديار المسلمين ودمائهم وأموالهم: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من أن تتبعوا أهواءكم أو تبتدعوا في الإسلام بدعًا تظنونها تقربكم من الله وهي لا تجديكم نفعًا إذ هو سبحانه وتعالى أعلم بما يرضيه منكم وقد حصرها جل جلاله فيما ذكر: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حقًّا أن هذا كلام الله بمعنى أن التجاوز عن هذا وابتداع شيء في الإسلام غير ذلك مما يدل على تشكككم في كلام الله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ أي أنكم إذا فعلتم هذا فقد سلكتم سبيل الغفران فكان حقًّا على الله أن يغفر لكم فهو القائل: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ الغفران: ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ في الآخرة بدلًا مما ضحيتموه من متاع الدنيا وبرًّا بوعده تعالى الذي علق الجزاء على العمل فضلًا منه ورحمة والقائل: ﴿إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وهو سبحانه لا يخلف الميعاد: ﴿ذَلِكَ﴾ أي جزاء الآخرة هو: ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ لأنه فوز بنعيم دائم لا يزول ولا ينتهي: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا﴾ أي على أنه تعالى لم يقصر ثوابه لكم على ما تنالونه في الآخرة فقط بل سيمنحكم ثوابًا عاجلًا في الدنيا أحب إلى قلوبكم من جميع الملذات وهو: ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللهِ﴾ إذ النصر على الأعداء من الأمور التي لا تنال بكثرة العدد والعدة وإنما هو منحة من الله يهبها لمن يشاء سبحانه وتعالى بوسائل مختلفة كإلقاء الرعب في القلوب وتفرق كلمة الخصوم وابتلائهم بأنواع الأوبئة والميكروبات: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾، وللنصر على الأعداء لذة في النفس لا تعدلها لذة أخرى في الحياة فالإنسان الذي يبذل جهده في جمع المال وسائر متع الدنيا يضحي بها جميعًا في سبيل نصره على خصومه وأعدائه:
وهذا مبالغة منهم في النفور مني ومن دعائي والثالثة: ﴿وأصروا﴾ أي تمسكوا بعقائدهم الفاسدة ولم يقبلوا مبدأ المناقشة لنبين وجه الحق من الباطل والرابعة: ﴿واستكبروا استكبارًا﴾ أي وجهوا إليّ أنواعًا من الازدراء والاحتقار: ﴿ثم إني﴾ لم أتأثر بكل هذا واحتملت أذاهم في سري من أجلك واستأنفت الأمر من جديد حيث: ﴿دعوتهم جهارًا﴾ في المجالس العامة لعلهم يتدبرون أو يتناقشون معي للوصول إلى الحق فلم أنته معهم إلى نتيجة: ﴿ثم إني﴾ لم أكتف بهذا بل: ﴿أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا﴾ الإسرار عكس الإعلان والمعنى أنه أعلن وأسر إليهم بأسرار التشريع ودخائل الأمور وأثر العبادات في الحياة الاجتماعية ذلك بقوله: ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا﴾ أي أن من استغفر الله مخلصًا بقلبه ولسانه لا بد أن يغفر له فلا ينبغي لأحد أن يشك في هذا وكنتيجة لقبول الله مجرد الاستغفار يمنح الله المستغفرين في هذه الحياة الدنيا بصرف النظر عن ثواب الآخرة أربع جوائز الأولى قوله تعالى: ﴿يرسل السماء عليكم مدرارًا﴾ بمعنى أن ينزل عليكم الأمطار في مواعيد الزرع فترتوي الأرض ويكثر العشب وتشبع المواشي وتفيض الأنهار وتملأ الآبار ويعم الخير ويسعد الناس، الثانية قوله تعالى: ﴿ويمددكم بأموال وبنين﴾ بمعنى أنه تعالى يفتح لكم ميادين العمل بصلاح المواسم فيكثر المال ويقبل الناس على الزواج واستيلاد البنين.
الثالثة قوله تعالى: ﴿ويجعل لكم جنات﴾ بمعنى يبارك سبحانه وتعالى في زرعكم فيؤتي ثماره على أحسن وجه دون أن يصيبه شيء من الآفات أو الأمراض.
الرابعة قوله: ﴿ويجعل لكم أنهارًا﴾ الأنهار جمع نهر هو الأخدود الذي يجري فيه الماء بمعنى يكثر لكم المياه بحيث تستطيعون الإكثار من الأنهار وإيصالها إلى الأراضي البعيدة القاحلة كل هذه أمور لا يمكن أن تماروا في أنها لا تكون إلا بقدرة الله ومن محض فضله وقد جعل سبحانه سبيل نيلها منه القيام بهذه العبادة البسيطة في حد ذاتها والكبيرة في معناها ومغزاها إذ هي تعبر عن الاعتراف لله بالذنوب وطلب التجاوز عنها ممن لا يملك ذلك سواه وهو الله.
وبعد أن حاول نوح استجلاب قومه إلى الإيمان بالله عن طريق الكشف لهم عن أسرار التشريع وتأثير العبادات في الحياة الاجتماعية أخذ يؤنبهم على الإعراض عن الله وعدم إيفائه تعالى ما يستحق من إجلال وتوقير باعتباره هو الإله الوحيد الذي يجب أن يدينوا له بالطاعة والحب فقال: ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارًا﴾ الرجاء ضد اليأس والوقار الرزانة والحلم والمعنى لأي سبب
هَذَا} أي قوله: - ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ -: ﴿لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ المنزلة من عند الله قبل القرآن: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ يعني صحف جميع الأنبياء فدين الله واحد ووعده ووعيده واحد.
سورة الغاشية
مكية وعدد آياتها ست وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (٤) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)﴾بعد أن أملى الله على رسوله واجب الإنسان حيال ربه في السورة السابقة أخذ يوضح له كيف يكون جزاؤه على الأعمال في الحياة الأخرى فقال: ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾ بمعنى هل اتصل بعلمك: ﴿حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ أي القيامة المحجوبة عنا وما سيكون حال الناس فيها إنهم فئتان:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ منكسة الرءوس من الذل وقد عراها الخزي والهوان وقد كانت من قبل في الحياة الدنيا: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ أي في تعب ونصب أما في ذلك اليوم يوم الغاشية فإنها: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ أي تقاسي حرها وتعذب بآلامها لأن أعمالها في الدنيا لم تكن ابتغاء مرضاة الله فلم تنل منه جزاء عليها: ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ﴾ أي من ينبوع ماء: ﴿آنِيَةٍ﴾ مؤنث آن أي شديدة الحرارة، من أنى الماء يأني إذا بلغ أقصى درجات الغليان: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ﴾ يأكلونه ويقتاتون منه: ﴿إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾ الضريع نبت خبيث وهو يشبه الشبرق لا تقربه الدواب لخبثه: ﴿لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ بمعنى أنه لا يشبع جوعهم بل يزيدهم هلاكًا.