سيعملون ويجعلهم ﴿في طغيانهم يعمهون﴾ أي يتردون في الضلال على حد قولهم: «وتقدرون فتضحك الأقدار» ولولا ذلك لعاملهم معاملة جدية وأهلكهم عن بكرة أبيهم في أقل من لمح البصر ﴿أولئك﴾ أي من ذكر من الناس هم ﴿الذين اشتروا الضلالة﴾ أي الباطل: بمعنى أخذوا آراء خاطئة من أقوال الفلاسفة والعلماء الطبيعيين وتبنوها ونشروها ﴿بالهدى﴾ أي وتركوا ما أنزله الله من حقائق ثابتة، ودستور عالمي كامل يضمن صلاح البشر وسعادة الدارين ﴿فما ربحت تجارتهم﴾ أي إن دعواهم الإسلام، وتملقهم للناس، ونشرهم
للأفكار الخاطئة كل هذا لم يكسبهم في الحياة أكثر ما يناله سواهم من الرزق ﴿وما كانوا مهتدين﴾ أي لم يصل بهم تفكيرهم إلى ما وصل إليه المتقون من هداية القرآن التي ضمنت لهم السعادة في الدنيا والآخرة فهم والحالة هذه قد باؤوا بالخسران المبين. وهنا ضرب الله مثلًا لهؤلاء القوم فقال ﴿مثلهم﴾ فيما يقومون به من دعوة خاطئة لا تقوم على أساس قوي ﴿كما الذي استوقد نارًا﴾ قوية تلفت الأنظار إليها وتحدث ضجة عالية، ولم يكن لديهم من المواد اللازمة للوقود ما يضمن لها البقاء والاستمرار ﴿فلما أضاءت ما حوله﴾ أي فما كاد الناس يتسامعون بها حتى ﴿ذهب الله بنورهم﴾ فأطفئت تلك النار من تلقاء نفسها، شأنها في ذلك شأن كل شيء لا أساس له، سرعان ما يتحلل ويزول وفق سنن الله التي تقضي بذلك ﴿وتركهم في ظلمات﴾ حالكة دامسة ﴿لا يبصرون﴾ سبيل الإخلاص والإنقاذ من غياهب الظلمات. ومن أين يأتي إليهم الهدى أو المواد اللازمة لإقامة صرح دعوتهم وهم ﴿صمٌ﴾ عن سماع كلام الله وسنة رسوله ﴿بكمٌ﴾ عن طلب الاسترشاد وفهم حقائق الإسلام، وما يدعو إليه من فضائل ومكرمات ﴿عميٌ﴾ عن رؤية ما بين أيديهم من الآيات الكونية المحسوسة الدالة على عظيم قدرة الله، وأنه تعالى العزيز الذي لا يغلب. ﴿فهم لا يرجعون﴾ عن غيهم لانغماسهم في الشهوات، وعدم رغبتهم في الرجوع إلى الله والاحتكام إلى القرآن الذي أنزل إليهم ﴿أو كصيبٍ﴾ أي ومثلهم تجاه القرآن المنزل من عند الله كمثل قوم نزل لهم صيب، وهو المطر النازل ﴿من السماء﴾ وهذا الصيب ﴿فيه ظلماتٌ﴾ أمور غامضة لا يعرفون مغبتها كعوارض البرد، ووهج الرياح، وآثار السيول؛ مما يقض المضاجع، ويخرب البيوت، ويكون سببًا للنفع والضر، كما في القرآن من آيات تبدو غامضة، وهي تحمل في طياتها من الأسرار الإلهية، والسنن الكونية، ما فيه الخير والضر لبني الإنسان ﴿ورعدٌ﴾ ينتج من احتكاك السحب فيخيف السامعين
بعض ﴿بالباطل﴾ حالة كون ذلك الاستيلاء بغير حق ولا طريق مشروع كالغصب والرشوة وما أشبه ﴿وتدلوا بها﴾ أي تقدموها ﴿إلى الحكام﴾ مدعين فيها زورًا وبهتانًا وتؤيدون ذلك بالأقوال والبراهين الباطلة ليحكموا لكم بها دون حق ﴿لتأكلوا﴾ بتنفيذ أحكامهم ﴿فريقًا﴾ أي جانبًا ﴿من أموال الناس﴾ ولتتخذوا من ذلك وسيلة تمكنكم من التعدي والعدوان ﴿بالإثم﴾ أي بحكم قائم على مستند باطل عار عن الصدق في دعواكم الكاذبة ويرجع إليكم وزره ﴿وأنتم تعلمون﴾ بطلان هذا الادعاء فعقابه وحرمته عليكم.
وبينما كان النبي ﷺ يقرر للمؤمنين ما أوجب الله عليهم من الإمساك عن الطعام والشراب والجماع في رمضان والإمساك عن أكل أموال الناس بالباطل وقد كان الواجب يقضي عليهم أن يطلبوا منه الاستمرار في بيان ما أحل الله وما حرم وما فرض من العبادات التي تقرب إليه إذا هم يسألونه ما بال الهلال يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم ينمو ويستدير ثم ينقص حتى يعود كما بدا؟ ولم لا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية حيث قال ﴿يسألونك عن الأهلة﴾ ما بالها تبدو صغيرة ثم تكبر ولا تبقى على حالة واحدة؟ ﴿قل﴾ أيها الرسول إنما كانت كذلك لحكمة سامية ﴿هي﴾ أن تكون ﴿مواقيت للناس﴾ مواعيد لتحديد الأزمنة يرتبط الناس بها في معاملاتهم ﴿والحج﴾ ومواعيد لأداء فريضة الحج، وعلى ذكر الحج أمر الله نبيه بأن يعرض لهم بأمر منكر كانوا يقترفونه في الحج لم يأمر به الله، وهو أنهم كانوا إذا حرموا آتوا البيوت من ظهورها بأن يثقبوا بها ثقبًا من خلفها على عادتهم في الجاهلية بزعم أن سقف الباب يحول بينهم وبين السماء حيث قال تعالى ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت﴾ بضم الباء وقرئ بكسرها ﴿من ظهورها﴾ فبدلًا من أن تسألوا الرسول عن الأهلة وأمرها لا يعنيكم، كان الأحرى بكم أن تسألوه عما هو من اختصاصه وهو حكم الله في تلك العادة التي تتبعونها في الإحرام بإتيانكم البيوت من ظهورها وليست من البر في شيء وليس البر في تحرجكم من دخول الباب ﴿ولكن البر من اتقى﴾ فالبر هو الحرص على اتباع ما أمر الله به والاجتناب عما نهى عنه ﴿وأتوا البيوت من أبوابها﴾ ومتى علمتم ذلك فأتوا البيوت من أبوابها ولا تسألوا الرسول إلا عن أحكام
@يا قاهرًا فوق العباد يخيفهم
#بالموت وهو النور من ظلمات
@ما العيش إلا ظلمة وتحجب
#عن نور وجهك داخل المشكاة
@فالجسم منها آلة في خلقها
#وضعت على قدر من القوات
@والروح تحييها إلى أجل لها
#فإذا انتهت وقفت عن الحركات
@والسر فيها أنت حيث نفختها
#فينا فكنت مسبب النبضات
@والنفس أشبه بالسجين شقاؤه
#في أسره والسعد في الإفلات
@والموت إطلاق لها من قيدها
#وكذاك فيه إراحة العضلات
@والناس عن ذا أغفيت أبصارهم
#فاستبدلوا الدنيا بخير آت
@أنا لا أخاف الموت بل هو غايتي
#ووسيلتي لتحقق الرغبات
وكتب لي أحد علماء الأزهر الأجلاء من مصر يقول إن ما جنحت إليه من أن الله يمحو ويثبت في أم الكتاب ما قضى به وما قدره ليس هو المراد من قوله تعالى: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ بل المراد منها شيء واحد فقط لا ثاني له إنما هو أحكام التشريع بما يناسب كل زمان حيث بدأت الآية بقوله تعالى: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب﴾ أي لكل زمن كتاب على حد قوله تعالى: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا﴾ فالمراد بالمحو إنما هو إلغاء بعض الأحكام التي تلائم ما استجد من الزمان وقد قال علماء السلف الصالح شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يجد ناسخ ينسخه.
وقد أجبت فضيلته على هذا بقولي من أين لنا هذا الحصر ومن هو الذي يستطيع أن يتحكم في مراد الله ولفظ ﴿ما يشاء﴾ عام يشمل جميع الأحكام بما فيها القضاء والقدر وقد نص الفقهاء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال لي عالم جزائري جليل تعليقًا على هذا حقًا إنها لجرأة منكم أشكركم على الجهر بها ولكني أعتقد أن كثيرًا من العلماء المقلدين في عصرنا هذا سوف لا يقرونكم عليها ولو اقتنعوا بصحتها فكلام المشائخ في نظرهم كنص الشارع بل ربما كان أقوى. قلت هذا لعمري هو السر في تأخرنا وبعدنا عن الله وإني بتفسيري هذا إنما أدعو الناس إلى الإيمان بإله عادل لا يحكم الناس بالهوى والعاطفة ولا يستغل نفوذه لإيقاع الضرر بأحد من عبيده المستضعفين تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فالجميع أمامه سواء وإنما يؤاخذهم بما كسبت أيديهم ولا يضن عليهم بشيء مما يشاءون. وإني لا أقصد بهذا إلا تحرير البشر من العبودية لغير الله أريدهم أحرارًا في أفكارهم وأنفسهم، لا سلطان عليهم إلا الله خالقهم، وما أنزله من كتب، وما أرسله من رسل.
أريد أن أسمو بنفوسهم عن أن ترضخ للبدع، والخرافات وما يدعو إليه الدجاجلة من الأوهام وفاسد العبادات، أريد أن أقوي صلتهم بالله، ليمدهم سبحانه بمعونته ويسيروا في الحياة بخطى واسعة إلى كل ما فيه خير البشر وسلام العالم، أريد أن أنير لهم الطريق إلى ما فيه سعادة الدارين وخير الحياتين.
وضمان سلامته وطمأنينته ﴿ثم جاؤوك﴾ يعتذرون إليك و ﴿يحلفون بالله﴾ ليخدعوك ويقولوا: ﴿إن أردنا﴾ بالاحتكام إلى غير ما جئت به ﴿إلا إحسانًا وتوفيقًا﴾ أي إلّا الخير والتوفيق بين الناس مسلمهم ومسيحيهم وتقريب وجهة النظر لحصول الموافقة من الطرفين، أما أنت يا رسول الله فإنك لا تحكم إلا بالحق الأمر الذي قد لا يرضى أحد الفريقين فيوجد في النفس حزازة، وأمام هذا المنطق المعسول ماذا سيكون حكمك أو ما ترى في أمرهم؟ وهنا أراد الله أن يحيط رسوله علمًا بحقيقتهم فقال: ﴿أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم﴾ من رغبة وانشراح صدر للاحتكام للطاغوت وحكم الفرد حيث يجدون أمامهم منفذًا للمجاملة والمحاباة لا يجدونه في أحكام الله ورسوله، وأمام هذا التناقض بين أقوالهم وما يعلمه الله مما تكنه ضمائرهم أمر الله رسوله أن يعاملهم بثلاثة أشياء.
الأول: قوله ﴿فأعرض عنهم﴾ أي: لا تقبل منهم العذر ولا تعتني به ولا تجابههم بما تعلمه من بواطن أمرهم لئلا يجرؤهم ذلك على عدم المبالاة وإظهار ما يكتمونه من العداء وتزايد الشر بل أتركهم في حالة خوف ووجل. والثاني قوله تعالى ﴿وعظيم﴾ أي: تحدث إليهم عن الطاعة وفضائلها وعن مزايا الاحتكام إلى الله ورسوله وإجماع أولي الأمر وعما للأحكام السماوية من مرام بعيدة قد لا تبدوا للناظر ولكنها تظهر كنتيجة لازمة لمن يمارس ذلك ويحرص على تطبيق الأحكام بكل دقة، الثالث: قوله: ﴿وقل لهم في أنفسهم﴾ أي: وانصحهم في السر لا على ملأ من الناس لأن الكلام السري يبلغ في النفس ما لا يبلغه التقريع والتشهير ﴿قولًا بليغًا﴾ مشتملًا على الترغيب والترهيب والتحذير والإنذار حتى يصل ذلك إلى قلوبهم ويؤثر في نفوسهم ويوقظ فيهم الشعور
جمع وجه وحدّه من أعلى سطح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولاً وما بين شحمتي الأذنين عرضا ويدخل ضمن الوجه ما يظهر من باطن الفم والأنف عملاً بأمر الرسول ﷺ وصحابته بالمضمضة والاستنشاق وملازمته لذلك هو وصحابته ولم ينقل عنهم ترك المضمضة والاستنشاق ولا مرة واحدة (وَأَيْدِيَكُمْ) من رؤوس الأصابع (إِلَى الْمَرَافِقِ) جمع مرفق -بفتح الميم والفاء- أعلى الذارع وأسفل العضد وقد اتفق العلماء على وجوب غسلهما لأن النبي ﷺ كان يغسلهما ولم يرد أنه ترك غسلهما والالتزام المضطرد دليل الوجوب (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) أي بجانب منها من غير استيعاب ولا تحديد فقد ورد عن رسول الله أنه ﷺ مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردها إلى المكان الذي بدأ منه وروى مسلم والترمذي أنه توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين (وَأَرْجُلَكُمْ)
<٣٢>
بفتح اللام عطفا على أيديكم أي واغسلوا أرجلكم وقرئ بكسرها عطفا على برؤوسكم (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين وقد أخذ الجمهور بقراءة النصب وأيدوا ذلك بالسنة الصحيحة وإجماع الصحابة وخصوصاً وأنه منطبق على حكمة الطهارة لأن الوسخ أكثر عروضاً للرجلين من سائر الأعضاء وجعل الكعبين غاية طهر الرجلين لا يحصل إلا باستيعابهما بالماء وقد ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا وتواترت الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» والمسح لا يكون للأعقاب وبطون الأقدام وروى محمد بن الحسن الصعار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله ﷺ فلما غسلت قدمي قال يا علي خلل بين الأصابع». ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه ﷺ وذكر فيه غسل الرجلين ولعل قراءة الجر منصرفة إلى مسح الأرجل في حال لبسهما للخفين فقد تواترت الأخبار عن رسول الله
هذا أن الله تعالى كائن في السموات والأرض، وأخذ منه العامة قولهم إنه تعالى في كل مكان. مع أن الله أعلى وأجل مما قالوا لا يحويه زمان ولا مكان. والمعنى أن اسم الجلالة هذا «الله» هو علم لرب العالمين المعترف به في السموات والأرض عند المسلمين والمشركين على حد سواء. إذ يقول تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله﴾ وهذا كما تقول إن حاتمًا هو حاتم في طي وفي جميع القبائل أي المعروف بالجود المعترف له بهذا الاسم في قومه وفي غيرهم ﴿يعلم﴾ أي يثبت له كمال العلم ﴿سركم وجهركم﴾ أي يستوي لديه أعمال القلوب وأعمال الجوارح في السموات والأرض ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ أي ما يترتب على تلك الأعمال من حق مكتسب لكم من ثواب أو عقاب فلا ينبغي أن ينسب كمال العلم لأحد معه في السموات والأرض. وهو جل جلاله كما قال رسوله ﷺ في حديث جبير بن مطعم: «إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وسمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي ﷺ بيده مثل القبة» وكما كانت تفخر به السيدة زينب على أزواج النبي إذ تقول: «زوجكن أهلوكن وزوجني الله من فوق سبع سموات» وهذا لا يتنافى مع القول بأن الله في السماء لأن كل ما علاك فهو سماك والله سبحانه أعلى من جميع مخلوقاته.
بعد أن سرد الله الأدلة القائمة على وحدانيته وكفّر من جحد ربوبيته وشرك من أشرك بألوهيته رغم اعتراف الجميع بسعة علمه؛ أخذ يبين ما سيكون منهم نتيجة لذلك من إعراض عن التدبر في آيات الله، وتكذيب بدينه الحق وغرور بالنفس، وتجاهل لما في تاريخ من سبقهم من عبر تدل على عظيم قدرة الله وشدة نقمته على من كفر بنعمه وكذب رسله فقال ﴿وما تأتيهم﴾ أنت أيها الرسول ﴿من آية من آيات ربهم﴾ التي أوحينا بها إليك والتي تنبههم إليها من سنن الكون الدالة على وحدانية الله بقصد إصلاحهم وهدايتهم لأقوم السبل التي فيها خيرهم وسعادتهم ﴿إلا كانوا عنها معرضين﴾ أي منصرفين عن تدبر معانيها وما توحي به من حكم ومواعظ ودعوة إلى الإيمان بالله والاعتماد عليه وحده ﴿فقد﴾ صدق عليهم بصنيعهم هذا أنهم جميعًا ﴿كذبوا بالحق﴾ وهو الإسلام إذ يقول تعالى في سورة أخرى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق﴾ وقوله: ﴿ولا يدينون دين الحق﴾، ﴿لما جاءهم﴾ به الرسول من عند الله ﴿فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون﴾ أي فلا بد أن يحل بهم مصداق ما جاء في القرآن من
سورة الأعراف
{المص (١) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٢٢) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
سنة ١٨٤٤م هكذا «وعلى إسماعيل استجيب لك، هو ذا أباركه وأكبره وأكثره جلدًا فسيلد اثنى عشر رئيسًا وأجعله لشعب كبير» وجاء في ترجمات سنة ١٧٢٢م وسنة ١٨٣١م العربية في سفر التكوين «٤٩: ١٠ فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم» وفي ترجمة سنة ١٠١١ «فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب» وجاء في إنجيل برتابا الذي عثر عليه راهب اسمه «مرينو» في خزانة الفاتيكان فسرقه في أواخر القرن السادس عشر وأذاعه وقد ترجم إلى الإنجليزية ثم ترجمه إلى العربية الدكتور أنطون سعادة وطبع بمطبعة المنار ١٣٢٥ وقد نص في الفصل الثاني والسبعين من هذا الإنجيل أن المسيح عليه السلام أخبر الحواريين أنه سينصرف عن هذا العالم ثم قال ما نصه «٧ فبكى حينئذ الرسل قائلين يا معلم لماذا تتركنا لأن الأحرى بنا أن نموت من أن تتركنا ٨ أجاب يسوع لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا (١) ٩ لأني لست أنا خالقكم بل الله الذي خلقكم يحميكم ١٠ أما من خصوصي فإني قد أتيت لأهيء الطريق لرسول الله الذي سيأتي بخلاص للعالم ولكن احذروا أن تغشوا وأنه سيأتي أنبياء كذبة كثيرون يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي، ١١ حينئذ قال أندراوس: يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه. «١٣ أجاب يسوع. إنه لا يأتي في زمنكم بل يأتي بعدكم بعدة سنين حينما يبطل إنجيلي ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمنًا ١٤ في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم ١٥ وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم ١٦ وإني أسر بذلك لأنه بواسطته سيعلن ويمجد الله ويظهر صدقي ١٧ وسينتقم من الذين سيقولون إني أكبر من إنسان ١٨ الحق أقول لكم إن القمر سيعطيه رقادًا في صباه ومتى كبر هو أخذه بكفيه ١٩ فليحذر العالم أن ينبذه لأنه سيفتك بعبدة الأصنام ٢٠ فإن موسى عبد الله قتل أكثر من ذلك كثيرًا ولم يبق يشرع على المدن التي أحرقوها وقتلوا الأطفال ٢١ لأن القرحة المزمنة يستعمل لها الكي»، «٢٢ وسيجيء بحق أجلي من سائر الأنبياء وسيوبخ من لا يحسن السلوك في العالم ٢٣ وسيحمي طربا أبراج مدينة آبائنا بعضها بعضًا ٢٤ فمتى شوهد سقوط عبادة الأصنام إلى الأرض واعترف بأني بشر كسائر البشر. فالحق أقول لكم إن نبي الله حينئذ يأتي» وجاء في الفصل السادس والتسعين من محاورة المسيح ورئيس الكهنة لليهود أن الكاهن سأله عن نفسه فأجاب بذكر اسمه واسم أمه
تلك الشجرة التي حصلت البيعة تحتها، فرأى عمر في خلافته أن هذا ليس من الإسلام في شيء فأمر باقتلاع تلك الشجرة وفي مكانها الآن مسجد يصلى فيه.
معاهدة الحديبية
رجع عثمان إلى رسول الله ﷺ وأخبره بأن قريشًا قد قنعت بحسن نيته وقصده من الزيارة وأنه ما جاء محاربًا ولكنها مع هذا ترى في مجيئه على رأس جيش كبير اعتداء على سلطانها وامتهانًا لكرامتها ولذلك فإنها ترفض قدومه عليها في هذا العام وإنها على استعداد لأن تسمح بزيارته البيت الحرام في العام القادم: فأوجب جوابها هذا تفكيره عليه الصلاة والسلام إذ أنه حقًّا لم يخرج من المدينة هو وأصحابه إلا قاصدين العمرة فقط ولكنهم كانوا مصممين على مقاتلة قريش إذا هي حالت دونهم ودون ذلك بحيث تكون التبعة عليها لأنها منعتهم من زيارة البيت الذي لا حق لها في منع أحد من زيارته خصوصًا في الأشهر الحرم غير أن الأسباب التي أبدتها قريش والاقتراح الذي عرضته قد يضعف حجة الرسول فيما إذا صمم على دخول مكة في الأشهر الحرم محاربًا تنفيذًا لبيعة الرضوان التي عاهده الصحابة فيها على الموت في سبيل الله فأخذ يشاور أصحابه فيما عساهم يجدونه لهذا من حل وبينما هم يتشاورون إذ أقبل عليهم رسول قريش سهيل بن عمرو جاء مفوضًا من قبلها في عقد صلح معه على غرار ما عرضته عليه من قبل من أن يدعهم ودينهم ويدعونه ودينه لا يتعرض لهم ولا يتعرضون له وأن يسمحوا له بزيارة البيت الحرام في العام القادم فاغتنمها النبي ﷺ فرصة لعقد أول معاهدة سياسية في الإسلام ذات مرام بعيدة توصله إلى غايته وتضمن له النصر المبين من أقرب الطرق ذلك أن الرسول الأعظم عندما عرضت عليه قريش من قبل الصلح معه على أساس أن يدعهم ودينهم ويدعوه ودينه كان يتشدد في طلبه ويأبى إلا أن يعطوه كلمة واحدة هي أن يقولوا لا إله إلا الله وأن يتركوا ما يعبدونه من دون الله وقد منع من هذا بقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾.
بل وعوتب من قبله تعالى على ذلك بقوله: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ لذلك رأى رسول الله ﷺ أن يتخلى عن
بعد أن عرف الله ذاته العلية لعباده بأنه هو خالق السموات والأرض وأنه هو مدبر كافة شئون خلقه من فوق عرش ملكه وأنه لا شفيع لديه إلا لمن يريد الله رحمته أخذ يخبرهم بأمر هام يجهلونه ولا يدركون سره مع أنه يترتب على العلم بحقيقة سعادتهم في هذه الحياة ألا وهو موضوع مصيرهم بعد الموت الذي يبدو كأنه دليل على الفناء وهذا وهم من شأنه أن يحمل الإنسان على التزود في حياته بأكبر قسط من متع النفس وملذاتها ولو كان في ذلك إضرار بالآخرين فأراد جل وعلا أن يصحح هذا الوهم بما يشعرهم بالحقيقة التي لا مراء فيها والتي خلقهم من أجلها فقال: ﴿إليه مرجعكم جميعًا﴾ أي أنكم ستنقلون بعد الموت من هذه الحياة الدنيا إلى حياة أخرى دائمة وهذا أمر لا بد منه: ﴿وعد الله حقًّا﴾ أي وعدكم به وعدًا من الله حقًّا لا مراء فيه وقرئ «وعد الله» بصيغة الفعل: ﴿إنه﴾ أخذ على ذاته العلية أنه تعالى: ﴿يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ أي يبدأ خلق جميع الموجودات من أرض وسماء قال الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحانيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية ما يرى منها بالإبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى كلها قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، وعلى أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسًا حتى تكون هباء منبثًا، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما، فأما بدؤه فقد حصل بالفعل وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرًا على الإعادة بالطريق الأولى كما قال في سورة الروم: ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾ ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر – وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث – أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيًّا وهنا أراد جل جلاله أن يبين الحكمة في بعث الناس بعد موتهم فقال: ﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط﴾ أي وإنما وعد الله عباده بالبعث ليشعرهم
بعضهم من أن للأولياء عند الله من المكانة ما يجعلهم يدفعون العذاب عمن يريدون استنادًا إلى ما حكاه الله في حق أهل الجنة بقوله: ﴿لهم ما يشاءون عند ربهم﴾ وظاهر الآية يدل على أن لهم ما يشاءون لأنفسهم ولا يتعدون ذلك إلى الشفاعة التي نفاها الله عن حكمه وقال إنهم: ﴿لا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ نسأله تعالى أن يمن علينا بالرضا ويشفع فينا رسوله وأولياءه فنحن بالقصور موصوفون وفي الذنب غارقون.
بعد أن أخبر الله رسوله بما كان من زيارة الملائكة لإبراهيم وإخباره بما وكل إليهم من إهلاك قوم لوط أخذ يصف له ما حدث عند وصولهم إلى لوط فقال: ﴿ولما جاءت رسلنا﴾ على صورة غلمان حسان الوجوه كما كانوا عند مرورهم بإبراهيم: ﴿لوطًا سيء بهم﴾ لأنه أيقن أن قومه لا بد أن يكونوا قد رأوهم بهذا المنظر الفاتن فيتبعونهم: ﴿وضاق بهم ذرعًا﴾ ذرع الإنسان منتهى طاقته التي يحتملها بمشقة أي أنه عجز عن التفكير في الطريقة التي يحمي بها ضيوفه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم: ﴿وقال هذا يوم عصيب﴾ مشتق من العصب بفتح العين وسكون الصاد الشد ومنه العصابة التي يشد بها الرأس من شدة الألم أي إنه يوم شديد الأذى لما سيحدث فيه من أحوال تكاد تورث انفجار الرأس: ﴿وجاءه قومه﴾ وهو على تلك الحالة: ﴿يهرعون إليه﴾ أي يهرولون إليه كأن سائقًا يسوقهم: ﴿ومن قبل كانوا يعملون السيئات﴾ أي ومن قبل هذا المجيء اعتادوا عمل السيئات التي حكاها الله عنهم في سورة العنكبوت بقوله: ﴿ولوطًا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر﴾ فلما رآهم وقد تجمعوا حول ضيوفه: ﴿قال يا قوم هؤلاء بناتي﴾ أي بنات الأمة لأن النبي في رحمته لقومه كالوالد في عطفه وحنوه على أولاده، أو هو بمثابة الأب الروحي للأمة التي يتولى رعايتها وحفظها من الوقوع في الزلل، ولا صحة لما زعمه بعض المفسرين من أنه عليه السلام عرض عليهم بناته لصلبه ليستمتعوا بهن أخذًا لما جاء في سفر التكوين لأن هذا بمثابة غسل الدم بالدم ليس من الطهارة في شيء ولا يمكن أن يرضى به رجل منهم فضلًا عن نبي كريم: ﴿هن أطهر لكم﴾ من التلوث بما في اللواط من قذارة تتقزز منها النفوس وتنفر منها الطباع السليمة: ﴿فاتقوا الله﴾ بالإقلاع عن هذه العادة الذميمة والعدول عنها إلى الزواج بالنساء: ﴿ولا تخزون﴾ وقرئ «ولا تخزوني» أي لا تفضحوني: ﴿في ضيفي﴾
في كتبه وعلى لسان رسله وقد أشار إليه تعالى بقوله: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ وقوله: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ وقوله: ﴿وما الله يريد ظلمًا للعالمين﴾ وإرادة أمرية تنفيذية وهي التي تتعلق بتطبيق نظام القدر المنبعث عن المشيئة على الناس ورحمة من يستحق الرحمة منهم بعد إقدامهم على الأعمال وفق ما أخبرنا الرسول ﷺ بقوله «من وعده الله على عمل ثوابًا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار» وقد أشار الله إلى هذه الإرادة الأمرية التنفيذية المتأخرة عن الأعمال بقوله: ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ أي متى أردناه إنفاذ مقتضى القدر أو الرحمة نأمر به فينفذ فيكون معنى هذه الآية أنه إذا أمعن الناس في الفساد واتبعوا السنن المؤدية إلى الهلاك والوقوع في مختلف الأمراض ولم يرد الله رحمتهم طبق نظام المشيئة في حقهم ونفذ حكم القدر بإرادة الله: ﴿وما لهم من دون الله من وال﴾ أي ليس لهم من دون الله من يدفع عنهم البلاء ويقف في وجه إرادته ولا تنفعهم شفاعة شفيع أو حنكة طبيب أما إذا لم يرد الله تطبيق نظام القدر في حقهم سبب لهم من الأسباب الظاهرة أو الخفية ما يحول دون نفاذ حكمه ويعطل مفعوله بمحض كرمه أو نتيجة لجوء العبد إلى ربه بالدعاء الذي أخذ على ذاته العلية استجابته بعد أن يعجز الطب في علاجه وتفشل كل المحاولات التي بذلت لإنقاذه.
ومن الأمثلة على لطف الله وماله من المعقبات الذين يحفظون الناس من أمر الله ما نشرته الصحف أخيرًا عند طبع هذا الجزء من أمر سيارة أجرة كبيرة كانت مسافرة من دمشق إلى حلب تحمل أكثر من عشرين شخصًا وبينما هي في الطريق إذ أوقف السائق السيارة وأمر معاونه أن ينزل ليحمل شخصًا أمامه فنزل المعاون وبحث عن الرجل فلم يجده فعاد إليه وقال إني لم أجده فأصر على وجود رجل رآه بعينيه لعله إلى الجانب الآخر فذهب المعاون فلم يجده ورجع فوجد السائق قد فارق الحياة وبحث الجميع عن الرجل الذي كان يريد إركابه فلم يجدوه فعجبوا من الأمر، وإني لا أشك أن الله قد أوقف للسائق ملكًا خيل إليه أنه رجل فأوقف السيارة لنجاة الركاب ولولا ذلك لمات والسيارة في أثناء سيرها بسرعة فهوت وقضي على كل من كان فيها والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.
بعد أن حطم الله الأسس التي تقوم عليها دعوى المعجزات بانفراده تعالى بالعلم بالمغيبات والعون في النائبات وسن النظم لسائر المخلوقات والتحكم في المقدرات أخذ يقيم الأدلة على وافر قدرته
وساءت مرتفقًا} أما إلجاء الناس على اتباع أحد الطريقين فهذا ما لم يكن من مشيئة الله وليس هو من وظائف الرسل المحصورة في التبليغ ولا هو من الحكمة التي يقوم عليها أمر تكليف العباد الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، ولأجل أن يوجب الله على الناس الإيمان برسله ويفهمهم أنه تعالى لم يشأ الضلال لعباده أصلًا وإنما شاء لهم الهداية إذ أرسل لهم رسله ليرسموا لهم سبيل منالها قال: ﴿ولقد بعثنا في كل أمة﴾ من الأمم السابقة: ﴿رسولًا﴾ من قبلنا يبلغهم ما نريده منهم مما أوحي به إليهم من قولنا: ﴿أن اعبدوا الله﴾ ربكم إلهًا واحدًا لا شريك له: ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ أي الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلالة وهذا بلا شك بيان لما يرضي الله وما يغضبه من أعمال العباد وبرهان قائم على ما منحه تعالى للعباد من اختيار تام في جميع تصرفاتهم بعد ذلك فلما بلغوهم ما أمروا به انشطروا إلى فريقين: ﴿فمنهم﴾ أي من تلك الأمم: ﴿من هدى الله﴾ إلى الحق باستجابتهم لدعوة الله وصرف قدرتهم بمحض اختيارهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت: ﴿ومنهم من حقت﴾ أي وجبت وثبتت: ﴿عليه الضلالة﴾ وفق مشيئة الله في حق من أعرض عن سلوك سبيل الهداية وصرف قدرته بمحض اختياره إلى اتباع الطاغوت الذي نهي عنه: ﴿فسيروا﴾ يا عباد الله: ﴿في الأرض فانظروا﴾ في أنحائها: ﴿كيف كان عاقبة المكذبين﴾ لرسل الله فيما جاؤوا به من عند الله من الشرائع إذ لو كان ما يقولونه حقًّا لما أرسل الله الرسل لبيان ما يضر الناس وما ينفعهم ولما حل بهم ما حل نتيجة إعراضهم عن ذلك، ولأجل أن يثبت الله لعباده أن أمر الهدى والضلال عائد لمشيئة الإنسان التي منحها الله له لا ما شاءه تعالى عليه من الأزل ختم الله الآية بما يشعر رسوله بأن ما يبذله من جهد لإقناع قومه بالإيمان لا يمكن أن يجعلهم مؤمنين إلا أن يشاؤوا ذلك لأنفسهم بمحض اختيارهم لا ما يحبه الرسول لهم فقال: ﴿إن تحرص﴾ أيها الرسول: ﴿على هداهم﴾ أي على هداية المكذبين لك إلى الإيمان بمختلف الوسائل التي منها الدعاء لهم بالهداية: ﴿فإن الله لا يهدي﴾ من أجل حرصك هذا: ﴿من يضل﴾ أي من يقضي نظام المشيئة ضلاله ممن أشار الله إليهم بقوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون﴾.
بعد أن عرف الله ذاته العلية لعباده بأنه هو خالق السموات والأرض وأنه هو مدبر كافة شئون خلقه من فوق عرش ملكه وأنه لا شفيع لديه إلا لمن يريد الله رحمته أخذ يخبرهم بأمر هام يجهلونه ولا يدركون سره مع أنه يترتب على العلم بحقيقة سعادتهم في هذه الحياة ألا وهو موضوع مصيرهم بعد الموت الذي يبدو كأنه دليل على الفناء وهذا وهم من شأنه أن يحمل الإنسان على التزود في حياته بأكبر قسط من متع النفس وملذاتها ولو كان في ذلك إضرار بالآخرين فأراد جل وعلا أن يصحح هذا الوهم بما يشعرهم بالحقيقة التي لا مراء فيها والتي خلقهم من أجلها فقال: ﴿إليه مرجعكم جميعًا﴾ أي أنكم ستنقلون بعد الموت من هذه الحياة الدنيا إلى حياة أخرى دائمة وهذا أمر لا بد منه: ﴿وعد الله حقًّا﴾ أي وعدكم به وعدًا من الله حقًّا لا مراء فيه وقرئ «وعد الله» بصيغة الفعل: ﴿إنه﴾ أخذ على ذاته العلية أنه تعالى: ﴿يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ أي يبدأ خلق جميع الموجودات من أرض وسماء قال الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحانيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية ما يرى منها بالإبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى كلها قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، وعلى أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسًا حتى تكون هباء منبثًا، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما، فأما بدؤه فقد حصل بالفعل وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرًا على الإعادة بالطريق الأولى كما قال في سورة الروم: ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾ ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر – وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث – أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيًّا وهنا أراد جل جلاله أن يبين الحكمة في بعث الناس بعد موتهم فقال: ﴿ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط﴾ أي وإنما وعد الله عباده بالبعث ليشعرهم
﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ فتح الباب خلاف أغلقه أي أن الله تعالى يسلس له كل ما استعصى عليه أمره ويجعل له من ضيقه فرجًا ومخرجًا: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي بلغهم البشرى وهو الخبر المفرح بمعنى أنهم سيكونون دائمًا فرحين مستبشرين بوعد الله لهم في سورة يونس حيث قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ بالله وتعاطوا هذه التجارة التي أرشدهم إليها: ﴿كُونوا أَنصَارَ اللهِ﴾ أي انصروا رسوله بالقول والفعل ومختلف الأسلحة تأييدًا لدينه وإعلاء لكلمته دون حاجة لأن يقول لكم: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ﴾ أي الناصحين وهم أصفياء عيسى وأول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلًا: ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ جميعًا: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾ لا نخاف غيره ولا يثنينا شيء عن نصرته مهما نالنا من ويلات فبعثهم إلى الناس: ﴿فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ على أيديهم: ﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾ أي من بني إسرائيل: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ بالله من قوم موسى وعيسى ومحمد: ﴿عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ من اليهود الذين كفروا بالله وكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق: ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ أي فأصبح دستور الله في خلقه أن كل من ينصر الله لابد أن يكونوا: ﴿ظَاهِرِينَ﴾ أي معينين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.
سورة الجمعة
مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِتيأسون من حلم الله وحلمه قد تجلى لكم من عدم تعجيله بعذابكم وتحسبونه غير قادر على ذلك: ﴿وقد خلقكم أطوارًا﴾ أي على حالات شتى على فترات بالتدريج فقد خلقكم نطفًا ثم خلقكم علقًا ثم خلقكم مضغًا ثم خلقكم عظامًا ولحمًا ثم أنشأكم خلقًا آخر مع أنه كان في الإمكان أن يخلقكم من الأصل بحالة واحدة فدل هذا على أن نظامه في خلقه لا يقضي بالسرعة بل بالتأني والرزانة: ﴿ألم تروا﴾ يا قومي سنته تعالى في الخلق والتكوين: ﴿كيف خلق الله سبع سماوات طباقًا﴾ أي طبقة بعد طبقه وكان في إمكانه أن يخلقها طبقة واحدة كثيفة: ﴿وجعل القمر فيهن نورًا﴾ أي ضوءًا يبين الأشياء: ﴿وجعل الشمس سراجًا﴾ أي مصدر ضوء قوي وكان في إمكانه الاكتفاء بأحدهما دون حاجة إلى تعدد الخلق وهذا التطور في المخلوقات: ﴿والله أنبتكم من الأرض نباتًا﴾ أي جعل مصدر خلقكم الأول وهو آدم من الأرض ثم أنبتكم من النطفة في بطون أمهاتكم كإنبات النبات في الأرض بالتدريج: ﴿ثم يعيدكم فيها﴾ أي في الأرض: ﴿ويخرجكم﴾ منها: ﴿إخراجًا﴾ على حالتكم التي كنتم عليها بحالة واحدة: ﴿والله جعل لكم الأرض بساطًا﴾ أي مبسطة وممهدة: ﴿لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا﴾ أي واسعة متباعدة وكل هذه من الأمور التي تدلكم على مبلغ عظمة الله وسننه في خلقه التي لا تتغير لتثقوا بأن ما ذكرته لكم من مزايا الاستغفار لا يختلف أبدًا عن نظام ما ذكر من المخلوقات ثم استمر نوح في شكوى قومه إلى الله: ﴿قال نوح رب إنهم عصوني﴾ فيما أمرتهم به وأنكروا ما دعوتهم إليه بالرغم من كل هذه الجهود وهذه الدعوة الصادقة لهم بمختلف الأساليب وأضافوا إلى ذلك معاصي أخرى تدل على منتهى حماقتهم أولها طاعة غير الله إذ قال: ﴿واتبعوا﴾ من الرؤساء: ﴿من لم يزده ماله وولده﴾ بفتح الواو واللام وقرئ بضم الواو وسكون اللام: ﴿إلا خسارًا﴾ أي كفرًا وعنادًا بدلًا من تقدير نعمة الله عليه بالمال والولد والثاني من المعاصي: ﴿ومكروا مكرًا كبارًا﴾ الكبار بتشديد الباء وتخفيفها الرفيع الشأن أي بمعنى اتخذوا في مجادلته أساليب ماكرة ملتوية ومغالطات ومناقضات إذ قالوا يا نوح ما أنت إلا بشر مثلنا وما أنزل الله من شيء وقالوا تارة أخرى ولو أراد ربك أن يرسل رسولًا لأنزل ملكًا وقالوا أخرى أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وثالث المعاصي قوله: ﴿وقالوا﴾ أي قال بعضهم لبعض: ﴿لا تذرن آلهتكم﴾ التي وجدتم عليها آباءكم بمعنى استمروا في لجوئكم إليها في الملمات ودعائها لقضاء الحاجات: ﴿ولا تذرن ودًّا﴾ بفتح الواو وضمها أي لا تتركوا عبادته وطلب العون
و: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾ حسنة ناضرة من رغد العيش ووافر الترف: ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ أي لأنها كانت في الحياة مطمئنة إلى عملها بما يرضي ربها فهي في الآخرة: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ وفق ما وعدها الله: ﴿لاَّ تَسْمَعُ﴾ تلك الوجوه والمراد أصحابها: ﴿فِيهَا﴾ في الجنة: ﴿لاغِيَةً﴾ أي كلامًا لغوًا لا يلذ سماعه: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ يتلذذ الإنسان برؤيتها كما يتلذذ بالشرب منها إذ الماء الجاري من شأنه أن يكون باردًا صافيًا لا يعلق به أذى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾ أي عالية عن الأرض إلى جوار العين الجارية يجلسون عليها وينامون فوقها: ﴿وَأَكْوَابٌ﴾ جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له: ﴿مَّوْضُوعَةٌ﴾ إلى جانب العين فلا يحتاجون إلى من يحضرها لهم: ﴿وَنَمَارِقُ﴾ جمع نمرقة الوسادة وهي ما يسميها العامة مسندًا أو مخدة: ﴿مَصْفُوفَةٌ﴾ مرتبة إلى جوار بعضها حول الأسرة: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾ جمع زربي وزربية ما بسط على الأرض من عشب وفرش: ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾ أي متفرقة في كل مكان بما يصور وافر النعمة وجميع وسائل الراحة والرفاهية ومنتهى السعادة كل هذا قد أعده الله لعباده المؤمنين به العاملين في الحياة من أجله فما بال الناس على هذا الخبر لاهون وعن العمل من أجل نيل تلك السعادة في الآخرة معرضون؟! أهم يشكون في قدرة الله على إنالتهم ذلك وقد غمرهم في الحياة الدنيا بمختلف النعم التي لا يستطيعون حجودها؟!
﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ وقد أعد كل شيء فيها لمصلحة الإنسان وجمعت من الخواص ما لم يجتمع في حيوان سواها فمن لبنها يشرب ويتغذى ومن لحمها يأكل ومن شعرها يكتسي ويفترش وعليها يحمل أثقاله إلى أقصى البلاد. وبكثرتها يثري ويفتخر إلى غير ذلك.: ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ فوقهم من غير عمد رفعًا بعيد المدى وفيها من الكواكب والنجوم ما لا غنى لهم عنه: ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ نصبًا محكمًا وبارتفاعات شاهقة متفاوتة يعجز البشر أن يأتوا بمثلها أو يستطيعوا نقض جبل منها وإعادة بنائه كما كان: ﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ مهدت للإقامة عليها والسير فيها بينما هي في حقيقتها كروية فمن خلق هذه المخلوقات العظيمة ونظم هذه الكائنات تنظيمًا عجيبًا لخير الإنسان ومنفعته لا يعجزه قطعًا أن يُعدَّ له في الآخرة أنواع الملذات التي سردها سبحانه من قبل: ﴿فَذَكِّرْ﴾ أي فما عليك إلا أن تلفت نظر الناس إلى التدبر في عظمة الكائنات ووافر قدرة الله ليعرفوه ويؤمنوا بوحدانيته: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ أي أن مهمتك محصورة في مجرد التذكير فلا تحزن ولا تأسف إذا أنت لم تنجح في تذكيرهم وإقناعهم بما جئت به