للقرآن سلطان وقدسية على النفوس، وله من قوة التأثير ما تخر له الرءوس، ومن الأسرار الربانية ما هو محسوس وملموس، ففي القرآن من القصص الصادقة ما يصور للناس مصير الظالمين، وفضيلة التمسك بالدين، والاعتماد على رب العالمين، وفي القرآن ما يعلم الناس كيف يكون الجهاد لنصرة الحق، وما تقتضيه سنة الله في الخلق، وثمرة الثبات ونتيجة الخيانة، ومزية التوحيد وفضيلة الاستقامة، بشتى الطرق والأساليب الجذابة، وفي آيات القرآن ما هو كفيل بتذكير القلوب ببارئها، واستمالتها إلى خالقها وهاديها، لو أنها تليت على الناس على حالتها وكانوا على علم تام باللغة يمكنهم من فهمها واستخراج العبر من بين ثناياها. غير أنه بتقادم الزمن واختلاط العرب بالعجم اندرست اللغة العربية الفصحى، وجهل الناس كثيرًا من معانيها ومراميها حتى أشكل عليهم فهم مقاصد القرآن، وطرق استنباط الأحكام منه، ففسره كثير من الفقهاء في مختلف الأصقاع كل بحسب محيطه، ومبلغ علمه وتفكيره، والعصر الذي يعيش فيه، ومن الناحية التي تخصص فيها ما اشتملت عليه آيات القرآن من مختلف العلوم وفي مقدمتها علم التوحيد، أو ما يجب معرفته عن الله من الأمور الاعتقادية لقوله تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ وقد أجمعوا في هذا الباب على وجوب الإيمان بوحدانية الله واتصافه جل وعلا بجميع صفات الكمال، وتنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به من الخلال وهنا اختلفت المفاهيم في تحقيق معنى الصفات، وما لا يليق بقدسية الذات، وما يؤدي إلى الشرك من التصرفات، وترتب على ذلك اختلاف الناس في المعتقدات، وجنوح بعضهم إلى التأويل في كثير من الحالات، ومخالفتهم لقواعد اللغة في بعض الآيات، وقولهم بوجود زيادة أو نقص في بعض الكلمات وعدم تفريقهم بين معنى الإرادة والمشيئة وقولهم إنهما من المترادفات إلى غير ذلك من الأقوال التي مزجوها بالحقائق القرآنية، فترتب عليها عدة أغلاط اجتهادية، في الشريعة الإسلامية، أدت إلى تزلزل العقيدة في قلوب المسلمين في موضوع القضاء والقدر، وانقسامهم إلى عدة فرق، كالقدرية والجبرية والمعتزلة وغيرهم ممن ينزه الله عن الظلم ولكنه يجيزه في حقه إذ يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ إن له تعالى أن يعذب الطائع ويثيب العاصي مما يتنافى مع عدل الله جل وعلا وشرعه الذي أعلنه للناس، حتى كأنه لا تنفع معه الطاعة ولا يوثق بوعده فقد يقلب العابد بمحض المشيئة من الإيمان للكفر، ويدخل النار من يشاء من غير وزر، فثبطوا بهذا الهمم عن صالح العمل، وشككوا الناس
﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب﴾.
﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا﴾.
﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب﴾. ﴿تنزيل من رب العالمين﴾.
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على خير من اصطفى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فمن واجب كل من سمع بهذا البلاغ الموجه من رب العزة لسائر العباد أن يصغي إليه ويتدبر معانيه، ويعمل بما توحي به آياته ومعانيه ومراميه، وقد وفقني الله جل شأنه لشرح ألفاظه، وتبيين أسراره، على ضوء هديه، وتعاليم نبيه، وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم. وإني على يقين تام بأنه سيجد كل قارئ لهذا البلاغ المبين، والكنز الدفين، حلًّا لكل مشكلة يعانيها في هذه الحياة، بل إني لأقسم غير حانث بأنه ما من مؤمن جعل الله رائده، والقرآن هاديه إلا شعر بلذة الطمأنينة في نفسه والتوفيق في سائر أعماله، ونال حقيقة السعادة في الدنيا والآخرة. نسألك اللهم الهداية، وتجنب الغواية، وحسن القبول، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
عبد الحميد الخطيب
بلاغ
للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا.
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب.
تنزيل من رب العالمين.
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على خير من اصطفى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فمن واجب كل من سمع بهذا البلاغ الموجه من رب العزة لسائر العباد أن يصغى إليه ويتدبر معانيه، ويعمل بما توحى به آياته ومعانيه ومراميه، وقد وفقني الله جل شأنه لشرح ألفاظه، وتبيين أسراره، على ضوء هديه، وتعاليم نبيه، وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم. وإني على يقين تام بأنه سيجد كل قارئ لهذا البلاغ المبين، والكنز الدفين، حلًا لكل مشكلة يعانيها في هذه الحياة، بل إني لأقسم غير حانث بأنه ما من مؤمن جعل الله رائده، والقرآن هاديه إلا شعر بلذة الطمأنينة في نفسه والتوفيق في سائر أعماله، ونال حقيقة السعادة في الدنيا والآخرة.
(٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (٤١) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ
أنفسهن بالإيمان عن الاستسلام لشهواتهن، لغلو مهورهن أو كثرة طلباتهن ﴿فمن ما ملكت أيمانكم﴾ فلا حرج عليه أن يتزوج بمملوكة الغير ﴿من فتياتكم﴾ جمع فتاة وهي الجارية لقوله ﷺ «لا يقولن أحدكم عبدي وجاريتي ولكن يقل فتاي وفتاتي» ﴿المؤمنات﴾ أي: المحصنات بالإيمان وإن كان في هذا مساس بقيمة الرجل إذا يتبع الابن أمة في الرق وإن كان تابعًا لأبيه في النسب ﴿والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض﴾ أي: وحسبكم شرفًا أن تكونوا جميعًا مشتركين في الإيمان والإيمان أعظم الفضائل فإذا حصل الاشتراك فيه فلا عبرة بالتفاوت في غيره من المميزات ﴿فانكحوهن﴾ أي استحلوا فروجهن ﴿بإذن أهلهن﴾ أي الموالي المالكين لهن ﴿وآتوهن﴾ أي الفتيات المؤمنات ﴿أجورهن﴾ التي تنفقون على دفعها مهرًا لهن وما هو في الواقع إلا بمثابة أجر على ما تنازل عنه المالك من حقوق في سائر أنواع الخدمات ولذا قال: ﴿أجورهن﴾ ولم يقل: مهورهن وتكون تلك الأجور حقًّا من حقوق المالك إذ المملوكة لا تملك شيئًا لقوله تعالى: ﴿ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء﴾ وما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبد وما في يده لمولاه» والمهر عوض عن منافع مملوكة للسيد الذي أجرها للزوج بعقد النكاح فوجب أن كون هو المستحق له وليس في قوله تعالى: ﴿فآتوهن أجورهن﴾ ما يتنافى مع ذلك أو يوجب أن يكون المهر ملكًا لهن، وقد قال تعالى: ﴿بالمعروف﴾ أي بحسب التعارف بين الناس فمنهم من يزوج فتاته بعوض بسيط ومنهم من يزوجها بغير عوض مالي مكتفيًا بامتلاكه لذريتها منه ولذا لم يقل عنه ـ فريضة ـ ﴿محصنات﴾ هذا حال من قوله: ﴿فانكحوهن﴾ أي بقصد الإحصان ﴿غير مسافحات﴾ أي: لا مستأجرات لمجرد سفح الماء يعني: البغاء العلني ﴿ولا متخذات أخدان﴾ أي: ولا لأجل تبادل عواطف الحب فقط وهو ما يدعى بلغة هذا
نؤمن إلا بعيسى مع أن الإيمان بالرسل فرع من الإيمان بالله فمتى حصل الإيمان بالله كان لزاماً أن يؤمن الإنسان بجميع من أرسل من عنده ولا فرق بين موسى وعيسى ومحمد ما داموا جميعا يدعون إلى إله واحد (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) أي بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل أو بين بعضهم بعضا طريق للضلال والتضليل (أولئكَ) المفرقون (هم الكافرون حقا) أي الثابت كفرهم يقينا وإن لم يصرحوا به ذلك لأن الإيمان بالله معناه اليقين بأنه الخالق للجميع والقادر على كل شيء والهادي إلى الصراط السوي وهذا يستلزم الإيمان بإرساله رسلا من قبله لهداية الناس وتبليغهم أوامر ربهم وأن ما يأتي منهم جميعا فهو من الله فإذا أنكر الإنسان الرسل فقد جحد قدرة الله على الإرسال أو حقه في الهداية والحكم بين الناس فيكون كافراً، كذلك إذا آمن ببعض الرسل دون الآخرين فكأنما عبد الأشخاص ولم يؤمن بما جاءوا به إذ هم جميعا إنما يدعون إلى إله واحد. والكفر ببعضهم كفر بما دعا إليه الآخرون. (وأعتدنَا لِلْكَافِرِينَ) منهم ومن غيرهم (عذابًا) ولما كان من العذاب ما يتألم منه الإنسان ولكنه يستطيع أن يخفيه في نفسه دون أن يشعر به أحد فلا يكون فيه إهانة قال الله إن عذاب هؤلاء يمتاز عن سائر أنواع العذاب بكونه عذاباً (مُهِينًا) أي لا تخفى معه الإهانة نتيجة تغطيتهم الحقائق بعدم إظهارهم الكفر مع تفريقهم بين الله ورسله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) إذا التزموا العمل بشريعته الأخيرة لاعتقادهم بأنهم ما داموا جميعا رسل الله وكتبهم كلها من عنده فالعبرة بالمتأخر وتعتبر شريعته ناسخة لما قبلها عقلا
<٥>
ومنطقا وعرفا (أولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) على إيمانهم وما صحبه من الأعمال الصالحة (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) أي من شأنه الغفران ما عدا الشرك من السيئات (رَحِيمًا) بعباده فلا يؤاخذهم على الهفوات وما خفي من الآثام ويعامل المؤمنين به من واسع إحسانه لأنه على كل شيء قدير...
بعد أن بين الله الأقوال التي لا يرضى الصّراحة بها لما فيها من أضرار اجتماعية أو مغالطة في المسائل الاعتقادية أشار إلى ما لا يرضاه من العبادات التي تدل على تكذيب الأخبار السماوية فقال (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ) من بني إسرائيل (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا) خطيا موجهاً إليهم (مِنَ السَّمَاءِ) ومثل هذا
بعد أن بين الله فساد كل من عقائد اليهود والنصارى في نهاية الجزء السادس أخذ يوضح هنا ما يكنه كل من الفريقين في نفسه حيال المؤمنين من عداوة ومودة وقرب منهم وبعد عنهم وشعور نحو الله وآياته فقال ﴿لتجدن﴾ أيها الرسول أو أيها السماع لهذا الحديث في كل عصر ﴿أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود﴾ من أهل الكتاب الذين يزعمون التمسك بدين موسى عليه السلام لما في طبائعهم من أنانية وحسد وما بدر منهم من محاربة الرسل وتقتيلهم وقسوة قلوبهم ﴿والذين أشركوا﴾ يرى المفسرون أن المراد بهم من اتخذ مع الله شركاء وهذا ما لا يتفق مع منطوق الآية فقد قسم الله الناس بالنسبة للمؤمنين إلى ثلاثة أقسام: اليهود، والذين أشركوا، والنصارى. وقال عن النصارى إنهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة فلا فارق بينهم إذًا وبين المشركين. والذي يلوح لي أن المراد بالشرك ما يقابل الإيمان والمشركون هم من لا يدينون بدين من الأديان السماوية كعباد الشمس والبقر ومن على شاكلتهم وهؤلاء يأتون في عداوة المؤمنين في الدرجة الثانية لأنه لم يسبق لهم من الحقد على الأديان وقتل الأنبياء ما سبق لليهود ﴿ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾ أي الذين ادعوا التمسك بالنصرانية ولو لم يكونوا على دين المسيح تمامًا. والسبب في ﴿ذلك﴾ التقارب وهذا الود يرجع إلى عاملين اثنين الأول هو ﴿بأن منهم قسيسين﴾ يتعهدونهم دائمًا بالتربية الروحية وإلقاء الدروس الدينية عليهم ﴿ورهبانا﴾ تذكر أقوالهم وأعمالهم بالله إذ يمثلون الزهد وترك نعيم الدنيا والخوف من الله والانقطاع لعبادته. من ذلك ما نشرته الصحف من أن البابا استدعى القساوسة في أبريل وقال لهم «إن موجة الإلحاد قد انتشرت فعليكم واجب أن تنصحوا الناس برجوعهم إلى خالقهم» وهذا ما يحمل أتباعهم على مودة من كان على شاكلتهم في معرفة الله والخوف منه وإخلاص العبادة له. والعامل الثاني هو قوله ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾ أي أنهم مفطورون على الإذعان للحق متى ثبت لديهم بالدليل العقلي، وقد أخذوا من آداب دينهم التواضع وطاعة الحكام والتسامح مع الآخرين وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فتداول هذه الوصايا عن طريق أولئك القسيسين والرهبان لا بد وأن يكون له أثره في نفوس عامة الشعب فيضعف فيهم الاستكبار عن قبول الحق. وهذا ما أثبتته الأيام من صفات كل من الفريقين الغالبة في عهد الرسول ﷺ فقد عادى اليهود والمشركون الدعوة الإسلامية من أول عهدها وحاربوا
تفويض الله أمر الإيمان إلى مشيئة الإنسان نفسه، وبهذا انقسموا إلى قدرية وجبرية ومعتزلة وغيرهم ممن يقول بأن الله هو الذي شاء لهم الكفر من تلقاء نفسه فلا سبيل لإيمانهم مهما عملوا من الصالحات إذ لو أراد لهم الإيمان لشاءهم عليه الأمر الذي يتنافى مع ما أثبته تعالى لعبيده من كسب واختيار ﴿وكذلك﴾ أي كما أن كل شيء يجب أن يكون وفق مشيئة الله الأزلية ﴿جعلنا﴾ أي قضت مشيئتنا أيضًا أن يكون ﴿لكل نبي عدوًّا﴾ يقاوم دعوته ويزيف أقواله ﴿شياطين﴾ أي يمثلون دور الشياطين من ﴿الإنس والجن﴾ أي من كلا الفريقين حيث ﴿يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا﴾ أي ينمقون لهم الأقوال ويزينون لهم العصيان ليخدعوهم ويغرروهم ويوقوعهم في الإثم كما فعل إبليس مع آدم فزين له القرب من الشجرة التي نهاه الله عنها تمامًا ﴿ولو شاء ربك﴾ منذ الأزل أن يكون الناس مجبورين مسخرين مقهورين لتنفيذه ما يريده منهم وما يأمرهم بفعله ﴿ما فعلوه﴾ أي ما استطاعوا أن يعادوا رسله ويعملوا على إيقاع عباده في العصيان ولكن مشيئته تعالى قد قضت بغير هذا إذ منحت الجن والإنس كامل الحرية في القول وأن يكونوا مخيرين في جميع تصرفاتهم كل التخير، بدليل أن إبليس اللعين قد استغل هذا الحق الذي منحه الله فأبى أن يسجد لآدم فلم يعجل الله له العذاب بل منحه من السلطان وكامل الخيار ما زاد في طغيانه حيث قال ﴿واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا﴾ وكان هذا بمثابة إشعار للخلق أجمعين بأن من حق كل واحد من الجن والإنس أن يسلك سبيل إبليس في أن يزين للآخرين الضلال والكفر، وبهذا يتبين أن عداوة بعض الناس للرسل ومقاومتهم للدعوة إلى الله لم تكن إلا بمشيئة الله لا خارجة عن قضائه وقدره ولا معارضة لسننه ﴿فذرهم﴾ أي دع الذين يعادون رسل الله يتصرفون ضمن دائرة الخيار الممنوحة لهم ﴿وما يفترون﴾ من إفك يوحي به بعضهم لبعض ليصرفوا الناس عن الحق ولا تعبأ بهم ولا تعجب من أمرهم ولا تعترض عليهم فذلك حق من حقوقهم واستقم كما أمرت فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب والجزاء ﴿ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي ودع منكري البعث يصغون لما يفتري أولئك القوم ولا يهمك من أمرهم شيئًا فإن صدقوهم فعليهم وزرهم ﴿وليرضوه﴾ أي ليصدقوا افتراءهم ويؤثروه على ما أنزل عليك من الكتاب إذا أرادوا ﴿وليقترفوا﴾ أي ليكتسبوا ويجنوا لأنفسهم ﴿ما هم مقترفون﴾ أي ما هم بسبيله أو ما توصلهم إليه أعمالهم فلست عليهم بوكيل.
لقد سرد الله في نهاية الجزء الثامن قصة نبيه شعيب مع أصحاب مدين ودعوتهم إلى عبادة الله وحسن معاملة خلقه وذكرهم بآلائه وحذرهم من نقمته وعلق مصيرهم في الدنيا على ما ينتظر من حكمه في شأنهم ﴿وهو خير الحاكمين﴾ عسى أن يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا جميعًا برسالته وقد بدأ هذا الجزء بذكر جواب قومه عليه وما انتهى إليه مصيرهم فأخبر أنهم انشطروا إلى شطرين أحدهما طائفة العظماء المتنفذين وقد أشار إليهم بقوله ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه﴾ أي الذين أبت عليهم الأنانية وعزة النفس أن يصغوا لنصح شيخ هرم فقرروا استعمال الشدة في معاملته وعمدوا إلى تهديده إذ قالوا ﴿لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا﴾ هذه التي نحن سادتها وأصحاب السلطان فيها ولفظ القرية يطلق على القطر أو المملكة ﴿أو لتعودن في ملتنا﴾ إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملتهم أي تقاليدهم التي كانوا يدينون بها والتي توارثوها عن آبائهم وهذا لا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة فما من شك في أن شعيبًا كان يخفي إيمانه قبل أن يؤمر بالرسالة وهم يحسبونه على ملتهم فلما أمر بدعوتهم إلى الحق نقموا عليه وخيروه بين إحدى الحالتين فأجاب عنه وعمن آمن معه ﴿قال أولو كنا كارهين﴾ لكل من النفي من وطننا والتخلي عن ديننا بمعنى أليس لنا في شرعكم حلًّا غير هذين فالتخلي عن الدين أشد على النفس من النفي من الوطن ﴿قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم﴾ أي إن دعوتنا إلى ملتكم معناه أنا كنا كاذبين فيما نسبناه إلى الله من تزييفه لها والأمر بهجرها ﴿بعد إذ نجانا الله منها﴾ بما هدانا إليه من الإيمان فمن واجبكم والحالة هذه أن تعاقبونا على ذلك الافتراء لا أن ترضوا عنا وتسمحوا لنا بالإقامة بين ظهرانيكم ﴿و﴾ غير هذا ﴿ما يكون لنا﴾ أي ليس من حقنا ﴿أن نعود فيها﴾ أي في ملكتكم بمحض اختيارنا بعد أن آمنا بالله وسلكنا سبيل الهداية وفوضنا أمورنا إليه تعالى ﴿إلا أن يشاء الله ربنا﴾ أي إلا أن يغير الله نظام مشيئته القاضي بأن الإيمان والعمل الصالح سبيل الهدى بمشيئة أخرى تقضي بأن الشرك وسيئ العمل هما سبيل الهدى عندئذ نعود إلى ملتكم وهذا ما لا يمكن أن يكون ولن تجد لسنة الله تبديلًا فلا سبيل إلى عودتنا إلى ملتكم ﴿وسع ربنا كل شيء علمًا﴾ فعنده من العلم بأسباب الهدى والضلال والإيمان والكفر ما ليس لكم به علم ﴿على الله توكلنا﴾ أي وقد وكلنا أمرنا إليه وحده فهو القادر على أن يحطم قوتكم ويرد كيدكم في نحوركم ويجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ أي افصل
لقد افتتح الله هذه السورة «الأنفال» بما يشعر الناس بمكانة الرسول ﷺ عنده وأن من حقه التصرف في الأنفال وهي ما زاد من الغنيمة في بدر وأوجب طاعته والرضاء بأحكامه على كل مؤمن وعرّف حقيقة المؤمنين ثم تطرق إلى ذكر غزوة بدر وكيف بدأت وشرح الوسيلة التي أكسب الله المؤمنين النصر بسببها ثم أمر المؤمنين بالتأسي بهم وترسم خطاهم من الجهاد في سبيله والأخذ بأسباب القتال مع اعتقادهم بأن النصر لا ينال إلا من عند الله وضرورة طلبه منه والثقة بعد ذلك بنصره والثبات في قتال أعدائه وعدم الخوف من قوتهم المادية مهما كانت، وأمرهم بطاعة أمر القائد في حالتي الدفاع والهجوم ونهاهم عن إفشاء أسرار الدولة مهما كانت الأسباب والبواعث ثم أطلعهم على سر من أسراره الكونية الخفية التي جعلها سبحانه وتعالى أثرًا من آثار تقواه في الدنيا والآخرة ومن أبرزها تخليصه ﷺ من مكر قومه وعدم إنزال العذاب بهم من أجله ومن أجل المتقين المستغفرين من قومه برغم استخفافهم بآيات الله وإيثارهم عذاب الله على هداه وصدهم عن المسجد الحرام بالقوة وبما كانوا يبذلونه من أموال طائلة في محاربة الدعوة الإسلامية سينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ويحشرون إلى جهنم، وانتهى من ذلك بأن فتح لهم باب المغفرة وأنذرهم بتطبيق سننه فيهم في حالة الرفض وأمر المؤمنين بقتالهم: ﴿حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ وأكد لهم نصره تعالى لهم بقوله: ﴿فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير﴾ ولما كان النصر من شأنه أن يأتي بالغنائم من أموال الكفار والمعتدين المنقولة بعد أن تضع الحرب أوزارها أخذ يبين حكم الله فيها فقال: ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه﴾ أي أن حق الله فيه الخمس والأربعة الأخماس الباقية توزع على المحاربين وخمس الله إنما يتسلمه رسوله ولذا قال: ﴿وللرسول﴾ يصرفه في المصالح العامة كالدعوة إلى الإسلام وإقامة شعائره وما يحتاج إليه من نفقة عليه وعلى من يعول من نسائه وخدمه وقد كان الرسول ﷺ يحتجز من ذلك ما يمونه لمدة عام وينفق الباقي على مستحقيه ممن ذكرهم الله بقوله: ﴿ولذي القربى﴾ الذين حرم عليهم الأخذ من مال الصدقة من أهله وعشيرته الذين والوه ونصروه دون غيرهم ممن يمت إليه بمجرد النسب وكان حربًا عليه ولذلك اختص الرسول ﷺ منهم بني هاشم وبني أخيه المطلب دون بني أخيه الشقيق بل التوأم عبد شمس وأخيه لأبيه نوفل، وكلهم أولاد عبد مناف حتى لقد روى أبو داود
لقد كان إنزال سورة براءة فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية التي بدأت في مكة بالوعظ والإرشاد ثلاثة عشر عامًا ثم تطورت في المدينة إلى تنفيذ أوامر الله بالحكم بين الناس والدفاع عن كيان تلك الدولة الناشئة ومعالجة الأمور بالسياسة واللين تارة والحزم والشدة تارة أخرى إذ أعلن الله المشركين ببراءته ورسوله من المعاهدات السابقة وفق تشريع خاص أذاعه عليهم يوم الحج الأكبر حدد فيه موقفه منهم ودعاهم إلى الإيمان بالله ثم عقب على ذلك بتنبيه رسوله ﷺ إلى من هم أشد خطرًا على الإسلام من المشركين وهم المنافقون وكشف أسرارهم وفند أعذارهم عن الاستجابة لدعوتهم إلى الجهاد معه في غزوة تبوك ووصفهم بأعمالهم وتصرفاتهم التي طبعوا عليها ليتمكن أولو الأمر في كل عصر من التمييز بينهم وبين المؤمنين الصادقين وأخبره بحكم الله فيهم ثم ختم الموضوع ببيان من يعذر ومن لا يعذر في القيام بواجب الجهاد، وشرع هنا في بيان ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا من أهل المدينة عن غزوة تبوك إثر عودتهم إليها فقال: ﴿يعتذرون إليكم﴾ أيها المؤمنون: ﴿إذا رجعتم إليهم﴾ من سفركم هذا وهم لا يعلمون أن الله قد أطلعكم على حقيقة أمرهم: ﴿قل﴾ أيها الرسول لهم كفى خداعًا وتمويهًا: ﴿لا تعتذروا لن نؤمن لكم﴾ أي لن نصدقكم بعد اليوم: ﴿قد نبأنا الله﴾ بوحيه وبما أنزله في القرآن عنكم: ﴿من أخباركم﴾ أي بحقائق أموركم وما تكتمونه في ضمائركم، ومن عرف الحق لم تعد تنطلي عليه الأباطيل من الأعذار المزيفة أو المصطنعة: ﴿وسيرى الله عملكم﴾ أي ما يكون منكم من إصرار على النفاق أو توبة وإذعان بالإيمان: ﴿ورسوله﴾ بما يبدو من أعمالكم التي تشهد بصلاح سريرتكم وإقلاعكم عن النفاق: ﴿ثم تردون﴾ أي ترجعون: ﴿إلى عالم الغيب﴾ الذي لا تخفى عليه السرائر: ﴿والشهادة﴾ أي ولا ما يظهر بالشهادة: ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي إنكم ستجدون الجواب العملي لأعمالكم وفق ما وعدكم به في هذه السورة وغيرها كقوله تعالى: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾ وهنا أخبر الله المؤمنين بمبلغ إصرار المنافقين على الكفر فقال: ﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم﴾ بصحة أعذارهم برغم قولكم لهم: ﴿قد نبأنا الله من أخباركم﴾ فكأنهم لا يصدقون ويكابرون ويحاولون إقناعكم بالقسم بأغلظ الأيمان: ﴿لتعرضوا عنهم﴾ أي لمجرد الكف عن عتبهم وتوبيخهم على القعود مع المخلفين: ﴿فأعرضوا عنهم﴾ أي كفوا عن عتبهم أخذًا بالقسم الذي أدوه وإن كنتم مقتنعين بكذبهم وحنثهم فيه فأنتم ملزمون بمؤاخذتهم بحسب الظاهر من
بعد أن بين الله في أول هذه السورة أهمية القرآن في تقرير الدعوة التي جاء بها من وجوب إفراد الله بالعبادة ودوام استغفاره والتوبة إليه، وأنذر المتولين بالعذاب يوم القيامة، وأكد إحاطة علمه بما يسرون وما يعلنون، أخذ يبين ما يهم الناس معرفته من آثار قدرته ومتعلقات علمه، وما اقتضته مشيئته تعالى من سنن منذ بدأ الخلق إلى نهايته فقال: ﴿وما من دابة﴾ الدب والدبيب الانتقال الخفيف والبطيء كدبيب النمل والجراد، والدابة اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفًا أو على قوائم كما قال تعالى: ﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء﴾. ﴿في الأرض إلا على الله رزقها﴾ أي أنه تعالى قد تكفل برزقها من اللحظة التي تخرج فيها إلى الدنيا بخلقه أنواع الأغذية التي تلائمها، وما سنه لها من سنن لنيلها ودفعها بالفطرة ساعة العجز وأمرها بسلوكها ساعة الوعي للحصول عليها، فإذا هي لم تسلك تلك السبل فماتت فإنما جرمها على نفسها. ﴿ويعلم مستقرها﴾ أي حيث تقيم في حال سعيها فيهيئ لها من الأسباب ما يوصلها إلى ذلك الرزق. ﴿ومستودعها﴾ أي المكان الذي ستأوي إليه متى أصبحت في حكم الودائع التي لا تستطيع السعي فيجعل لها من الرزق ما تدخره لذلك اليوم، أو يهيئ لها من يعمل لإيصال رزقها إليها إذ ذاك ويضم نصيبها إلى نصيبه، ولهذا أشار تعالى بقوله: ﴿إن الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ أي إنه تعالى يرزق من يشاء الرزق ويعمل لنيله بغير حساب أي لا على قدر أعمالهم بل على قدر ما يعلم سبحانه أنه في حاجة إليه عند مرضه أو كبره أو من هو مكلف بالنفقة عليهم أو من ستؤول إليهم تركته من عباده الذين تكفل سبحانه برزقهم، يؤيد هذا قوله تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم﴾ أي إن رزقكم ورزقهم هو من محض جوده تعالى وكرمه وليس لكم من ذلك إلا مجرد البحث عنه والحصول عليه فالله سبحانه هو الذي أوجد أساس الرزق وأرشد الناس إلى وسائل نيله وأمرهم بالسعي لإدراكه، وقسمه بين عباده على حسب ما يعلم أنهم في حاجة إليه وهذا خلافًا لما يتصوره بعض المتواكلين القائلين بأن العمل لا قيمة له وأن كل شيء يناله الإنسان في الحياة إنما هو مقدر من الأزل.
@جرى حكم القضاء بما يكون
#فسيان التحرك والسكون
@جنون منك أن تسعى لرزق
سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (٣٨) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٤٠) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (٤٤) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ
سورة الحجر
{الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (١) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٤) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (١٨) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ
لقد كان إنزال سورة براءة فاتحة عهد جديد للدعوة الإسلامية التي بدأت في مكة بالوعظ والإرشاد ثلاثة عشر عامًا ثم تطورت في المدينة إلى تنفيذ أوامر الله بالحكم بين الناس والدفاع عن كيان تلك الدولة الناشئة ومعالجة الأمور بالسياسة واللين تارة والحزم والشدة تارة أخرى إذ أعلن الله المشركين ببراءته ورسوله من المعاهدات السابقة وفق تشريع خاص أذاعه عليهم يوم الحج الأكبر حدد فيه موقفه منهم ودعاهم إلى الإيمان بالله ثم عقب على ذلك بتنبيه رسوله ﷺ إلى من هم أشد خطرًا على الإسلام من المشركين وهم المنافقون وكشف أسرارهم وفند أعذارهم عن الاستجابة لدعوتهم إلى الجهاد معه في غزوة تبوك ووصفهم بأعمالهم وتصرفاتهم التي طبعوا عليها ليتمكن أولو الأمر في كل عصر من التمييز بينهم وبين المؤمنين الصادقين وأخبره بحكم الله فيهم ثم ختم الموضوع ببيان من يعذر ومن لا يعذر في القيام بواجب الجهاد، وشرع هنا في بيان ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا من أهل المدينة عن غزوة تبوك إثر عودتهم إليها فقال: ﴿يعتذرون إليكم﴾ أيها المؤمنون: ﴿إذا رجعتم إليهم﴾ من سفركم هذا وهم لا يعلمون أن الله قد أطلعكم على حقيقة أمرهم: ﴿قل﴾ أيها الرسول لهم كفى خداعًا وتمويهًا: ﴿لا تعتذروا لن نؤمن لكم﴾ أي لن نصدقكم بعد اليوم: ﴿قد نبأنا الله﴾ بوحيه وبما أنزله في القرآن عنكم: ﴿من أخباركم﴾ أي بحقائق أموركم وما تكتمونه في ضمائركم، ومن عرف الحق لم تعد تنطلي عليه الأباطيل من الأعذار المزيفة أو المصطنعة: ﴿وسيرى الله عملكم﴾ أي ما يكون منكم من إصرار على النفاق أو توبة وإذعان بالإيمان: ﴿ورسوله﴾ بما يبدو من أعمالكم التي تشهد بصلاح سريرتكم وإقلاعكم عن النفاق: ﴿ثم تردون﴾ أي ترجعون: ﴿إلى عالم الغيب﴾ الذي لا تخفى عليه السرائر: ﴿والشهادة﴾ أي ولا ما يظهر بالشهادة: ﴿فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي إنكم ستجدون الجواب العملي لأعمالكم وفق ما وعدكم به في هذه السورة وغيرها كقوله تعالى: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار﴾ وهنا أخبر الله المؤمنين بمبلغ إصرار المنافقين على الكفر فقال: ﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم﴾ بصحة أعذارهم برغم قولكم لهم: ﴿قد نبأنا الله من أخباركم﴾ فكأنهم لا يصدقون ويكابرون ويحاولون إقناعكم بالقسم بأغلظ الأيمان: ﴿لتعرضوا عنهم﴾ أي لمجرد الكف عن عتبهم وتوبيخهم على القعود مع المخلفين: ﴿فأعرضوا عنهم﴾ أي كفوا عن عتبهم أخذًا بالقسم الذي أدوه وإن كنتم مقتنعين بكذبهم وحنثهم فيه فأنتم ملزمون بمؤاخذتهم بحسب الظاهر من
سورة المجادلة
مدنية وعدد آياتها ثمان وعشرون

(بسم الله الرحمن الرحيم)

قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ (٣٠)}.
بعد أن نبه الله عباده في السورة السابقة إلى أن دخول الجنة أو النار في الآخرة إنما يكون وفق ما سنَّه تعالى لذلك من سنن ولا دخل فيه لشفاعة الشافعين والصلة بالمقربين. وضرب على ذلك الأمثال بامرأة نوح وامرأة لو ط وآسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران أخذ يدلل في هذه السورة على عظيم قدرته وينذر الناس بأن حياتهم هذه ليست سوى فترة اختبار لها ما بعدها، ومعنى هذا أنه سبحانه قد سخر كل شيء لمصلحة الإنسان ومنحه الهيمنة على جميع أعضائه وقواه ومهَّد له طريق الخير والشر ونبَّهه إلى ما فيه النفع والضر وترك له الخيار في جميع تصرفاته لينظر كيف يسير في حياته فمن حكَّم عقله واتبع هدى ربه كان من الناجحين ومن ركب رأسه وأطاع شيطانه باء بغضب الله وأمسى من الساقطين، حيث قال: ﴿تبارك﴾ أي تقدس وتعالى: ﴿الذي بيده الملك﴾ أي
ولم أتقيد في الآيات بما قيل عن أسباب نزولها لعلمي بأن القرآن إنما أنزل دستورًا عامًا لسائر الناس فلا يمكن أن يكون خاصًّا بحوادث معينة ولأسباب محدودة والدليل على هذا اختلاف الروايات في أسباب نزول بعض الآيات في شتى المناسبات الأمر الذي يدل على أن النبي ﷺ إنما نطق بها من قبيل الاستشهاد بكلام الله في عدة مرات وكان هذا هو السبب في اختلاف الروايات وفي أسباب النزول وقد نص الفقهاء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، على أني لم أتردد في إثبات ما تقضي الضرورة إثباته من أسباب النزول ولا أجزم بأن ما استنتجه من المعاني هو عين ما أراد الله ولكنه في رأيي أقرب ما يمكن فهمه في تسلسل الآيات وترادف الكلمات وتكرار العبارات ولما كان القرآن يفسر بعضه بعضًا وأعمال الرسول وأقواله عليه الصلاة والسلام توضح مقاصد الإسلام وحكمة التشريع كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فقد جنحت في تفسيري إلى التوسع في بيان بعض الأحكام وما يقتضيه المقام زيادة عما توحي به نفس الآية من المعاني وأثبت ببعض الأدلة العقلية والمنطقية لدعم المعنى الذي فهمته منها في كثير من الموضوعات وبينما أنا ساع لإكمال هذا التفسير وطبعه في مجلد واحد بمشيئة الله إذا خبرني حضرة الفاضل الجليل الأستاذ أنور العطار مدير المدرسة الثانوية الخامسة بدمشق، بأن الكثير من الطلبة اليوم، وخصوصًا المتعلمين منهم في المدارس الأجنبية يصعب عليهم تلاوة القرآن بشكله الحاضر إلا أن يكون ذلك على يد مُقرئ يلقنه لهم تلقينًا كما أن بعض الأساتذة لا يستطيع أن يفسره لهم تفسيرًا واضحًا ولذلك فإنه يقترح عليّ أن أستعجل طبع الأجزاء الأخيرة من تفسيري مستقلة بالخط الإملائي لحاجة الطلبة إلى تلاوة القرآن وفهم معانيه وأيد هذا الطلب سماحة العلامة الشيخ أحمد كفتارو مفتي الشافعية وغيره من الأساتذة والوجهاء والشباب المتعلم وحيث إن القرآن في الأصل لم ينزل إلا متلوًَّا على رسول الله وقد كتبه عنه الصحابة كل بحسب معرفته لا كما أمر بذلك رسول الله ﷺ الذي كانت معجرته أن يكون قارئًا لا كاتبًا ولم يرد عنه أنه ﷺ كان يعلم الناس قواعد الكتابة، بل إن سيدنا عثمان لما أمر بجمع المصاحف وتوحيدها اختلف زيد بن ثابت ومن معه في كتابة كلمة (التابوت) أيكتبونها بالتاء أم بالهاء؟ فرفعوا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فقال: اكتبوها بالتاء الأمر الذي يدل على أن هذا الرسم ليس توقيفيًّا عن رسول الله وإلا لقال لهم زيد بصفته كاتب وحي


الصفحة التالية
Icon