في وعد الله ووعيده من غير خجل، وفتحوا الباب لتسرب البدع والخرافات إلى هذا الدين، فولجه جماعة من الدجالين مدعي الولاية والمشعوذين إلى أفكار البسطاء من المسلمين فأضلوهم الضلال المبين، وحملوا غيرهم من المتعلمين والمستشرقين على الطعن فيما نسبوه للإسلام من أمر مشين، وتقيدوا جميعًا بما ورد في أسباب نزول الآيات من أخبار، وما رآه من سبقهم من الآراء، فوضعوا أنفسهم في وضع ضيق لا يسمح لهم بالنظر إلى ما ترمي إليه الآيات من غايات قد تتجلى كلما اتسعت دائرة الفكر وتقدم العلم وتوافرت المعلومات عن القواعد الطبيعية والسنن الكونية والأنظمة الإلهية، واعتمد بعضهم في تفسيره على ما ورد في الإسرائيليات من أخبار، وما رُوِيَ لهم من ضعيف الآثار، وأقوال بعض الصالحين التي لم تنزه عن الأخطاء، ولم يقف بهم الأمر عند هذا الحد بل حرموا على الناس تفسير القرآن بغير ما فسره به العلماء السابقون، وإن كان منه ما هو من نسيج الخيال وما يتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة، فجمدت الأفكار وانكمشت المواهب من الناحية الدينية، بينما تقدم العلم في سائر الميادين، وأثبت فساد بعض ما جاء في كتب المفسرين، ومن هنا بعدت الشقة بين العلم والدين، ونشأ عن ذلك الشك فيما جاء به الصادق الأمين، لا بل إن في كلام بعض المفسرين ما كان سببًا لضعف الثقة بالله رب العالمين ووصفه تعالى بصفات الملوك المستبدين الذين يقوم أساس حكمهم على شفاعة الشافعين ومراعاة خاطر المقربين كالتشكيك في وعد الله بإجابة الدعاء، وأنه لا بد لنيل رضاه من اتخاذ الوسطاء، فأضلوا الناس من حيث لا يشعرون وحملوهم على تلمس الشفعاء لله، ورجاء النفع والضر من سواه، والتزم بعضهم جانب الجمود إذ قالوا إن الدين يتنافى مع المدينة والعلوم العصرية فحاربوا كل ما يأتي به العلم من مخترعات في صالح الإنسان، وعدوها في نظرهم من البدع والضلالات، وما هي في الواقع إلا من ضمن خلق الله الذي وعد به في قوله تعالى: ﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ حيث إن جميع المواد الأولية التي تتكون منها المخترعات ما هي إلا من ضمن خلق الله، وليس للمخترعين لها من فضل سوى حق الكشف عن سنن الكون وخواص الأشياء والاستفادة منها، الأمر الذي لا يمكن أن يصل إليه المخترعون لولا أن الله قد أمرهم بالبحث والتفكير في عجائب خلقه إذ يقول تعالى: ﴿أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء﴾ وقد وعدنا سبحانه وتعالى بالكشف عن دقائق صنعه حتى نلمسها بأيدينا ونستفيد منها وتزيدنا إيمانًا بعظمته وواسع كرمه إذ
بعد أن أخبر الله نبيه صلى الله وسلامه عليه بما كان يروجه بنو إسرائيل من الشبه ضد الإسلام ومن الادعاءات الكاذبة التي لم تقم على سند معقول ولا أساس صحيح، أخذ يسرد عليه طرفًا مما يروجه المعاندون من المطاعن ضد الإسلام وفي مقدمتهم اليهود، وما حكاه عنهم بصيغة المستقبل للدلالة على أن الله يعلم ما في نفوسهم وما تطويه قلوبهم في سابق علمه، وهو مطلع على حقيقة أمرهم فلم يقم لهم وزنًا، ونفذ أمره بتحويل القبلة برغم أي اعتبار آخر، فهو صاحب الأمر والنهي، وله في تحويل القبلة حكمة يعلمها، ولولا هذه الحكمة ما حولها حيث قال: ﴿سيقول السفهاء من الناس﴾ أي يتحدثون فيما بينهم بقولهم ﴿ما ولاهم﴾ أي ما سبب تولية المسلمين ﴿عن قبلتهم﴾ وهي بيت المقدس ﴿التي كانوا عليها﴾ وما الذي حملهم على هذا التحويل؟ ألم يكن محمد مأمورًا من قبل بالتوجه إلى بيت المقدس؟ ولماذا صرف عنه؟ وهل كانت صلاته إلى بيت المقدس لمجرد استمالة أهل الكتاب ومداهنة لهم؟ ثم أراد باستقبال البيت الحرام مخالفة اليهود في قبلتهم؟ إلى غير ذلك من المطاعن التي كانوا يروجونها بقصد الفتنة والتخلص من اتِّباع دين الإسلام، فأمر الله نبيه أن يرد على ذلك بقوله ﴿قل لله المشرق والمغرب﴾ أي أن المشرق والمغرب والشمال والجنوب وكل الاتجاهات لله وحده، وهذه الاتجاهات في الواقع ونفس الأمر ليست مقصودة بذاتها للعبادة؛ والمقصود في الحقيقة إنما هو الاتجاه إلى الله؛ ولما كان الله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان معين فتخصيص جهة معينة للاتجاه إليها لعبادة الله عائد لأمره وحسب تعاليم أنبيائه، وهو سبحانه ﴿يهدي من يشاء﴾ فاعل يشاء عائد إلى من لا إلى الله أي أن الله يهدي كل من شاء الهداية لنفسه من عباده بالرغبة في الوصول إليها باستخدام ما وهب الله لهم من نعمة العقل، والسمع، والبصر، التي هي آلات العلم والعرفان ووسائل الهدى والإيمان. ﴿إلى صراط مستقيم﴾ أي يوجهه تعالى بتوفيق منه، فذلك أمر متعلق به ولا حق لكم في البحث فيه، ثم تفضل الله سبحانه وتعالى فخاطب المؤمنين مبينًا لهم السر في هذا التحويل من القبلة الأولى إلى القبلة الثانية حيث قال ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾ أي إنما أمرناكم بالاتجاه إلى بيت المقدس أولًا، ثم حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام ثانيًا واخترناها لكم
نسألك اللهم الهداية، وتجنب الغواية، وحسن القبول، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
عبد الحميد الخطيب
الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٦٥) هَاأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ
العصر بالبغاء السري فذلك أيضًا لا يجوز لما يترتب لهن بعقد النكاح من حق في إشباع شهوتهن وإحصانهن أيضًا ﴿فإذا أُحصن﴾ بضم الهمزة وقرئ بفتحها «أحصَنَّ» بزواجكم بهن ﴿فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات﴾ الحرائر ﴿من العذاب﴾ لأن الأمة قد تعودت الاستسلام أو إليها مهما تعددوا فهن أقل احتفاظًا على العرض من الحرة ﴿ذلك﴾ أي نكاح الإماء إنما أبيح للضرورة ﴿لمن خشى العنت﴾ أي الضرر العظيم بالخوف من عدم التزام العفة ومقاومة الفطرة والوقوع في الفساد ﴿منكم﴾ فإن لم يخف من ذلك فالأفضل له عدم الإقدام عليه ﴿وأن تصبروا﴾ بالتعفف عنه ﴿خير لكم﴾ لما في ذلك من قوة الإرادة وتحكيم العقل على العاطفة وعدم تعريض الولد للرق وفساد الأخلاق ﴿والله غفور﴾ بعد ذلك لمن وقع في الزنى ثم تاب وندم ﴿رحيم﴾ بعباده بقدر ضعفهم وسطوة إبليس عليهم.
لقد أمر الله الناس بالتقوى وحذرهم من التعدي على حقوق الضعفاء من اليتامى والنساء والسفهاء وأمر بالعدل في معاملتهم ثم بين لهم ما لكل من هؤلاء من حقوق في أموال مورثيهم يجب أداءها لهم ليقضي بذلك على ما كان للعرب في الجاهلية وبعض الشعوب الأوربية الآن من عادات وتقاليد تقضي بعدم توريث البنات أو صغار الذكور وحصرها في كبير العائلة أو من كان شديد القوى قادرًا على الدفاع وأخبر سبحانه وتعالى بأن تلك حدوده التي لا يحل تجاوزها وبين ما يترتب على المخالفة من عذاب في الآخرة وجزاء عاجل في الدنيا وأخبر جل وعلا بأن التوبة من الذنب من شأنها أن تحول دون تنفيذ العقوبة في الآخرة وأتى بذكر وقت التوبة وشروطها ورغب في تعجلها ثم عاد فأملى عليهم ما يجب أن يقلعوا عنه من عادات وتقاليد سيئة كاحتقار
السؤال إن دل على شيء فإنما يدل على تكذيبك في دعوى الرسالة وعدم الاعتراف بما جئت به من القرآن كتاباً منزلاً من عند الله ولذلك فإن الله لا يرضى به، ولو أنهم سألوا عن شيء معقول يجهلونه لأجيبوا عليه ولكنهم قوم متعنتون كما يشهد بذلك تاريخهم مع رسلهم من قبل (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ) إذ تجاوزوا حد إنكار الرسالة إلى إنكار صفه من صفات الله (فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) والله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (فَأَخَذَتْهُمُ) أي السائلين (الصَّاعِقَة) الإلهيةُ (بِظُلْمِهِمْ) أي بسبب ظلمهم لأنفسهم حيث عرضوها للاصطلاء بنار الصاعقة بطلبهم المستحيل ذلك لأن الصاعقة هي إحدى القوى الإلهية التي لا يعلم حقيقتها إلا الله والتماس بتلك القوى مما يؤدي إلى الاحتراق والله جل جلاله هو مصدر جميع القوى لأنه خالقها فالتعرض لرؤياه مما يؤدي إلى الإحتراق من باب أولى فلما طلب بنو إسرائيل ذلك تعنتاً وتعجيزاً له أصاب القائلين منهم ما أصاب الجبل عندما قال موسى رب أرني أنظر إليك قال (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) فلم يكفهم هذا دليلا قائماً على عدم إمكان رؤية الله وأنه تعالى فوق جميع المحسوسات بل صاغوا
<٦>
لهم عجلا وجاء السامريّ فألقى فيه قبضة من أثر الرسول فإذا هو جسد له خوار وقال (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها يرونه فيعبدونه (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) على عدم إمكان رؤية الله (فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ) الجرم لما تلبس عليهم من أمره من التطورات الخارقة للعادة (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) أي جعلناه يقسو عليهم ويأخذهم بالشدة في الاعتراف برسالته وإعطائه عهدا وميثاقا بأن يعملوا بشريعته من بعد أن أيقن أنهم قوم معاندون لا يخضعون للحق عن طريق الإقناع بالأدلة والبراهين وأمده الله بشيء من وسائل القوة حيث قال (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) تهديدا لهم شأن السيد يحمل على عبده العصا للطاعة والانقياد (بِمِيثَاقِهِمْ) أي تنفيذا للعهد الذي قطعوه على أنفسهم وقلنا لهم (ادْخُلُوا الْبَابَ) باب القرية التي كانوا يحنّون إلى دخولها من قبل (سُجَّدًا) أي خاضعين
الرسول مرارًا حتى أقصاهم من جزيرة العرب، أما النصارى فقد أحسن النجاشي إلى المهاجرين الذين أرسلهم الرسول ﷺ من مكة إلى الحبشة وحماهم وسمح لهم بنشر دعوتهم حتى أسلم على يدهم خلق كثير في مقدمتهم النجاشي نفسه وإن لم يعلن إسلامه إذ صلى عليه رسول الله ﷺ عند وفاته. ولما كتب الرسول ﷺ إلى الملوك ورؤساء الشعوب بالدعوة إلى الإسلام رد عليها هرقل ملك الروم بالشام ردًّا حسنًا ولم تأخذه العزة بالإثم. وكذلك المقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًّا وأرسل إلى النبي ﷺ هدية حسنة. ولما فتحت مصر والشام وعرف أهلها حقيقة الإسلام دخلوا في دين الله أفواجًا وكان القبط أشد إقبالًا عليه. وإذا كنا نرى الدول المسيحية اليوم أقل عطفًا ومودة للمسلمين فهذا يرجع لأسباب منها.
١ - أن القائمين بالحكم فيها ليسوا من المتمسكين بتعاليم شريعتهم.
٢ - لم يعد للقسيسين والرهبان السلطة الروحية الكاملة على أتباعهم.
٣ - أن المسلمين عمومًا وعلماءهم بالخصوص قد انحرفوا عن تعاليم الدين وقصروا في نشر الدعوة إليه وإقناع النصارى بمزاياه. بل إن الكثير منهم ليحاول أن يبث روح العداء في نفوس المسلمين ضد النصارى الذين أخبرنا الله في هذه الآية بأنهم أقرب إلينا ودًّا، الأمر الذي أدى إلى اتساع رقعة الخلاف والتفرقة فيما بيننا وبينهم بل بين المسلمين بعضهم بعضًا.
على أننا لا ننكر مصداق قوله تعالى: ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾. مما هو مشاهد وملموس اليوم من سمو أخلاق الشعوب المسيحية وما لديهم من حسن المعاملة والإصغاء لرأي المخالف والإذعان للحق متى تبين لهم، واعتناق كثير منهم للإسلام عن عقيدة متى تجردوا عن العصبية الجاهلية والتقليد الأعمى. ونحن على يقين بأنه لو تخلى المسلمون عن جمودهم وعرفوا كيف يعرضون الإسلام عرضًا صحيحًا، على حقيقته التي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله، لعم الإسلام بلاد أوربا وأمريكا بل لعلا شأن الإسلام على أيديهم. فالعداء بين المسلمين والنصارى إنما يرجع سببه إلى بعد الفريقين أو كل منهما عن هداية دينه عن جهل وسوء تفاهم وتصلب كل منهما لرأيه تحت تأثير عوامل أخرى لا تمت إلى الدين بشيء. ولولا التنازع السياسي بين دولنا ودولهم وما يعبئونه من قوى وما يستخدمونه من وسائل في سبيل تحطيم الإسلام وصد الناس
بعد أن أخبر الله رسوله بأن خوارق العادات لا تكفي وحدها لإيمان الناس، فهناك من البواعث النفسية ما يؤدي إلى الكفر وفق مشيئة الله وبعد الإذن منه، أخذ يحضه على التفويض إليه جل وعلا ويؤكد له أن طلب قومه المزيد من الآيات أو المعجزات لم يكن ناشئًا عن جهل بما ورد في القرآن أو عدم اعتراف بالقرآن كتابًا منزلًا من عند الله بل لمحض العناد والمكابرة والرغبة في التعجز والإحراج ولذا أمره أن يوجه للضالين قوله ﴿أفغير الله أبتغي حكمًا﴾ بيني وبينكم في تأييد حجتي عليكم ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب﴾ الذي أدعوكم للعمل بمقتضاه وقد جعله سبحانه وتعالى حجة قائمة ومعجزة خالدة لرسوله ﷺ على مدى الدهر للناس كافة ﴿مفصلًا﴾ أي مبينًا فيه الحق من الباطل وما يريده الله منكم، وما ينهاكم عنه وما يترتب على ذلك من ثواب أو عقاب فإن أحسنتم فلأنفسكم وإن أسأتم فعليها ﴿والذين آتيناهم الكتاب﴾ أي العرب الذين أنزل القرآن عليهم وبلغ إليهم ﴿يعلمون﴾ حق العلم بما أوتوا من فصاحة وبلاغة عجزوا معها أن يحاكوا آية من آياته ﴿أنه﴾ أي القرآن ﴿منزل﴾ بتشديد الزاي وقرئ بتخفيفها ﴿من ربك﴾ كما يعلم الأطباء أنواع الأمراض بمشاهدة أعراضها ﴿بالحق﴾ أي أن كلما جاء فيه من أخبار وأحكام حق صادر من الله إذ ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾. ﴿فلا تكونن﴾ أيها الرسول ﴿من الممترين﴾ أي الشاكين في علمهم بأن القرآن كلام الله وشرعه وأن ما يبدوا منهم من إنكار وتكذيب ما هو إلا عن تعنت وسوء نية فلا تتمنى جذبهم إلى الإيمان عن طريق توالي الآيات وخوارق العادات ﴿وتمت كلمة﴾ وقرئ «كلمات» بصيغة الجمع وكلاهما يطلق على الجملة والطائفة من القول في معنى واحد أو غرض واحد طال أو قصر يقال ألقى فلان كلمته وأفضى بكلماته أي خطابه ﴿ربك﴾ أي دستوره الذي سيحاسب الناس بمقتضاه يوم القيامة وهو القرآن ﴿صدقًا﴾ فيما أخبر به ﴿وعدلًا﴾ فيما قضى به من أحكام قدرية ﴿لا مبدل لكلماته﴾ أي لا يملك غيره من البشر تغييرها ولن تجد لسنة الله تبديلًا. ﴿وهو السميع﴾ لأقوال العباد ﴿العليم﴾ بحركاتهم وسكناتهم فلا يخفى عليه شيء من أمرهم.
بعد أن أقام الله لنبيه البرهان على أن طلب قومه المعجزات لم يكن منبعثًا عن إخلاص ورغبة في الإيمان بل هو لمجرد التعجيز والإحراج أردف ذلك بما يشعره بأن مجاراة الناس في طلباتهم والنزول عند رغباتهم من شأنه أن يؤدي إلى الضلال فقال ﴿وإن تطع﴾ في الشؤون الدينية ﴿أكثر من في الأرض﴾ من العقلاء والمفكرين الذين
اللهم بيننا وبينهم بالحق الذي مضت به سننك في التنازع بين الرسل والكافرين وبين المصلحين والمبطلين المفسدين ﴿وأنت خير الفاتحين﴾ أي الحاكمين الذين يفصلون في قضايا الناس في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة. وهنا تجلت قدرة الله فلم يقدم القوم على تنفيذ وعيدهم ولم يجرؤوا على إخراج شعيب ومن آمن معه من أرضهم وربما خافوا بأسهم ﴿وقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ للمؤمنين من أتباعه عندما أفحموا وعجزوا عن الرد عليه ﴿لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون﴾ أي أنهم عدلوا عن تنفيذ وعيدهم بالنفي من البلاد إلى محاولة صد الناس عن اتباعه وتنفيرهم عن دينه بزعمهم أن اتباعهم لنبيهم سيؤدي بهم إلى الخسران في كل شيء فهم يخسرون شرف الانتساب إلى دين آبائهم ويخسرون ما كان لهم من الثقة بهم في قومهم فيفقدون عطفهم وحسن معاملتهم فتضمحل ثروتهم إلى غير ذلك مما يعد خسارة في نظرهم ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ أي فما كادوا ينتهون من صد المؤمنين عن دين الله حتى أصابتهم رعشة قوية من الخوف وعبر عنها في سورة هود بالصيحة ولعلها كما قلنا فيما أصاب قوم صالح أنها صاعقة شديدة جعلتهم يموتون هلعًا ﴿فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ أي متلبدين في الأرض لا حراك لهم ﴿الذين كذبوا شعيبًا﴾ وهددوه وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها ﴿كأن لم يغنوا فيها﴾ أي كأن لم يقيموا فيها ولم يكن لهم غنى أو سعادة من قبل إذ أصبحت أطلالًا متهدمة وأثرًا بعد عين ﴿الذين كذبوا شعيبًا﴾ وهددوا المتبعين له بالخسران ﴿كانوا هم الخاسرين﴾ إذ فقدوا ما كان لهم من مال وبنين وعز وسلطان ﴿فتولى﴾ شعيب أي ابتعد ﴿عنهم﴾ وهم جاثمون في أرضهم ﴿وقال﴾ كما قال صالح من قبل لقومه بعد هلاكهم ﴿يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم﴾ أي أديت واجبي ورفضتم الإصغاء إليّ وقد نلتم جزاءكم ﴿فكيف آسى﴾ أي أحزن ﴿على قوم كافرين﴾ بالله جاحدين نعمه وقد أعذرت إليهم وبذلت جهدي في سبيل هدايتهم ونجاتهم فاختاروا لأنفسهم هذا المصير وإنما يأسى من قصر فيما يجب عليه من النصح والإنذار.
بعد أن بسط الله ما كان من إرساله للرسل وما أصاب أممهم من عذاب الاستئصال بسبب كفرهم بالله وعدم اتباع أوامره أخذ ينبه الأفكار إلى أن هذا النوع من العذاب لم يكن قاصرًا على زمن أولئك الرسل فقط ولا من أجل إيذاء الناس لهم بل إنه قائم على سنن الله الاجتماعية التي يجب أن يعلم بها الناس ويأخذوا لأنفسهم منها عبرة وعظة. ولذا فصلها جل وعلا فيما يأتي فقال:
أن جبير بن مطعم وهو بني نوفل وعثمان بن عفان وهو من بني عبد شمس مشيا إلى رسول الله ﷺ وقالا له هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا فقال: «إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد» وشبك بين أصابعه فدل هذا على أن قرابة النسب لا تكفي إذا لم يدعمها الولاء والنصرة لدين الله التي تجلت عندما كتبت قريش الصحيفة وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب لحمايتهم لرسول الله ﷺ فدخل معهم بنو المطلب من تلقاء أنفسهم ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل وقد حفظ السلف الصالح هذا الحق لقرابة رسول الله من بني هاشم وبني المطلب حتى كان سيدنا عمر رضي الله عنه يزيد عليه من بيت المال ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة ليحفظ بذلك كرامتهم وعزهم كما أخذت الدولة الإنكليزية بهذا المبدأ وصارت تحافظ دائمًا على كرامة العائلات العريقة وهم اللوردات وتساعدهم بمختلف المساعدات ليظل فيهم من يمثل عظمة الأمة وشرفها، أما المسلمون اليوم ويا للأسف فإنهم حرموا أقرباء رسول الله حقهم وعاملوهم بعكس قوله لنبيه: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى﴾ حتى اضطروهم إلى السؤال الذي حرمه الرسول عليهم وخصصوا الرواتب الضخمة والمخصصات الكثيرة في ميزانية كل دولة للملوك والعائلة المالكة لمجرد انتمائها للملك دون أن يكون لها أي أثر في نصرة الدولة وتثبيت أركانها: ﴿واليتامى والمساكين﴾ ولم ترصد الدول في ميزانياتها في هذا العصر شيئًا لأمثال هؤلاء حتى اضطرت الفاقة كثيرًا منهم إلى السرقة والإخلال بالأمن وأحس الناس بهذا فألفت الجمعيات لتأسيس دور اليتامى والعاجزين عن الكسب: ﴿وابن السبيل﴾ وهو المسافر أو السائح الفقير الذي ينزل بالمسلمين ولا يزال للمسلمين في بعض أنحاء أندونيسيا وباكستان والهند دورًا خاصة قائمة حتى اليوم تدعي «مسافر خانه» يقصدها المسافر فيأوي إليها ويقوم أهل القرية بتقديم ما يحتاجه من طعام ومثلها ما تؤسسه الحكومات في بلادها من دور الضيافة غير أنها مختصة بالأغنياء دون الفقراء مع أن الله سبحانه إذ فرض له خمس الغنائم وأمر بتوزيعه على من ذكر لم يكن إلا لحكمة سامية تعود على المجموع بالخير العميم ولذلك اتخذ من تنفيذ ذلك دليلًا على صحة الإيمان فقال: ﴿إن كنتم آمنتم بالله﴾ إلهًا واحدًا هو الذي نصركم على عدوكم ومنحكم ما نلتم من غنائم: ﴿وما أنزلنا على عبدنا﴾ من الآيات التي
أقوالهم: ﴿إنهم رجس﴾ أي قذرون قذارة حسية ينبغي التنزه عن القرب منهم كما يتحرز نظيف الثوب والبدن عن التلوث بأنواع النجاسات، وقد ثبت رجسهم من انغماسهم في أعظم السيئات وهو الحلف بالله كاذبين تخلصًا من عتب العاتبين، وهذا هو الضلال المبين الذي سيلقون عقابه وهو قوله: ﴿ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون﴾ في الدنيا من أعمال النفاق أو الكفر والشرك التي فصلها الله وحذرهم منها لا لأن الله قد كتبها عليهم في أزله فلا سبيل إلى تخلصهم منها كما يتصور بعض العلماء الذين لا يؤمنون بمزايا العمل استنادًا إلى قول الرسول ﷺ «لن يدخل أحدًا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» ولهذا أخذوا يتلمسونها عن طريق الوسطاء والشفعاء وفاتهم أن هذا الحديث لا يتنافى مع الآيات الكثيرة الدالة على أن الجزاء إنما يترتب على الأعمال، ذلك لأن الله سبحانه لو أراد أن يعذب سائر البشر ويدخلهم النار ما كان هناك ما يمنعه من ذلك ولكنه تفضل بمحض رحمته وعدله أن يجعل الإيمان والعمل الصالح سبيلًا لدخول الجنة فإذا عمل الإنسان الصالحات ودخل الجنة بها فهو إنما دخلها برحمة الله التي اقتضت ذلك لا لمجرد العمل الذي لو صدر من الكافر لا يدخله الجنة. كذلك فإن من رحمة الله أن جعل الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها فإذا ما رجحت الحسنات على السيئات فذلك من رحمة الله وبهذا يتضح أن العمل الصالح من المؤمن هو نواة الرحمة وسبيل دخول الجنة لا أنه لا قيمة له وأن اتخاذ الوسطاء والشفعاء إلى الله ودعوة غيره في النائيات كل هذه من الأعمال السيئة التي عابها الله على المشركين والكافرين وجعل صدورها من المسلمين سبيلًا للاصطلاء بنار جهنم، ولجهل المنافقين بهذه الحقيقة تراهم يكابرون فيها ويأبون الاعتراف بانحرافهم عن الدين الحق الخالص من شوائب الشرك: ﴿يحلفون لكم لترضوا عنهم﴾ أي أنهم يحلفون لكم أيمانًا مغلظة تجلب رضاءكم بأنهم يؤمنون بالله إيمانًا كإيمانكم وأنهم بعيدون كل البعد عن النفاق، فحذار من تصديقهم والرضاء عنهم فإن كثرة الحلف بالله من علامات النفاق إذ المنافق يشعر دائمًا بأنه متهم بالكذب فيحاول نفي ذلك عنه بالحلف بالله ولم يكن حلفهم إلا لتعاملوهم بظاهر إسلامهم ولو كانوا مؤمنين حقًّا لما حرصوا على رضائكم عنهم اكتفاء بعلم الله بهم ورضائه عنهم: ﴿فإن ترضوا عنهم﴾ أي وكان عليهم أن يعلموا أنكم إن رضيتم عنهم وصفحتم عما سبق منهم: ﴿فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين﴾ أي أن دستور الله لا يتعلق
#ويرزق في غشاوته الجنين
وعكس ما يعتقده الناس في عصرنا هذا الذي طغت فيه المادة من أن العمل وحده هو سبيل الرزق بمعنى أنه لا رزق من غير عمل مستدلين على ذلك بأن الله جلت قدرته أمر السيدة مريم بهز النخل وكان في إمكانه أن يسقطه عليها من غير هز، وفاتهم أن ذلك الهز لم يكن هو موجدًا لأساس التمر وطالما يسقط التمر على الأرض من غير هز وإنما أراد الله بذلك أن يعلم السيدة مريم ما سنه لعباده من ضرورة طرق الأسباب، فلا دليل في ذلك على أنه لا رزق من غير عمل، وقد حض الله عباده على طاعته، وتكفل لهم بالرزق حيث قال: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى﴾ كما أنه عندما أمرهم بالعمل حدد لهم الغاية منه، وهو أن يراهم طائعين فيجزيهم على عملهم في الدنيا ويوم القيامة حيث قال: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ وأخبرهم بأن العمل لم يكن إلا وسيلة لاكتشاف سبيل الرزق وأنهم في النتيجة سيأكلون من رزقه الذي خلقه لهم ولم يكونوا موجودين له بعرق جبينهم كما يتصورون حيث قال: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾. وإن مما يؤسف له أن الناس اليوم قد اعتمدوا في أمر معاشهم على مجرد العمل ولم يخطر ببالهم ذلك الإله الذي أوجدهم من العدم وتكفل لهم بالرزق إذ خلق لهم ما في الأرض جميعًا من المواد الأولية لما يأكلون وما يلبسون وما يركبون وعلمهم الكثير من سنن الكائنات واكتشاف طريقة استخدام بعض الموجودات بل لقد ركبوا رؤوسهم واعتمدوا على الأسباب دون مسببها والمخلوقات دون خالقها ولم يجعلوا لله حسابًا في تقديرهم ولم يشعروا بنعمه عليهم مع أنه تعالى يقول: ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾.
﴿كل في كتاب مبين﴾ أي كل واحدة من الدواب مستقرها ومستودعها معلوم عنده تعالى ومرصود في اللوح المحفوظ لديه فلا يمكن أن يهمله أو يتركه من غير أن يوجد له في المكان الموجود فيه ما هو بحاجة إليه بحيث لا يطلب منه غير البحث عنه، والسعي إليه، وقد نظمت في هذا ما يأتي:
(الرزق من عند الله)
بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (٥٧) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (٥٩) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ
بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (٤٧) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (٥٦) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (٦٢) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (٧٧) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٨٤) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ
أقوالهم: ﴿إنهم رجس﴾ أي قذرون قذارة حسية ينبغي التنزه عن القرب منهم كما يتحرز نظيف الثوب والبدن عن التلوث بأنواع النجاسات، وقد ثبت رجسهم من انغماسهم في أعظم السيئات وهو الحلف بالله كاذبين تخلصًا من عتب العاتبين، وهذا هو الضلال المبين الذي سيلقون عقابه وهو قوله: ﴿ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون﴾ في الدنيا من أعمال النفاق أو الكفر والشرك التي فصلها الله وحذرهم منها لا لأن الله قد كتبها عليهم في أزله فلا سبيل إلى تخلصهم منها كما يتصور بعض العلماء الذين لا يؤمنون بمزايا العمل استنادًا إلى قول الرسول ﷺ «لن يدخل أحدًا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» ولهذا أخذوا يتلمسونها عن طريق الوسطاء والشفعاء وفاتهم أن هذا الحديث لا يتنافى مع الآيات الكثيرة الدالة على أن الجزاء إنما يترتب على الأعمال، ذلك لأن الله سبحانه لو أراد أن يعذب سائر البشر ويدخلهم النار ما كان هناك ما يمنعه من ذلك ولكنه تفضل بمحض رحمته وعدله أن يجعل الإيمان والعمل الصالح سبيلًا لدخول الجنة فإذا عمل الإنسان الصالحات ودخل الجنة بها فهو إنما دخلها برحمة الله التي اقتضت ذلك لا لمجرد العمل الذي لو صدر من الكافر لا يدخله الجنة. كذلك فإن من رحمة الله أن جعل الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها فإذا ما رجحت الحسنات على السيئات فذلك من رحمة الله وبهذا يتضح أن العمل الصالح من المؤمن هو نواة الرحمة وسبيل دخول الجنة لا أنه لا قيمة له وأن اتخاذ الوسطاء والشفعاء إلى الله ودعوة غيره في النائيات كل هذه من الأعمال السيئة التي عابها الله على المشركين والكافرين وجعل صدورها من المسلمين سبيلًا للاصطلاء بنار جهنم، ولجهل المنافقين بهذه الحقيقة تراهم يكابرون فيها ويأبون الاعتراف بانحرافهم عن الدين الحق الخالص من شوائب الشرك: ﴿يحلفون لكم لترضوا عنهم﴾ أي أنهم يحلفون لكم أيمانًا مغلظة تجلب رضاءكم بأنهم يؤمنون بالله إيمانًا كإيمانكم وأنهم بعيدون كل البعد عن النفاق، فحذار من تصديقهم والرضاء عنهم فإن كثرة الحلف بالله من علامات النفاق إذ المنافق يشعر دائمًا بأنه متهم بالكذب فيحاول نفي ذلك عنه بالحلف بالله ولم يكن حلفهم إلا لتعاملوهم بظاهر إسلامهم ولو كانوا مؤمنين حقًّا لما حرصوا على رضائكم عنهم اكتفاء بعلم الله بهم ورضائه عنهم: ﴿فإن ترضوا عنهم﴾ أي وكان عليهم أن يعلموا أنكم إن رضيتم عنهم وصفحتم عما سبق منهم: ﴿فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين﴾ أي أن دستور الله لا يتعلق
عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (١٦) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
سورة المجادلة: لقد عدَّد الله في السورة السابقة أنواعًا من الأدلة على إثبات وحدانيته وعمله وقدرته وما يقتضيه ذلك من وجوب الإيمان الكامل به وترك ما يغضبه وأمر ببذل الأموال في سبيله وشرح ما أعده من ثواب على ذلك وفرق ما بين المؤمنين والمنافقين وأوضح حقيقة الحياة الدنيا وعلمه تعالى بكل مصيبة تقع فيها وختم السورة بدعوة الناس إلى الإيمان والتقوى وضمن لهم على ذلك الفوز المبين ثم أخذ يغرس سبحانه وتعالى في هذه السورة تقواه في القلوب بما يؤكد علمه بكل صغيرة وكبيرة من أمر خلقه حتى أنه ليسمع ما يدور من أحاديث الناس وما يتوجهون به إليه في جميع الأوقات فيُصدر حكمه جل وعلا في كل قضية تهم عباده على حدة بما تقتضيه رحمته وعدله فقال: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ والسمع صفة تدرك به الأصوات: ﴿اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ بأخذ ورد: ﴿فِي زَوْجِهَا﴾ وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية وزوجها أوس بن الصامت جاءت يومًا إلى الرسول ﷺ تبحث في أمر صدر من زوجها وهي لا تعرف حكم الله فيه فقد قال لها زوجها أنت عليَّ كظهر أمي وكان من عادة العرب في الجاهلية أن الرجل إذا قال لامرأته هذا القول تحرم عليه، وهي لا ترى في هذا ما يوجب الحرمة فكيف تحرم المرأة على زوجها بمجرد دعوى كاذبة تصدر منه والإسلام لا يمكن أن يقر عملًا غير معقول كهذا من أعمال الجاهلية ومن أجل هذا جاءت إلى الرسول تجادله في الموضوع وتقول يا رسول الله إنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ فكيف أكون كأمه وأحرم عليه فقال لها رسول الله ﷺ ما عندي من
ملك جميع الكائنات المتصرف فيها كيف يشاء باعتباره الخالق لها المنظم لشؤونها كافة: ﴿وهو على كل شيء قدير﴾ فلا يصعب عليه إيجاد ما يريد إيجاده وإبادة ما يريد إبادته لا يسأل عن أي شيء خلقه لِمَ خلقه وما هي الحكمة في خلقه ومن حقه وحده أن يوضح حكمته تعالى من تصرفاته متى أراد وقد تفضَّل جلَّ وعلا فوجَّه الخطاب إلى عباده وأخبرهم بالحكمة التي من أجلها خلق الحياة الدنيا وما فيها من سائر الموجودات فقال: ﴿الذي خلق الموت والحياة﴾ هنا تحير المفسرون في المعنى المراد بخلق الموت والحياة والسبب في تقديم الموت وهو العدم على الحياة وهي الوجود وعندي أن المراد بهما الحياة الدنيا من أساسها فهي موت وحياة في وقت واحد، ذلك لأن الله عندما خلق آدم وحواء من طين أسكنهما جنة يحيون فيها حياة سعيدة يأكلان ويشربان ويلبسان من غير كد ولا عناء بحيث لا يحتاجان إلى التعرض حتى ولا لضحى الشمس، ونهاهما عن الأكل من شجرة خاصة عينها لهما ووصفها الشيطان لهما بأنها شجرة الخلد أو سبيل دوام النسل بالاتصال الجنسي فلما ذاقاها بتحريض إبليس ونسيا ما نهيا عنه زالت عنهما تلكم النعم، وأخرجا من الجنة وأمرا بالهبوط من تلك الحياة السعيدة إلى حياة أقل منها، كلها جهد وعناء مستمر هي هذه الحياة الدنيا الحقيرة الزائلة ولا شك أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا عقابًا لهما على تلك الخطيئة فيكون الحرمان من النعيم السابق موتًا للإنسان بالنسبة لحياته الأولى وحياة له بالنسبة لحياته التي هو فيها والخلاص من هذه الحياة الدنيا المؤقتة الذي نسميه نحن بالموت ما هو في الواقع إلا رجوع إلى الحياة الأولى فعندما تغلق في الدنيا تلك العيون التي فتحت في الجنة عقابًا على الخطيئة في هذه اللحظة فقط يعود الإنسان إلى شيء مما كان عليه قبل الهبوط إلى هذه الحياة الدنيا قال صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» ومعنى الآية أن الله خلق هذه الدنيا بحالتيها من موت وحياة: ﴿ليبلوكم﴾ أي لتكون دار جهد وعمل وصراع بين الإنسان والشيطان وسبيلًا لنيل السعادة وفق دستور سنة لذلك يقضي بأن السعادة لا تنال إلا باتباع هدي الله والشقاء لا يكون إلا بالإعراض عن ذكره تعالى حيث قال: ﴿اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾.
﴿أيكم أحسن عملًا﴾ أي من منكم يتبع سيرة أبيه آدم فيطيع الله ويرجع إليه بالتوبة والندم عند الزلل فيتوب الله عليه ومن منكم يتبع إبليس في الإصرار على العصيان إلى النهاية فينال ما ناله من
رسول الله إن النبي أمرني بكتابتها بالتاء أو لقال عثمان لزيد اكتبها بالكيفية التي أملاها عليك رسول الله بل إن المصاحف التي أرسلها سيدنا عثمان بعد ذلك إلى المدن لم تكن برسم واحد.
وغير هذا فالمصحف لم يكن في الأصل منقوطًا ولا مشكولًا وأول من شكله أبو الأسود الدؤلي وأول من أمر بنقطه الحجاج بن يوسف الثقفي خوفًا من الخطأ والتصحيف فيه وقد تكلم في هذا الموضوع بإسهاب علم من أعلام الخط في الحجاز اليوم وهو الأستاذ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي في كتابه «تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه» الأمر الذي جعلني أعتقد بضرورة طبعه وفق القواعد الحديثة المفهومة في هذا العصر ليسهل على كل قارئ تلاوته ولهذا بادرت بطبعه الخط الإملائي ووضعت الشرح في الأطراف ممزوجًا بألفاظ القرآن نفسها لزيادة الإيضاح ونحوت فيه نحوًا جديدًا يحقق الغاية التي من أجلها أنزل وهي بث روح التدين في النفوس وما توفيقي إلا بالله.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
عبد الحميد الخطيب
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (٧)﴾.هذه السورة مكية، آياتها سبع، وهي أول سورة نزلت كاملة من القرآن وقد أمر النبي ﷺ بجعلها أول القرآن الكريم وانعقد الجماع على ذلك.
أما أول آية نزلت من القرآن فهي من سورة (العلق). وإنما سميت هذه السورة الفاتحة لأن النبي ﷺ أمر أن يفتتح بها القرآن، ولأنها مشتملة على مجمل ما في القرآن، وهو بمثابة تفصيل للأصول الكلية والمقاصد العمومية والقضايا الدينية الشرعية الحكمية، ولما تضمنه من العظات والعبر، من القصص والأحداث التي وقعت في الأمم الخالية الماضية.