يقول: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ فمن حقنا ومن واجبنا أن نتمتع بكل ما في المدينة من محاسن شكر إنا لله مانحها وإطاعة لقوله تعالى: ﴿ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك﴾ ولنذكر قوله تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ ولقد كان من واجب الفقهاء أن يعلموا على تفهيم الناس معاني القرآن، والاستعانة بما جاء به العلم من مخترعات على كشف ما غم عليهم من الأسرار وأن يحضوهم على العمل للدنيا والآخرة معًا عن طريق إصلاح السرائر والإخلاص في سائر الأعمال، وغرس محبة الله في القلوب، وإفهامهم أنه تعالى يعامل الناس بكسبهم ويجزيهم بأعمالهم فلا يخاف المحسن لديه ظلمًا ولا هضمًا ولا نجسًا ولا رهقًا فإنه تعالى لا يضيع عمل محسن أبدًا ويجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالندم والاستغفار ويضاعف لعباده الحسنات، في الحياة وبعد الممات ليحيوا الإيمان إلى قلوبهم ما دام فيه سعادة الدنيا والآخرة ولكننا أهملنا هذا ولم نؤد واجب القرآن علينا من تدبر معانيه واكتفينا بتلاوته لمجرد التعبد والبركة لا للموعظة والهداية وتنوير الأفكار من الغواية، ولم نتدبر آياته فضاع الغرض الذي من أجله أنزل، ومما زاد الطين بلة جهل الكثير من الناس اللغة العربية الفصحى حتى أصبحوا لا يفهمون كثيرًا من معاني الجمل والكلمات التي جاء بها التنزيل وأصبحنا نفتتح به الحفلات، ونتلوه في المآتم وعلى الأموات، حتى قست القلوب وبعدت عن علام الغيوب وتقلص الإيمان اضمحلت التقوى وانهارت معالم الدين ومادت رواسي الحق واليقين وتقوضت مكارم الأخلاق واندثرت محاسن الآداب وحل بالأمة الإسلامية الذل والهوان، والفقر والضعة في كل مكان، بعد أن كانت لها العزة والكرامة، والسيطرة والمهابة، فبتقصيرنا في دراسة القرآن والاهتداء بهديه أطفئ نور الإسلام وبأعمالنا حقت علينا كلمة العذاب وأصبح المسلمون اليوم في معزل تام عن الائتمار بأمر ربهم والانتهاء عما نهى عنه وأصبحنا في وقت لا نفهم ما يقول القرآن ولا ما إليه يشير، بل نحن عنه معرضون وعن حديثه لاهون، وإن كنا لسماع ألحانه طربين وعلى حمله للبركة حريصين فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد أخبرنا الصادق الأمين ﷺ من قبل بكل ما نحن فيه اليوم ووصف لنا سبيل الخلاص من ذلك حيث قال: «يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى على القصعة أكلتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا بل أنتم كثير
لنجعلكم أمة وسطًا لم تتحيز إلى دين دون آخر بل توجهتم إلى القبلتين وآمنتم بالأديان كافة وسائر الرسل ﴿لتكونوا شهداء﴾ بالحق ﴿على الناس﴾ فلا يطعن أحد في شهادتكم لأنكم كنتم تصلون اتجاه قبلتهم وتؤمنون بكتبهم ﴿ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ بأنكم كنتم تؤمنون بجميع الرسل وسائر الكتب ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول﴾ وإنما شرعنا لك أيها الرسول التوجه أولًا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر لك حال من يتبعك ويطيعك ويتوجه معك حيثما توجهت ﴿ممن ينقلب على عقبيه﴾ أي يرجع إلى مؤخرة قدمه بمعنى يأبى مجاراتك ولا يتحول معك، وتداخله في أمرك الشكوك فيرتد عن دينه، ولذا ورد في الحديث أن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه ﴿وإن كانت﴾ تلك التولية عن القبلة في الواقع ﴿لكبيرة﴾ أي شاقة على النفوس ﴿إلا على الذين هدى الله﴾ إلى الإيمان بالله وصحة الرسالة، فهؤلاء يعلمون أن أمرًا كهذا لا يمكن أن يقدم عليه الرسول من تلقاء نفسه، بل لا بد أن يكون بأمر من ربه، فلا يكبر عليهم هذا الأمر، بخلاف من ضعف إيمانهم واقتصروا على مجرد التقليد فهؤلاء يكبر عليهم أن يتجه الرسول إلى جهة غير التي كان يتجه إليها غيره من الرسل ﴿وما كان الله ليضيع إيمانكم﴾ أو يوهن ثقتكم به فبقدر ما كان أمر التولية عن القبلة كبيرًا على بعض النفوس الضعيفة كان في ثبات المهتدين على متابعة الرسول دليل على ثقة عظيمة وإيمان قوي لا يحرمون من ثوابه ﴿إن الله بالناس لرؤوف﴾ يقدر حالة ضعف الناس وحاجتهم إلى العطف فلا يضيع عمل عامل منهم ﴿رحيم﴾ ذو رحمة واسعة فلا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم ليضيع عليهم هذا الإيمان بل ليجزيهم عليه أحسن الجزاء.
وقد دلتنا هاتان الآيتان على أن كثيرًا ما يجهل المرء حكمة التشريع في بعض الأمور التعبدية بينما تكون الحكمة هي في معرفة الطائع المنقاد من المتردد المتشكك، حيث يبرهن الأول على إيمان كامل وطاعة صادقة، بينما يدل الثاني على تمسكه بتقاليد وعادات تتنافى مع ما يدعيه من إيمان وتسليم؛ وقد تكون هناك حكم أخرى لا يعلمها
بعد أن أخبر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بطرف من قصص من مر من الأمم السابقة مع رسلهم وقال له سبحانه وتعالى في نهاية الآية السابقة من الجزء الثاني «تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين».
أخذ يبين له أن أولئك الرسل على ما كانوا عليه من الفضائل وعلو الدرجات وما اختصهم الله به من المعجزات، وما أيدهم به من الأخبار بالمغيبات لم يكونوا متساوين في الدرجات عنده جل وعلا حيث قال (تلك الرسل) المشار إليهم في الآية السابقة (فضلنا بعضهم على بعض) مع تساويهم في أداء الرسالة فكان (منهم من) فضل على غيره بأن (كلم الله) بضم الهاء وقرئ بفتحها وقرئ (كالم الله) بفتح الميم والهاء بغير سفير، وهو موسى عليه السلام (ورفع بعضهم درجات) في أعين الناس بأن اختصهم سبحانه وتعالى بخصائص ومميزات لم تكن لسواهم، حيث اتخذ إبراهيم خليلًا وجمع لداود الملك والنبوة، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح، وأسرى بعبده محمد إلى السموات، وأوحى إليه واجب الصلوات، وجعل رسالته عامة للإنس والجن وشريعته آخر الشرائع صلى الله عليه وسلم.
(وآتينا عيسى بن مريم البينات) إذ جعلنا من حمله وولادته ونطقه في عهد الطفولة آيات تدل على عظيم قدرة الله، وأجرينا على يده بعض أمور وهي من اختصاص الربوبية، فصار يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله حتى ألهه قصار النظر من أتباعه (وأيدناه) في الدعوة (بروح القدس) الذي هو واسطة الاتصال بين الله والرسل والذي به يعرفون عن أنفسهم أنهم على الحق فكان على أتباعهم أن يؤمنوا بهم جميعًا ويهتدوا بهديهم ولا يختلفوا فيما أوضحوه لهم من الأحكام (ولو شاء الله) أي لو أن مشيئة الله أو دستوره في خلقه كان يقضي بتساوي الناس في الفهم والإدراك وتقبل الهداية (ما اقتتل الذين) جاؤوا (من بعدهم) أي من بعد إرسال الرسل من أجل الإيمان بهم وانقسامهم إلى مصدق ومكذب (من بعد ما جاءتهم) من ربهم (البينات) أي الدلائل القائمة على أنهم رسل الله (ولكن اختلفوا) في تقبل الهداية الإلهية بحسب تفاوت القوى العاقلة فيهم لأن سنة الله في خلقه قد قضت بهذا الاختلاف كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ولو شاء ربك لهدى الناس جميعًا ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ (فمنهم من آمن) بالله
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٩١) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ
المرأة واعتبارها من سقط المتاع والاستبداد بأموالها وأمرهم بحسن معاشرتها وعدم الطمع في أموالها بل ونهاهم عن الزواج بمن يكون في زواجها ما يأباه الطبع البشري كزواج ما نكح الآباء أو يؤدي إلى أضرار اجتماعية وقسم ذلك إلى أربعة أقسام ثم أردفها بذكر الأسباب الداعية لما ذكر فقال ﴿يريد الله﴾ من إنزال هذه الآيات ﴿ليبين لكم﴾ دينكم وشرعكم الذي اختاره لكم ﴿ويهديكم سنن الذين من قبلكم﴾ وما كانوا عليه من عادات وتقاليد لم تكونوا تعلمون بها من قبل ولا شك أنكم الآن تمقتونها إذا قارنتم بينها وبين ما شرعه لكم ﴿ويتوب عليكم﴾ يجعلكم ترجعون عن فعلها من تلقاء أنفسكم ﴿والله عليم﴾ بما يصلح أحوالكم ﴿حكيم﴾ بما شرعه لكم ﴿والله عليم﴾ بما يصلح أحوالكم ﴿حكيم﴾ بما شرعه لكم ﴿والله يريد﴾ من تلك الأحكام ﴿أن يتوب عليكم﴾ يهيئ نفوسكم لمعرفة الله والرجوع إليه كلما صدر منكم ما لا يرضيه ﴿ويريد﴾ المندفعون وراء عاطفتهم ممن لا يحكمون عقولهم ﴿الذين يتبعون الشهوات﴾ في هذه الحياة الدنيا ﴿أن تميلوا﴾ معهم عن الصراط السوي ﴿ميلًا عظيمًا﴾ فلا تذكرون الآخرة ولا تعملون لها شيئًا أبدًا ﴿يريد الله أن يخفف عنكم﴾ العذاب بما فتحه لكم من باب التوبة والرجوع إليه في جميع الأوقات التي بينها لكم لما يعلمه سبحانه وتعالى من أساس تكوين الإنسان والفطرة التي فطره عليها ﴿وخلق الإنسان ضعيفًا﴾ عاجرًا عن القيام بواجب طاعة ربه وتنفيذ أوامره والانتهاء عن ما نهى عنه بكل بدقة.
بعد أن حذر الله عباده في الآيات السابقة من الاعتداء على حقوق المستضعفين وأمرهم بالعدل في معاملتهم عقب على ذلك بوضع قاعدة عامة للتعامل تفرق بين العدل والظلم في المسائل المالية فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله الذي خلق لكم ما في
مطأطئ الرؤوس ذلة وانكسار لعظمة الله الذي أنعم عليكم بدخولها من دون حرب (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا) على الحوت (فِي) يوم (السَّبْتِ) بل التزموا ما أمركم به الله من عدم صيدها فيه (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) عهداً مؤكداً ناشئاً عن الخوف من الله والإيمان بقدرته على هلاكهم أن لم يأخذوا التوراة ويعملوا بكل ما جاء فيها وأن يقيموا حدود الله ولا يتجاوزوها (فَبِمَا) متعلق بفعل محذوف تقديره فما حل بهم ما حل من البلاء واللَّعن ناشئ عن ستة جرائم ارتكبها آباؤهم وتوارثوها عنهم وأقروهم عليها وتابعوهم فيها وجبلوا عليها – الأولى بسبب (نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) إذ أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحله.
(وَ) الثانية بسبب (كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ) المتعددة التي أيد الله بها رسالة موسى عليه السلام
<٧>
(وَ) الثالثة بسبب (قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ) الذين بعثوا من قبل لهدايتهم كزكريا ويحيي عليهما السلام (بِغَيْرِ حَقٍّ) أي دون أن يكون لذلك القتل من سبب إلا تبليغهم لرسالة الله والاعتداء على الرسول
(و) الرابعة بسبب (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي مستكنة داخل أغلفة لا ينفذ إليها شيء من أقوالك فلا تدركها ولا تتأثر بها والواقع غير ذلك فقلوب العباد جميعها خلقت مستعدة لفهم الحقائق وتقبل الهداية غير أنهم بالإعراض عن الإصغاء لأقوالك والتدبر فيها قد حرموا أنفسهم من الاستفادة منها (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) أي أنهم بسبب ما صدر منهم من كفر بالله انصرفت حواسهم وتوجهت أفكارهم إلى نواح أخرى غير الله وانطبعت قلوبهم بهذا الطابع فلم يعودوا يفكروا في الله ولا فيما يوصل إليه (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي فلا يؤمن منهم غير قليل ممن حكم العقل وتجرد عن الهوى والعاطفة ونظر إلى ما جئت به نظر تأمل واعتبار، أمثال الحصين بن سلام أحد أحبار اليهود وذوي المكانة السامية فيهم
(و) الخامسة بسبب (بِكُفْرِهِمْ) بقدرة الله على خلق عيسى من غير أب (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) أي الأمر الذي أدى بهم إلى نسبة الزنا إليها
(وَ) السادسة بسبب (قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه) لأن صدور هذا القول منهم
عنه وإذكاء نار الفتنة والبغض بيننا وبين النصارى لساد الصفاء والود بيننا وبينهم وانتشرت في العالم ألوية السلام ﴿وإذا سمعوا﴾ أي أولئك النصارى ﴿ما أنزل﴾ من القرآن ﴿إلى الرسول﴾ محمد ﷺ ﴿ترى﴾ أيها الناظر إليهم ﴿أعينهم تفيض من الدمع﴾ أي يتساقط الدمع منها من غير شعور ﴿مما عرفوا من الحق﴾ من للتبعيض أي لمعرفتهم بعض الحق وهو أن هذا كلام الله بما يجدونه فيه من روعة وطلاوة وعذوبة تستهوي القلوب دون تدبر معاني القرآن فكيف لو عرفوا الحق كله بسماع كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر شهدته بنفسي إذ كانت تزورنا بمصر امرأة مسيحية وكانت تحرص على فتح المذياع ساعة تلاوة القرآن وتبكي لسماعه ولا تستطيع أن تعبر عن شعورها، رغم تمسكها بديانتها. كما أخبرني غير واحد من أصحابي أن كثيرًا من المسيحيين يفتحون المذياع صباحًا لسماع القرآن ويتأثرون به وقد أخبرنا الله من أمرهم أنهم ﴿يقولون﴾ في سرهم ﴿ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين﴾ بصحة هذا الدين ونبوة رسوله ولعلهم لا يستطيعون الجهر بهذا خوفًا من قومهم على أنفسهم أو على أموالهم ومراكزهم ﴿وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق﴾ هذا تقريع منهم لأنفسهم على عدم إعلان إسلامهم وقد أخبرنا الله عنه وعن قولهم ﴿ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين﴾ وهذا أيضًا أمل قد يجيش في قلوب البعض منهم ولكن لا يجهرون به ﴿فأثابهم الله بما قالوا﴾ من الإيمان الخالص الناشئ عن ما عرفوا من الحق وما أعقبه من تقريع أنفسهم وطمعهم في رحمة الله ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ وفي هذا إشارة إلى أن العبرة بإيمان القلب وتقريع الضمير وخلوص النية فيما إذا حال حائل دون إعلان إسلامهم وتقبل الله عذرهم ورحمهم متى عملوا بما يقتضيه ذلك من الصالحات ﴿وذلك جزاء المحسنين﴾ أي الذين يراقبون الله في سائر أعمالهم إذ الإحسان هو أن يعبد الإنسان الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه ﴿والذين كفروا﴾ بالله وأنكروا وجوده ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ المنزلة على رسلنا ﴿أولئك أصحاب الجحيم﴾ أي الذين قضى الله بإقامتهم الدائمة فيها.
لقد علل الله مودة النصارى للمؤمنين في الآيات السابقة بأن منهم قسيسين ورهبانًا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون إلى التقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى وهي إنما تتحقق بتحريم الإنسان على نفسه شيئًا من الطيبات. ولذا
يبنون أحكامهم على مجرد القواعد المنطقية والنظريات الفلسفية دون شريعة الله ﴿يضلوك عن سبيل الله﴾ لما يلقونه في روعك من شبه وشكوك من شأنها أن تضعف الإيمان في القلوب. وتسبب زلل الناس من حيث لا يشعرون، ذلك لأنهم ﴿إن يتبعون﴾ في إثبات نظرياتهم العلمية ﴿إلا الظن﴾ أي إلا أدلة ظنية غير قاطعة رجحتها أهواؤهم فحسبوها ثابتة لا تتغير، وكم من نظرية علمية درج الناس على الأخذ بها ثم تبين فسادها ﴿وإن هم﴾ في اتباعهم للظن ﴿إلا يخرصون﴾ أي يقدرون صحة نظرياتهم كما يخرص أهل الحرث ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ويقدرون ما تأتي به من الثمر والزبيب فلا شيء منها مبني على علم صحيح أو دليل ثابت ينتهي إلى اليقين ﴿إن ربك﴾ أيها الرسول الذي رباك وعلمك بما أنزله عليك من القرآن ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق ﴿هو أعلم﴾ بحقائق الأمور ومن ﴿من يضل عن سبيله﴾ ممن يعتمدون على العقل وحده في شؤونهم الاعتقادية والتعبدية كافة ﴿وهو أعلم﴾ أي أدرى من سائر الخلق ﴿بالمهتدين﴾ أي بالسالكين سبيل الهداية التي هي منحة من الله يهبها لمن ابتغاها بالقصد والعمل، وما دام الأمر كذلك وجبت عليكم طاعته واتباع هدية دون بحث عن السر والغاية من كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ من الذبائح، وهذا نهي عن الأكل مما كان يستحله كفار قريش من أكل الميتة وما ذبح على النصب وما ذكر عليه اسم غير الله ﴿إن كنتم بآياته مؤمنين﴾ أي إن كنتم تؤمنون بآيات الله التي نهت عن الذبح لغير الله واعتبرتها عبادة من العبادات التي لا تكون إلا لله بحيث يعد مشركًا به جل جلاله كل من ذبح لغير الله ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ أي وما هو الشيء الذي يجعلكم تحرمون على أنفسكم الأكل من لحوم بعض الحيوانات التي شهدتم تزكيتها الزكاة الشرعية ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم﴾ بفتح الفاء والحاء وقرئ بضمها وقرئ بفتح الفاء وضم الحاء أي والحال أن ما حرمه الله عليكم معلوم لديكم من قوله في آية أخرى ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به﴾ فتحريم ما أحل الله بمثابة استحلال ما حرم مما ذبح لغير الله تأثمون عليه ﴿إلا ما اضطررتم إليه﴾ أي إلا ما أكلتموه في حال الضرورة فلا إثم عليكم ﴿وإن كثيرا﴾ من الناس ﴿ليضلون﴾ بضم الياء غيرهم وقرئ بفتحها أي يقعون في الضلال ﴿بأهوائهم﴾ أي بسبب تحكيم أهوائهم ﴿بغير علم﴾ مقتبس من وحي أو مستنبط من قرآن كالذين يحلون الميتة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع
﴿وما أرسلنا في قرية﴾ والقرية المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها التي يعبر عنها في العصر الحاضر بالعاصمة ﴿من نبي﴾ يدعو الناس إلى الله ﴿إلا﴾ صحبناه ببعض عوارض تصيب الناس في أحوالهم وأنفسهم وهي أنا ﴿أخذنا أهلها بالبأساء والضراء﴾ بمعنى ابتليناهم بالشدائد في معاشهم وأنواع الأمراض في أجسامهم ﴿لعلهم يضرعون﴾ أي أن الله جعلها وسيلة لإيقاظ الحس إلى ضرورة التعرف إلى الله عن طريق ذلك النبي للرجوع إليه بالضراعة ليكشف عنهم ما أصابهم، ذلك أن الإنسان بفطرته مجبول ********************** أنه في حال شدته لا يلجأ في سره إلى غير مولاه يسأله تفريج الكرب وتخفيف الآلام كما قال تعالى في سورة يونس: ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق﴾.
﴿ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة﴾ أي وقضت مشيئتنا أيضًا أن نعقب الشدة بالفرج والعسر باليسر والمرض بالصحة لنختبر مبلغ إيمانهم إذ يقول تعالى في سورة الأنبياء ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾. ﴿حتى عفوا﴾ من عفا
النبات والشجر والشعر إذا كثروا والمعنى حتى كثروا ونموا نتيجة لما يغمرهم به الله من الحسنات ذلك أن الصحة واليسر من دواعي كثرة الغسل وسبيل الطغيان ﴿وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء﴾ أي وحتى جهلوا الغاية التي من أجلها أخذ الله الناس بالبأساء والضراء وهي الضراعة وأصبحوا لا ينظرون إلى هذه السنن بعين الاعتبار والاتعاظ بأحداث الزمان ولا يعتقدون أن تغير أحوال الإنسان ما هو إلا نتيجة الصلاح والعصيان بل قالوا إن الضراء والبأساء من العوارض الطبيعية التي تعتري الإنسان في الحياة وقد أصابت آباءنا وسيصيبنا ما أصابهم فلا الضراء عقاب من الخالق على المعاصي ولا السراء جزاء منه على صالح الأعمال مع أن الله سبحانه قد أشار إلى هذا بقوله في سورة الرعد ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.
﴿فأخذناهم بغتة﴾ أي فكان عاقبة ذلك أن فاجأهم العذاب ﴿وهم لا يشعرون﴾ بأنه سيحل بهم ما حل لأنهم يجهلون سنن الله الاجتماعية هذه إذ لم توصلهم إليها عقولهم ولم يصدقوا الرسل في إنذارهم بها والقرآن مليء بالآيات التي تشير إلى هذا الطبع في الإنسان وإلى ما يترتب عليه من
تثبت قلوبكم وأكسبتكم النصر على أعدائكم: ﴿يوم الفرقان﴾ أي يوم أن فرق الله بين الحق والباطل والإيمان والكفر وهو يوم بدر: ﴿يوم التقى الجمعان﴾ أي الفريقان من يجاهد في سبيل الله من المؤمنين ومن يقاتل للتنكيل برسول الله وصحبه قال سيدنا علي كرم الله وجهه كانت ليلة الفرقان التي التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان وهو أول مشهد شهده رسول الله ﷺ ولقد جرت العادة في بعض البلاد الإسلامية أن تحتفل الجمعيات في مثل هذه الليلة بذكرى غزوة بدر ويطرون فضائلها ما عدا الأندونيسيين فإنهم يحتفلون بتلك الليلة بوصفها ليلة الفرقان احتفالًا رسميًا يحضره رئيس الجمهورية والوزراء وجماهير الشعب في القصر الجمهوري ويتبارى فيه الخطباء بالجهر بالحق ويتكلمون بكل صراحة وبلا حرج فينتقدون ما يرونه خطأ من أعمال الدولة دون أن يؤاخذوا على أقوالهم ومن أمثلة ذلك أن السيد أنور السادات سكرتير المؤتمر الإسلامي عندما زار أندونيسيا في رمضان حضر مثل هذا الاحتفال السنوي فسمع امرأة تخطب وتذكر اسم فاروق فعجب من ذلك ولما سأل عن مناسبة ذكر اسم فاروق أخبر أنها كانت تندد بالرئيس أحمد سكارنو رئيس الجمهورية وتتهمه بأنه أخذ يعيش عيشة الترف والبذخ كفاروق فأعجب السيد أنور السادات بصراحة المرأة في تلك الليلة المباركة وإن من محاسن الصدف أن أفسر هذه الآية في مثل تلك الليلة المباركة فيفتح الله عليّ بالكلام عنها بما لم يسبقني إليه أحد من المفسرين أسأله تعالى دوام التوفيق: ﴿والله على كل شيء قدير﴾ لا يعجزه أن يحقق للمسلمين من النصر والغنائم في سائر الأوقات مثل ما حققه للرسول وصحبه في بدر إذا ما سلكوا سبيلهم ووثقوا بقدرته واعتمدوا على وعده بالنصر فالله لا يغير سننه ولا يخلف وعده، وهنا أراد جل شأنه أن يصف موقف الفريقين في ذلك اليوم وكيف أنه سبحانه نصر المؤمنين إذ ذاك بأبسط الأسباب التي لم تكن في الحسبان وليست هي من باب المعجزات ليعلم من يأتي بعدهم بأن نصر الله لعباده لا يتوقف على خوارق العادات بل إنه لينصر من يريد في كل وقت وفق سننه الطبيعية التي تستعمل للخير والشر فما كان رحمة لقوم قد يكون بلاء لآخرين: ﴿إذ أنتم بالعدوة﴾ بضم العين وقرئ بكسرها وهي جانب الوادي: ﴿الدنيا﴾ مؤنث الأدنى وهو الأقرب من المدينة أي يوم التقى الجمعان وكنتم مرابطين بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة لأنكم كنتم تتوقعون الهزيمة وكانت الأرض التي نزلتم بها رملية تغوص فيها أرجلكم وكانت
بالسخط على ذواتهم بل على أعمالهم السيئة التي هي السبب المباشر لسخط الله عليهم فلا يمكن أن يرضى الله عنهم إلا إذا سلكوا السبيل الذي سنه تعالى لنيل رضاه وهو الإيمان والعمل الصالح.
بعد أن بين الله ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا من أهل المدينة ولما كان الله جل جلاله قد سبق له أن امتدح المعذرة من الأعراب الذين تقدموا للإذن لهم وفضح الذين تخلفوا عن الخروج أخذ يفصل حال الأعراب منافقهم ومؤمنهم فقال: ﴿الأعراب﴾ اسم جنس لبدو العرب بحكم بيئتهم التي ينشئون فيها: ﴿أشد كفرًا ونفاقًا﴾ من أمثالهم من أهل الحضر ذلك لأنهم نشئوا على الفطرة ومخالطة الأنعام فهم ينفرون من كل جديد ويستوحشون من الأليف ولا يستسيغون غير ما ألفوه ولو كان في ذاته حسنًا شهيًا وهم بذلك قد طبعوا على الغلظة وقسوة القلب: ﴿و﴾ هم لبعدهم عن المدن وعدم مخالطتهم لأهل العلم والأدب: ﴿أجدر﴾ أي أحق وأنسب من أهل الحضر: ﴿ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله﴾ من البينات والهدى في كتابه الكريم وفهم ألفاظ القرآن وتدبر آياته: ﴿والله عليم﴾ بهذه الطبائع التي جبلوا عليها: ﴿حكيم﴾ إذ لم يجعلهم في عداد الوحوش النافرة أو الأعداء المحاربة بل أخضعهم لسلطانكم وجعلهم على ثلاثة أقسام عبر عن الأول بقوله: ﴿ومن الأعراب من﴾ أي فريق يظل على وحشيته لا يؤمن بالله ولكنه يؤدي الزكاة و ﴿يتخذ ما ينفق﴾ أي ما يؤمر بدفعه: ﴿مغرمًا﴾ أي غرامة وهي ما يلزم الإنسان بدفعه ويدفعه على كره منه: ﴿ويتربص بكم الدوائر﴾ أي ينتظر أن تنزل بكم بوائق الدهر فتزول دولتكم ويضعف سلطانكم فيخرجوا عن طاعتكم ويستريحوا من أداء هذه المغارم لكم فهؤلاء: ﴿عليهم دائرة السوء﴾ بفتح السين وقرئ بضمها أي أن الله سيوقع بهم ما يسوءهم من نصر الله وتأييده لكم عكس ما كانوا يؤملون ويتربصون: ﴿والله سميع﴾ لما كانوا يقولون لعمال الزكاة من العبارات مراءاة لهم: ﴿عليم﴾ بما تخفيه قلوبهم من نقمة وأمل في الخلاص من دفع تلك النفقات، وعبر عن القسم الثاني من المنافقين بقوله: ﴿ومن الأعراب﴾ فريق آخرهم: ﴿من يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ إيمانًا صادقًا يدفعهم إلى المبادرة بعمل الصالحات وأداء الواجبات: ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله﴾ أي يحتسب أجرها عند الله: ﴿وصلوات الرسول﴾ أي ويرجو إلى جانب هذه دعاء الرسول لأنه ﷺ كان من عادته أن يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم: ﴿ألا﴾ أداة تنبيه للدلالة على الاهتمام بما يأتي بعدها من قوله: ﴿إنها قربة لهم﴾ أي أن إنفاق المال بقصد القربة إلى الله
@والله ربي قد تكفل للورى
#بالرزق دون تقيد بأداة
@وقضى علينا بالعبادة دائمًا
#بأداء مفروض ومسنونات
@والبعد عن فعل المحرم جهدنا
#والسعي في شتى من المهنات
@بحثًا عن الأقوات أو سعيًا إلى
#تأييد دين الله بالقوات
@من دون تعليق بسعي رزقه
#بل ما يشاء لمن يشاء يواتي
@ما قال إن (لم تعملوا أحرمكم)
#وأصيبكم بالجوع والهلكات
@بل قال يا قوم (اعملوا حتى نرى
#أعمالكم) فالرزق محض هبات
@وكذاك قال (لأهلك أمر بالصلا
#ة) فلست مسئولًا عن الأقوات
@ (لا تقتلوا أولادكم على خشية الإ
#ملاق) أن الرزق من مناتي
@فلنحن نرزقكم جميعًا دائمًا
#ولنا عليكم واجب الطاعات
@بل أقسم المولى بأن الرزق قد
#ر في السماء من العلي الذات
@وكذلك ما وعد الإله عباده
#من بعثهم والعرض في الميقات
فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي
إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)}.
لقد افتتح الله السورة السابقة بذكر ما للقرآن من أثر في هداية الناس على ممر الأيام وحضهم على طاعته وحذرهم من عقابه وختمها بما يؤكد سعة علمه تعالى بجميع أعمال العباد وحدد موعد الحساب وأمر رسوله ﷺ بأن ينذر الناس من هول ذلك اليوم وقال: ﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب﴾ ثم افتتح هذه السورة بالإشارة بما جاء في تلك السورة وسائر آيات القرآن من قصص ومواعظ وأتى بذكر ما يعلمه تعالى عن مدى تأثيرها في القلوب فقال: ﴿الر﴾ وتنطق هكذا ألف. لام. راء أي أن الله جل جلاله يقسم بالسر الذي أودعه أو الذي يعنيه من هذه الأحرف بأن: ﴿تلك﴾ السورة وما جاء فيها: ﴿آيات الكتاب﴾ أي من ضمن ما أنزل من عند الله وما يطلق عليه اسم الكتاب: ﴿وقرآن مبين﴾ أي ويمتاز عن بقية الكتب المنزلة بصفة القرآنية من حيث نسجه بلغة عربيه فصحى وأسلوب بديع في بابه يعجز البشر عن الإتيان بمثله في لفظه ومعناه وما حواه من أحكام وهداية وما سنة من سنن للخير والشر معًا من شأنها أن تهدي القلوب إلى دين الإسلام بل: ﴿ربما﴾ بضم الراء وتخفيف الباء مفتوحة وقرئ بتشديدها: ﴿يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ أي من عظيم تأثيرها ووقعها في نفوسهم ولكنهم يقتصرون على مجرد الأماني دون أن يعملوا بتعاليمه وينتهوا عما نهى عنه: ﴿ذرهم﴾ أي دع هؤلاء وشأنهم: ﴿يأكلوا ويتمتعوا﴾ في هذه الحياة كالأنعام: ﴿ويلههم﴾ أي يشغلهم: ﴿الأمل﴾ في طول العمر عن المبادرة إلى اعتناق دين الإسلام والتفكر فيما هم صائرون إليه من العذاب: ﴿فسوف يعلمون﴾ أن ما نالوه في الدنيا ما هو إلا متاع زائل يعقبه عذاب أليم في الآخرة وأن سر تأخر عذابهم إلى يوم القيامة وعدم التعجيل به في الدنيا ناشئ عما قضت به مشيئتنا أن يكون عمار الكون بخلق بعد خلق: ﴿وما أهلكنا من قرية﴾ من القرى بخسف أو فناء: ﴿إلا ولها كتاب معلوم﴾ أي إلا بعد أن تكون قد استوفت الأجل الذي علم الله أنها ستقضيه في هذه الحياة الدنيا: ﴿ما تسبق من أمة﴾ من الأمم الهالكة أو الفانية: ﴿أجلها﴾ المكتوب في كتابها: ﴿وما يستأخرون﴾ أي لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده بل إنما يحصل في ذات الوقت بعينه فالله الذي حدد نهاية قوم لوط مثلًا في يوم كذا علم بما
بالسخط على ذواتهم بل على أعمالهم السيئة التي هي السبب المباشر لسخط الله عليهم فلا يمكن أن يرضى الله عنهم إلا إذا سلكوا السبيل الذي سنه تعالى لنيل رضاه وهو الإيمان والعمل الصالح.
بعد أن بين الله ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا من أهل المدينة ولما كان الله جل جلاله قد سبق له أن امتدح المعذرة من الأعراب الذين تقدموا للإذن لهم وفضح الذين تخلفوا عن الخروج أخذ يفصل حال الأعراب منافقهم ومؤمنهم فقال: ﴿الأعراب﴾ اسم جنس لبدو العرب بحكم بيئتهم التي ينشئون فيها: ﴿أشد كفرًا ونفاقًا﴾ من أمثالهم من أهل الحضر ذلك لأنهم نشئوا على الفطرة ومخالطة الأنعام فهم ينفرون من كل جديد ويستوحشون من الأليف ولا يستسيغون غير ما ألفوه ولو كان في ذاته حسنًا شهيًا وهم بذلك قد طبعوا على الغلظة وقسوة القلب: ﴿و﴾ هم لبعدهم عن المدن وعدم مخالطتهم لأهل العلم والأدب: ﴿أجدر﴾ أي أحق وأنسب من أهل الحضر: ﴿ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله﴾ من البينات والهدى في كتابه الكريم وفهم ألفاظ القرآن وتدبر آياته: ﴿والله عليم﴾ بهذه الطبائع التي جبلوا عليها: ﴿حكيم﴾ إذ لم يجعلهم في عداد الوحوش النافرة أو الأعداء المحاربة بل أخضعهم لسلطانكم وجعلهم على ثلاثة أقسام عبر عن الأول بقوله: ﴿ومن الأعراب من﴾ أي فريق يظل على وحشيته لا يؤمن بالله ولكنه يؤدي الزكاة و ﴿يتخذ ما ينفق﴾ أي ما يؤمر بدفعه: ﴿مغرمًا﴾ أي غرامة وهي ما يلزم الإنسان بدفعه ويدفعه على كره منه: ﴿ويتربص بكم الدوائر﴾ أي ينتظر أن تنزل بكم بوائق الدهر فتزول دولتكم ويضعف سلطانكم فيخرجوا عن طاعتكم ويستريحوا من أداء هذه المغارم لكم فهؤلاء: ﴿عليهم دائرة السوء﴾ بفتح السين وقرئ بضمها أي أن الله سيوقع بهم ما يسوءهم من نصر الله وتأييده لكم عكس ما كانوا يؤملون ويتربصون: ﴿والله سميع﴾ لما كانوا يقولون لعمال الزكاة من العبارات مراءاة لهم: ﴿عليم﴾ بما تخفيه قلوبهم من نقمة وأمل في الخلاص من دفع تلك النفقات، وعبر عن القسم الثاني من المنافقين بقوله: ﴿ومن الأعراب﴾ فريق آخرهم: ﴿من يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ إيمانًا صادقًا يدفعهم إلى المبادرة بعمل الصالحات وأداء الواجبات: ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله﴾ أي يحتسب أجرها عند الله: ﴿وصلوات الرسول﴾ أي ويرجو إلى جانب هذه دعاء الرسول لأنه ﷺ كان من عادته أن يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم: ﴿ألا﴾ أداة تنبيه للدلالة على الاهتمام بما يأتي بعدها من قوله: ﴿إنها قربة لهم﴾ أي أن إنفاق المال بقصد القربة إلى الله
أمرك شيء فلم يسعها إلا أن تبتهل: ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ﴾ أمرها قائلة إلى الله أشكو فاقتي ووجدي: ﴿وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ فأنت لم تعطها حكمًا قاطعًا وهي حائرة تخشى الله ولم تقنع بأن كلمة كهذه من زوجها تجعلها تصبح منه فعلا بمنزلة أمه: ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لشكواها وتوجهها إليه: ﴿بَصِيرٌ﴾ بموقفك حيالها ومن أجل هذا أملي عليك حكم ذلك بقوله حقًّا إن: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾ بضم الياء وتخفيف الظاء وقرئ بفتح الياء وتشديد الظاء وقرئ «يظهرون» بدون ألف: ﴿مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم﴾ ويقولون لهن مثل ما قال أوس بن الصامت لزوجته لم يكن على شيء من الحقيقة فلا يمكن أن تصير الزوجة أمًّا له وهي ليست بأمه: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ بخفض التاء وقرئ برفعها حقًّا كما استشكلت ذلك خولة بنت ثعلبة: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ﴾ والزوجات لم يلدن أزواجهن: ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ أي الأزواج بمثل هذا القول: ﴿لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ﴾ فالأم محرمة تحريمًا مؤبدًا والزوجة لا يمكن أن تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا حتى إذا ما بانت منه يمكن أن تعود إليه بعد أن تنكح زوجًا غيره: ﴿وَزُورًا﴾ أي كذبًا صريحًا لا حقيقة له بالمرة: ﴿وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ﴾ أي من شأنه أن يعفو عما يصدر من الإنسان من المنكرات: ﴿غَفُورٌ﴾ لمن استغفره عما بدر منه من سيئات هذا بالنسبة لحق الله فما صدر من المنكر والزور، أما فيما يتعلق بالظهار فحيث إنه من أعمال الجاهلية التي يجب أن يقلع الناس عنها فقد شرع الله لذلك حكمًا خاصًّا فصله بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ﴾ جريًا على عادة الجاهلية فيعتبر هذا في حكم الطلاق البائن غير أنهم إذا تابوا من ذلك وأراد استحلال ما حرموه على أنفسهم فلا بأس من ذلك مع إيقاع الجزاء الرادع لهم وهو ما فصله بقوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ أي يرجعون في قولهم بمعنى يسحبون كلامهم: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي فعليهم أن يعتقوا رقبة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ أي بمجرد العزم على استحلال ما حرم أو قبل الإقدام على الجماع ومقدماته: ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي ما فرضناه من العقوبة لم يكن إلا بسبب: ﴿تُوعَظُونَ بِهِ﴾ أي لزجركم عن الظهار والقضاء على تلك العادة من عادات الجاهلية التي تحرمون بها على أنفسكم شيئًا لم يحرمه الله عليكم وبأسلوب غير أسلوب الطلاق: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي أنه تعالى يفرض هذا الجزاء عليكم إلا لما يعلمه من أنكم ربما لا تقلعون عن هذه العادة: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ رقبة يعتقها أو لم يملك ما يشتريها به: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي متواليين: ﴿مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ أيضًا: ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ أي إشباعهم من أوسط ما تطعمون
سخط وعذاب أليم: ﴿وهو العزيز﴾ المنيع الجانب فلا يؤثر في ملكه عصيانكم ولا يعجز عن الانتقام منكم متى أراد: ﴿الغفور﴾ لمن تاب إليه وأناب بعد ما عصاه كما اقتضته سنته تعالى في معاملة خلقه من عهد آدم عليه السلام. فأيقنوا بذلك وارجعوا إليه دائمًا بالتوبة والندم وطلب الغفران يشملكم سبحانه بغفرانه وفق سنته وأنظمته الكونية التي تتجلى في كل شيء فهو: ﴿الذي خلق سبع سماوات طباقًا﴾ أي بعضها فوق بعض من غير أن تعتمد إحداها على الأخرى بترتيب ونظام دقيق يربط ما بين أجرامها وجرم الأرض: ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾ وفي قراءة «تفوت» أي أن كل ما تراه يدلك على أنه من خلق إله واحد أبدع صنعه وأحكم سيره ووحد ما بين مصالحه وفق نظام سنه، لا يمكن لأحد أن يحيد عنه: ﴿فارجع البصر﴾ أي تأمل ذلك بدقة: ﴿هل ترى من فطور﴾ أي شقوق بمعنى أنه لا يمكن أن تجد فراغًا يشعر بالتصدع وعدم الالتئام بين خلق الله بحيث يظن أن الخالق لإحداها غير الخالق للأخرى ومتى ثبت هذا لديك يجب أن لا يداخلك أي شك في أن الحياة الدنيا على وجه الأرض هي أيضًا من خلق الله المسير لها وفق نظام محكم بحيث تكون دار اختبار وأن السعادة والشقاء مرتبطان بعمل الإنسان: ﴿ثم ارجع البصر كرتين﴾ أي مرتين بمعنى أمعن النظر جيدًا في البحث عن شيء واحد يمكن أن تجد منه التفاوت والفطور بين خلق الرحمن: ﴿ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير﴾ الخاسئ: المبعد المطرود والحسير: الضعيف الكليل بمعنى أن البصر ليخسأ ويكل دون بلوغ ما يريد: ﴿ولقد زينا السماء الدنيا﴾ أي أولى السماوات: ﴿بمصابيح﴾ وهي السرج التي تضاء بها البيوت ويراد بها الكواكب التي يسطع نورها على الأرض فيهتدي الناس بها في هذه الحياة: ﴿وجعلناها رجومًا للشياطين﴾ رجم الرجل: تكلم بالظن وبما لا يعلم بمعنى أن الله جعل من هذه النجوم مصدرًا تستوحي منه الشياطين معلوماتها ويعتمده المنجّمون في علومهم فيخرجون الناس من نور الإيمان بالله الذي لا يعلم الغيب إلا هو إلى ظلمات الكفر بتصديق ما يخبرون به ولذا قال ﷺ «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وقال أيضًا «من أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» والعرّاف اسم للكاهن والمنجّم والرمال ونحوهم ممن يدعي العلم بالمغيبات: ﴿وأعتدنا لهم﴾ أي للشياطين: ﴿عذاب السعير﴾ السعير لهب النار أي أنهم يعذبون بالنار في الآخرة جزاء على رجمهم بالغيب: {وللذين
ومن شرف هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى قدمها على جميع آيات الذكر الحكيم وجعلها فاتحة كتابه الكريم، وكل شيء قدمه رب العالمين فهو مقدم ومفضل على غيره.
ولهذا بدأت بها هذا الجزء وسميت فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، لأنها تثنى وتعاد في كل صلاة لفرضيتها، وهي سورة الحمد لأنه ذكر فيها الحمد، وهي قسمة الصلاة لقوله تعالى في الحديث القدسي «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، قال الله تعالى حمدني عبدي، فإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي أو قال: فوّض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم، فقد أكرمني ربي وأنعم علي بها وعلى أمتي»
.
وقد اختلف العلماء في المراد بالمكية والمدنية في السور، فقيل: المكية ما نزلت بمكة ولو بعد الهجرة، والصحيح الذي عليه الجمهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء أنزل بالمدينة نفسها أو في مكة عام الفتح وعام حجة الوداع أم في غزوة من الغزوات، فالسور المكية هي التي نزلت في أول الإسلام لأجل الدعوة إليه وبيان أساس الدين وكلياته من التوحيد والدعوة إلى ترك الشرك والمعاصي والمنكرات والحث على فعل الخير.
والسور المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة لبيان الأحكام التفصيلية في الدين، والسورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم خاص بحسب التوقيف والرواية الثابتة.
لقد ابتدأ سبحانه وتعالى بالبسملة إشارة إلى أن جميع ما يقرر فيما بعد هو من عند الله و ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ وليس لأحد غير الله شيء فيه وبمثل هذا يقول القاضي عندما يصدر حكمه باسم الملك حكمت بكذا وكذا وباسمه أنفذ هذه الأوامر.


الصفحة التالية
Icon