ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهة الموت» وقال أيضًا «لا زلتم منصورين على أعدائكم ما دمتم متمسكين بسنتي فإن خرجتم عن سنتي سلط الله عليكم من أعدائكم من يخيفكم فلا ينزع خوفه من قلوبكم حتى تعودوا إلى سنتي» وسنة الرسول ﷺ وتعاليمه التي انتصر بها المسلمون في الصدر الأول والأسس التي أقاموا عليها عزهم ومجدهم وغلبتهم للشرق والغرب ليست سرًّا من الأسرار، ولا هي في يد فريق دون آخر من الناس، بل هي بعينها لا تزال للجميع سليمة ظاهرة واضحة كما تركها الرسول ﷺ من غير تبديل أو تعديل وهي ما أشار إليها ﷺ بقوله: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي» ثم تلا قوله تعالى: ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾ وقوله: «اعملوا بالقرآن وحللوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه وما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولي الأمر من بعدي كما يخبركم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتي النبيون من ربهم ليشفيكم القرآن وما فيه من البيان فإنه شافع مشفع ما حل مصدق ولكل آية من آياته نور إلى يوم القيامة» وقال علي رضي الله عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى ﴿قالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به﴾ من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى الصراط المستقيم» لقد أهملنا الاستفادة من هذا القرآن فحل بنا ما حل من الخطوب والأحداث، وفي إمكاننا تدارك الأمر والرجوع إلى سنة سيد الخلق: بدراسة القرآن والاهتداء بهديه لاستعادة ذلك الماضي المجيد والظفر بالسعادة والسؤد العظيم فقد ورد في الأثر: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» أجل لقد أهملنا الاستفادة من القرآن وقصرنا في واجبنا نحو هذا الدين حتى أصبحنا في مؤخرة الأمم وأضعف الشعوب، وحتى أمسينا عرضة لنقد الناقدين
إلا الله، فمن السفه وضعف الإيمان أن يتردد الإنسان في الخضوع إلى الأوامر التعبدية إلى أن تتجلى لها حكمتها وما ترمي إليه.
بعد أن أخبر الله نبيه بأمر الشبهة التي نسج بردها أعداء الإسلام وفي مقدمتهم اليهود عند تحويله عن القبلة، ولقنه الحجة التي يدحض بها تلك الشبهة، وبين له الحكمة التي من أجلها جعله يستقبل وأمته القبلتين، عاد فحقق له أمنية كانت تجيش بنفسه ولا يستطيع أن يجهر بها تأدبًا مع الله وإذعانًا لإرادته، وذلك أن اليهود كانوا يقولون: أليس من العجيب أمر هذا الرجل؟ يخالفنا في ديننا ثم هو يتبع قبلتنا ولولانا لما عرف أين يستقبل؟ ولذا كره رسول الله ﷺ أن يتوجه إلى قبلتهم كراهة منشؤها الغيرة على دين الله، ولكنه لم ينبس ببنت شفة بل شعر بحاجة الإسلام إلى الاتجاه إلى قبلة غير هذه القبلة وظل يقلب نظره في المساء كأنه ينتظر حلًّا لهذه المشكلة من عند الله. فحكى عنه ذلك جل وعلا بقوله ﴿قد نرى تقلب وجهك﴾ أيها الرسول ﴿في السماء﴾ ونحن نعلم ما يكنه فؤاداك من انتظار أمر قاطع في موضوع القبلة وإن لم تصرح بذلك بلسانك ﴿فلنولينك﴾ أي نجعلك تتولى ﴿قبلة ترضاها﴾ فكن على اطمئنان بأننا سنحقق لك ما تريد، ونصرفك عن هذه القبلة، وزيادة في إكرامنا لك نوجهك إلى قبلة ترتاح إليها ﴿فول وجهك شطر المسجد الحرام﴾ حيث القبلة التي اخترناها لك وهي قبلة إبراهيم من قبلك في البلدة التي فيها ولدت وبها نشأت بجوار قومك وبني عشيرتك ﴿وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ حيثما كنت أنت وقومك فولوا وجوهكم شطره ﴿وإن الذين أوتوا الكتاب﴾ بصفة عامة ﴿ليعلمون﴾ وقرئ ﴿تعلمون﴾ بالتاء ﴿أنه الحق﴾ بضم القاف وقرئ بفتحها ﴿من ربهم﴾ فلا تفكر كيف يكون وقع تحولك عن بيت المقدس إلى المسجد الحرام في نفوس عموم أهل الكتاب، فإن كل من يؤمن بالله ورسله وكتبه لا يتردد في الجزم بأن تحولك هذا إلى المسجد الحرام هو الحق المأمور به من عند الله ﴿وما الله بغافل عما يعملون﴾ وحسبك أن الله ليس بغافل عن كل ما يقابلون به تحولك هذا من قبول ورضاء أو رفض وعناد وسيجزي كلا منهم بما يستحق ﴿ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية﴾ وأقمت لهم مختلف
عن اقتناع ويقين ونتيجة بحث وتدبر (ومنهم من كفر) بالله ولم تنفع فيه الآيات والنذر لأنه أعرض عن قبول ما جاؤوا به ونشأ عن هذا تقاتلهم (ولو شاء الله ما اقتتلوا) أي ولو أن مشيئة الله أو دستوره كان يقضي بمنع القتال بين الناس لسلبهم القوة التي يستطيعون بها القتال (ولكن الله يفعل ما يريد) وقد قضت إرادته سبحانه وتعالى أن يكون الناس متفاوتين في العقول ودرجة الإدراك وأوجد في النفس حب الانتصار للرأي ومنح الناس من القوة ما يساعدهم على تأييد حججهم بكل ما في استطاعتهم فنشأ ما نشأ من القتال.
وعلى ذكر التقاتل والتخالف الواقع بين الناس أخذ يوجه الله سبحانه وتعالى نظر المؤمنين إلى وسيلة مادية فعالة يمكن بها تأليف القلوب وتقوية أواصر الود بين الناس فقال (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) أي كونوا متصفين بالإنفاق، واتخذوا الجود والكرم ديدنا لكم في هذه الحياة تأسروا بذلك القلوب، وتذللوا الخطوب، وتحصلوا على رضاء علام الغيوب (مما رزقناكم) أي ولا تكلفوا أنفسكم في هذا الباب بالمعدوم بل أخرجوا ما هو في قبضتكم وتحت تصرفكم مما أنعمنا به عليكم من مال وجاه، فإذا أنعمنا على أحدكم بالجاه فعليه ألا يضن به على من هو في حاجة إليه (من قبل أن يأتي يوم) رهيب هو يوم القيامة (لا بيع) وقرئ بفتح العين (فيه) لا تملكون فيه شيئًا من موارد النفقة (ولا خلة) أي صداقة ومحبة وقرئ بفتح التاء أي وليس هناك من يرجي منه العون والنصر من صديق أو قريب (ولا شفاعة) أي وساطة وقرئ بفتح التاء أيضًا لأنه ليس لأحد ثم جاه، ولا سلطان، وإنما الملك لله الواحد القهار (و) يكون فيه (الكافرون) بأنعم الله وهم الذين لم يستطيعوا استغلالها والاستفادة منها في سبيل البر وأعمال الخير (هم الظالمون) لأنفسهم بتدنيسها برذيلة البخل، ومنع العطاء عن المستحقين مما سبب حرمانهم من ثواب الإنفاق ورضوان الله.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالإنفاق في سبيله قبل أن تختلف أوضاع الحكم في الحياة الدنيا إذ يصبح الحكم في الآخرة لله وحده الذي لا يحابي ولا يظلم وليس له صاحب يشفع أو وزير ينفع أو صاحب يرشي ولا ينفع عنده إلا ما قدم الإنسان لنفسه أراد سبحانه أن يذكرهم بذاته العلية، ليخلصوا له العبادة، ويحصروا فيه وحده كل الآمال، ويتجنبوا كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الشرك به أو انتظار المدد من سواه عاجلًا أو آجلًا فقال (الله) أي اذكروا أن الله الذي أدعوكم إلى الإنفاق
آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (١٠٩) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ
الأرض جميعًا ﴿لا تأكلوا﴾ ويدخل تحت الأكل جميع التصرفات التي تجلب المال للاستفادة منه وإنما خص الأكل بالذكر لأنه من أهم ما يستفيد به الإنسان من الأموال وبدونه لا تستقيم له الحياة ﴿أموالكم﴾ التي ملكها الله لكم ووكل إليكم أمر استخراجها والتصرف فيها ﴿بينكم﴾ بأن يضع أحدكم يقده على مال الآخر ﴿بالباطل﴾ الذي لا يرضى به الله فهو يشمل أكل ما الغير بطرق غير مشروعة كالسرقة والغصب وأكل مال الشخص نفسه باحتكار أمواله وحبسها عن الإنفاق فيما خلقت له من التداول بين الناس بالطرق المشروعة لأن الله الذي منحها له قد جعل فيها حقًّا عامًّا للفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجة بل إن فيها من حقوق للورثة ما يخول لهم حق الحجر عليه في حالة السفه فما دامت الأموال كلها مملوكة لله وما دام العبد وكيلًا مأذونًا له بالتصرف من قبل سيده فكل تصرف على خلاف إذن الموكل يعد باطلًا منهيًا عنه لا يجوز الأكل منه ﴿إلا﴾ بشرطين أحدهما ﴿أن تكون﴾ تلك الأموال التي يؤكل منها ﴿تجارة﴾ وفي قراءة بضمتين مختلطة ومشتركة بينكم ولا يمكنكم التمييز بينها ولا تعلمون إن كانت رابحة أو خاسرة وبهذا القيد يخرج الربا ولو حصل التراضي فيه. والشرط الثاني: أن يكون الأكل من مال التجارة حاصلًا ﴿عن تراض منكم﴾ فإن توفر هذان الشرطان جاز أكل بعضكم من مال الآخر لوجود التراض بإذن الشريط لشريكه بالأكل من ماله، أما إذا لم يحصل التراضي عن ذلك فلا يحل للشريك أن يأكل من مال شريكه وإنما يكون تصرفه في ذلك المال مقتصرًا على ما تقتضيه المصلحة التجارية ليس إلا، ولا محل لما يتصوره البعض من أن في حصر إباحة الأكل في التجارة ما يقتضي حرمة الهبة والهدية أو الضيافة إذ الأكل في كل هذه الحالات حاصل برضاء المالك وإذنه وتمليكه فهو بمثابة أكل الشخص من مال نفسه تمامًا ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ قتلًا حقيقًا
على سبيل المفاخرة هو في حكم صدور القتل منهم فيعد جريمة عليهم (وَ) إن كانوا في الواقع (ما قتلوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) بعينه وذاته (وَلَكِنْ) عندما هموا بقتله (شُبِّهَ لَهُمْ) بالآخر فقتلوا ذلك المشبه فراحوا يفاخرون ببلوغ غايتهم بقتله (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في حصول القتل فعلاً بعد ذلك من اليهود القائلين بأنهم قتلوه (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) نظراً لأنهم عندما نظروا إلى القتيل وجدوه يشبه عيسى في الوجه والملامح ولكنه يختلف في الجسد فأخفوا ذلك الاختلاف فيما بينهم وأذاعوا قتله وصدقهم النصارى وأيقنوا جميعاً بأن اليهود قد صلبوه
<٨>
(مَا لَهُمْ بِهِ) أي بالقتل (مِنْ عِلْمٍ) ثابت (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) الناشئ عن إجماعهم على إرادة القتل وإقدامهم عليه واختفاء عيسى عن الأنظار من تلك اللحظة ولذا أوضح الله لهم فساد هذا الظن ببيان الحقيقة بقوله (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) أي والحقيقة أن القتل لم يحصل قطعيا ولم يمت عيسى وإن هموا به ونفذوه في شبهه أما كيف اختفى وأين ذهب بعد الصلب فأجاب عليه تعالى بقوله (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) إلى موضع لا يزاول فيه أداء الرسالة ثم سيعود ثانياً للحكم بشريعة خاتم النبيين كما أخبرنا الرسول بهذا ﷺ (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا) لا يقهر إذ أنقذ عبده ورسوله عيسى من القتل (حَكِيمًا) إذ اختار رفعه بعد أن وفى عمله أداء من الرسالة إلى الحين الذي سيعود فيه ثانياً لأمر يريده جلا وعلا (وَإِنْ) من أحد (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) ممن يكون موجوداً عند عودته من اليهود والنصارى والمسلمين (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ) وقرئ (سيومنن) بحذف الهمزة (بِهِ) أي بأنه حقا لم يقتل ولم يصلب وأنه كان حياً خلال الفترة السابقة (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي قبل أن يموت عيسى كما يموت سائر البشر (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) بما كانوا يضمرونه له من عداوة وما دبّروه له من القتل الذي أنجاه الله منه ويؤيد هذا أن الله تبارك وتعالى قال في آية أخرى (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) ولم يستعمل الله عز وجل الوفاة في القرآن بمعنى الموت أبداً بل لقد صرح بالتفرقة بينهما وجعل الوفاة للنفس والموت للبدن حيث قال (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) فوفاة عيسى هي بمثابة إمساك مؤقت لنفسه بفقدان استعدادها وقيامها بوظيفتها وشعورها
عمد جماعة من الصحابة إلى مثل هذا فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» وأنزل الله قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ فكما لا يجوز استحلال المحرمات، لا يجوز أيضًا تحريم ما أحل الله من الطيبات، فإن ذلك يعد بمثابة ما كان عليه العرب قبل الإسلام من تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي: وتحريم الطيبات عام ينطبق على من يحرم الشيء على نفسه بنذر أو يمين أو على غيره بإفهامه بأن ذلك من الدين أو أن فيه قربة إلى الله ﴿ولا تعتدوا﴾ أي لا تتجاوزوا حد الاعتدال في كل شيء بمعنى أنه ليس معنى عدم تحريم الطيبات أن تمعنوا فيها وتنصرفوا إليها كليًا كأن تسرفوا في الإنفاق وتبالغوا في الشبع ﴿إن الله لا يحب المعتدين﴾ أي الذين يتجاوزون حدود شريعته وسنن فطرته ولو بقصد عبادته ﴿وكلوا﴾ المراد بهذا التمتع فيشمل الشرب أيضًا ﴿مما رزقكم الله﴾ أي من كل شيء أنعم الله به عليكم من أنواع الرزق على شرط أن يكون ذلك الرزق ﴿حلالًا﴾ في نفسه أو طريقة كسبه ليخرج من ذلك الميتة وغيرها من المأكولات وما ينال عن طريق غير مشروع كالربا وأكل أموال الناس بالباطل ﴿طيبًا﴾ أي غير ضار بالصحة أو العقل فيخرج كل مستقذر في نفسه أو بفساده أو نجاسة طرأت عليه وكل مسكر ومخدر ﴿واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون﴾ أي احذروا أن يراكم الله على وضع تتجاوزون فيه حدود ما أحل وما حرم ولا تفتاتوا عليه بتعيين ما يرضيه وما يسخطه غير ما أخبركم به سبحانه عن طريق رسله إذ الإيمان بالله يوجب عليكم الوقوف عند حد الاتباع والحذر من الابتداء. ولما كان تحريم الإنسان الطيبات على نفسه إنما يكون بطريق الالتزام بيمين أو نذر وهنا يكون الإنسان في حرج من أمره أيبر بقسمه ويفي بنذره أم يرجع في قوله إطاعة لأمر ربه، فأمر سبحانه بضرورة اتباع أوامره والكف عن تحريم ما أحل الله وأرشده إلى المخرج له من هذا بقوله ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ أي إن كان التزامكم التحريم ناشئًا عن مجرد يمين صدر منكم عفوًا وعن غير قصد فهذا لا يترتب عليه أي شيء أمام الله ولا يحتاج إلى تحلة القسم لأن العبرة بالنية ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم﴾ بالتشديد وقرئ بالتخفيف وقرئ «وعاقدتم» ﴿الأيمان﴾ أي بما قصدتموه وصممتم عليه منها ﴿فكفارته﴾ أي فتحلة هذه
ويناظرون في تحليلها بأدلة يتراءى لهم صحتها كما هو شأن كثير من منتحلي العلم الذين لا يرون النذر والذبح لغير الله عبادة ويزعم أن العبادة التي يتوجه بها إلى غير الله باعتباره واسطة أو وسيلة إليه لا تعد شركًا به، مع أن هذا هو الشرك بعينه إن لم نقل إنه عبادة لهم من دون الله وقد صدق على أمثال هؤلاء قوله تعالى: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾. ﴿إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾ أي المتجاوزين حدود ما شرعه الله لعباده من الحلال والحرام فسوف يحاسبهم على هذا حسابًا عسيرًا قال الرازي «دلت هذه الآية على أن القول في الذين بمجرد التقليد قول بمحض الهوى والشهوة وهذه الآية قد دلت على أن ذلك حرام». ﴿وذروا ظاهر الإثم﴾ أي اجتنبوا ما كان إثمًا في ظاهره فلا تقدموا على فعله اعتمادًا على ذكر اسم الله أو نية حسنة تضمرونها كأن تذبحوا على النصب ما تقصدون به وجه الله ﴿وباطنه﴾ أي اجتنبوا أيضًا ما كان إثمًا في باطنه دون ظاهره كأن تذبحوا يوم الأضحية لغير الله ﴿إن الذين يكسبون الإثم﴾ أي يأتون جنس الإثم الظاهر منه والباطن ﴿سيجزون بما كانوا يقترفون﴾ أي سيلاقون جزاء إثمهم بقدر ما يبالغون فيه ويبصرون عليه، أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون فقد قطع الله لهم على ذاته العلية عهدًا لن يخلفه وهو أنه سيتوب عليهم ويمحو أثر الإثم بصالح العمل بقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾. ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ أي من الذبائح عند تزكيته ﴿وإنه لفسق﴾ أي الحال أن الذي لم يذكر اسم الله عليه فسق وهو الخروج عن طريق الحق وقد وضح الله المراد منه في آية أخرى بقوله: ﴿أو فسق أهل لغير الله به﴾ فالمحرم إذًا ليس هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من مطلق الأطعمة بل من القرابين التي أهلت لغير الله وبدليل تقيد النهي بالجملة الحالية، وهنا أراد الله جل جلاله أن ينبه عباده إلى ما يخرجهم عن طريق الهدى فأخبرهم بما يدبره الشياطين من مكايد لإضلالهم في هذا الباب ليكونوا على بينة من أمرهم فقال ﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم﴾ بزخرف القول ومختلف الشبهات ﴿ليجادلوكم﴾ في هذه المسألة على الخصوص بما يزلزل عقيدتكم كما يزعمه بعض العلماء المضلين في عصرنا هذا من أن الذبح لغير الله لا يعتبر عبادة وأن دعاء غير الله ليس عبادة مع أن كلاهما من صميم العبادة لأنه يدل على الاعتقاد بأن المتقرب إليه بالذبح أو الدعاء يملك مع الله شيئًا من النفع والضر ﴿وإن أطعتموهم﴾ بأن انطلت عليكم خدعتهم وصدقتم أقوالهم وأكلتم مما أهل لغير الله ﴿إنكم لمشركون﴾ إذ تستمدون الأحكام من غير ما أنزل الله وتأتون بما يتنافى
عذاب في الدنيا والآخرة منها قوله تعالى في سورة فصلت ﴿لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض﴾ وهذا هو أيضًا شأن النصارى في عصرنا الحاضر حتى الساسة وكبار رجال الدولة ************** الكثير منهم لا يؤمن قط بأن ما يصيبهم من البأساء والضراء والقحط وتوالي المصائب لم يكن إلا ابتلاء من الله وأن علاج ذلك ليس إلا بالرجوع إلى الله بالاستغفار والاستغاثة والضراعة وخالص الدعاء ولا يفكرون في ارتياد المساجد ويرون الدعاء سخافة وسخرية ورجعية وتخريفًا بل إني كثيرًا ما طلبت من بعض كبار العلماء أن يذكر الناس بهذا وينبههم إلى هذا الأمر من سنن الله فأبى لئلا يتهم بالرجعية الأمر الذي أدى إلى تفاقم الخطب حتى بَعُد العامة عن الله واستساغوا لعن الدين وعمد بعض المتعلمين إلى محاربة الله ومجاهرته بالعصيان من غير خوف ولا وجل وها قد بدت في مصر بعض ظواهر تنذر بخطر الخسف لا قدر الله ونسأله السلامة حيث هبطت الأرض فجأة في يوم الاثنين ٢ رجب/ ٧٨ في منطقة كبيرة بشارع السد بالسيدة زينب وغاص في الأرض جدار المنزل رقم ٤٥ ورقم ٤٣ المجاور له وتصدع بسببه ٢٤ منزلًا في لحظات حتى ظن أهلها أن القيامة قد قامت ثم أعقب ذلك في اليوم الثاني انهيار آخر في الصاغة في ناحية سيدنا الحسين وتهدم بسببه منزلان وأخلي ٥٥ منزلًا من الدور التي بجوارهما فقامت الحكومة بواجبها حيال مواساة المنكوبين وأخذت الاحتياطات اللازمة لتأمين الناس على أرواحهم وأموالهم غير أن رجال الدين لم يعملوا من جانبهم على نشر ما لديهم من معلومات عن الأسباب الحقيقية لذلك حسب دستور الله الذي جاء واضحًا في كثير من الآيات ولم نسمع صوتًا واحدًا ينادي بأن ما حصل ما هو إلا من سيئات أعمالنا وأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ نسأله تعالى اللطف وحسن الختام.
بعد أن نبه الله الأفكار إلى أن عذاب الاستئصال قائم على سنن اجتماعية مطردة هي أن يبتلي عباده بالشدائد والأمراض ليضرعوا ثم يغدق عليهم النعم بعد ذلك ليختبر مبلغ إيمانهم وذكرهم
بعيدة عن الماء: ﴿وهم بالعدوة القصوى﴾ أي البعيدة من المدينة كانت من تراب قاس صالح للمشي قريبة من الماء: ﴿والركب﴾ اسم جمع يراد به ركبان الإبل والخيل: ﴿أسفل منكم﴾ أي يمدونهم من خلفهم ولا تستطيعون قطع المدد عنهم ولذلك كانوا معتدين بقوتهم واثقين من النصر لتكامل وسائله فلما أراد الله نصركم أنزل المطر فعكس القضية إذ جعلهم يغوصون في الوحل فلم يستطيعوا الوصول إليكم إلا بعد جهد جاهد وفرق متقطعة وثبت أقدامكم في أرضكم الرملية حتى أجهزتم عليهم قبل أن يتكامل جمعهم أو يصل إليهم أي مدد: ﴿ولو تواعدتم﴾ أنتم وهم على التلاقي للقتال: ﴿لاختلفتم في الميعاد﴾ أي لما أمكن تعيين تلك الفرصة السانحة لنصركم عليهم بسبب نزول المطر الذي غير طبيعة أرض المعركة وبدل مجرى القتال وأثبت لكم أن ما نلتموه من النصر لم يكن إلا من صنع الله جل وعلا الذي أنزل المطر الذي لم يكن في الحسبان: ﴿ولكن﴾ تلاقيكم هنالك على غير موعد ولا رغبة في القتال لم يكن إلا: ﴿ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا﴾ أي تنجلي بذلك قدرة الله على نصر أوليائه برغم قلتهم وعدم توفر أسباب النصر لديهم على أعدائه وهم على ما هم عليه من الاعتماد على القوى المادية فيكون من ذلك عبرة للناس على ممر الأيام، وثم أمر آخر هو أنه تعالى إنما فعل ذلك: ﴿ليهلك من هلك﴾ من الكفار في ساحة القتال: ﴿عن بينة﴾ من أمرهم بأنهم قاتلوا واستسلموا في المعركة حتى ماتوا فلا يقال إن موتهم كان خدعة أو معجزة من الله من غير حرب: ﴿ويحيى من حيّ﴾ بإدغام الياء وقرئ «حيي» كتعب بفك الإدغام من الكفار والمؤمنين معًا: ﴿عن بينة﴾ أي حجة مشاهدة بالبصر على أن الله الذي وعد رسوله بالنصر لم ينصره بخوارق العادات التي لا تكون إلا لشخصيته ﷺ فإذا مات لا تحصل لأمته بل وفق سنن هو واضعها ويمكن أن يمد بها عباده المؤمنين في أي وقت كان كما حصل ذلك في حرب بورسعيد لما أشعل المستعمرون النيران في جميع أنحاء المدينة وقطعوا الماء عنها وشغلوا كل إنسان بنفسه فأنزل الله الأمطار فأطفأت تلك النيران وتوجه الجميع لمقاومتهم في كل مكان منّة منه وكرمًا: ﴿وإن الله لسميع﴾ لمن يستنصر به ويعقد الأمل على نصره: ﴿عليم﴾ بالوسائل التي ينصر بها أولياءه ويقهر أعداءه ومن ذلك أيضًا قوله: ﴿إذ يريكهم﴾ أي أعداءك من قريش: ﴿الله في منامك قليلًا﴾ ذلك أن الرسول ﷺ رأى في المنام عددًا قليلًا من المشركين يتساقطون في ساحة الحرب فأخبر المؤمنين بذلك فاطمأنت قلوبهم وقريت
والتوسل به إلى نيل دعاء الرسول أو الناس لهم أمر مشروع بخلاف ما إذا كان الإنفاق لله وللتوسل بذلك لحصول الثناء عليهم من الناس فلا يعد هذا قربة بل رياء وشركًا لا يقبله الله: ﴿سيدخلهم الله﴾ للسبب المذكور: ﴿في رحمته﴾ أي ضمن من يستحقون رحمته: ﴿إن الله غفور﴾ يغفر للمؤمنين المخلصين: ﴿رحيم﴾ يشمل برحمته كل من ابتغى التقرب إليه بصالح العمل.
بعد أن فصل الله حال الأعراب من أهل البادية منافقهم ومؤمنهم أخذ يتكلم عن حال المسلمين فقسمهم إلى ثلاثة أقسام وبين حكمه في كل واحد منهم فأشار إلى القسم الأول منهم بقوله: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين﴾ الذين آمنوا بالله وهاجروا فرارًا بدينهم قبل صلح الحديبية حيث كان المشركون يضطهدون المؤمنين ولا يمكنونهم من الهجرة: ﴿والأنصار﴾ بالخفض وقرئ بالرفع أي من أهل المدينة الذين عاهدوا الرسول على نصرته قبل أن يكون للرسول قوة غالبة تتقى: ﴿والذين اتبعوهم﴾ في العقائد والأعمال الصالحات: ﴿بإحسان﴾ أي من غير إكراه أو خوف على أنفسهم من سطوة المؤمنين من عهد الرسول ﷺ حتى قيام الساعة وحكم هؤلاء أن: ﴿رضي الله عنهم﴾ أي تقبل الله إسلامهم وطاعتهم وغفر سيئاتهم وتجاوز عن زلاتهم ونصر بهم دينه ووفقهم لما يحبه ويرضاه: ﴿ورضوا عنه﴾ أي فرحوا بما أنعم الله عليهم من نعمة الهداية إلى الإسلام التي هي من أعظم النعم: ﴿وأعد لهم﴾ في الآخرة: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك﴾ أي الحصول على رضوان الله وإعداد الجنات لهم: ﴿الفوز العظيم﴾ الذي لا يوازيه أي فوز آخر في هذه الحياة، وأشار سبحانه إلى القسم الثالث من المنافقين بقوله: ﴿وممن حولكم من الأعراب﴾ أي أن من بعض أهل البادية التي كانت منازلهم حول المدينة: ﴿منافقون﴾ لا يطمأن إلى إسلامهم: ﴿ومن أهل المدينة﴾ نفسها أي أن من أهل الحضر أيضًا قلة من الناس: ﴿مردوا على النفاق﴾ أي تمرنوا عليه وأتقنوه حتى بلغوا فيه غايته بحيث إنك: ﴿لا تعلمهم﴾ من عظم براعتهم في أساليبه وتجنبهم شارات الشبه حول إخلاصهم: ﴿نحن نعلمهم﴾ أي أنه لا يخفى علينا أمرهم وحكمنا فيهم أنا: ﴿سنعذبهم مرتين﴾ على مبالغتهم في إخفاء نفاقهم، ولست أدري ما المراد بالمرتين ولعله تعالى يعني بالمرة الأولى للجسم حين يشقيهم تعالى بالأموال والأولاد كما أشار إليه بقوله: ﴿ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ والمرة الثانية للنفس ساعة الوفاة بعذاب الحريق الذي أشار
@لا بد من تنفيذه حتمًا كما
#هم ينطقون اليوم بالكلمات
@فكلاهما حق فإن شك امرؤ
#في نطقه وخلا من العاهات
@فله التشكك في تحتم رزقه
#أو بعثه والنار والجنات
@والله قال (وما بكم من نعمة)
#فمن الإله الواسع الرحمات
@وهو الذي أجرى التفاضل بيننا
#في الرزق والأعمال والدرجات
@والمراد ليس برد من أرزاقه
#شيئًا على المملوك والفلذات
@بل كل شخص سوف يأخذ رزقه
#من فضل من هو مصدر النعمات
@وجميعهم فيه سواء إنما
#يتفاضلون بمقتضى القسمات
@والسعي في الدنيا سبيل عمارها
#ووسيلة للفوز في الميقات
@ولذا دعا المولى إليه وجئنا
#دومًا عليه بمعظم السورات
@وقضى علينا أن نسير بأرضه
#وننال رزقًا منه في الطرقات
@فإذا سعينا كان منا السعي شكـ
#ـرانًا له عن تلكم المنات
ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)}.
لقد اعترفت امرأة العزيز في نهاية الجزء الثاني عشر أمام سيدها وعلى ملأ من الناس بأنها هي التي راودت يوسف عن نفسه وأنه صادق فيما اتهمها به من قبل وقالت إنها برغم ذلك لم تخنه بالغيب ولم تطعن في نزاهته وشرفه في مجالسها الخاصة كما أخذت من الحادث عبرة لها جعلتها تشهد أيضًا بعظيم قدرة الله الذي صرف عنه كيدها وفضح أمرها ثم أخذت هنا تعتذر عما صدر منها حيال يوسف فقالت: ﴿وما أبرئ نفسي﴾ لقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا وما قبله من كلام يوسف وأن المراد منه أن ذلك الذي كان منه من الامتناع عن إجابة الملك حتى يقوم بأمر التحقيق في أمر
سيقترفونه من آثام تبلغ حدها في نفس اللحظة التي خصصها الله لإهلاكهم بعينها لا أن ذلك حصل على سبيل الصدفة ومن غير سابق علم من الله أو إكراه منه بعد أن بسط الله شيئًا مما يعلمه عن مدى تأثيرات آيات القرآن في القلوب وما قد يضمره بعض الكافرين من الأمل في اعتناق الإسلام دون أن يتبعوا ذلك بالعمل أخذ يسرد أيضًا ما يعلمه تعالى قبل خلقهم عن مبلغ عداوتهم للرسول ومحاولتهم تزييف دعوته وإصرارهم على الكفر ليكون الرسول على علم بذلك فلا يبتئس بما يصدر منهم فقال: ﴿وقالوا﴾ أي الذين كفروا: ﴿يا أيها الذي﴾ يزعم أنه: ﴿نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ لأنك تنطق بكلام تتلوه بلسانك وتدعي أنه كلام الله ولا برهان لك على ذلك: ﴿لو ما تأتينا﴾ «لو ما» كلمة مثل هلا تفيد الحث والحض على فعل ما يقع بعدها أي هلا تجيئنا: ﴿بالملائكة﴾ يشهدون بصحة ما تدعيه من أن ذلك فعلًا هو كلام الله: ﴿إن كنت من الصادقين﴾ في دعواك فالله لا يعجزه ذلك إذا كنت حقًّا مرسلًا من عنده وفاتهم أنا: ﴿ما ننزل الملائكة﴾ بالنون وكسر الزاي مشددة ونصب الملائكة وقرئ «تنزل» بالتاء على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الملائكة وقرئ بإسناد النزول للملائكة: ﴿إلا بالحق﴾ الذي يتعرض من يكذبه لعذاب الاستئصال في الحال.: ﴿وما كانوا إذًا منظرين﴾ إذ لو نزلت الملائكة لأعقبهم الهلاك فلم ينظروا ولم يمهلوا ونحن لا نريد بهذه الأمة عذاب الاستئصال لأنها آخر الأمم فلهذا السبب سوف لا تتحقق رغبتهم في إنزال الملائكة ثم إنه تعالى أقام البرهان على أن ما أنزل على رسوله هو كلامه عز وجل بقوله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ وهو القرآن: ﴿وإنا له لحافظون﴾ من الزيادة والنقصان بما نقيِّضه له من جماعات تحفظه وتدرسه وتذيعه وتبين أسراره وتوضح معانيه وتكشف عن مراميه للخلق أجمعين في وقت وحين إلى قيام الساعة، الأمر الذي لم يتفق لكتاب من الكتب السابقة مثله فما منها إلا ودخله التصحيف والتحريف كما هو مشاهد معروف: ﴿وقد أرسلنا من قبلك﴾ رسلًا: ﴿في شيع الأولين﴾ الشيع جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على مبدأ واحد في الدين والعقيدة أي أنه أرسل لكل شيعة رسولًا خاصًّا بها لهدايتها ودعوتها إلى توحيد الله: ﴿وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون﴾ أي وقد كانوا كلما جاءهم رسول من عند الله يستهزؤون به ولا يعترفون برسالته: ﴿كذلك﴾ أي وكما أنا نحن نزلنا الذكر وتولينا حفظه على مدى الأيام سوف: ﴿نسلكه﴾ أي ندخله: ﴿في قلوب المجرمين﴾ بأن نهيئ الأسباب لإيصاله
والتوسل به إلى نيل دعاء الرسول أو الناس لهم أمر مشروع بخلاف ما إذا كان الإنفاق لله وللتوسل بذلك لحصول الثناء عليهم من الناس فلا يعد هذا قربة بل رياء وشركًا لا يقبله الله: ﴿سيدخلهم الله﴾ للسبب المذكور: ﴿في رحمته﴾ أي ضمن من يستحقون رحمته: ﴿إن الله غفور﴾ يغفر للمؤمنين المخلصين: ﴿رحيم﴾ يشمل برحمته كل من ابتغى التقرب إليه بصالح العمل.
بعد أن فصل الله حال الأعراب من أهل البادية منافقهم ومؤمنهم أخذ يتكلم عن حال المسلمين فقسمهم إلى ثلاثة أقسام وبين حكمه في كل واحد منهم فأشار إلى القسم الأول منهم بقوله: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين﴾ الذين آمنوا بالله وهاجروا فرارًا بدينهم قبل صلح الحديبية حيث كان المشركون يضطهدون المؤمنين ولا يمكنونهم من الهجرة: ﴿والأنصار﴾ بالخفض وقرئ بالرفع أي من أهل المدينة الذين عاهدوا الرسول على نصرته قبل أن يكون للرسول قوة غالبة تتقى: ﴿والذين اتبعوهم﴾ في العقائد والأعمال الصالحات: ﴿بإحسان﴾ أي من غير إكراه أو خوف على أنفسهم من سطوة المؤمنين من عهد الرسول ﷺ حتى قيام الساعة وحكم هؤلاء أن: ﴿رضي الله عنهم﴾ أي تقبل الله إسلامهم وطاعتهم وغفر سيئاتهم وتجاوز عن زلاتهم ونصر بهم دينه ووفقهم لما يحبه ويرضاه: ﴿ورضوا عنه﴾ أي فرحوا بما أنعم الله عليهم من نعمة الهداية إلى الإسلام التي هي من أعظم النعم: ﴿وأعد لهم﴾ في الآخرة: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك﴾ أي الحصول على رضوان الله وإعداد الجنات لهم: ﴿الفوز العظيم﴾ الذي لا يوازيه أي فوز آخر في هذه الحياة، وأشار سبحانه إلى القسم الثالث من المنافقين بقوله: ﴿وممن حولكم من الأعراب﴾ أي أن من بعض أهل البادية التي كانت منازلهم حول المدينة: ﴿منافقون﴾ لا يطمأن إلى إسلامهم: ﴿ومن أهل المدينة﴾ نفسها أي أن من أهل الحضر أيضًا قلة من الناس: ﴿مردوا على النفاق﴾ أي تمرنوا عليه وأتقنوه حتى بلغوا فيه غايته بحيث إنك: ﴿لا تعلمهم﴾ من عظم براعتهم في أساليبه وتجنبهم شارات الشبه حول إخلاصهم: ﴿نحن نعلمهم﴾ أي أنه لا يخفى علينا أمرهم وحكمنا فيهم أنا: ﴿سنعذبهم مرتين﴾ على مبالغتهم في إخفاء نفاقهم، ولست أدري ما المراد بالمرتين ولعله تعالى يعني بالمرة الأولى للجسم حين يشقيهم تعالى بالأموال والأولاد كما أشار إليه بقوله: ﴿ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ والمرة الثانية للنفس ساعة الوفاة بعذاب الحريق الذي أشار
أهليكم: ﴿ذَلِكَ﴾ أي التشريع: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ بأنهما مصدر التشريع: ﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة على درجاتها الثلاث: ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ التي يجب تنفيذها بدقة فلا تعدلوا إلى الصوم إن كنتم قادرين على العتق مثلًا: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ بها المتجاوزين عليها: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قد يجده الإنسان في نفسه وماله وولده في هذه الحياة من حيث لا يشعر أن ذلك عقوبة من الله على تجاوز حدوده: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ﴾ أي يعادون ويغاضبون: ﴿اللهَ﴾ بالتجاوز على حدوده: ﴿وَرَسُولَهُ﴾ بعدم اتباع شريعته ومحاربة دعوته: ﴿كُبِتُوا﴾ الكبت بقاء الغيظ في الجوف دون أن أن تشفي النفس غليلها بمعنى أنهم بتلك المحادة أو مناصبة الله ورسوله العداء لا يؤثرون في ملكوت الله شيئًا بل لا يثيرون مقدار ذرة في ملكه تعالى وإنما هم بذلك يستحقون عقابه بحسب ما يقضي به دستوره وحكمه بين عباده فلا يضرون إلا أنفسهم: ﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ من أعداء الله ورسوله فقد حاق بهم ما حاق وماتوا بغيظهم دون أن ينالوا من الله منالًا: ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا﴾ من العذاب والدمار: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ تشهد بمصير أولئك المحادين كقوم عاد وثمود وفرعون الذين بقيت أطلالهم عبرة لكل من يعتبر: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ المصرين على عدم الاعتراف بالألوهية لله: ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ من المهانة أي الخزي بمعنى أنهم سيعذبون عذابًا في ضمائرهم بشعورهم بالخزي والذل إلى جانب ما يصيب أجسامهم من حر نار جهنم وذلك: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾ في المحشر على ملأ من الناس: ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ في الحياة من سيئات في حق الله مالك الملك ذي الجلال والإكرام: ﴿أَحْصَاهُ اللهُ﴾ عليهم عن طريق تسجيل الملائكة لكل ما يقولون وما يعملون: ﴿وَنَسُوهُ﴾ لتقادم العهد بكل ذلك: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي مطلع عليه وعالم به.
بعد أن أخبر الله رسوله بأنه سمع ما جري من الجدال بينه وبين خولة بنت ثعلبة وزوده بالحكم الذي قضى به جل وعلا في الموضوع أخذ يلفت نظره إلى كمال علمه بكل ما يجري في ملكه من صغيرة وكبيرة في السر والجهر فلا يعزب عنه مقدار ذرة من حركة أو سكون فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي ألم تنظر بعينيك في هذه الحادثة كيف: ﴿أَنَّ اللهَ﴾ قد سمع تحاوركما، وهذا يدلك دلالة قاطعة على أن الله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من سائر المخلوقات وما يحدث منها من تصرفات وله عليها كامل السلطان حتى أنه: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى﴾ والمراد بالنجوى ما يتحدث به الناس في سردهم ويتفقون عليه ويبيتونه من مقاصد ليعملوا على تحقيقها: ﴿ثَلاثَةٍ﴾ أي ما يجمع ثلاثة من
كفروا بربهم} أي المصدقين للشياطين الجاحدين أنه لا يعلم الغيب غير الله: ﴿عذاب جهنم وبئس المصير﴾ الذي قبلوه على أنفلسهم بمحض إرادتهم نتيجة كفرهم به جل وعلا: ﴿إذا ألقوا فيها﴾ أي طرحوا في جهنم: ﴿سمعوا لها شهيقًا﴾ الشهيق تردد البكاء في الصدر بمعنى لا يسمعون فيها غير شهيق المعذبين أو كأنها تحبس بكاءهم في جوفها: ﴿وهي تفور﴾ أي تغلي وتتقد: ﴿تكاد تميز﴾ أي تتقطع فتكون شعلة منها في الأرض وشعلة في السماء: ﴿من الغيظ﴾ شدة الغضب لقلة ما يلقى فيها حيث قال تعالى في سورة: ﴿ق﴾: ﴿يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد﴾، ولكن الله سبحانه لن يلبي طلبها ولا يدخل فيها إلا من استحق أن يدخلها بعمله المطابق لسنن الله ودستوره الذي أعلنه للجميع من قبل، ولرد ما يزعمه بعضهم من أنه تعالى قد يدخل النار الطائعين بمحض المشيئة دون مراعاة لواجب العدل الذي أخذه تعالى على نفسه قال: ﴿كلما ألقي فيها فوج﴾ جماعة من الناس: ﴿سألهم خزنتها﴾ الذين يتولون حراستها: ﴿ألم يأتكم نذير﴾ رسول يشعركم بأن هذا سيكون مصير الظالمين بمعنى هل لكم من اعتراض على إلقائكم في النار وأنكم لا تستحقون هذا العذاب: ﴿قالوا بلى﴾ نستحق و ﴿قد جاءنا نذير فكذبنا﴾ ولم نصدق ما أنذرنا به وقاومناه وهزئنا بأقواله: ﴿وقلنا﴾ لرسلنا المنذرين لنا: ﴿ما نزّل الله من شيء﴾ بل أنتم سحرة كاذبون: ﴿إن أنتم إلا في ضلال كبير﴾ ومن أجل هذا رفضنا إنذارهم ولم نتوقع حسابًا ولا عقابًا: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ أي أنهم لم يجدوا أمامهم من عذر يعللون به رفضهم للإنذار إلا نسبة الصمم وفقدان العقل إلى أنفسهم وهو أمر مخالف للحقيقة والواقع ولعلَّ المراد أنهم تشككوا إذ ذاك في سمعهم وعقلهم وقالوا في أنفسهم ما بالنا كذبنا الرسل ألم نكن نسمع ونعقل وكل هذا لا ينفعهم في ذلك اليوم فهم قد أدركوا أن ما نالوه لم يكن إلا نتيجة عملهم: ﴿فاعترفوا بذنبهم﴾ وهو تكذيب الرسل وإنكار ما جاءهم من عند الله: ﴿فسحقًا لأصحاب السعير﴾ أي بعدًا لهم من رحمة الله التي لم يعملوا من أجل الحصول عليها في حياتهم الدنيا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» - وفي حديث آخر – «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» – وبعد أن بين الله مصير الكافرين به المكذبين لرسله بحسب دستوره الذي سيحاسبهم بمقتضاه أردف ذلك بالإخبار عما قطعه تعالى على نفسه من وعد لفريق من عباده المؤمنين هو بمثابة السنن التي لا تتغير ولا تتبدل
وليعلمنا سبحانه وتعالى أن نبدأ كل أعمالنا بتلاوتها لأن في البدء ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾: اعترافًا بولايته سبحانه وتعالى الثابتة بقوله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وفي كلمة: ﴿الرَّحْمنِ﴾ ما يوجب محبته لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ وفي كلمة: ﴿الرَّحِيمِ﴾: ما يدعو إلى الطمع في رحمته لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: حقيقته وكليته يجب ألا يكون ولا ينصرف إلا لله وحده لأنه هو سبحانه وتعالى مصدر كل نعمة تستوجب الحمد، وباعتباره سبحانه وتعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ المالك الذي أوجدهم من العدم وساس أمورهم منذ القدم ورباهم بوافر النعم جل وعلا إذ الإعجاب بالمصنوع إعجاب بالصانع وحمد الأثر حمد للمؤثر وامتداح النظام ثناء وتقدير لواضعه ومنظمه.
﴿الرَّحْمَنِ﴾: مصدر الرحمة أي الذي خلقهم لمحض الرحمة والاستجابة لهم متى دعوه دون أن تكون هناك حاجة به إليهم ولذلك كان هذا الاسم من الأسماء الحسنى مختصًا به تعالى.
﴿الرَّحِيمِ﴾: كثير الرحمة والشفقة والعطف على عباده فهو الذي لا تنفك عنه صفة الرحمة أبدًا.
﴿مَالِكِ﴾، وفي قراءة: ﴿مَلِكِ﴾: الحاكم القادر على التصرف في ملكه كيف يشاء من غير معارض.
﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾: الدين من الدينونة أي اليوم الذي توفى فيه الديون وهو يوم الحساب الذي يقضي الله فيه بين عباده بحسب ما قدموا من عمل وفق أحكامه التي أعلنهم بها عن طريق رسله وأمرهم باتباعها وتطبيق موادها وأخذ على نفسه مبدأ العدل المطلق فلا يُظلمون فتيلا.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: نفردك وحدك بالدعاء الذي هو مخ العبادة فلا ندعو غيرك ولا نؤمل في سواك لاعتقادنا الجازم بأنه ليس غيرك من يسمع النداء ويجيب الدعاء أو يحقق الرغبات ويستحق العبادة فأنت الفعال لما تريد المؤثر في كل شيء المقصود قبل كل أحد المعطي المانع لا شريك له.
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نفردك وحدك بالاستعانة فإنه لا حو لنا ولا قوة إلا بما منحتنا م قوة الروح وما أودعته إيانا من سائر القوى الخفية الكامنة في أجسامنا ولولاك ما استطعنا تحمل المشاق ومكافحة الخطوب والأحداث بل لم نذق لذة الحياة ولذلك فإنا نفوض إليك كل أمورنا ونرجو عونك على بلوغ آمالنا ودفع الشر عنا بما لك من كامل العلم بما ينفعنا وما يرضيك عنا يا أكرم الأكرمين.