– فقد حدثني أحد كبار الموظفين في المطبعة الأميرية بالقاهرة قائلًا: لا أدري لماذا لا يعمل العلماء على نشر الدعوة الإسلامية بواسطة «القرآن» بأسلوب سهل يتيسر فهمه للناس كافة؟ فالمسيحيون يعنون كثيرًا بالجمعيات التبشيرية لدين المسيح، ولا عمل للقسيس إلا تلاوة الإنجيل للناس وتفسيره لهم وحضهم على اتباع ما جاء به، وأما العلماء فقد انصرفوا عن الدعوة الإسلامية ولم يعنوا إلا بالكتب الفقهية من وضع الأئمة الأربعة وغيرهم، وهي في الواقع لا تؤدي ما يؤديه القرآن لو سهل تناوله ونظمت طرق الاستفادة منه وهو إلى جانب هذا يكاد يكون لغزًا من الألغاز في شكله ومعناه حتى إن كثيرًا من المتعلمين لا يستطيعون تلاوته من غير طريق شيخ من شيوخ الدين إذ هو في رسمه لا يكتب إلا برسم المصحف العثماني القائد على غير طريق شيخ من شيوخ الدين إذ هو في رسمه لا يكتب إلا برسم المصحف العثماني القائم على غير قاعدة مضطردة وهو مغاير لقواعد الرسم المتعارف في هذا الزمان بين الناس فإذا قرأه غير المسلم بل وغير القراء والفقهاء لا يمكنهم أن يتلفظوا به ولا بأسلوبه العربي المبين. وأنتم بهذا تحولون بين القرآن والناس كأنكم لا تريدون أن يهتدي به أحد من غير المسلمين أو كأنكم تقصدون أن يستأثر به الخاصة من العلماء ليس إلا. والله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن إلا للناس كافة، بل ربما كان العامة من الناس هم المقصودون بالهداية أضف إلى هذا أن التفاسير المتداولة بين الناس متمشية على طريقة القدماء الأولين وعلى أنواع مختلفة الأوضاع والأساليب فمنها المختصر الذي لا يفيد، ومنها المطول الممل والذي جمع كل شيء إلا التفسير وجلها لا تتلائم وعصرنا هذا «عصر السرعة» وأن عصرنا المتحضر يتطلب روحًا حديثة وعبارات تتناسب مع الزمن وأهله وتتفق ومستوى الجيل فإنه وضع لعصر غير عصرنا وزمن غير زمننا، ولماذا لا تكتبون القرآن حسب ما تقتضيه قواعد الرسم وطريقة الكتابة الحديثة لينتفع به المسلمون وغيرهم وليفهموا كلام الله وأسراره لكي تتجلى لهم معجزاته، أليس في العلماء من يفسر لنا كلمات القرآن ومفرداته اللغوية ويشرحها شرحًا وافيًا على حقيقة ماهيتها بحسب ما يفهمه العربي الصميم عند سماعه لآي الذكر الحكيم ويرشدنا إلى أسباب الخلاف في الأحكام الدينية باختلاف المذاهب ما دام المرجع والأصل للجميع واحدًا وهو القرآن، فلكل هذا أخذتني الغيرة الدينية على الإسلام والمسلمين وفكرت طويلًا في وضع تفسير جامع سميته «تفسير الخطيب» المكي ضمنته معاني الكلمات اللغوية وتبسيط الآيات وشرحها مع ذكر
البراهين على أفضلية التوجه إلى هذه القبلة باعتبارها بيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمنًا وأنها قبلة إبراهيم، وأنك مأمور بالاتجاه إليها ﴿ما تبعوا قبلتك﴾ لأن قناعتهم بأن قبلتهم هي قبلة الأنبياء من قبلك أكثر من قناعتهم برسالتك، وبأن هذا التحول إنما كان بأمر إلهي ﴿وما أنت بتابع قبلتهم﴾ وكذلك أنت لست بتابع قبلتهم ما دمت مقتنعًا من نفسك أنك على حق ﴿وما بعضهم بتابع قبلة بعض﴾ فقبلة اليهود صخرة بيت المقدس، وقبلة النصارى جهة المشرق، وكل واحد منهم ربض فجمد عند حد التقليد فلا يريد أن يتحول عن قبلة آبائه ولا يريد أن يتبين حقيقة الأمر ويرجع إلى الصواب ﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾ بأن تنازلت أنت عن رغبتك الأولى من التحول عن قبلتهم، ورضيت أن يأذن لك الله بالرجوع إلى قبلتهم حرصًا منك على إيمانهم واستمالتهم إلى دين الله ﴿بعد الذي جاءك من العلم﴾ بتعصبهم وتمسكهم بتقاليدهم الماضية ولو كانت خاطئة ﴿إنك إذًا﴾ حتى مع هذه النية الخالصة لله ﴿لمن الظالمين﴾ الذين يبررون التساهل في ترك الواجبات من أجل أشرف الغايات ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ من ذوي العلم وخواص أهل الكتاب ﴿يعرفونه﴾ يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول ولا يجهلون أن قبلتك هي قبلة إبراهيم مما يعلمونه من كتبهم السابقة ﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ لأن أدلة ثبوت نبوتك لديهم أقوى وأثبت من ثبوت بنوة أبنائهم لهم. وفي هذا يقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان من علماء اليهود وأحبارهم «أنا أعلم بمحمد مني بابني، فقال له عمر رضي الله عنه: لِمَ؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل أمه خانتني فيه» وقال مثل ذلك أيضًا تميم الداري من علماء النصارى ﴿وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ أي حالة كونهم على علم بأنه هو الحق الذي لا مراء فيه لما جبلوا عليه من التعصب للرأي وعدم الإذعان للحق لمرارته على نفوسهم ﴿الحق من ربك﴾ وليس كل حق حقًّا، فقد تلوح للناس بعض الحقائق العلمية أو النظرية وتكون في الواقع غير صحيحة، وإنما الحق الصحيح ما كان من عند الله وبإخبار منه ﴿فلا تكونن﴾ أيها الرسول ﴿من الممترين﴾ أي الشاكين الذين يحسنون الظن فيهم ويتصورون أنه من السهل إقناعهم أو استمالتهم إلى الإيمان لأن هذا بمثابة الشك فيما جاء
من أجله (لا إله إلا هو) فلا معبود بحق في الوجود سواه، فهو الذي خلقكم ورزقكم وإليه ترجعون (الحي) حياة دائمة غير محدودة فلا يحتاج إلى من يهب له الحياة (القيوم) القائم بذاته بتدبير خلقه فلا يفتقر إلى مساعد أو معين (لا تأخذه سنة) أي نعاس (ولا نوم) فلا يغفل حتى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده (له ما في السموات وما في الأرض) من جميع المخلوقات. فالخلق كلهم متساوون في العبودية، وليس لأحد منهم حق مكتسب أو كلمة مسموعة في تغيير أوامره أو تعديل أحكامه مهما بلغت درجة قربة منه وطاعته له.
ولما كان موضوع الشفاعة من الأمور التي سببت زلل كثير من الناس وأدت بهم إلى الشرك بالله وعبادة غيره من الأولياء والصالحين تحت ستار الأمل في شفاعتهم حيث قال المشركون عن أوليائهم «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» أمر الله نبيه ﷺ في القرآن الكريم أن يقول لأمته «قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون» «قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا» وأنذر النبي ﷺ قومه بقوله: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا حفصة عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني منك من الله شيئًا».
ولما كانت الشفاعة في ذاتها تقتضي المحاباة في الحكم مراعاة لخاطر الشفيع وهي تتنافى مع مبدأ العدالة وتسيء سمعة الإدارة التي تعتمد عليها أبى رسول الله ﷺ أن يقبل شفاعة محبوبه أسامة في المرأة المخزومية التي سرقت وتلون وجهه الشريف وقال: أتشفع في حد من حدود الله وخطب في الناس فقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله» ولذلك لا يصح نسبتها إلى حكم الله في خلقه يوم الفصل بين العباد حيث الحساب والجزاء العدل، ومن أجل هذا أعلن سبحانه وتعالى استنكارها بكل شدة حيث
بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَاصِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ
بالانتحار أو مجازًا بقتل بعضكم بعضًا لما يؤدي إليه من المطالبة بالثأر والمقابلة بالمثل والقصاص ﴿إن الله كان بكم رحيمًا﴾ إذا شرع لكم هذا لحفظ أموالكم ودمائكم ﴿ومن يفعل ذلك﴾ من أكل المال وقتل النفس ﴿عدوانًا﴾ أي بقصد التعدي والتجاوز على الحقوق فيخرج ما كان من غير قصد ﴿وظلمًا﴾ أي وكان الفعل في ذاته ظلمًا فلا يشمل ما كان استخلاصًا لحقه أو دفاعًا عن النفس أو الدين ﴿فسوف نصليه نارًا﴾ وهذا وعيد من الله لا بد أن يكون ﴿وكان ذلك﴾ الاصطلاء بالنار للأجسام بعد فنائها وبعثها ﴿على الله يسيرًا﴾ فلا يحسبن من لا يؤمن بالبعث أنه بمنجاة في ذلك بموته وفناء جسمه فيحمله هذا على ارتكاب ما نهى الله عنه من أكل الأموال ظلمًا وقتل النفس التي حرم الله قتلها، ولما كان هذا الوعيد الصارم من الله جل وعلا من شأنه أن يدخل اليأس في قلوب العصاة وقد يحملهم هذا على الإمعان في المعاصي أخذ سبحانه وتعالى يفتح لهم باب الأمل في رحمته فأرشدهم إلى السبيل الموصل إلى محو الذنوب وعدم تطبيق العقوبة في حق مرتكبيها يوم القيامة فقال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه﴾ من جميع ما تقدم النهي عنه كالشرك بالله والتعدي على حقوق الغير خوفًا من الله ﴿نكفر عنكم سيئاتكم﴾ أي: كل ما يسؤكم من صغائر الذنوب ﴿وندخلكم﴾ في الحياة الأخرى ﴿مدخلًا﴾ بضم الميم وقرئ بفتحها ﴿كريمًا﴾ مكانًا طيبًا في الجنة جزاء على اجتناب الكبائر عدى ما تنالوه من ثواب والعمل الصالح.
بعد أن بين الله في الآيات السابقة حكمه في أمر المرأة ودعى إلى تعدد الزوجات ثم تكلم في موضوع المواريث، فجعل المرأة أقل نصيبًا من الرجل ثم عقب على ذلك بموضوع الإحصان وجعل للرجل أن يعمل لإحصان نفسه بالمال الذي يبذله
كما في حالة النوم والرفع إنما كان للبدن للحفظ والادخار إلى أجل معين والله أعلم.
بعد أن أخبر الله ورسوله بأن ما يراه من بني إسرائيل من عنت وعناد إنما يرجع إلى ظلمهم لأنفسهم وما ارتكبوه من الجرائم التي فصلها عاد فأخبر بأنه تعالى قد يشدد
<٩>
عليهم في بعض أحكام التشريع الخاص بهم دون سائر الناس للسبب ذاته وسوف يصليهم أشد العذاب لسوء أعمالهم حيث قال (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) أي ونتيجة لظلمهم (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي كانت حلاً لهم من قبل ذلك أنهم عندما احتالوا على الله في صيد الحوت في يوم السبت زاد في التشديد عليهم إذ حرم الله عليهم كل ذي ظفر كما حرم عليهم شحوم البقر والغنم بعد أن كانت حلا لهم (وَ) كذلك (بِصَدِّهِمْ عَنْ) البذل والقرض في (سَبِيلِ اللَّهِ) دون مصلحة أو فائدة دنيوية (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) على ألسنة أنبيائهم وحتى في الكتب التي يزعمون التمسك بها حتى الآن حيث جاء في سفر اللاويين يعني الأحبار -٢٥ - ٣٥ – قوله «وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده غريباً أو مستوطناً فيعيش معك لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل اخش إلهك فيعيش معك فضتك لا تعطه بالربا وطعامك لا تعطه بالمرابحة» (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) عن طريق الرشوة والخيانة واستحلال الأموال كما حكى الله ذلك عنهم بقوله (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل) وقوله (سماعون للكذب أكالون للسحت) (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ) على الخصوص (عَذَابًا أَلِيمًا) هذا تأكيد لما قضت به مشيئة الله في خلقه من أن العذاب في الآخرة لا يكون لشعب مخصوص أو أفراد معينين كتب عليهم في الأزل أن يكونوا أشقياء وإنما هو نتيجة طبيعية لمن يكفر بالله من اليهود والنصارى وغيرهم على حد سواء غير أنهم يتفاوتون من حيث الإيمان في الدرجات وإلى هذا أشار بقوله (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) أي المتمكنون في علم الكتاب الآخذون فيه بالدليل دون التقليد يستوون هم (وَالْمُؤْمِنُونَ) من عامة أمتك أيها الرسول فجميعهم (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من
<١٠>
الإيمان التي عقدتموها ﴿إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم﴾ وقرئ «أهاليكم» ﴿أو كسوتهم أو تحرير رقبة﴾ بحسب استطاعة الإنسان ﴿فمن لم يجد﴾ شيئًا من ذلك ﴿فصيام ثلاثة أيام﴾ عند قدرته على الصوم ﴿ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم﴾ بالله ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ أن تزجوها في كل موضع بمعنى لا تعودوا أنفسكم على القسم على كل شيء فهذا وإن يكن من لغو اليمين إلا أنه لا يليق بكم وأنتم مؤمنون أن تتخذوا اسمه جل وعلا من لغو الحديث ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذه التعاليم ﴿يبين الله لكم آياته﴾ الدالة على ضرورة الحرص على تنفيذ أوامره وعدم تجاوز حدود شريعته ﴿لعلكم تشكرون﴾ الله الذي يأبى عليكم أن تكلفوا أنفسكم فوق طاقتها ابتغاء مرضاته. هذا وقد وردت عدة أحاديث في النهي عن الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما أن النبي ﷺ سمع عمر يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» لما يدل عليه ذلك من رفع منزلة الوالد إلى منزلة الله جل وعلا. وفي حديث آخر «لا تحلفوا إلَّا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون».
بعد أن نهى الله المؤمنين من أن يحرموا على أنفسهم شيئًا لم يحرمه الله عليهم وأباح لهم الأكل من كل ما رزقهم الله بشرط أن يكون حلالًا طيبًا ولما كانت الخمر من المشروبات المحببة إلى النفوس ولم ينزل فيها نص صريح بالحرمة بل صرح القرآن في سورة البقرة عنها وعن الميسر أن ﴿فيهما إثم كبير ومنافع للناس﴾ مما يشعر بأنه تعالى ترك أمر الكف عنها لاختيار الناس الأمر الذي كان يحمل سيدنا عمر رضي الله عنه أن يدعو الله دائمًا بقوله: «اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا» فلما نزلت آية النساء وهي قوله: ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ لم يكف عن دعائه حتى أنزل الله هذه الآية ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر﴾ وقد عرفها الرسول بقول: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» ﴿والميسر﴾ أي اللعب بالأقداح بمعنى القمار ﴿والأنصاب﴾ وهي حجارة كانت حول الكعبة يهل باسمها ويذبح لغير الله ﴿والأزلام﴾ وهي سهام كان العرب يستقسمون بها لمعرفة الخير من الشر وما حل وما حرم ﴿رجس﴾ وهو الشيء القذر ووجه قذارته أنه ﴿من عمل الشيطان﴾ فهو الذي يزين للإنسان كل هذه الأشياء فلما سمع عمر هذا قال أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام: بعدًا لها وسحقًا فتركها الناس {فاجتنبوه
وحقيقة التوحيد وقد زعم بعض المتعصبين أن ما يذبح عند قدوم السلطان أو دفن الميت يعتبر في حكم ما أهل لغير الله والتحقيق في هذا المقام أن كل ما يذبح بباعث ديني فهو عبادة والعبادة لا تكون إلا لله فلا يذكر غير اسمه عليه، وما كان لأجل التكريم والمبالغة في الضيافة فلا يدخل في هذا الباب إذ يقال عند الذبح باسم السلطان ولو فرض أن قيل هذا فعند ذلك يحرم كذلك ما يذبح عند الدفن إنما يراد به التصدق بالذبيحة تقربًا عن الميت إلى الله لا تقربًا إلى الميت بالبداهة والله أعلم.
بعد أن أخبر الله رسوله بأن أكثر من في الأرض يضلون الناس بأهوائهم بغير علم وأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم أخذ يوضح حقيقة أمر كان ولا يزال موضع زلل الكثير من الناس بسبب ما توحي به الشياطين إلى أوليائهم إذ يقولون ما معناه «ما دام الله هو الذي شاء لنا الضلال فكيف يعذبنا عليه، ولو شاء الله لاهتدينا، ولا يعقل أن يضل الإنسان نفسه أو يعارض حكم ربه» فأتى سبحانه وتعالى بمثال مبسط يدحض هذه المزاعم ولا يدع مجالًا للشك في أن الضلال هو من عمل الإنسان ومحض إرادته فقال ﴿أو من كان ميتًا﴾ بسكون الياء وقرئ بتشديدها أي مخلوقًا لا حس له ولا شعور ﴿فأحييناه﴾ أي فوهبنا له قوة الروح التي اكسبته الحركة والنمو ﴿وجعلنا له نورًا﴾ أي أعددنا له جهازًا مضيئًا قدمناه إليه وهو القرآن وتركنا له كامل الخيار في استعماله والاهتداء بهديه فصار ﴿يمشي به في الناس﴾ سالكًا الطريق السوي الموصل إلى سعادة الدارين هل يكون مثله ﴿كمن مثله﴾ أي كمن كان مشابهًا له فيما ناله من حياة ونور ترك له الخيار في استعماله والمشي به في الناس فلم يفعل كسلًا أو استكبارًا حتى جلب لنفسه الضلال دون أن يقضي الله به عليه إذ رضي بمحض اختياره أن يظل ﴿في الظلمات﴾ أي ظلمات الأهواء التي هيأ الله له النور للخروج منها فلم يقبل واستمر في الغواية ﴿ليس بخارج منها﴾ لأنه لم يحاول ذلك بجهده واستضاءته بما أوتي من نور ﴿كذلك﴾ أي على مقتضى هذا المثال الذي يصور موقف الإنسان السلبي إزاء نعم الله الإيجابية ومسؤوليته عن تصرفاته الشخصية وتخبطه في ظلمة أهوائه العدوانية اقتضت سنته تعالى في خلقه أن يعجب كل ذي رأي برأيه ولا يشعر بخطئه وبذا ﴿زين للكافرين﴾ بالله المعرضين عن الاستضاءة بنور القرآن وراق لهم ﴿ما كانوا يعملون﴾ من الآثام كاتباع الشهوات والأخذ بالشبهات وذبح القرابين لغير الله ودعاء غيره في الملمات ﴿وكذلك﴾ أي وعلى ذلك الأساس أيضًا ﴿جعلنا في كل قرية﴾ ويطلق على الضيعة والمصر الجامع للناس ﴿أكابر مجرميها﴾ أي اقتضت مشيئته تعالى أو سننه في
لقدرة الله فإذا هم تناسوا سننه وحسبوها عوارض طبيعية فلم يعيشوا بسطوته ولم يخشوا بأسه أخذهم بغتة وهم لا يشعرون عقب على ذلك سنة أخرى من سننه في حق من آمن بالله ولجأ إليه بعد زوال المنغصات وتوفر الخيرات فقال ﴿ولو أن أهل القرى﴾ الذين جهلوا سنة الله في ابتلائه الناس بالأمراض من أجل الضراعة وقالوا: ﴿قد مس آباءنا الضراء والسراء﴾. ﴿آمنوا﴾ بما دعاهم إليه رسلهم عن عبادة الله وحده والعمل بما شرعه لهم من الأعمال الصالحة ﴿واتقوا﴾ ما نهوا عنه من الشرك والفواحش والفساد في الأرض ﴿لفتحنا﴾ بتخفيف التاء وقرئ بتشديدها الفتح ضد الإغلاق ﴿عليهم بركات﴾ جمع بركة هي الزيادة والنماء ﴿من السماء والأرض﴾ جرى المفسرون على أن المراد ببركات السماء المطر وبركات الأرض النبات وسائر الأثمار إذ السماء تجري مجرى الأب والأرض تجري مجرى الأم ومنهما تحصل جميع المنافع وعندي أن الأمر لا يقتصر على ذلك فلا يعد المطر ولا الزرع في ذاته بركة وإنما البركة في نظري أمر اعتباري يضعه الله في رزق من يرضى عنه فينميه ويكثر الاستفادة منه بحيث يجعله يشعر في نفسه بلذة العيش ونعيم الحياة فيكون معنى الآية أن سنن الله قد قضت بأن الإيمان والعمل الصالح من شأنهما أن يفتحا على الناس أبواب فيوضات إلهية وأرزاق خفية تجعلهم يحيون حياة مطمئنة سعيدة لا يشعرون معها بشيء من التذمر وضيق العيش ﴿ولكن كذبوا﴾ هم هذه الحقيقة من سنن الله وهي أن الإيمان والتقوى يسببان حلول البركة من الله بل ربما أنكروا البركة من حيث هي وقالوا إنما هي أرزاقنا جنيناها بكدنا واجتهادنا ونحن نتنعم بثمرة أعمالنا ولا دخل لله في ذلك ﴿فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ أي جزيناهم على أعمالهم الدنيوية بلذات تماثلها وحجبنا عنهم البركة فلم يتذوقوا ما في الإيمان والعمل الصالح من لذة ما بعدها من لذة هي طمأنينة النفس وراحة الضمير برضاء رب العالمين ﴿أفأمن أهل القرى﴾ أي أصحاب المدن العامرة من سائر الأمم وفي جميع الأوقات بعد ما بيناه من هذه السنن الاجتماعية ﴿أن يأتيهم بأسنا﴾ أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم السابقة إذا هم ساروا بسيرتهم وجاروا سنن الله المؤدية إلى الهلاك والاستئصال ﴿بياتًا وهم نائمون﴾ أي ليلًا وهم غافلون بعد أن آووا إلى فراشهم آمنين ﴿أو﴾ بفتح الواو وقرئ بإسكانها ﴿أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون﴾ أي نهارًا وهم يقظون منهمكون فيما لا ينفع من الأعمال ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ المكر التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب وهو من الناس مذموم أما مكر الله فإنه غير
آمالهم بالنصر عليهم: ﴿ولو أراكهم﴾ على ما هم عليه بمجموعهم: ﴿كثيرًا﴾ وأخبرت بذلك المؤمنين: ﴿لفشلتم﴾ أي لتسرب الخوف إلى القلوب وقلتم كيف يكتب لنا النصر على تلك الكثرة ونحن قلة: ﴿ولتنازعتم في الأمر﴾ أي ولوقع بينكم نزاع فأنت مع ثقتك بوعد الله لا تستطيع أن تنتزع الخوف من قلوبهم، فيؤدي الأمر إلى تفرق الكلمة وانقسام الرأي الذي هو سبيل الخذلان: ﴿ولكن الله سلم﴾ أي سلمكم من التنازع فجعل من تلك الرؤيا سببًا مباشرًا في تقوية معنوياتكم واتحادكم في الرأي: ﴿إنه عليم بذات الصدور﴾ فهو سبحانه خالقها ويعلم بما يكسبها الجرأة والصبر وما يؤدي بها إلى الجزع والجبن ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا﴾ أي أنه تعالى الذي أرى رسوله تلك الرؤيا التي كانت سببًا في طمأنينة المؤمنين وحائلًا دونهم ودون الفشل لم يشأ أن ينتزع من قلوبهم تلك الطمأنينة في ساعة اللقاء فإنه تحت تأثرهم بقوة الإيمان بوعد الله لنبيه بالنصر واليقين بصدق الرسول من رؤيته جعلهم ينظرون إليهم كأنهم قليل مستضعفون خصوصًا وقد أتوهم فرقًا فرقًا متفككين من جراء تخبطهم في الوحل: ﴿ويقللكم في أعينهم﴾ أي أنهم رأوكم على حقيقتكم من القلة فزاد من غرورهم واحتقارهم لكم حتى قال أبو جهل «إنما أصحاب محمد أكلة جذور» بمعنى أنه يكفي للقضاء عليهم يومًا واحدًا إذ كانوا يأكلون كل يوم جذورًا والمعنى أن الله جل شأنه في هذا الباب أيضًا لم يمدهم بشيء من خوارق العادات بأن يكثر المؤمنين في أعين الكافرين فيقضي عليهم بالرعب وهو قادر على ذلك بل كان كل شيء في بدر أمرًا طبيعيًا موافقًا لسنن الله التي تحصل في كل وقت: ﴿ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا﴾ أي سنة من سننه تعالى الدائمة في الخلق وهي هنا ما يترتب على قوة الإيمان بالله وقدرته من الثبات والنصر وما يؤدي إليه الغرور من هلاك وسيئات فالغرور أول معصية ارتكبها إبليس إذ قال لربه عندما أمره بالسجود لآدم عليه السلام: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ فغضب الله عليه وأهلكه من أجل هذا إذ: ﴿قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين﴾ وقال تعالى في آية أخرى: ﴿قال اخرج منها مذمومًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين﴾ وكانت نتيجة لكل من قلد إبليس في غروره.
﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ فلا ينفذ شيء في هذا العالم إلا وفق سنن الله وأحكامه القدرية التي تربط الأسباب بالمسببات فلولا قوة إيمان أصحاب رسول الله في بدر لما ثبتوا للقاء أعدائهم ولولا
إليه تعالى بقوله: ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق﴾.
﴿ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾ في الآخرة وهو عذاب جهنم وهم في الدرك الأسفل منها: ﴿وآخرون﴾ أي وثم أناس ليسوا من المنافقين ولا من السابقين الأولين ولا من الذين اتبعوهم بإحسان بل هم كسائر عباد الله المؤمنين: ﴿اعترفوا بذنوبهم﴾ أي يرتكبون بعض المحرمات ومتى غلبت عليهم شهوتهم يعترفون بها والاعتراف بالذنب مدعاة لتخفيف العقوبة كما هو حال أغلب المسلمين في عصرنا هذا: ﴿خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا﴾ ليسوا من الصالحين المخلصين ولا من الفاسقين المستهترين ولا من المنافقين المرائين بل هم قوم مؤمنون يعملون الصالحات ويرتكبون السيئات هؤلاء أمرهم مفوض إلى الله حيث قال: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ أي يجعلهم يقلعون عن فعل السيئات أو يتجاوز سبحانه عنها عملًا بقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ وهنا أراد جل شأنه أن ينبه هؤلاء إلى السبيل الذي يؤدي إلى مغفرته تعالى فقال: ﴿إن الله غفور﴾ لمن استغفره: ﴿رحيم﴾ لمن رجا رحمته وفي هذا دعوة للناس إلى طلب المغفرة والرحمة من الله وعدم اليأس منهما مهما كثرت الذنوب فقد قال تعالى: ﴿وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون﴾.
بعد أن فصل الله حال المؤمنين وقسمهم إلى ثلاثة أقسام وأطمع الآخرين منهم في الرحمة ودعاهم إلى طلب المغفرة والتوبة أمر رسوله ببعض أمور من شأنهم أن تؤهل المؤمنين أجمعين إلى بلوغ درجة الكمال في الإيمان فقال: ﴿خذ﴾ أي الرسول وكل من ولي أمر المؤمنين من بعده: ﴿من أموالهم﴾ أي من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها ومنها مال التجارة: ﴿صدقة﴾ وهي ما ينفقه المؤمن قربة إلى الله: ﴿تطهرهم﴾ من المعاصي والسيئات لأنها تستجلب رضاء الله فقد رُوِيَ عن رسول الله قوله: «الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء» وفي حديث آخر «صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر» وفي حديث آخر «إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور دائمًا يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»: ﴿وتزكيهم﴾ التزكية من الزكاة وهو نماء الزرع ونموه أي أن الله قد جعل من فوائد الصدقة أنها تزيد في الرزق وتكثر من المال فهي بمثابة السماد للزرع قال صلى الله عليه وسلم: «إن
@وإطاعة للأمر من جرائها
#قد يرتقي الإنسان في الدرجات
@لا أنه بالسعي يرزق في الحيا
#ة ويحرم الأرزاق بالعطلات
@فالسعي ليس مؤثرًا في الرزق بل
#هو في الحقيقة موضع الفتنات
@والله ربي قدر الأشياء ثم
#هدى إليها الناس بالفطرات
@وهو الذي قد أخرج المرعى لهم
#من غير ما جهد لدى الإنبات
@فإذا انتهى المقدور صيره غثا
#ء ثم عوضهم من الثمرات
@والله إذ ضمن المعاش لخلقه
#بصراحة في محكم الآيات
@قد قال إني عالم بمقرهم
#دومًا وما هم فيه من حالات
@وكذلك أعلم مواطن استيداعهم
#عن سعيهم أو بعد فقد حياة
@فمن المؤكد أن سيرزقهم ولا
#ينساهم أبدًا مدى الأوقات
@ومتى انتهت آجالهم (وهو العليم
#بها) سيوقف عنهم النفقات
@فمن الضلال الشك في هذا الضما
#ن كذاك خوف الموت من فاقات
النسوة ليعلم العزيز أنه لم يخنه في زوجه بالغيب وأن تضريحه بأنه لا يبرئ نفسه من باب التواضع وهضم النفس أو هو بما همّ به في نفسه عند مراودتها له عن نفسه وإن لم يستجب لها في زعمهم وأخذ الكثير من الناس بهذا الرأي وصاروا يضربون به الأمثال وهذا في نظري خطأ لا يتفق مع السياق والنظم ومرجع الضمير وما بدا من عصمة يوسف، وليس هنالك من ريب في أن هذا القول من ضمن ما قالته امرأة العزيز ولا دخل ليوسف في الأمر إذ لم يكن حاضرًا ساعة اعترافها فهي قد اعترفت بجرمها الذي جزاها الله عليه بالفضيحة وأخذت تعتذر عن اتهامها ليوسف بما هو بريء منه بأن ذلك لم يكن عن رغبة منها ابتداء بل تحت ظروف خاصة بقصد الدفاع عن النفس.
﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾ أي من شأن النفس البشرية أن تدافع عن نفسها، وهي في سبيل نجاتها من العذاب لا تتورع عن اتهام الأبرياء وإلقاء المسئولية على الغير: ﴿إلا ما رحم ربي﴾ بما يودعه الله في القلوب من قوة الإيمان والخوف منه في السر بحيث يقول الإنسان الحق ولو على نفسه: ﴿إن ربي غفور﴾ لمن اعترف بذنبه واستغفره وأناب إليه: ﴿رحيم﴾ بعباده إذ رثى لضعفهم فجعل لهم من الندم والاستغفار منفذًا لنيل الرضوان وهو كما قال ﷺ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وبهذا تكون زليخة قد اعتذرت عن اتهام يوسف واستحقت الغفران والرحمة: ﴿وقال الملك﴾ بعد سماعه لهذه الاعترافات وهذا الاعتذار وثبوت براءة يوسف وما هو عليه من النبل والشرف والأمانة والعلم: ﴿ائتوني به﴾ بريئًا مرفوع الرأس وضاء الجبين: ﴿أستخلصه لنفسي﴾ أي أجعله مستشارًا خاصًا لي، وعندها لبى يوسف الدعوة وخرج من السجن وحضر إلى قصر الملك: ﴿فلما كلمه﴾ الملك وعرف مواهبه وكفائته: ﴿قال إنك اليوم لدينا مكين﴾ أي صاحب مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة وثقة تامة بحيث لا يستطيع أحد أن ينالك بوشاية أو دس: ﴿أمين﴾ لا نشك في أمانتك بعد ما ثبت لدينا من أمانتك على عرضنا وكل شيء في قصرنا عندئذ فكر يوسف في أن يستعمل هذه الثقة فيما من أجله أفرج عنه وهو صيانة البلاد من الكارثة التي ستحل بها بحسب ما عبر به الرؤيا من قبل: ﴿قال﴾ للملك إذا كان الأمر كما ذكرت: ﴿اجعلني على خزائن الأرض﴾ أي فوض إلي أمر اختزان ما يستخرج من أرض مصر من الحاصلات الزراعية لصيانتها وتوزيعها بحسب ما يلهمني ربي لأقي شعبك من خطر المجاعة: ﴿إني حفيظ﴾ أي أمين أعرف كيف أحافظ
إلى أسماعهم وعلمهم بما جاء فيه من أحكام، وصدق الله ولم يبق أحد في العالم إلا وسمع كلام الله من محطات الإذاعة صباحًا ومساء ولم تعد أحكام القرآن خافيه على كبار المستشرقين والقسيسين والرهبان بل وكل ذي جنان ثم هم رغم هذا: ﴿لا يؤمنون به﴾ عنادًا واستكبارًا من أنفسهم الأمارة بالسوء والمجبولة على إرضاء العاطفة وتقليد الآباء: ﴿وقد خلت سنة الأولين﴾ أي وشأنهم في هذا شأن من مضى من الأمم السابقة التي تعصبت لعقائدها الفاسدة حتى حل بها ما حل من عذاب الاستئصال وقد صور الله مبلغ أثر العناد في النفس البشرية بقوله: ﴿ولو فتحنا عليهم﴾ أي أولئك المجرمين الكافرين المتعصبين لعقائدهم الفاسدة: ﴿بابًا من السماء﴾ أي سبيلًا إلى غزو الفضاء واكتشاف ما في العالم العلوي من قوى وأسرار تدلهم على إثبات وحدانية الله: ﴿فظلوا فيه يعرجون﴾ أي يصعدون وينظرون إلى ملكوت الله وعظيم قدرته وسلطانه: ﴿لقالوا إنما سكرت﴾ بتشديد الكاف وقرئ بتخفيفها أي سدت: ﴿أبصارنا﴾ فلم نر شيئًا يدل على أن يدعونا إلى الإيمان بالله واتباع شريعة الإسلام: ﴿بل نحن قوم مسحورون﴾ السحر ما يفعله الإنسان من الحيل التي يضاهي به الحق أي أنهم مأخوذون بقوة العلم الذي هو أشبه بالسحر بمعنى أنهم ينسبون كل شيء لقدرة الإنسان وواسع إدراكه واختراعه دون أن يتخذوا منه دليلًا على قدرة الله. وقد شهدنا مصداق هذه الآية الكريمة في عصرنا هذا مما تتبارى فيه دول الغرب والشرق لغزو الفضاء والرغبة في الوصول إلى القمر دون أن يهديهم ما يرونه من الأسرار الكونية إلى عظيم قدرة الله ووجوب الإيمان بوحدانيته تعالى.
بعد أن أخبر الله بما يعمله من عداوة الكافرين له وإصرارهم على إنكار النبوة حتى ولو فتح لهم السبيل واكتشاف ما في العالم العلوي من قوى وأسرار تثبت لهم وحدانية الله، أخذ يبسط ما في السموات والأرض من عجائب الخلق التي تدل على وحدانيته تعالى الخالق لها فقال: ﴿ولقد جعلنا في السماء بروجًا﴾ جمع برج وهو في اللغة الحصن الذي لا ينال وثبت عند الفلكيين أن في السماء اثني عشر برجًا هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وكل برج منها يختلف عن الآخر في ماهيته وطبائعه مما يدل على أنه لا بد لهذه البروج المختلفة الأجزاء والتراكيب من خالق مدبر حكيم: ﴿وزيناها﴾ أي السماء بالشمس والقمر والنجوم: ﴿للناظرين﴾ من كل عاقل لا يسلم بأن مثل
إليه تعالى بقوله: ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق﴾.
﴿ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾ في الآخرة وهو عذاب جهنم وهم في الدرك الأسفل منها: ﴿وآخرون﴾ أي وثم أناس ليسوا من المنافقين ولا من السابقين الأولين ولا من الذين اتبعوهم بإحسان بل هم كسائر عباد الله المؤمنين: ﴿اعترفوا بذنوبهم﴾ أي يرتكبون بعض المحرمات ومتى غلبت عليهم شهوتهم يعترفون بها والاعتراف بالذنب مدعاة لتخفيف العقوبة كما هو حال أغلب المسلمين في عصرنا هذا: ﴿خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا﴾ ليسوا من الصالحين المخلصين ولا من الفاسقين المستهترين ولا من المنافقين المرائين بل هم قوم مؤمنون يعملون الصالحات ويرتكبون السيئات هؤلاء أمرهم مفوض إلى الله حيث قال: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ أي يجعلهم يقلعون عن فعل السيئات أو يتجاوز سبحانه عنها عملًا بقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ وهنا أراد جل شأنه أن ينبه هؤلاء إلى السبيل الذي يؤدي إلى مغفرته تعالى فقال: ﴿إن الله غفور﴾ لمن استغفره: ﴿رحيم﴾ لمن رجا رحمته وفي هذا دعوة للناس إلى طلب المغفرة والرحمة من الله وعدم اليأس منهما مهما كثرت الذنوب فقد قال تعالى: ﴿وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون﴾.
بعد أن فصل الله حال المؤمنين وقسمهم إلى ثلاثة أقسام وأطمع الآخرين منهم في الرحمة ودعاهم إلى طلب المغفرة والتوبة أمر رسوله ببعض أمور من شأنهم أن تؤهل المؤمنين أجمعين إلى بلوغ درجة الكمال في الإيمان فقال: ﴿خذ﴾ أي الرسول وكل من ولي أمر المؤمنين من بعده: ﴿من أموالهم﴾ أي من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها ومنها مال التجارة: ﴿صدقة﴾ وهي ما ينفقه المؤمن قربة إلى الله: ﴿تطهرهم﴾ من المعاصي والسيئات لأنها تستجلب رضاء الله فقد رُوِيَ عن رسول الله قوله: «الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء» وفي حديث آخر «صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر» وفي حديث آخر «إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور دائمًا يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»: ﴿وتزكيهم﴾ التزكية من الزكاة وهو نماء الزرع ونموه أي أن الله قد جعل من فوائد الصدقة أنها تزيد في الرزق وتكثر من المال فهي بمثابة السماد للزرع قال صلى الله عليه وسلم: «إن
الناس على أمر ويحسبون أنه ليس هناك من يعارضهم ويحول دون تنفيذ ما يبتغون: ﴿إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ أي ولقد فاتهم أن الله الذي منحهم من روحه قوة الحياة والقدرة على العمل كان رابعهم الذي يستمدون منه القوة على تنفيذ ما يريدون ولولاه لعجزوا عن ذلك فينبغي ألا يتجاهلوا وجوده: ﴿وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ الذي يجيز ما يجيز وفق سننه ويحول دون ما لا يريد وقوعه رحمة بعباده: ﴿وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ﴾ أي أقل من ثلاثة: ﴿وَلا أَكْثَرَ﴾ من خمسة وقرئ «ولا أكبر» بالباء: ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ يسمع كلامهم ويعلم سرهم ونجواهم ورسله تسجل أقوالهم وحركاتهم وسكناتهم: ﴿أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ سواء في سهول الأرض أم في كهوف الجبال وداخل الحصون: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ تمهيدًا للحكم عليهم بحسب ما قدموا من عمل حكمًا قائمًا على أساس العدل والرحمة لا على مجرد الشفاعة ومراعاة خاطر المقربين وسينال كل امرئ جزاءه وفق ما سنه تعالى من أحكام أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله: ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي تنظر أيضًا: ﴿إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾ وهم اليهود كانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي ﷺ جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم وترك طريقه فنهاهم النبي ﷺ عن النجوى فلم ينتهوا فأخبره الله بهم في هذه الآية إذ يقول: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ وقد كشف الله سرهم ليشعرهم بعلمه بموضوع نجواهم حيث قال: ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ﴾ وقد نبه الله نبيه بما كان يصدر منهم حياله وما يوجهونه إليه من عبارة ظاهرها التحية وحقيقتها الدعاء عليه بالهلاك حيث قال: ﴿وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ﴾ فتنبه عليه الصلاة والسلام إلى هذا بأن كان جالسًا مع أصحابه وأقبل عليهم يهودي فسلم عليه فردوا عليه السلام فقال النبي: «هل تدرون ما قال؟» قالوا سلم يا رسول الله قال «بل قال سام عليكم أي تسامون دينكم» ثم قال «ردوه» فردوه عليه فقال نبي الله: «أقلت سام عليكم»، قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت».
﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ﴾ أي يفعلون هذا ويقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيًًّا لأوشك يعاجلنا الله بالعذاب في الدنيا والله لم يعاجلهم به لأن: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي كفاهم
فقال: ﴿إن الذين يخشون ربهم بالغيب﴾ أي يخافون الله في سرهم ويندمون على ما فرط منهم: ﴿لهم مغفرة﴾ بمعنى أن الإنسان إنما ارتكب إثمًا ثم ذكر أن الله قد علم به وسيعاقبه عليه فخاف وندم على ما فعل وسأل الله المغفرة فلا بد أن يغفر الله له بمقتضى هذا الوعد الكريم فقد ورد في الصحيحين – «قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا إلا أتيتك بقرابها مغفرة».
﴿وأجر كبير﴾ أي أن سنة الله قد قضت بأن الخوف منه في السر من شأنه أن يحمل الإنسان على الامتناع عن ارتكاب المعاصي فيكون له على ذلك أجر على الترك بقدر ما كان يستحق من عذاب إذا هو أقدم على العصيان قال ﷺ «إن في بضع أحدكم لأجرًا» قال الصحابة أيجد الرجل لذته ويكون له أجر فقال «ألم يكن عليه وزر إذا هو وضعها في الحرام؟» – قالوا بلى قال «كذلك إذا وضعها في الحلال له أجر».
﴿وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور﴾ ومعنى هذا أنه تعالى يجزي على نية الخير كما يجزي على فعله أو الدعوة إليه: ﴿ألا يعلم من خلق﴾ فمما لا جدال فيه أن من خلق شيئًا لا بد أن يكون عالمًا بمخلوقه فالخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد والقاصد إلى الشيء لا بد أن يكون عالمًا بماهيته وكميته وما يستعمل له والغاية عنه وكل دقيقة من أمره: ﴿وهو﴾ أي الله الخالق للإنسان: ﴿اللطيف﴾ صاحب اللطف وهو الرفق بمعنى أنه تعالى لا يعامل الناس بما يستحقون فهو القائل –: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ –: ﴿الخبير﴾ العارف بجميع أخبار العالم: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا﴾ ذلَّ ضد عزّ أي هان وانقاد بسهولة والمراد أنه تعالى جعلها من مادة لينة بحيث يمكن حفرها وإنباتها وبناء الأبنية فيها كما يريد الإنسان ولو كانت حجرية صلبة أو كانت مثل الذهب والحديد لصعبت الاستفادة منها ولكانت أسخن جدًّا في الصيف ولا تبرد كثيرًا في الشتاء ولا تصلح للزرع: ﴿فامشوا في مناكبها﴾ المنكب ناحية كل شيء وجانبه وأعلاه والمراد السعي والعمل لاستثمار هذه الأرض التي جعلها الله لكم بمختلف الوسائل وفق سننه تعالى التي سنها لعمارها: ﴿وكلوا من رزقه﴾ أي اعلموا أن ما تنالونه من خير لم يكن نتيجة سعيكم فأساس الرزق من محض فضل الله الذي خلق مواده الأولية
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: نور قلوبنا بهدايتك الربانية لنعرف السبل الموصلة إليك، فأنت وحدك الذي تنعم بالهداية وتوفق من أردت إلى اتباع أوامرك الإلهية.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: بمعرفتك والإيمان بما أرسلت به رسلك الكرام.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الذين أنكروا وجودك ولم تهدهم رسلك وآياتك إلى الإيمان بل والاعتراف بوحدانيتك ونسبوا كل شيء في الكون إلى أعمال الطبيعة وما شاكلها.
﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾: الذين يزعمون الإيمان بك ولكنهم يتخذون معك شركاء أو يتقربون إليك بعبادة الأوثان ويثبتون لغيرك النفع والضر واستجابة الدعاء وقضاء الحوائج والعلم بالمغيبات فيدعونهم من دونك ويرجون منهم ما لا يقدر عليه أحد سواك.
﴿آمين﴾: استجب دعاءنا يا رب العالمين.
سورة النبأ
مكية وعدد آياتها أربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (٢٤)


الصفحة التالية
Icon