المغزى والحكم المستنبط منها والقراءات التي تليت بها وسألت الله أن يلهمني فهم المراد من آيات القرآن والسر في وضعها على هذا الترتيب التوقيفي المنقول إلينا بالتواتر مع أنه أنزل أولًا متفرقًا في فترات حسب الوقائع دون أن أتقيد في الآيات بما قيل عن أسباب نزولها: لعلمي بأن القرآن إنما أنزل دستورًا عامًّا لسائر الناس فلا يمكن أن يكون خاصًّا بحوادث معينة ولأسباب محدودة. والدليل على هذا اختلاف الروايات في أسباب نزول بعض الآيات في شتى المناسبات الأمر الذي يدل على أن النبي ﷺ إنما نطق بها من قبيل الاستشهاد بكلام الله في عدة مرات. وكان هذا هو السبب في اختلاف الروايات في أسباب النزول وقد نص الفقهاء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أني لا أتردد في إثبات ما تقضي الضرورة إلى إثباته من أسباب النزول ولا أجزم بأن ما استنتجته من المعاني هو عين ما أراد الله ولكنه في رأيي أقرب ما يمكن فهمه من تسلسل الإيمان وتوالي الكلمات وتكرار العبارات، ولما كان القرآن يفسر بعضه بضعًا وأعمال الرسول وأقواله عليه الصلاة والسلام توضح مقاصد الآيات وحكمة التشريع كما قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ فقد جنحت في تفسيري إلى التوسع في العبارات وبيان بعض الأحكام على هدي ما جاء به الإسلام من التعاليم وأتيت ببعض الأدلة العقلية والحقائق العلمية التي تدعم المعنى الذي فهمته من الآيات ليعم النفع وتحصل الغاية المقصودة من نشر الدعوة الإسلامية بأوسع معانيها واتجاهاتها ونواحيها رغبة في اجتذاب النفوس إلى بارئها والقلوب إلى خالقها وهاديها في وقت عبد الناس فيه المظاهر وشغلوا عن الحقائق بالظواهر وغرتهم الدنيا بزخرفها ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، وقد طبعت من ذلك التفسير أربعة أجزء سر بها الناس وأوشكت أن تنفد فاقترح علي كثير من أساتذة المدارس أن أستعجل طبع الأجزاء الأخيرة من تفسيري أولًا بشكل مقتصر على مجرد الشرح إلى جانب نفس الآيات وأن كون كتابة ألفاظ القرآن بالخط الإملائي وفق القواعد المتبعة لأن الكثير من الطلبة اليوم وخصوصًا المتعلمين منهم في المدارس الأجنبية يصعب عليهم تلاوة القرآن بشكله الحاضر (بخط المصحف العثماني) إلا أن يكون على يد مقرئ يلقنه لهم تلقينًا. كما أن بعض الأساتذة لا يستطيع أن يفسره لهم تفسيرًا واضحًا. والطلبة في حاجة قصوى إلى تلاوة القرآن وفهم معانيه، ومن واجبنا تيسيره للناس وحملهم على الاتعاظ به، وحيث إن القرآن في الأصل لم ينزل إلا متلوًا على رسول
من عند الله من أن هؤلاء قوم معاندون لا سبيل إلى اجتذابهم للتوجه معك إلى قبلتك. وقد دلتنا هذه الآيات على ما يأتي:
﴿١﴾ أن الله سبحانه وتعالى يحقق رغائب الناس ولو لم يصرحوا بها ما دامت خالصة لوجه الله، واقترنت بالثقة بحصول الإجابة من الله سبحانه.
﴿٢﴾ أن من الصعب أن يعدل الإنسان عن أمر يعتقده ما لم تكن هناك قوة إيمان بمعتقد آخر.
﴿٣﴾ أن محاولة استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من باطل ولو كان ذلك لغرض صحيح، وغاية سامية أمر لا يتسامح فيه مع أحد حتى ولو صدر ذلك من صاحب الأمر والكلمة المسموعة.
بعد أن أمر الله نبيه باستقبال البيت الحرام، وبين له موقف المعاندين حيال هذا التحول، أخبره بما للعوائد القومية من تأثير في نفوس الناس في أمر القبلة حيث قال ﴿ولكل﴾ أمة من الأمم أو شعب من الشعوب ﴿وجهة﴾ زينت له وحببت إليه، لأنه اعتاد التوجه إليها ﴿هو موليها﴾ أي ملتزمها وقرئ ﴿مولاها﴾ أي مالكها بحكم العادة ولا يرضى التحول عنها بسهولة ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي فلا تكونوا منهم؛ بل عليكم أن تبادروا وتتسابقوا إلى فعل الخيرات بالتوجه إلى القبلة التي يوجهكم إليها الله، ولا تتقيدوا بالاتجاه إلى القبلة التي كنتم عليها ﴿أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا﴾ فإن مرجعكم جميعًا إليه سبحانه وتعالى ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ أي وهو سبحانه القادر على الإثابة والجزاء فلا محل لخشية غيره واتباع سواه ﴿ومن حيث خرجت﴾ أي ومن أي جهة من جهات المسجد خرجت ﴿فول وجهك شطر المسجد الحرام﴾ أي فاجعل اتجاهك وقبلتك نحوه سواء أكان ذلك من شرق الحرم أم من غربه، ولعل الله جل وعلا أعاد ذكر هذه الآية ثانيًا ليمحو من قلب النبي الكريم فكرة التنازل عن الاتجاه إلى هذه القبلة حرصًا على تكثير عدد المسلمين وجمع كلمتهم ﴿وإنه للحق من ربك﴾ فلا تظن أن هذا التحول إلى المسجد الحرام كان من أجل رضاك فتحاول أن تعدل عنه ابتغاء
قال (من ذا الذي يشفع عنده) أي مَنْ من الناس يجد في نفسه أهلية لأن يشفع لأحد عنده حتى يمكن الاعتماد على شفاعته في نيل الغفران، ودخول الجنان وقد سبق أن تشفع نبي الله نوح في ابنه في هذه الحياة الدنيا وقال: «رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين» فرد الله شفاعته، إذ قال «يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين» واستغفر الرسول ﷺ في حياته للذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات فقال له تعالى «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين» وقال الله أيضًا «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم» وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ليردن على الحوض رجال حتى إذا رفعوا إلي اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فليقولن لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقًا لمن بدل بعدي» (إلا بإذنه) أي لمن يأذن له الله بها، ذلك أن سيئات الناس يوم القيامة لا بد أن ترجح على حسناتهم مهما حرصوا على طاعة الله. فلا سبيل إلى دخولهم الجنة إلا أن يشملهم الله برحمته فيوعز إلي من يريد من خلقه بالشفاعة لهم لمحض رحمته بهم من تلقاء نفسه لا لأن الشفيع قد تشفع لهم وأبدى من الأسباب ما يستحقون معه الرحمة والتجاوز عن السيئات وهذه هي الشفاعة التي وعد الله نبينا محمدًا بها يوم القيامة ولذا قال له تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
أي رحمة لهم في الدنيا بما جئت به من دين قويم ورحمة في الآخرة إذا وعدك الله بالشفاعة لمن يريد الله رحمته فجعل منك سبيلًا لنجاة كثير من خلقه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من عذاب لم ييأس من النار» أما الشفاعة على إطلاقها وبمعناها المعروف من التوسط في إقناع الشفيع المشفوع عنده بما لم يكن يعلمه من أمر المشفوع له وما يستحقه من عطف وعفو فهذا ما لا يجرؤ عليه أحد لأنه تعالى (يعلم
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً
للحصول على المرأة التي تشبع شهوته ولم يجعل لها مثل هذا الحق وكل هذه أمور من شأنها أن تحمل المرأة على أن تتمنى أن تكون رجلًا وقد حصل وقالت أم سلمة رضي الله عنها يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث وقال غيرها وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، ولما نزل قوله تعالى: ﴿للذكر مثل حظ الأنثيين﴾ قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهم بالميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله قوله: ﴿ولا تتمنوا مما فضل الله به بعضكم على بعض﴾ من التكاليف والمميزات ﴿للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن﴾ فما خص الله به الرجال من تكاليف وما جعله فيهم من مميزات كالجهاد في سبيل الله والعمل لطلب الرزق والإنفاق على الأهل فقد رصد لهم من الأجر عليه ما لا يشاركهم فيه النساء وما كان خاصًّا بالنساء من المميزات وما حملوا به من شاق الحمل والولادة وتربية البنين وإدارة البيت فقد جعل الله لهن من الأجر عليه ما لا يشاركهن فيه الرجال فليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر خشية أن يزاحمه فيه فتعم الفوضى ويختل النظام العام ﴿واسألوا الله من فضله﴾ أن يعين كلا منهم على أداء ما عهد به إليه من تكاليف حيث لا يجوز له أن يتمنى ما نيط بالآخر من سائر الأعمال الكسبية فإن السعادة كل السعادة أن ينصرف كل من الجنسين إلى عمله الذي خصه به الله ويتقنه ويؤديه بكل إخلاص لينال الخير الكثير والسعادة الكاملة دون حاجة إلى مزاحمة الجنس الآخر في أعماله المختص بها، بل لقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ﴿إن الله كان بكل شيء عليمًا﴾ فهو
الكتب السماوية الأولون نتيجة رسوخهم في العلم والآخرون لأن شريعتك تنص على هذا صراحة فلا سبيل إلى تطرق الشك إلى أذهانهم (وَالْمُقِيمِينَ) وقرئ (المقيمون) (الصَّلَاةَ) عطف على المجرور قبله والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء الذين شرعوا إقامة الصلاة بوحي من الله حيث قال تعالى في حقهم (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة) لا يفرقون بين أحد منهم (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) عطف على جملة الراسخون وما بعدها أو أنه كلام مستأنف يراد به تأييد ما قضت به مشيئة الله من أن العبرة في الثواب بالعمل كما أن العقاب مرتب عليه فيكون المعنى والباذلون أموالهم للفقراء تزكية لنفوسهم وتقربا إلى الله (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي وكانوا من المؤمنين ولعل هذا هو الأقرب لأنه ليس الموضوع موضوع تعداد لأركان الإسلام وإلا لأضاف إليهما حج البيت والسياق الذي نحن بصدده هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. فبين أولا أن إيمان خيارهم بما أنزل إليه مساو لإيمان عامة المسلمين ثم ثنى بالعمل الصالح الذي لا بدَّ منه ولما كان من شأنهم ما حكاه في أول الآية من الصد عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل اكتفى جل وعلا بأهم أنواع العبادات المالية وهو إيتاء الزكاة مع الإيمان بالله واليوم الآخر وختم الموضوع بقوله (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) وقرئ (سيؤتيهم) في الآخرة (أَجْرًا عَظِيمًا) على كل صغيرة وكبيرة من أعمالهم في الحياة الدنيا.
بعد أن خفف الله على نبيه ما يجده في نفسه من التأثر لموقف اليهود منه ومن سؤالهم له أن يريهم الله جهرة بما حكاه من موقفهم مع نبيهم موسى من قبل وما طبعوا عليه من عنت وعناد أخذ جل وعلا يعرض بذكر السبب الذي من أجله يقاومون الرسل ويتعنتون معهم في الطلبات وهو إنكارهم للوحي يأتي من عند الله مع أنه أمر طبيعي مألوف نزل على جميع الأنبياء وأخبروا به أتباعهم ولم يكن الرسول بدعا في الأنبياء بنزول الوحي عليه حيث قال (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أيها الرسول القرآن (كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) وهو أول نبي شرع الله على لسانه الأحكام
<١١>
(وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ) المجمع على نبوته عند أهل الكتاب أجمعين وعند العرب أيضا
لعلكم تفلحون} بنيل رضاء الله والفوز بالجنة وهنا أتى جماعة من الصحابة إلى رسول الله ﷺ وقالوا: أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش أليسوا في الجنة قال: «بلى» قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر أفتحرم علينا شيئًا دخلوا الجنة وهم يشربونه فقال رسول الله ﷺ لقد سمع الله ما قلتم فأجابكم عليه وتلا قوله تعالى: ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة﴾ أي أن العلة في تحريمها عليكم القضاء على أسباب العداوة فيما بينكم فأنتم لا تستطيعون إنكار ما يترتب على شربكم الخمر من فقدان العقل الذي يحمل عادة على ارتكاب الأعمال القبيحة وكثير من المنكرات كالقتل والضرب والفسق والفحش وإفشاء الأسرار وخيانة الحكومات والأوطان في حالة السكر مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء. وكذلك الحال في الميسر فإنه مثار عداوة ولا شك بين المتقامرين ثم يتعداهم إلى من تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين من الأهل والأقربين كالزوجة والأولاد الذين يحرمون من المال الذي أنفق في القمار، وهما فوق هذا يأخذان عليكم جل أوقاتكم وينسيانكم واجب الصلاة بل أن الخمر والانهماك في تعاطي القمار ليذهب بعقولكم فلا تذكرون الله ولا تخافون عقابه. ويؤخذ من هذا حرمة كلما أدى إلى هذه النتيجة من سائر الألعاب ﴿فهل أنتم منتهون﴾ قال الصحابة انتهينا، وهنا أكد الله المنع بقوله ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ فيما يأمرانكم به من اجتناب الخمر والميسر كما تجتنبون الأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الجاهلية ﴿واحذروا﴾ عصيانهما وما يترتب على هذا العصيان من أضرار في الدنيا والآخرة إذ يقول تعالى ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ ﴿فإن توليتم﴾ أي أعرضتم عن الطاعة ﴿فاعلموا﴾ أن الله لم يسلبكم حرية الاختيار وقد حدد سبحانه مهمة الرسول بقوله ﴿إنما على رسولنا البلاغ﴾ أي الإعلان والإخبار بما يأمر به الله وما ينهى عنه ﴿المبين﴾ أي الفاصل بين الحق والباطل وقد قال لرسوله في آية أخرى: ﴿فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب﴾ ولم يؤكد الله تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد ولا قريبًا منه ولذلك فإن الصحابة عندما سمعوا هذا أهرقوا ما كان عندهم منها حتى جرت في طرق المدينة. ثم أجاب الله على استشكال من سألوا عمن ماتوا قبل تحريم الخمر من الصحابة بما يشعرهم بأنه لا إثم عليهم إذ قال {ليس على الذين
الخلق أن يكون المجرمون في كل قرية هم أكابرها أي زعماؤها وقادتها ذلك لأن معنى المجرم مرتكب الإجرام وهو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ومن يقاوم دعوة الإصلاح ويعادي المصلحين من الرسل ومن يدعو بدعوتهم إلى يوم الدين وهؤلاء من شأنهم أن يخيفوا الناس ويسيطروا على الغوغاء ويتزعموهم ﴿ليمكروا فيها﴾ أي ليستعملوا المكر والخداع في سياستهم لتآلف الشعب وإرضاء ميوله وملذاته حتى يستتب لهم الأمر بما يشرعونه من نظم دستورية تخالف ما أنزل الله ﴿وما يمكرون﴾ في الواقع ﴿إلا بأنفسهم﴾ إذ هم بما يسنون من نظم ودساتير وضعية عرفية تخالف ما أنزل الله وتثبت أقدامهم في الحكم إنما يحاربون الله ورسوله ويرتكبون من الإثم ما لا قبل لهم على تحمل عذابه كما إنهم ليقودون الشعب إلى مهاوي الفساد والضلال مما يؤدي إلى سخط الله وعظيم نقمه في الدنيا والآخرة ﴿وما يشعرون﴾ هم بهذه الحقيقة من سنن الله الاجتماعية التي سنها الله لعباده والتي يقضي بأن الأغنياء المترفين إذا نالوا الحكم والسلطان طغوا وأكثروا الفساد فيتبعهم العامة حتى يعم الفساد وعندئذ يحل بهم الدمار كما أخبرنا الله بهذا في قوله ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا﴾.
بعد أن بين الله حقيقة الضلال وكيف يجلبه الإنسان لنفسه تمشيًا مع سنن الله في الخلق التي تقتضي باعتداد كل ذي رأي برأيه وعلو شأنه المجرمين في كل قرية أكد ذلك بما يبدو من أقوالهم وإصرارهم على الكفر والضلال فقال ﴿وإذا جاءتهم آية﴾ كالزلازل والصواعق وما شابهها من القوى المفاجئة التي تخيفهم وتدل على وجود الله وعظيم قدرته ﴿قالوا لن نؤمن﴾ بدلالتها على وجود الله وعظيم قدرته ﴿حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله﴾ أي حتى يوحي إلينا كما أوحي إلى الرسل وعندئذ نسلم بأنها معجزة تدل على قدرة الله وإلا فإنا لا نؤمن إلا بأنها مجرد ظواهر طبيعية وسنن كونية مطردة فكأنهم بهذا يشترطون لإيمانهم أن يكونوا رسلًا من عند الله ولذا أجاب عليهم سبحانه بقوله: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ بالإفراد وقرئ «رسالاته» بصيغة الجمع أي أن الله تعالى أعلم بمن يصلح للرسالة عنه فلا سبيل إلى إيتائها لكم وأنتم على ما أنتم عليه من كفر وضلال ومكر وخداع وقد كان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم ينزهون رسل الله عنها ويعتقدون أن الله دائمًا مع فاعل الخير حيث قالت السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين للرسول ﷺ عندما شكا لها فزعه مما رآه في بدء الوحي «والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم
مذموم لأنه لم يكن خافيًا على الناس إذ هو السنن التي سنها الله لإنزال العقوبة بالمجرمين رحمة بهم وأعلنهم بها في كثير من الآيات التي منها قوله: ﴿ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون﴾.
وقوله: ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين﴾ فإذا تجاهلوها فإنما جرمهم على أنفسهم ولا يعد هذا مكرًا ﴿فلا يأمن مكر الله﴾ أي فلا يحسب أنه من مأمن مما قدره الله من العقوبة على المسيئين ﴿إلا القوم الخاسرون﴾ الذين لم يتعظوا بسنن الله وأمعنوا في المعاصي حتى كأن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون وقد قال الله في حقهم ﴿وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين﴾ أما العقلاء الذين يتعظون بعبر التاريخ فإنهم لا يأمنون من حلول نقم الله بهم من فرط ما يرون من تفشي الإلحاد والكفر والعصيان في مثل هذا الأوان ﴿أولم يهد﴾ أي ألم يبين ما ذكر من سنة الله في العذاب ﴿للذين يرثون الأرض من بعد أهلها﴾ قرنًا بعد قرن وجيلًا إثر جيل ﴿أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم﴾ أي أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم وهو أنهم خاضعون لمشيئتنا فلو نشاء لعجلنا عذابهم كما عجلنا عذاب من قبلهم على ما اقترفوا من سيئات فليس هناك ما يمنعنا من ذلك ﴿ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون﴾ أي لو نشاء لطبعنا على قلوبهم بطابع الضلال المستمر فيهم والحالة هذه لا يسمعون داعي الحق ولا يتعظون به ولكننا لم نشأ شيئًا من هذين بل اقتضت مشيئتنا في خلقنا ألا نصيبهم بذنوبهم في الحال بل نمد لهم مدًّا وأن نمنحهم كامل الحرية في طلب الهداية والعمل لها لنيلها متى أرادوا فينبغي لمن يستخلفهم الله في الأرض ويرثون ما كان لمن قبلهم من السلطان فيها أن يتقوا الله ولا يكونوا من الكافرين المفسدين وأن يعلموا أن عذاب الأمم على السيئات أمر لا بد منه وقد خلت من قبلهم المثلات وإنما يختلفون في نوع العقوبات كالذل والاستعباد من كل ما من شأنه أن يصيرهم في حكم الأموات أو السلع وسائر الجمادات، الأمر الذي لا يقل عن عقوبة الاستئصال، والأمثلة على ذلك قائمة بما أصاب المسلمين من ذل وهوان بعد ما كان لهم من عز وسلطان كذلك ما أصاب سائر الأمم التي كانت معتدة بنفسها من إحداث ما هي في الواقع إلا عقوبة من الله على السيئات أما عقاب الأفراد فإنه سيكون في يوم المعاد أجارنا الله من كل ذلك بفضله ورحمته.
غرور الكفار بأنفسهم واستخفافهم بتلك الأقلية لما هاجموهم في مثل تلك الساعة بل لتريثوا حتى يصحو الجو وتعود الأرض إلى طبيعتها التي كانت عليها.
بعد أن بيّن الله للمؤمنين حكم الغنائم وذكرهم بنصره لهم بأبسط الأسباب التي لم تكن في الحسبان وليست من باب المعجزات ليعلم من يأتي بعدهم بأن نصر الله لعباده لا يتوقف على خرق العادات بل إنه لينصر سبحانه المؤمنين متى أراد في كل وقت وفق سننه الطبيعية أخذ يدعوهم إلى التمسك والثبات على دينهم ودوام الصلة بالله واتباع شريعته فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله وعظيم قدرته: ﴿إذا لقيتم فئة﴾ تعارضكم في أمر دينكم وتحاول تشكيككم فيه أو صدكم عنه بمختلف الوسائل الحربية أو الكلامية: ﴿فاثبتوا﴾ أي تذرعوا في صدهم بالثبات على المبدأ والتمسك بعقيدة الإسلام مهما كلفكم الأمر من تضحيات ومهما نالكم من أذى في هذا السبيل: ﴿واذكروا الله كثيرًا﴾ أي واذكروا أنكم على الحق الذي جاء من عند الله وأيقنوا بذلك تقو عزائمكم ويشتد بأسكم ويزدكم الله قوة إلى قوتكم: ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي تفوزون بالسعادة وبلوغ الغاية في هذه الدنيا وفي الآخرة فالثبات على المبدأ والانتصار للحق هما سببان معنويان لنيل السعادة والعزة في هذه الحياة: ﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ أي طبقوا شريعته ودستوره السماوي ولا ترضوا عنه بديلًا فإنه كفيل لنيل سعادة البشر وسلام العالم: ﴿ولا تنازعوا﴾ أي لا تختلفوا في أمر طاعتهما بمعنى لا تعدلوا عن الحكم بما أنزل إلى الحكم بدساتير وضعية تقوم على أساس الاختلاف في الرأي وترجيح ما تراه الأكثرية صالحًا لكم: ﴿فتفشلوا﴾ الفشل هو الخيبة والنكول عن مضاء الأمر والمعنى أن الاختلاف في الرأي من شأنه أن يؤدي إلى ضياع الفرصة وعدم بلوغ الغاية وهو موجب للتفرقة والانقسام بما يؤدي إلى الفشل حتمًا: ﴿وتذهب ريحكم﴾ أي ويضعف سلطانكم وتزول دولتكم بسبب تخالفكم وانقسامكم في الرأي وعدم الحزم في الأمور وعليكم أن تسددوا وتقاربوا وتحرصوا على جمع الكلمة حول العمل بشريعة الإسلام: ﴿واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ على تحمل الأذى في سبيل نصر دينه وإعلاء كلمته وإقامة شريعته وقد قضت سننه في خلقه أن يعقب العسر باليسر والشدة بالفرج والظلمة بالنور، ودوام الحال من المحال، وقد نظمت في هذا بعض أبيات نشرت في تائية الخطيب اقتطف منها ما يأتي:
نظام الحكم في الإسلام
صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب الله بها الكبر والفخر» وفي حديث آخر «ما نقص مال من صدقة أو قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع عبد لله إلا رفعه» هذا ما ورد في مطلق الصدقة التي كان الرسول يدعو لها صحبه حتى كان منهم من يأتي بالكثير من أمواله فيدعو لهم وقد اعتبر الإسلام كل ما ينفق في سبيل الله صدقة حتى النفقة على العيال وجعل الأقربين أولى بالمعروف وقد فرض الله حدًّا أدنى للصدقة في مال الأغنياء للفقراء وجعله حقًّا لهم باسم الزكاة يتعين على الحاكم استيفاؤه منهم وتوزيعه على الأصناف الثمانية وقدره ربع العشر في النقدين والتجارة والعشر أو نصف العشر في المحاصيل الزراعية التي عليها مدار الأقوات وزكاة الأنعام المعروفة في كتب الحديث وأوجب كفاية المضطرين من كل جنس وفي كل زمن وضيافة الغريب الذي لا يجد مكانًا يأوي إليه وإذا وجد في مكان جماعة محصورين منهم الموسر والمعسر فقد أوجب على الأغنياء أن يقوموا بكفاية فقرائهم وجوبًا دينيًا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم وقد ورد في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأبعدنهم» ثم تلا الله قوله: ﴿وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ وأخبرنا ﷺ بما يترتب على منع الزكاة من أثر في هذه الحياة بقوله: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» وقوله: «ما تلف مال في برّ أو بحر إلا بحبس الزكاة».: ﴿وصل عليهم﴾ أي ادع لهم: ﴿إن صلاتك﴾ وقرئ «صلواتك» أي دعواتك لجميع المتصدقين: ﴿سكن لهم﴾ أي من شأنها أن تشعرهم بقبول صدقتهم وتوبتهم فتطمئن قلوبهم ويغمرها كثير من السرور والانشراح، وهذا ما يحملهم على الإكثار من الصدقات غير المفروضة: ﴿والله سميع﴾ لدعائك لهم وهو الذي وعد باستجابة الدعاء: ﴿عليم﴾ بمدى إخلاصهم في صدقاتهم وهو الذي أمرهم بها ووعدهم بالمثوبة عليها والله لا يخلف وعده: ﴿ألم يعلموا﴾ أي أولئك الذين اعترفوا بذنوبهم وأنفقوا أموالهم في سبيل الله: ﴿أن الله هو يقبل التوبة عن عباده﴾ أي عن الذنوب التي صدرت منهم فعليهم أن يردفوا الاعتراف بذنوبهم بالتوبة منها فإنه تعالى يقبل توبة التائبين من عباده متجاوزًا عن ذنوبهم عفوًا عنها: ﴿ويأخذ الصدقات﴾ أي أنه تعالى هو الذي يتقبل سائر الصدقات ويثيب عليها ويعدها فرضًا له فيضاعف ثوابها برًا بوعده تعالى القائل: {إن تقرضوا الله قرضًا
@بل إن من ضعف اليقين وثوقنا
# (بالبنك) عند ضمانه الحاجات
@والله خالقنا نقابل وعده
#وضمانه للرزق بالريبات
@ونعلق الآمال بالمسعى وبالأ
#سباب لا بالله عالي الذات
@وأمامنا الحيوان يسعى في الحيا
#ة ورزقه يلقاه في الفلوات
@من دون أن يهتم يومًا أو يضيـ
#ـق بعيشه ذرعًا من القلات
@مع أنه لا عقل يرشده إلى التـ
#ـدبير والإيجاد للأقوات
@والمرء أجدر بالوثوق بربه
#ما دام ذا عقل وذا فكرات
@لا سيما إن كان يؤمن بالإ
#له وأنه لا يخلف الوعدات
@ولقد نهى المختار من قد قال (أمـ
#ـطرنا بنوء) كذا من القطرات
@ونهى المهيمن أن يقول المرء (إني
#فاعل) هذا مع الندوات
@من دون تقديم المشيئة حيث إن
#العلم عند الله بالفعلات
@والجزم بالأفعال قبل وقوعها
#قد يوهم الإنسان بالقدرات
عليها: ﴿عليم﴾ بتصريف تلك الحاصلات والمقادير التي ينبغي أن توزع منها وما يجب أن يدخر كما سبق أن أوضحته عند تعبيري لرؤياك.
﴿وكذلك﴾ أي وبمثل ذلك الأسلوب الذي سمعتم به من ابتلاء يوسف بأنواع المصائب وصبره عليها ويقينه بصحة ما أخبره به والده من تعبير رؤياه وعدم تزعزع ثقته بمولاه: ﴿مكنا ليوسف في الأرض﴾ أي ثبتنا قدمه بها وجعلنا له السلطة الكاملة في التصرف في خيراتها: ﴿يتبوأ منها حيث يشاء﴾ أي يقيم في أي بقعة يختارها منها للإشراف على جميع المحاصيل الزراعية وخزنها لا ممانع له ولا معارض في أحكامه فالأرض جميعها ملك لنا ونحن الخالقون لها: ﴿نصيب برحمتنا من نشاء﴾ أصاب السهم لم يخطئ أي أن رحمتنا عامة تصل إلى كل حي ممن قضت مشيئتنا الأزلية رحمته بتوفير أسباب الرزق له وضمان حياته: ﴿ولا نضيع أجر المحسنين﴾ أعمالًا في هذه الدنيا إذ نكسبهم من الدرجات في الغنى والجاه بقدر ما يبذلون من جهد وما يتبعون من سنن سنها الله لنيل ذلك: ﴿ولأجر الآخرة﴾ أي ثواب الآخرة الذي أخبر الله عنه في كتبه وعلى لسان رسله: ﴿خير للذين آمنوا﴾ بالله: ﴿وكانوا يتقون﴾ أي يراقبون الله في سرهم ويخافون بأسه بل ويخجلون أن يراهم سبحانه وتعالى فيما لا يرضيه، والمعنى أن ما قاله يوسف من الجاه والسلطان في الدنيا لا يذكر إلى جانب ما أعده من ثواب له ولكل من نحا نحوه من المؤمنين المتقين في الآخرة وقد فصل الله هذا الخير بقوله: ﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أأنبئكم بخير من ذلكم الذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد﴾ وفي الحديث القدسي عن الله جلت قدرته «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
ولقد مضى يوسف في اتخاذ التدابير اللازمة لحزن الحبوب سبع سنوات كاملة فلما انقضت وجاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار المجاورة هرع الناس إلى يوسف من سائر الأنحاء ليأذن لهم بشراء ما يحتاجونه من الغلال: ﴿وجاء إخوة يوسف﴾ ضمن الوافدين إليه. وقد صحبوا معهم شيئًا من العروض التجارية ليستبدلوا بها جانبًا من القمح والشعير: ﴿فدخلوا عليه﴾ وهو في مجلسه يستأذنوه في شراء شيء من الغلال التي كان بيده أمرها: ﴿فعرفهم﴾ بشكلهم
هذا النظام العجيب في طلوع الشمس وغروبها وظهور الهلال ونموه وغيابه وتعيين مواضع النجوم في السماء لا يمكن أن يحصل دون أن يكون ذلك بقدرة الله خالقها ومقدر منازلها ومرتبها خير ترتيب: ﴿وحفظناها﴾ أي السماء.: ﴿من كل شيطان﴾ أي روح شريرة متمردة من الإنس أو الجن: ﴿رجيم﴾ أي ملعون يريدها بسوء: ﴿إلا من استرق السمع﴾ إلا أن يحاول ذلك الشيطان الصعود إليها لاستطلاع أخبارها واكتشاف أسرارها: ﴿فأتبعه﴾ أي لحق به: ﴿شهاب﴾ وهو كل مضيء متولد من النار: ﴿مبين﴾ أي واضح وهذا ما حصل فعلًا وأشارت الآية إلى أن الله جل جلاله قد حفظ ما في السماء من كواكب من عدوان من يحاول غزوها واستعمارها من المستعمرين ولكنه أذن بذلك في حدود الاستطلاع فقط عن طريق الصواريخ الموجهة الحاملة للأقمار الصناعية في عصرنا هذا ليعلم الله الإنسان ما لم يكن يعلم حتى يبلغ النهاية في عمار الأرض ويظن لنفسه القدرة على كل شيء فيأتي أمر الله: ﴿والأرض مددناها﴾ أي بسطناها وجعلناها ممتدة الطول والعرض والعمق ليتسنى للناس الانتفاع بها رغم كرويتها: ﴿وألقينا فيها رواسي﴾ أي جبالًا ثوابت أوضح الله الغاية منها في سورة النحل بقوله: ﴿وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم﴾ الأمر الذي يشير إلى أن تحطيم الجبال عن طريق القنابل الذرية سيؤدي إلى الخسف والانهيار: ﴿وأنبتنا فيها من كل شيء موزون﴾ أي أن كل نبات قد وزنت عناصره وقدرت تقديرًا دقيقًا بحيث يختلف عنصر كل نبات عن سواه وقد أثبت العلم أن عنصر البوتاس مثلًا يدخل حب الذرة بمقدار ٣٢% وفي القصب ٣٤. ٣% وفي البرسيم ٣٤. ٦% وفي البطاطس بمقدار ٦١. ٥% وبهذا التفاوت في الوزن صلحت الذرة والبطاطس لأن تكون قوتًا للإنسان والقصب لأن يكون فاكهة حلوة له والبرسيم لأن يكون قوتًا للبهائم.: ﴿وجعلنا لكم فيها معايش﴾ أي وسائل متنوعة للعيش تختلف باختلاف الكسب ليكون الناس متفاوتين في عيشهم سعادة وشقاء مع اتحادهم في العمل: ﴿ومن لستم له برازقين﴾ أي وجعلنا لكم فيها من الأولاد والخدم والدواب من تعهدنا برزقه كما قال تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ لتذكروا نعمنا وتؤمنوا بوحدانيتنا وتحكموا صلتكم بنا في هذه الحياة
بعد أن ذكر الله من دلائل وحدانيته أنه هو الذي مد الأرض وألقى فيها رواسي وأنبت فيها من كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما سنه من السنن لذلك فقال: ﴿وإن من شيء﴾
صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب الله بها الكبر والفخر» وفي حديث آخر «ما نقص مال من صدقة أو قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع عبد لله إلا رفعه» هذا ما ورد في مطلق الصدقة التي كان الرسول يدعو لها صحبه حتى كان منهم من يأتي بالكثير من أمواله فيدعو لهم وقد اعتبر الإسلام كل ما ينفق في سبيل الله صدقة حتى النفقة على العيال وجعل الأقربين أولى بالمعروف وقد فرض الله حدًّا أدنى للصدقة في مال الأغنياء للفقراء وجعله حقًّا لهم باسم الزكاة يتعين على الحاكم استيفاؤه منهم وتوزيعه على الأصناف الثمانية وقدره ربع العشر في النقدين والتجارة والعشر أو نصف العشر في المحاصيل الزراعية التي عليها مدار الأقوات وزكاة الأنعام المعروفة في كتب الحديث وأوجب كفاية المضطرين من كل جنس وفي كل زمن وضيافة الغريب الذي لا يجد مكانًا يأوي إليه وإذا وجد في مكان جماعة محصورين منهم الموسر والمعسر فقد أوجب على الأغنياء أن يقوموا بكفاية فقرائهم وجوبًا دينيًا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم وقد ورد في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأبعدنهم» ثم تلا الله قوله: ﴿وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ وأخبرنا ﷺ بما يترتب على منع الزكاة من أثر في هذه الحياة بقوله: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» وقوله: «ما تلف مال في برّ أو بحر إلا بحبس الزكاة».: ﴿وصل عليهم﴾ أي ادع لهم: ﴿إن صلاتك﴾ وقرئ «صلواتك» أي دعواتك لجميع المتصدقين: ﴿سكن لهم﴾ أي من شأنها أن تشعرهم بقبول صدقتهم وتوبتهم فتطمئن قلوبهم ويغمرها كثير من السرور والانشراح، وهذا ما يحملهم على الإكثار من الصدقات غير المفروضة: ﴿والله سميع﴾ لدعائك لهم وهو الذي وعد باستجابة الدعاء: ﴿عليم﴾ بمدى إخلاصهم في صدقاتهم وهو الذي أمرهم بها ووعدهم بالمثوبة عليها والله لا يخلف وعده: ﴿ألم يعلموا﴾ أي أولئك الذين اعترفوا بذنوبهم وأنفقوا أموالهم في سبيل الله: ﴿أن الله هو يقبل التوبة عن عباده﴾ أي عن الذنوب التي صدرت منهم فعليهم أن يردفوا الاعتراف بذنوبهم بالتوبة منها فإنه تعالى يقبل توبة التائبين من عباده متجاوزًا عن ذنوبهم عفوًا عنها: ﴿ويأخذ الصدقات﴾ أي أنه تعالى هو الذي يتقبل سائر الصدقات ويثيب عليها ويعدها فرضًا له فيضاعف ثوابها برًا بوعده تعالى القائل: {إن تقرضوا الله قرضًا
جزاء على هذا جهنم: ﴿يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ بمعنى أن من سنة الله أن يكون الجزاء على الكفر بالرسول في الآخرة، وهنا وجه الله خطابه للمؤمنين به الحريصين على اتباع أوامره بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا﴾ كما يتناجى الجهلة من الكفرة: ﴿بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ﴾ ما دمتم تؤمنون بأن الله يسمع نجواكم ويعلم ما تكنّ صدوركم ولا يخفى عليه شيء من شؤونكم كافة: ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ﴾ وهو كل عمل صالح يراد به وجه الله: ﴿وَالتَّقْوَى﴾ وهي مخافة الله والامتناع عن كل أمر لا يرضيه فالأول موجب والثاني سالب: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي راقبوه وتصوروه مطلعًا عليكم أثناء إقدامكم على أي عمل من الأعمال ما دمتم تؤمنون بمعيته لكم بالعلم ولا تشكون في أمر البعث في الحياة الأخرى حيث الحساب والعقاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
﴿إِنَّمَا النَّجْوَى﴾ التي كانت تخيف المؤمنين والتي نهى الرسول اليهود عنها: ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ بمعنى أنه هو الذي أوحى بها إلى اليهود: ﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي قراءة بضم الياء وكسر الزاي أي ليدخل الهم في قلوب المؤمنين: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي في حين أن تناجيهم أو تآمرهم على المؤمنين لا يلحق بهم أي ضرر إلا بإذن الله حسبهم وهو القادر على أن يرد كيدهم في نحرهم منّة منه تعالى وكرمًا: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾ وهذا وعد من الله قد قطعه للمتوكلين لا يمكن أن يخلفه ومن يتوكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه. ومع هذا فقد نهى الرسول ﷺ عن التناجي في المجتمعات بشكل يؤذي الحاضرين حيث قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» وعلى ذكر النهي عن التناجي بالإثم والعدوان وكل ما يؤذي المؤمنين أشار سبحانه وتعالى إلى أمر صدر من رسوله ﷺ وتأذى منه بعض الصحابة جريًا على عادات العرب في الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها، وهي أنه بينما كان ﷺ يوم الجمعة في الصفة في المكان ضيق إذ أقبل عليه جماعة من أهل بدر فوجدوا المكان مكتظًا بالناس فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد عليهم النبي السلام ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم وظلوا وقوفًا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسح لهم أحد، فشق ذلك على النبي ﷺ فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار: «قم يا فلان وأنت يا
ولم يكن لكم فيه غير السعي لاكتشاف مواضعه والبحث عن أحسن طرق الاستفادة منه: ﴿وإليه النشور﴾ نشر الله الموتى أحياهم ويوم النشور يوم القيامة أي أنه ينبغي أن يكون سعيكم في الأرض وأكلكم سعي من يعلم أن مرده إلى الله في جميع حركاته وسكناته وأكل من يعترف بالفضل لمانحه ويعترف بالنعمة لخالقها ومسديها ويؤمن بأن كل ما يأكله إنما هو من رزق الله فلا يكفر بآلاء الله وينسب كل شيء لمجهوده وعمل يده فما أنتم إلا بشر ممن خلق وما سعيكم في الحياة إلا بالروح التي وهبكم الله إياها والأرض التي ذللها لكم وما الشيء الذي تأكلونه إلا من خلق الله وفضله وهو القادر على أن يسلبكم كل هذه النعم: ﴿أأمنتم من في السماء﴾ ليس المراد بالسماء ما نشاهده فوقنا كقبة زرقاء محيطة بالأرض لأن هذا يقتضي أن تكون السماء محيطة به تعالى وهذا ما يتنزه الله عنه بل إن المراد بالسماء حقيقتها وهي في اللغة كل ما علاك والله سبحانه أعلا من جميع مخلوقاته فهو قادر على: ﴿أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور﴾ الخسف: السقوط والغيبة عن الأنظار. والمور: الغبار المتردد في الهواء بمعنى لا يبقى لكم وجودًا بالمرة: ﴿أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا﴾ الحاصب الريح الشديدة التي تحمل الحصباء أو السحاب الذي يرمي بالبرد من كل ما يضر الإنسان ولا يبقي على جميع أعماله: ﴿فستعلمون﴾ عندما يحل بكم شيء من هذا: ﴿كيف نذيري﴾ بمعنى هل كان النذير محقًّا فيما توعدكم به أم لا وليس هذا على قدرة الله ببعيد فقد حدث مثل هذا من قبل وحل بعاد وثمود من أنواع العذاب المفاجئ ما لا تزال آثاره قائمة وقد أشار إليها تعالى بقوله: ﴿ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير﴾ النكير: اسم من الإنكار معناه التغيير أي إنكاري وتغييري للسنن واستعجال العذاب في الدنيا قبل الآخرة الأمر الذي يدل على كمال قدرة الله على إيصال العذاب لكل من يغضبه دون أن يعجزه شيء وهناك من البراهين العديدة ما يؤيد هذه القدرة وقد عددها تعالى إذ قال: ﴿أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات﴾ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها: ﴿ويقبضن﴾ أي يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن: ﴿ما يمسكهن﴾ في الجو من السقوط بالرغم عن ثقلها وضخامة أجسامها: ﴿إلا الرحمن﴾ فقد يقال إن الهواء هو الذي يحمل الطائر متى بسط جناحيه فرد الله هذا الزعم بأنه لو كان هذا حقًّا لسقط إلى الأرض عندما يقبض جناحيه بل إن الذي يمسكه من الوقوع إنما هو قوة الله مصدر الرحمة فالطير والطائرات إنما تعتمد على قوة الله في طيرانها وتدين بسلامتها لرحمة الرحمن
إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣) وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (٣٥) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (٤٠)}
(سورة النبأ) لقد اشتملت سورة المرسلات التي سبقت هذه السورة بذكر البعث والأدلة العقلية على صحته وتهديد المكذبين به وإنذارهم بأشد أنواع العذاب.
ولما كان هذا الموضوع من الأمور الغيبية التي لا يستسيغها أصحاب العقول القاصرة التي لا تؤمن إلا بالمحسوسات وكان العرب حديثي عهد بالإيمان بالغيب فقد أصبح هذا الأمر حديث الناس في المجالس الخاصة والعامة فأنزل الله قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ﴾ عن أي شيء يسأل بعضهم بعضًا، إنهم يتساءلون: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ الذي حيَّر أفكارهم وطغى على مداركهم: ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾: فقلوبهم لا تزال مترددة في التصديق ببعث أجسامهم بعد فنائها مرة أخرى ولكنها في الوقت نفسه وجلة مما يترتب على الإنكار من العذاب الأليم في ذلك اليوم.
﴿كَلاَّ﴾ لا داعي للتخالف فإن ما أخبروا به حقيقة واقعة و: ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾: علم اليقين بصحة البعث.
﴿ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾: بما سينالهم نتيجة المكابرة في أمر مشاهد محسوس فهم بترددهم في تصديق أمر البعث إنما ينكرون قدرة الله على ذلك وقدرته بادية وثابتة عندهم بما أحدثه تعالى من جميع المخلوقات، ومن أحدث الشيء وأوجده من العدم بقدرته لا شك أنه قادر على تخريبه وإعادته كما بدأ أو إبداله بما يريد، ومن أجل هذا أخذ سبحانه وتعالى يعدد من عجائب مخلوقاته ما يثبت به عظيم قدرته. فقال أولًا: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ﴾ التي يعيشون عليها: ﴿مِهَادًا﴾ أي ممهدة مذللة للسير والسكن وقرئ (مهدًا) أي كالمهد للصبي.


الصفحة التالية
Icon