ذلك لأنه مناف لنظام مشيئته الذي يقضي بأن يكون لهم كامل الحرية في الرأي والعقيدة والقول والعمل فمن حقهم أن ينظروا إلى الأشياء بالمنظار الذي يريدونه ليحاسبوا على ذلك يوم القيامة وبعد أن قسم الله الناس إلى ثلاثة أقسام. متَّقٍ، وكافر، ومن لا دين له؛ ولعلهم من الذين يسمون بلغة هذا العصر «علمانيين» ويرون أن العلم ينافي الدين، أخذ جل وعلا يدعو الناس جميعًا إلى عبادته مقال ﴿يا أيها الناس﴾ من عرب وعجم وسائر الأمم ﴿اعبدوا ربكم﴾ العبادة في اللغة مشتقة من العبودية بمعنى الاسترقاق ومقتضاها عند العرب أن يسخر العبد كل جهوده وقواه في خدمة مولاه. والخلق كلهم عبيد الله فهو بلا شك سيدهم وقد خلقهم لعمار الكون بما يرضيه من صالح الأعمال التي فيها نفعهم حيث قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. أي ليعملوا في الحياة من أجلي فدل هذا على أن جميع أعمال العباد في الحياة عبادة متى كانت قائمة على أساس الإيمان بالله وفي سبيل مرضاته. ومن أجل هذا كان خلوص العمل شرطًا أساسيًا في اعتباره عبادة وكان طلب العبد من مولاه قبوله والجزاء عليه روح كل عبادة ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية الدعاء هو العبادة وتلا قوله تعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ وهذا يدل على أن الله تعالى يطالب الناس جميعًا في هذه الآية بأن يعترفوا له بالعبودية ويخلصوا له الأعمال ويخصوه وحده بالدعاء لأنه تعالى هو الإله الواحد الذي يسمع النداء ويجيب الدعاء ويقضي الحوائج، ويحقق الآمال، وتوجيه الدعاء إليه دليل قاطع على الاعتراف بقدرته والإذعان لأوامره، والإقرار بالعجز عن إدراك أية غاية أو دفع أي ضر إلا بإرادته ومعونته وتوفيقه، وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو ﴿الذي خلقكم﴾ أي أوجدكم من العدم ﴿والذين من قبلكم﴾ من الأمم وإذا كان هو وحده الموجد لكم جميعًا فما يكون لكم أن تعتقدوا قدرة غيره على جلب النفع أو دفع الضر، وما يكون منكم أن تطلبوا قضاء مصالحكم من أحد سواه، ﴿لعلكم﴾ بعبادته هذه ﴿تتقون﴾ أي تكونون في عداد المتقين الذين وصفهم الله فيما سبق وقال إنهم ﴿على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ وهو ﴿الذي جعل لكم الأرض فراشا﴾ أي مهدها لكم حتى تكون صالحة لسكنكم وراحتكم من غير عناء ﴿والسماء بناء﴾ متقنًا محكمًا متماسكًا حافظًا لتوازنه، ولولا ذلك لكنتم مهددين بسقوطها عليكم ﴿وأنزل من السماء ماء﴾ ليس في مقدوركم الوصول لمعرفة كنهه ولا حقيقة تركيب عناصره وأبعاده ومواده،
على المتسبب فيه والبادئ بالقتال أظلم. وقرئ «تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم»، و ﴿كذلك جزاء الكافرين﴾ وهكذا أجزاء من أعطي الأمان فرفضه وحاول الغدر بعد الأمان، أن يقتل حتى في مأمنه وتكون التبعة عليه ﴿فإن انتهوا﴾ عن الكفر بأن أعلنوا الإيمان وأظهروا الطاعة ﴿فإن الله غفور﴾ يمحو عن العبد ما سلف منه إذا تاب عن جرمه ﴿رحيم﴾ بمن ذل وأعلن الاستسلام فليكن ذلك شعاركم وشأنكم معهم يا معشر المؤمنين ﴿وقاتلوهم﴾ بعد ذلك إذا آنستم منهم رغبة في في السيطرة عليكم والتحكم فيكم ﴿حتى لا تكون فتنة﴾ أي لئلا يكون لهم قوة يستطيعون بها فتنتكم وتوجيه الأذى إليكم أثناء الدعوة إلى دين الله ﴿ويكون الدين لله﴾ أي ولأجل أن يكون السلطان والحكم بين الناس لله وحده ولكتابه المنزل ويكون الدين خالصًا لله وحده لا أثر لخشية غيره معه وليس هناك من يصد عنه أو يفتن فيه ﴿فإن انتهوا﴾ عن نيتهم السيئة ونعرتهم الجاهلية ﴿فلا عدوان إلا على الظالمين﴾ الذين يحاولون تعكير الصفو والاستئثار بالحكم من دون الله.
بعد أن بين الله للمؤمنين الخطة التي يجب أن يسيروا عليها في مقاتلة أعدائهم عند بلوغهم المسجد الحرام أراد سبحانه أن يبين لهم حكم القتال في الأشهر الحرم فقال ﴿الشهر الحرام﴾ ويطلق على كل شهر من الشهور التي حرم الله فيها القتال وحافظ العرب على حرمتها في الجاهلية وهي أربعة: محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ﴿بالشهر الحرام﴾ من استحل دمكم في الأشهر الحرم فاستحلوا دمه فيها ﴿والحرمات قصاص﴾ فلا يحل لكم أن تنتهكوا الحرمات على سبيل التعدي بل على سبيل القصاص والمماثلة ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ فقابلوا اعتداءه بجزاء مماثل له ﴿واتقوا الله﴾ فلا تعتدوا على أحد ولا تبالغوا في الإيذاء ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾ بقوته ومعونته وتأييده ﴿وأنفقوا﴾ أموالكم ﴿في سبيل الله﴾ أي لإعداد العدة وما يستلزمه القتال ﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ توقعوا أنفسكم ﴿إلى التهلكة﴾ وذلك بأن تحجموا عن القتال في سبيل الله والإنفاق من أجله وتقولوا إنما نخاف القتل إذا قاتلنا والفقر إذا أنفقنا، لأن ذلك قنوط من نصر الله
@وذنوبنا مهما علت وتكاثرت
#في جنب عفوك ذرة الذرات
@سبحانك اللهم لولا جرمنا
#ما كان للغفران من ثمرات
@فامنن أيا منان منك بنظرة
#لا تبقي لي نظرًا إلى الفتنات
@يا صاحب اللطف الخفي ومن إذا
#حم القضاء أتيت بالنجدات
@عودتني صنع الجميل فما غدا
#لليأس سلطان على خطراتي
@وغمرتني بالفضل منك كأنني
#ما كنت إلا مهبط المنات
@فعجزت عن إحصاء مالك من يد
#عندي وما سترت من عوراتي
@أنت الكريم تزيد خيرًا من تشا
#وتمن بالتقتير عن حكمات
@فبدون عسرك لم يكن من لذة
#لليسر فهو السر في اللذات
«نعم... حسبي أن أجد من عقلاء الأمة ومفكريها وقادة الرأي فيها كل تقدير وتأييد. فمن الواضح بداهة أنني لم أقصد بكل ما قلته إلا أن أقرر للملأ حقيقة قد لا يختلف فيها اثنان ذلك أن الله جل جلاله الذي خلق الخلق كما يريد لا يمكن أن يعتور أحكامه شيء من التقييد والإلزام إلا ما فرضه هو على ذاته العلية من ضرورة الإنذار والتنبيه على ألسنة رسله ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا﴾ لتكون أحكامه واجبة التقديس والتنزيه.
وأما القول بأن الله لا يستطيع أن يغير أو يبدل في أحكامه بأعمار الخلق وأرزاقهم فهذا وهم من شأنه أن يقف حائلاً دون سعادة الإنسان بحسب ما يقضي به دستور الله الأزلي خصوصًا وقد ثبت في الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن صلة الرحم تزيد في العمر» وروى أحمد قوله: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» وهذا لا يتنافى مع علمه تعالى بذلك من الأزل إذ يقول: ﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب﴾ كما أسلفنا فمن أيقن بأن الله قادر على كل شيء، ووثق بأن الله كريم ورحيم، لا يضن بالعطاء ولا يوصد بابه في وجه من رجاه، من أيقن بهذا لابد أن ينال منه ما يريد، وأما من لم يؤمن بقدرة الله أو من يجعل لكرمه ورحمته حدًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فإنه لا يضر إلا نفسه يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين﴾ ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون﴾ فهذا وعد صريح من الله جلت قدرته قطعه على ذاته العلية للناس كافة بأن يحقق لكل فرد ما يريد من سعادة في الدنيا والآخرة. فما قيمة هذا الوعد عند من يقول إن الإنسان لا ينال في الحياة إلا ما قدر له في الأزل فقط دون زيادة أو نقص مهما دعا ومهما عمل وقد أوضحنا المراد بالقدر بأنه أحكام الله الشرطية التي سنها لعباده، والآية صريحة في إن إنالة الإنسان ما يريد حق من حقوقه على الله برًا بوعده تعالى له فتطبيق السماء على الأرض أيسر على الله من أن يخلف سبحانه وعده بل إن في قوله تعالى: ﴿وسنجزي الشاكرين﴾ مجالاً متسعًا للطمع في ازدياد نعمة الله ووافر كرمه لمن آمن بعظيم قدرته وأكثر من طلباته، ووثق بنيلها وبالغ في الشكر عليها.
الظاهر موضع الضمير فقال: ﴿واستغفر لهم الرسول﴾ باعتباره مبلغًا للرسالة ورفضها ازدراء بالرسول وهو يشمل كل داع إلى الله أو منفذ لأوامره، ﴿لوجدوا الله توابًا﴾ على التائبين المستغفرين، ﴿رحيمًا﴾ بالمذنبين المعترفين بذنوبهم لمن أساءوا إليهم الراجين الصفح عن سيئاتهم ـ ﴿فلا وربك﴾ أي: وما داموا لم يجيئوا إليك مستغفرين نادمين فإنهم ﴿لا يؤمنون﴾ أي: لا يتصفون بحقيقة الإيمان ﴿حتى﴾ يزيلوا ما كان في قلوبهم من ميل وتفضيل لحكم الطاغوت على حكم الله ويأتوك ﴿يحكموك﴾ من تلقاء أنفسهم ﴿فيما شجر بينهم﴾ من خلاف ﴿ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا﴾ ضيقًا أو كراهة ﴿مما قضيت﴾ من حكم قد لا يرضى به الخصوم إذا لم يكن في صالحهم أو على غير ما يريدون لأن الإيمان بالله يجعله يوقن بأن ذلك هو العدل الذي يرضاه الله من عباده ﴿ويسلموا تسليمًا﴾ ينقادون إليه طائعين مختارين، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ في هذا أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في ماء يسقي به نخله وكانت أرض الزبير العليا وأرض الأنصاري السفلى فقال الرسول ﷺ للزبير «اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك» فلم يقتنع الأنصاري بهذا الحكم وقال ألأجل أنه ابن عمتك ـ فتلون وجه الرسول ﷺ لأنه لم يكن من العدل ولا من المنطق أن يأمر الرسول بسقي أرض الأنصاري السفلى قبل العليا بل إنه لم يأمر الزبير بالاكتفاء بمجرد السقي إلا رحمة بالأنصاري ومراعاة لواجب حسن الجوار، فلما لم يرضه ذلك قال عليه الصلاة والسلام للزبير: «اسق أرضك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجذر» أي: استوف حقك أولًا كاملًا ثم اترك لصاحب الأرض السفلى ما بقي وهذا هو ما يقضي به واجب العدل الصريح.
الحالات التي يجوز فيها التيمم عن الحدث الأصغر والأكبر ولولا هذا لما كان في الآية ما يدل على أن التيمم يجزئ عن الغسل وقد أوضح الله صفة التيمم بقوله (صَعِيدًا طَيِّبًا) أي فاقصدوا ترابا أو أي مكان من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا أيديكم عليه (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي لا حاجة في التيمم إلى مسح الرأس أو الرجل (مَا يُرِيدُ اللهُ) فيما شرعه لكم من أحكامه (لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي أدنى ضيق أو أقل مشقة (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي يطهر نفوسكم من كل ما يدنسها بالتزام الطاعة وعدم التفريط في شيء منها (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بالجمع
<٣٤>
بين طهارة الأجساد وصحتها وتزكية النفوس وسلامتها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه الظاهرة والباطنة (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إذ كنتم كفارا متباغضين متعادين فأصبحتم بما أنعم عليكم بالهداية إلى الإسلام إخوانا في الإيمان (وَ) اذكروا (مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) أي عهده الذي عاهدكم به حينما بايعتم رسوله محمد ﷺ على السمع والطاعة (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) وفي مقدمة ذلك العهد القتال لإعلاء كلمة الله والدفاع عن بيضة الإسلام فكيف بالحرص على إقامة الصلاة التي هي عماد الدين ومن هدمها فقد هدم الدين (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أيها المؤمنون فلا تنقضوا عهده بمخالفة أوامره والإقدام على معاصيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لا يخفى عليه ما يضمره كل واحد منكم من قصد عدم الوفاء بعهد الله أو عدمه وما تنطوي عليه صدوركم من إخلاص أو رياء.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالتقوى والتأكد من أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء مما يضمرونه أخذ يأمرهم بما يقتضيه ذلك من ضرورة الانقياد إلى التكاليف وهي مختصرة في أمرين
الأول الاعتماد على الله واستمداد القوة منه
والثاني التزام واجب العدل بين العباد والذي نزل به دستوره السماوي القرآن الذي هو آخر الشرائع والذي يضمن السعادة للناس كافة في هذه الحياة باعتبارهم خلفاء الأرض في العهد الأخير فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وعلمه بما في صدوركم (كُونُوا قَوَّامِينَ) القوام بالأمر هو الأمير أو الحاكم وقد قال ﷺ «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو المسئول عن
هو إلا بسبب كفرانه بالنعم وتكذيبه الرسل كقوله: ﴿ضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾ وقوله: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون﴾.
بعد أن بين الله ما سيكون من أولئك القوم من إعراض عن تدبر آيات الله، وتكذيب دينه الحق، أخبر رسوله بما سيؤول إليه أمرهم من إصرارهم على الضلال، ومحاولتهم تعجيزه عليه الصلاة والسلام بمختلف الطلبات من خوارق العادات. فهذا شأن كل معاند، وهذه سنة الله في كل متصلب لرأيه، متمسك بتقاليد آبائه، لا يحكم عقله بل يتبع هوى نفسه. فقال: ﴿ولو نزلنا عليك﴾ القرآن ﴿كتابًا في قرطاس﴾ أي مكتوبًا في سجل خاص وأبصروه أثناء نزوله إليك من السماء ﴿فلمسوه﴾ عند وصوله للأرض ﴿بأيديهم﴾ مما لا يجعل مجالًا للقول بأنه من وضعك أو إنشائك ﴿لقال الذين كفروا إن هذا﴾ ما رأينا ولمسنا ﴿إلا سحر مبين﴾ أي واضح. فهذه السحرة تقلب العصا إلى ثعابين وتقطع الرؤوس وتسيل الدماء، وليس شيء من ذلك حاصلًا، وإنما هو من خداع النظر ﴿وقالوا لولا أنزل عليه ملك﴾ يساعد في نشر الدعوة بحيث يسمعون حديثه ويرون وجهه، كما اقترح مشركو العرب هذا، وحكاه الله عنهم بقوله في سورة الفرقان ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا﴾ أي أنهم من فرط غرورهم، يستنكفون من اتباع بشر مثلهم ويأبون إلا أن يطلبوا أمرًا لا يمكن تحقيقه وهو جعل الرسالة إليهم عن طريق الملائكة من المخلوقات غير المنظورة. وقد أجاب الله على قولهم هذا بالرفض لسببين: الأول قوله: ﴿ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر﴾ أي لاكتفينا به عن إرسال الرسل من البشر ﴿ثم﴾ هم بعد تحقيق طلبهم هذا ﴿لا ينظرون﴾ فإن دستور الله في خلقه يقضي بأنه متى علقت الأمة إيمانها على شيء، وحقق الله لها ذلك الشيء، فلم تؤمن، كان هذا من موجبات هلاكها. وما كان الله ليهلك آخر الأمم الذين أنعم عليهم بخاتم النبيين من أجل عناد أفراد منهم.
السبب الثاني: قوله ﴿ولو جعلناه﴾ أي الرسول ﴿ملكًا﴾ أي من المخلوقات غير المنظورة ﴿لجعلناه رجلًا﴾ أي لكان لزامًا أن يأتيهم الملك على صورة رجل يرون شخصه ويسمعون
تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةََ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٦٠) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا
حينئذ ماذا يسمى مسيا وما هي العلامة التي تعلن مجيئه «١٤» أجاب يسوع أن اسم مسيا عجيب لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي «١٥» قال الله اصبر يا محمد لإني لأجلك أريد أن أخلق الجنة والعالم وجمًّا غفيرًا من الخلائق التي أهبها لك حتى أن من يباركك يكون مباركًا ومن يلعنك يكون ملعونًا ١٦ ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة حتى أن السماء والأرض تهنان ولكن إيمانك لا يهن أبدًا «١٧» إن اسمه المبارك محمد «١٨» حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين يا الله أرسل لنا رسولك يا محمد تعال سريعًا لخلاص العالم».
بعد أن عين الله جل جلاله من سيكتب لهم رحمته في عهد موسى وما بعده ممن يؤمنون بجميع آياته وعرفهم بأنهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ولخص لهم شريعته وجه خطابه إلى نبيه محمد ﷺ وأمره بأن يعلن عن نفسه أنه هو ذلك الرسول الذي بشرت برسالته الكتب السابقة وأن يدعو الناس أجمعين إلى الإيمان بالله واتباع شريعته فقال ﴿قل يا أيها الناس﴾ من عرب وعجم في سائر أنحاء المعمورة ﴿إني رسول الله إليكم جميعًا﴾ فمن قال إنه رسول إلى العرب خاصة فهو كاذب مكذب لهذا النص من كلام الله ﴿الذي له ملك السماوات والأرض﴾ الخالق لهما ولكل ما فيهما والمدبر لشئون خلقه كافة فهو وحده ربهم ﴿لا إله إلا هو﴾ المنفرد بالألوهية الذي لا يستحق العبادة أحد سواه ﴿يحيي ويميت﴾ أي المتفضل على الناس بالإيجاد والفناء والذي ينزع الحياة بقدرته منهم متى أراد، الأمر الذي لا يستطيع أن يجحده أحد من العالمين ﴿فآمنوا بالله﴾ الذي عرفتكم به وأبلغتكم برسالتي عنه ﴿ورسوله النبي الأمي﴾ الذي بشر به من قبل ﴿الذي يؤمن بالله﴾ أي بما يدعوكم إليه من توحيد الله ﴿وكلماته﴾ التي أوحى بها إليه لهداية الخلق إلى ما فيه نفعهم في الدنيا والآخرة ﴿واتبعوه﴾ بتنفيذ كل ما يأمر به وينهى عنه ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي تبلغون درجة المهتدين. وهذا تصديق لما جنحنا إليه من أن الهداية لا تنال بمجرد الأمل في نيلها من عند الله من غير عمل بل لا بد للحصول عليها من سلوك سبيلها الوحيد وهو الإيمان والعمل الصالح الذي به يكون اتباع الرسول في العبادات من الأوامر والنواهي دون البدع والخرافات التي أحدثها المبتدعون في دين الله ودون المستحبات مما هو من قبيل الأمور العادية الشخصية التي لا علاقة لها بالدين ولا يترتب عليها نفع أو ضرر وكان
ولأنهم لاحظوا فيها شيئًا من الاستسلام لقريش بحق تأباه كرامتهم. ولم يستطع عمر أن يتمالك نفسه وأخذته ثائرة العزة والشهامة فذهب عمر يتحدث مع أبي بكر في أمرها وكيف يرضى رسول الله بالعودة دون بلوغ قصده وكيف يقبل أن يعاهد قريشًا وهم مشركون وكيف يرضى أن يرد إلى قريش من آمن به وهي لم تعطه مثل هذا الحق. وفي هذا ما فيه إظهار المسلمين بمظهر العاجزين عن الذود عن كرامة المسلم فلم يجد من أبي بكر غير كلمة واحدة «يا عمر الزم غرزك فإني أشهد أنه رسول الله» - أي قف عند حدك فما يكون لي أن أعترض على محمد وأنا أعلم أنه رسول الله وهو أكثر غيرة على دين الله وكرامة المؤمن مني ومنك فلم يقتنع عمر بمثل هذا الجواب لما عوده رسول الله به من الشورى وحرية الرأي فذهب إلى الرسول وهو ممتلئ غيرة على دين الله فقال عمر: يا رسول الله ألست برسول الله؟ الرسول: بلى. عمر: أو لسنا بالمسلمين؟ الرسول: بلى. عمر: أو ليسوا بالمشركين. الرسول: بلى. عمر: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ الرسول: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
وما كاد الرسول ينطق بهذه العبارة حتى أدرك عمر أن هذه المعاهدة كانت بأمر من الله لا نتيجة اجتهاد من الرسول فأحس بخطئه فيما تكلم به عن حسن قصد وندم على ذلك وأخذ يصوم ويصلي ويتصدق ويعتق تكفيرًا لما بدر منه يومئذ.
ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وقال له اكتب – بسم الله الرحمن الرحيم – فاعترض سهيل على هذه الجملة وقال لا أعرف هذا ولكن اكتب كما كنا نكتب سابقًا – باسمك اللهم – فقال رسول الله اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال اكتب – هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله اكتب – هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن رده عليهم ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه وأن عيبة (أي صدورًا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة) مكفوفة وأنه لا أسلال – أي السرقة الخفية – ولا أغلال – أي الخيانة – وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه – وهنا وثبت خزاعة فقالوا نحن في عقد محمد وعهده –
تعلم علم الهيئة والجغرافيا الفلكية لمعرفة حساب السنين والشهور لتنفيذ أوامر ديننا وتنظيم معاملاتنا: ﴿ما خلق الله ذلك﴾ أي الشمس ذات الوهج الذي يفيد الحيوان والنبات والقمر ذا النور الذي يهدئ الأعصاب وينتفع به السيارة في مسراهم وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور: ﴿إلا بالحق﴾ الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق ونظام معايشهم ومنافعهم المتعددة لا لمجرد اللهو والعبث: ﴿يفصل الآيات لقومٍ يعلمون﴾ أي لمن أوتي من العلم ما يؤهله للبحث والتأمل في ملكوت الله لاستنباط الحكمة من كل شيء ما دام يعلم أن الله الحكيم لم يخلق خلقًا ولم يقدر قدرًا إلا لمصلحة خفية تعلم بالتأمل والاستقراء أما الجهلة فهؤلاء أفكارهم لا تتسع إلا لما تحت سمعهم وبصرهم ولا يجهدون أنفسهم في اكتشاف الغاية من سنن الله وما ترمي إليه من صالح أمر الإنسان: ﴿إن في اختلاف الليل والنهار﴾ أي في تخصيص أولهما بالظلمة للسكون والراحة وثانيهما بالضياء للعمل لنيل الغايات وتعاقبهما وطولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض والأزمنة: ﴿وما خلق الله في السماوات والأرض﴾ أي وفي اختلاف أنواع ما خلقه الله من الجمادات والحيوانات ودقة صنعها وتركيبها واختلاف طبائعها وأمزجتها والنبات وأنواع ما هو صالح لأكل الإنسان ومنه ما هو صالح لأكل الحيوان ومنه ما تتجلي برؤياه الأنظار ومنه ما تروح النفس بطيب رائحته وشذاه ومنه ما هو علاج للناس ومنه ما هو سم زعاف وإن في كل ذلك: ﴿لآيات﴾ أي دلائل وبينات قاطعة على وجود الله وعظيم تقديره وفائق حكمته وفضله على بني الإنسان من شأنها أن تخضع كل عاقل لقدرته وعظيم سلطانه وتحمله على واجب شكره ولذا قال: ﴿لقومٍ يتقون﴾ عواقب مخالفة سننه في كل شيء فالأمة التي تخالف سنن الله الصحية معرضة دائما للأمراض الوبائية، والذين يخالفون سنن الله الاجتماعية والعمرانية يوشك أن تحل بهم أنواع من الصعاب والخراب، والفوضى والاضطراب، وكذلك الأفراد الذين يكفرون بنعم الله ويخالفون هداية الشريعة في تزكية النفس ويدنسونها بالشرك والخرافات ويفسدونها بالفواحش والمنكرات كل هؤلاء سيلقون جزاءهم في الآخرة حيث ينبؤهم الله بأعمالهم ويقضي بينهم بحكمه الذي أنزله عليه جل جلاله.
وعلا لإبادتهم عن آخرهم حتى لا يبقى لهم بقية: ﴿وما هي من الظالمين ببعيد﴾ جرى المفسرون على أن الضمير يرجع إلى قرى لوط التي حل بها العذاب وأنها قريبة من مشركي مكة وواقعة على طريقهم في رحلة الصيف ما بين المدينة والشام بحيث يمكنهم مشاهدتها والاتعاظ بها وهذا غير وجيه لأن موقع تلك القرى مجهول ولا علم للناس به إلا عن طريق ما جاء في الكتب السماوية، وقال علماء الأرض أنها واقعة تحت بحيرة لوط وقيل إن بعض الباحثين عثروا على شيء من آثارهم هناك ويلوح لي أن الضمير يعود إلى الحجارة المسومة عند ربك وأن المراد من عدم بعدها من الظالمين أنها قريبة منهم بحيث لا يصعب إبادتهم بها في كل وقت. يؤيد هذا ما رُوِيَ عن أنس أنه قال سأل رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام عن هذا فقال يعني عن ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض لحجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، ونحن إذا ما دققنا النظر في الآية لا نرى لإمطار الحجارة عليهم بعد قلب دورهم من معنى إلا أن يكون ذلك بقصد إبادة تلك القرى من الوجود، ونحن إذا تأملنا فيما وصف الله تلك الحجارة نرى أنه لا يبعد أن تكون من نوع ما توصل العلم إلى اكتشافه من عناصر الذرة التي أعدها الله للعذاب والتي وصفها سبحانه بالمنضود في انضمامها إلى بعضها وبالمسومة في سرعة انطلاقها إلى أهدافها والتي اكتشفها الظالمون اليوم لإبادة بعضهم بعضًا وتخريب بيوتهم بأيديهم ولا بد أن يصطلوا بنارها عما قريب وفق ما جاء في الحديث المذكور فهم لم يخرجوا عن كونهم من ظالمي آخر الأمم الذين أرسل رسولنا ﷺ إليهم كافة والله أعلم.
بعد أن أتم الله ذكر قصة لوط أخذ يذكر قصة شعيب فقال: ﴿وإلى مدين﴾ أرسلنا: ﴿أخاهم﴾ في النسب: ﴿شعيبًا﴾ داعيًا بنفس الدعوة التي جاء بها من قبله من الرسل إذ: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ وحده ولا تدعوا معه غيره: ﴿ما لكم من إله﴾ يستطيع نفعكم أو ضركم: ﴿غيره﴾ فهو وحده الذي يسمع النداء ويجيب الدعاء ويقضي الحوائج ويدفع البلاء. ولما كان أغلب قومه من التجار المطففين: ﴿الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾ أخذ ينهاهم عن ذلك ويضع لهم تشريعًا في التعامل من شأنه أن يضمن سعادة البشر في هذه الحياة فقال: ﴿ولا تنقصوا المكيال والميزان﴾ بمعنى لا تتلاعبوا في أمر المكاييل والموازين فهذا من شأنه أن يفقدكم الثقة فيما بينكم ويجعلكم تسيئون الظن ببعضكم
والإنس والجان جميعًا خاضعون منقادون لله لأن حركاتهم وسكناتهم كلها بيد الله سواء أحبوا ذلك أم كرهوا: ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ الظلال: جمع ظل وهو الخيال الذي يظهر للأشياء المادية والمراد به الهيكل الجثماني للحيوان الذي يمثل نفسه للعيان، والغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والآصال وهو ما بعد العصر إلى الغروب، والمعنى أن ظلال من في السماوات والأرض من هذه الأجسام القائمة مسلمها وكافرها كلها تخضع لإرادة الله بيقظتها إذ تقوم من مرقدها صباحًا للعمل ونومها عشيًا إذ تأوي إلى مضاجعها وليس في مقدورها أن تقاوم إرادة الله في هذين الوقتين فهي خاضعة ومقهورة على ذلك حبت أم كرهت.
بعد أن أقام الله الأدلة على وافر قدرته وعظيم حكمته وأكد خضوع كل حي في الوجود لأمره في حركته وسكونه ويقظته ونومه أمر رسوله أن يدعو المشركين إلى الإيمان، بأسلوب حكيم يلزمهم الحجة ويقيم لهم البرهان العقلي القاطع على وحدانية الله وشمول قدرته وإرادته، وأنه لا رب غيره، ولا معبود سواه فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن يعارضك من المشركين: ﴿من رب السماوات والأرض﴾ أي خالقها وموجدها من العدم؟ ولما كانوا جميعًا يعتقدون بوجود الخالق ولكنهم ربما اختلفوا في الاسم الذي يطلقونه عليه أمره تعالى أن يسمه باسم يجمعون عليه إذ قال: ﴿قل الله﴾ أي لنجمع على تسميته بالله ثم بعد ذلك: ﴿قل﴾ لهم: ﴿أفاتخذتم من دونه أولياء﴾ أي أصحيح أنكم جعلتم لأنفسكم من دون الله رب السماوات والأرض معبودات من الجمادات أو المخلوقات تدعونها لتفريج الكرب وقضاء الحوائج بينما هم: ﴿لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا﴾ ومن عجز عن نفع نفسه فهو عن نفع غيره أعجز لهذا فإني لا أكاد أصدق هذا وأربأ بكم أن تنحط مدارككم إلى هذا الحد ثم: ﴿قل﴾ لهم أيضًا: ﴿هل يستوي﴾ في الإدراك: ﴿الأعمى﴾ الذي يسير في حياته على غير هدى: ﴿والبصير﴾ الذي تتضح أمامه السبل ليسلك ما راق له منها سيكون الجواب على هذا قطعًا بعدم التساوي ومعنى هذا أن من عرف الله رب السماوات والأرض وأبصره في مخلوقاته لا يمكن أن يتخذ من دونه أولياء: ﴿أم هل تستوي الظلمات﴾ التي تحيط بالإنسان فتجعله قابعًا في مكانه خائفًا: ﴿والنور﴾ الذي يحفزه على العمل غير هياب ولا وجل سيكون الجواب على هذا أيضًا بعدم التساوي، والكفر بالله معناه بقاء الإنسان في ظلمات الجهل والإيمان اهتداء بما جاء به الرسل من أضواء تكشف للناس سبل الخير وتحضهم على العمل النافع
بعد أن عدد الله الأسباب التي من أجلها أنكر المشركون أمر البعث وختمها بإصرارهم على ذلك وتأكيد ذلك بالقسم على جحوده الأمر الذي قد يحملهم على إيذاء من يخالفهم من المسلمين المؤمنين بأمر البعث وإنزال أنواع العذاب بهم أخذ يحبب إلى المؤمنين الهجرة من ديار الكفر فرارًا بدينهم وحفظًا لكرامتهم فأوحى إلى رسوله بما ضمنه سبحانه وتعالى لهم من سعادة الدارين فقال: ﴿والذين هاجروا﴾ من ديارهم: ﴿في الله﴾ أي في سبيل إرضاء الله وإقامة لشعائره: ﴿من بعد ما ظلموا﴾ سواء بمصادرة أموالهم أو التضييق عليهم في أمر معاشهم أو الحيلولة دونهم ودون إقامة شعائر دينهم ونشر الدعوة إليه: ﴿لنبوئنهم في الدنيا حسنة﴾ أي لنسكننهم ديارًا أخرى أحسن من ديارهم التي هاجروا منها يسعدون فيها بنعمة الأمن على أنفسهم أموالهم والاحتفاظ بدينهم وما يقربهم إلى ربهم: ﴿ولأجر الآخرة﴾ على الهجرة: ﴿أكبر﴾ مما سيجعل لهم في الدنيا: ﴿لو كانوا﴾ أي المهاجرين: ﴿يعلمون﴾ إذن لما تألموا مما يصيبهم من أضرار مادية بسبب الهجرة وشدائدها ولأقبلوا عليها بكل شوق وسرور: ﴿الذين صبروا﴾ على مفارقة الوطن وتحمل المشاق في سبيل الله: ﴿وعلى ربهم يتوكلون﴾ في أمر معاشهم على فضل الله ومعونته وتيسيره إلى جانب سعيهم لبلوغ ذلك وفق سنن الله من الأعمال المشروعة.
بعد أن أوحى الله إلى رسوله بما ضمنه تعالى من حسن جزاء للمهاجرين في الدنيا والآخرة أخذ يؤكد هذا الضمان بتأييد رسالة رسوله بتفصيل ما اقتضته حكمته الإلهية وما جرت به سنته في تبليغ رسالته العامة للبشر من أنها لا تكون إلا بواسطة فرد منهم يختاره سبحانه وتعالى لذلك ويوحي إليه بما يؤيد رسالته فقال: ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم﴾ فلا محل لاعتراض قومك على رسالتك بمثل ما اعترضت به الأمم السابقة على رسالة رسلها بما حكاه الله عنهم بقوله: ﴿ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذًا لخاسرون﴾ فما عليك إلا أن تحيل المعترضين إلى أنفسهم ليتأكدوا من هذه الحقيقة بقوله لهم: ﴿فاسألوا أهل الذكر﴾ من علماء الأخبار هل كان فيما علموه أن تكون الرسالة من الله للبشر عامة عن طريق الوحي مباشرة لكل فرد أم لرجال خصوا بالتقى والصلاح وتحمل أعباء الرسالة: ﴿إن كنتم لا تعلمون﴾ أي لم يصل إليكم العلم: ﴿بالبينات﴾ أي بأمر المعجزات التي أجراها الله على أيدي من اصطفاهم لرسالته: ﴿والزبر﴾ أي الكتب المنزلة عليهم: {وأنزلنا
تعلم علم الهيئة والجغرافيا الفلكية لمعرفة حساب السنين والشهور لتنفيذ أوامر ديننا وتنظيم معاملاتنا: ﴿ما خلق الله ذلك﴾ أي الشمس ذات الوهج الذي يفيد الحيوان والنبات والقمر ذا النور الذي يهدئ الأعصاب وينتفع به السيارة في مسراهم وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور: ﴿إلا بالحق﴾ الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق ونظام معايشهم ومنافعهم المتعددة لا لمجرد اللهو والعبث: ﴿يفصل الآيات لقومٍ يعلمون﴾ أي لمن أوتي من العلم ما يؤهله للبحث والتأمل في ملكوت الله لاستنباط الحكمة من كل شيء ما دام يعلم أن الله الحكيم لم يخلق خلقًا ولم يقدر قدرًا إلا لمصلحة خفية تعلم بالتأمل والاستقراء أما الجهلة فهؤلاء أفكارهم لا تتسع إلا لما تحت سمعهم وبصرهم ولا يجهدون أنفسهم في اكتشاف الغاية من سنن الله وما ترمي إليه من صالح أمر الإنسان: ﴿إن في اختلاف الليل والنهار﴾ أي في تخصيص أولهما بالظلمة للسكون والراحة وثانيهما بالضياء للعمل لنيل الغايات وتعاقبهما وطولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض والأزمنة: ﴿وما خلق الله في السماوات والأرض﴾ أي وفي اختلاف أنواع ما خلقه الله من الجمادات والحيوانات ودقة صنعها وتركيبها واختلاف طبائعها وأمزجتها والنبات وأنواع ما هو صالح لأكل الإنسان ومنه ما هو صالح لأكل الحيوان ومنه ما تتجلي برؤياه الأنظار ومنه ما تروح النفس بطيب رائحته وشذاه ومنه ما هو علاج للناس ومنه ما هو سم زعاف وإن في كل ذلك: ﴿لآيات﴾ أي دلائل وبينات قاطعة على وجود الله وعظيم تقديره وفائق حكمته وفضله على بني الإنسان من شأنها أن تخضع كل عاقل لقدرته وعظيم سلطانه وتحمله على واجب شكره ولذا قال: ﴿لقومٍ يتقون﴾ عواقب مخالفة سننه في كل شيء فالأمة التي تخالف سنن الله الصحية معرضة دائما للأمراض الوبائية، والذين يخالفون سنن الله الاجتماعية والعمرانية يوشك أن تحل بهم أنواع من الصعاب والخراب، والفوضى والاضطراب، وكذلك الأفراد الذين يكفرون بنعم الله ويخالفون هداية الشريعة في تزكية النفس ويدنسونها بالشرك والخرافات ويفسدونها بالفواحش والمنكرات كل هؤلاء سيلقون جزاءهم في الآخرة حيث ينبؤهم الله بأعمالهم ويقضي بينهم بحكمه الذي أنزله عليه جل جلاله.
بين ثناياه وعلى ضوء هديه والاقتداء بسيرته عليه الصلاة والسلام: ﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل رسالته: ﴿لَفِي ضَلالٍ﴾ الضلال ضد الهدى: ﴿مُّبِينٍ﴾ أي ظاهر الضلال إذ لم يكن لهم كتاب يستنيرون بهديه ولا رسول يعرفهم بالله ويدعوهم إلى الإيمان بوحدانيته واتباع شريعته: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ أي ممن كان في ضلال مثلهم من سائر الأمم كالفرس والروم وغيرهم: ﴿لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ قيل من هم يا رسول الله؟ فوضع ﷺ يده على سلمان الفارسي ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء».
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي يذل لعزته كل عظيم: ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي دبر شؤون خلقه بما يصلح شؤونهم: ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما سبق من بعثه في الأميين رسولًا منهم وما آتاه من العلم وسائر المكرمات: ﴿فَضْلُ اللهِ﴾ أي هبته ونعمته: ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ من عباده، شاء الشيء عقد العزم عليه وباشر في تحقيقه والمعنى أن دستور الله الأزلي أو نظامه وسننه في خلقه قد قضت بأنه تعالى يؤتي فضله للعاملين لنيله عن رغبة وإخلاص فهذا عبده إبراهيم الخليل عندما أنكر بقلبه ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام وعمل على التعرف بربه وتصحيح عقائد قومه ولم يعبأ بما توعدوه به من العذاب في سبيل من إليه أناب لم يخيبه الله فيما شاء وآتاه النبوة وفصل الخطاب وهذا عبده محمد بن عبد الله الذي نشأ في بيئة مشركة ونقم على قومه دعوتهم لغير الله واعتزلهم وما يعبدون من دون الله في غار حراء أكرمه الله بالرسالة إلى الخلق أجمعين وجعله خاتم النبيين، وهكذا فإن كل من يعمل لوجه الله ونيل فضله لا بد أن يمنّ عليه سبحانه بما شاء: ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الذي لا تفنى خزائنه ولا ينضب معين عطائه فهو القادر في كل وقت على أن يهب ملكة النبوغ لمن يريد فيصير الأمي قارئًا وكاتبًا وحاسبًا والجاهل عالمًا وحكيمًا وفنانًا بارعًا بقدرته تعالى التي لا تتقيد بالعرف وتسيطر على كل شيء وفي هذا ما يدعو كل عاقل إلى الإيمان بالله ودينه الحق والعمل لنيل فضله سبحانه وتعالى يجدوا اجتهاد وإيمان كامل لا يعتريه الشك ولا يتطرق إليه الفساد جعلنا الله منهم ووفقنا لنصر دينه ونشر دعوته وإعلاء كلمته.
بعد أن أثبت الله عظيم قدرته على فعل العجائب التي من أهمها بعثه في الأميين رسولًا منهم وما أخبر به تعالى من أن ذلك فضل منه وأن من دستوره أن يؤتي فضله من يشاء من عباده بالتوجه إليه والعمل بمقتضى هديه إذ هو صاحب الفضل العظيم عرَّض سبحانه بمن لا يؤمن بهذه الحقيقة من
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)﴾
لقد أنعم الله بالقرآن على محمد بن عبد الله ﷺ واختصه به عن سائر الرسل إذ جعله له معجزة خالدة على ممر الأزمان وأمره بالتمسك به وعدم طاعة المكذبين الذين كانوا يريدون منه أن يعدل عنه إلى الإتيان بدله بشيء من خوارق العادات لإثبات رسالته ﷺ كما كان شأن من قبله من الرسل ثم أخذ سبحانه وتعالى يؤكد للناس في سورة الحاقة أن القرآن كلامه الذي أوحى به إلى الرسول بالنص من غير زيادة أو نقص، وأخبره في سورة المعارج بمبلغ عناد قومه وإنكارهم لما جاء فيه وكيف أنهم آثروا العذاب على الإيمان به وأمره بالصبر
عليها في الأمم الغابرة بما ذاع وشاع خبره وظلت آثاره قائمة على مدى الزمان وهي أنه تعالى يمهل الظالم ولا يهمله فإذا أخذه لا يفلته فناشد رسوله ﷺ بأعز شيء لديه وهي الصلاة في أحسن أوقاتها أن يقرر ما يعلمه عن ذلك ليتأكد الخبر بهذا عند سامعيه فقال: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ وهو الصباح الباكر الذي كان يخصه بالجهر بالقرآن: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ غير معينة إذ النبي ﷺ كان يحب التعبد الليالي العشر من ذي الحجة ويقول: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام»، كما أنه كان ﷺ إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر وأيقظ أهله وأمرهم بالتهجد لاحتمال أن تكون ليلة القدر فيها وهي خير من ألف شهر ولعل هذا السبب في إتيانه تعالى بها منكرة.
﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ سئل رسول الله ﷺ عن المراد منها فقال: «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر».: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ أي يمضي ويراد منه التهجد في الثلث الأخير الذي ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا فيقول هل من تائب هل من مستغفر: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ استفهام يراد منه التأكيد كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة: ﴿لِّذِي حِجْرٍ﴾ -بكسر الحاء وسكون الجيم- العقل والمعنى هل ينكر عاقل قيمة ما أقسم به على النبي وهو يعلم مبلغ حرمته ومكانته من نفسه: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي ألم تعلم أيها الرسول وكل من آمن بك علمًا يقينًا لا يقل عن العلم القائم على رؤية العين،: ﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ اسم قبيلة كانت تقطن قرب حضرموت وكان لقبها: ﴿إِرَمَ﴾ والإرم هي حجارة تنصب في المفازة ليهتدي بها إشارة إلى ما اشتهرت به عاد من القوة حتى روي عن رسول الله ﷺ أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: «كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم» وبلغ من غرورهم بأنفسهم ما حكاه القرآن عنهم أنهم قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾.: ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ العماد الأبنية العالية الرفيعة: ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ﴾ حتى ذلك العصر: ﴿وَثَمُودَ﴾ قبيلة معروفة عند العرب ومنزلها بالحجر بين الشام والحجاز: ﴿الَّذِينَ جَابُوا﴾ أي قطعوا: ﴿الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ أي عبَّدوا الطرق في وسط الصخور واتخذوا لهم منها بيوتًا كما حكاه عنهم القرآن في آية أخرى إذ قال: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾.