وكيف خلق ومن أين جاء؟ أو كيف يحيي به الأرض بعد موتها؟ ﴿فأخرج﴾ بمحض قدراته وإرادته ﴿به﴾ بمجرد هذا الإنزال من غير أن يكون لكم أي مجهود في ذلك ﴿من الثمرات﴾ نباتًا وزرعًا وطيبات تأكلون وتتغذون منها أنتم وأنعامكم فتدر عليكم ألبانها وأصوافها ﴿رزقا لكم﴾ تنتفعون منه بشتى الفوائد والخيرات فتصنعون من الألبان بعد تحويلها شتى الأنواع من الأطعمة وتدر عليكم الأرزاق وتفيض عليكم أثمانها ما يحقق لكم ما تريدون في هذه الحياة الدنيا من مختلف المطالب الضرورية والكمالية فمن الواجب عليكم أمام هذه النعم الفياضة والمتع العظيمة تقدير مانحها ﴿فلا تجعلوا الله﴾ الذي غمركم بكل هذه النعم المتسلسة المتوالية التي لا تنقطع ﴿أندادًا﴾ تحبونهم كحبه و تلجئون إليهم في الشدائد كما تلجئون إليه وتدعونهم لقضاء المصالح وليس غيره من يقدر علي تيسير شيء مما يقدر عليه سبحانه وتعالي فلا ند له ولا مماثل وجميع المخلوقات مربوبون له في قبضته ﴿وأنتم تعلمون﴾ أن الأمور كلها بيد الله وأنه إذا أستطاع الزارع أن يحرث الأرض ويبذر البذر ويتعدها بالسقي والخدمة ويكون له كسب في رزقه فإنه بعمله هذا وبصنعه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يزعم أنه قد أوجد الماء وأنبت الزرع ونوع أشكاله وأوجد الأشجار وغيرها من النباتات وألوانها، والثمرات ومختلف طعومها، والأزهار وبدائع جمالها، وما فيها من الخواص التي لا تقع تحت حصر مما لا يعلمه إلا الخالق العظيم وقد دعا الله الناس بهذه الآيات البينات إلى توحيد الألوهية معرضًا بتوحيد الربوبية محذرًا لهم من الشرك فلا شريك له وكل شيء في الوجود ينادي بالوحدانية وقد أقام الأدلة والبراهين المحسوسة علي أنه سبحانه وحده هو الذي يجيب الداعي إذا دعاه فلا يعبد غيره ولا يعوله على سواه. ﴿وإن كنتم﴾ يا أيها الناس ﴿في ريب﴾ أي لا تصدقون بصحة شيء ﴿مما نزلنا﴾ من القرآن ﴿على عبدنا﴾ محمد وتشكون في صدوره منه ﴿فأتوا بسورة﴾ ولو صغيرة ﴿من مثله﴾ سواء في أسلوبها وبلاغتها أو روعتها وطلاوتها وهدايتها ﴿وادعوا شهداءكم﴾ أي من تعتمدون عليه من أقطاب الفصاحة والبلاغة الذين يتفقون معكم على مبدأ الإنكار ﴿من دون الله﴾ ليساعدوكم على ذلك إن استطاعوا ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيما تدعونه من عقل ودراية فإن في صدور هذا القرآن من رجل عرف بينكم حق المعرفة – بالأمية – لدليلًا ساطعًا على أنه بوحي إلهي وأنه منزل من رب العالمين، ولا قدرة لمثله أن يأتي به، ولا سيما وأنه قد أعجزكم جميعًا وأنتم رجالات البلاغة وأساتذة الفصاحة ﴿فإن لم تفعلوا﴾ أي لم تستطيعون الإتيان بسورة
وعصيان لأمره وهذا من شأنه أن يؤدي بكم إلى التهلكة وأن يكتب عليكم الذل والهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وأحسنوا﴾ في كل من القتال والإنفاق بأن تقفوا في الوسط ميزانًا بين المخاطرة والإحجام والإسراف والتقتير ﴿إن الله يحب المحسنين﴾ الذين يقومون بأعمالهم على الوجه الأكمل ولا يتجاوزون حدود الله التي وضعت لكل شيء يتعلق بأوامر الدين الحنيف بعد أن بين الله للمؤمنين حكم القتال في الشهر الحرام أراد أن يبين لهم الغاية التي يجب أن يصل إليها قاصد البيت الحرام وما يكون موقفهم إذا لم يوفقوا إلى بلوغ ذلك أو إذا حال حائل دون وصولهم إلى البيت الحرام فقال ﴿وأتموا الحج﴾ وهو خامس أركان الإسلام وأعظمها شأنًا كما دل عليه حديث عائشة أنها قالت «قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال لكن أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور» وعن ابن مسعود مرفوعًا «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة» وفي رواية «فإنهما ينفيان الفقر والذنوب» وفي رواية «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وروى الترمذي «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» ﴿والعمرة﴾ أي وبعد بلوغكم إلى الحرام أتموا مناسك الحج والعمرة من طواف وسعي وخلافه ﴿لله﴾ قوموا بأدائهما خالصة لله كعبادة مفروضة منه وفق ما يدلكم على ذلك رسول الله ﷺ لا على إنهما من أعمال آبائكم ولا بحسب ما كنتم عليه من قبل ﴿فإن أحصرتم﴾ بأن منعكم عدو من الوصول إلى غايتكم وتطبيق ما أمركم به الرسول ﴿فما استيسر من الهدى﴾ فاذبحوا لله ما تيسر لكم من الهدي ﴿ولا تحلقوا رؤوسكم﴾ ولا تتحللوا من حجكم وعمرتكم ﴿حتى يبلغ الهدي محله﴾ في المكان الذي أحصرتم فيه وبعد ذبح ذلك الهدي لله.
ولقد بالغ رسول الله ﷺ في الدعوة إلى أداء هذه الفريضة، لأنها خير ما يؤدي إلى تهذيب النفوس وصفاء الروح بما اشتملت عليه من أعمال ومناسك تضاهي ما كان مكتوبًا على الأمم السابقة من
@وبضدها تتميز الأشياء لنا
#وهناك تظهر قيمة النعمات
@والملح يفضل في الطعام نقيضه
#وكذا الحياة تلذ بالصدمات
@ومصائب الدنيا تعرفنا بمن
#فيها وترفعنا إلى الذروات
@وتدلنا أن العباد جمعيهم
#لا يملكون وقاية النكبات
@فالله خير حافظًا لعباده
#باللطف ينجيهم من المحنات
@والفوز مكفول لمن هو صابر
#والصبح حتما يعقب الظلمات
@من كان يحسب أن نصر الله لن
#يأتي إليه فقاطع لصلات
@واليأس عنوان الشقاء وأسه
#والسعد رهن عقيدة وثبات
@وبمقتضى ظن الفتى في ربه
#يأتي الجواب له عن الطلبات
لقد كان جماعة من المنافقين في عهد رسول الله ﷺ ينسبون إلى الله كل ما يصيبهم من خير، ويقدسونه جل وعلا عما يصيبهم من شر ولا يعترفون بأن ذلك نتيجة عدم تطبيقهم لدستور الله بل ينسبونه إلى الرسول ﷺ إذ يشركونه معه فيما يصيبهم من ضرر فأنزل الله قوله: ﴿إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا﴾ يقول الله ذلك ليفهمهم أن الحسنة والسيئة كلاهما من عند الله. ما دامتا قد وقعتا في ملكه وعلى مقتضى سنته في نظام الأسباب والمسببات فما بال هؤلاء المنافقين ينسبون السيئة إلى الرسول من دون الله ولا يرجعونها إلى الأسباب الحقيقية لها من أعمالهم، ولأجل أن لا يخطئوا فينسبوا السيئة إلى الله واضع السنن عاد جل وعلا فوجه الخطاب إلى رسوله وخطاب الله لرسوله خطاب للأمة المرسل إليها بقوله: ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ أي وحتى أنت فكل ما أصابك من حسنة فهي من الله ذلك لأن الإنسان إذا اكتسب خيرًا فقد أضفى على نفسه من نعمة الله شيئًا جديدًا وذلك الشيء هو من ملكوت الله ومن عطائه والله طيب ولا يعطى إلا الطيب وأما من أساء فقد جلب على نفسه بعمل يده شيئًا خبيثًا والخبيث من نفسه نتيجة تفريطه أو إفراطه أو عدم إتقائه لأسبابه أو عدم اتباع دستوره وبعبارة أخرى إن المسيء يحرم نفسه من الخير بفعل الشر، والحرمان أمر سلبي لا يجني من ورائه الخير بل إنه يستحق عليه العقاب.
لقد نهى الله المؤمنين عن اتخاذ اليهود وأمثالهم من المشركين والمنافقين بطائن لهم، وأكد لهم أنه لن يضرهم كيدهم شيئًا ما اعتصموا بالصبر والتزموا واجب التقوى، وذكرهم بما يؤيد صدق هذا في حوادث بدر وأحد، ثم أخذ ينهاهم جل وعلا عن عمل آخر قد يكون وسيلة من الوسائل التي تدعو المؤمنين إلى اتخاذهم بطائن وهو من شر أعمال أولئك القوم، وهو سلاح مسلط في أيديهم للتنكيل بالمؤمنين ألا وهو الربا، فقد كان المشركون في الجاهلية يتعاملون به، يكون للرجل على آخر دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول تقضيني أو تزيد لي فإذا كان عنده شيء قضاه وإن لم يكن عنده ضاعفه للعام القابل، فإن لم يكن عنده ضاعفه أيضًا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين فإن لم يكن عنده جعله أربعمائة وهكذا كل سنة، فأنزل الله قوله: ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بالله المنفرد بالأمر والنهي والتحليل والتحريم ﴿لا تأكلوا الربا﴾ الذي تعودتموه من عهد الجاهلية ﴿أضعافا مضاعفة﴾
بعد أن بين الله عظيم شأن الطاعة وارتباطها بالإيمان وأوضح السبب في وجوب طاعة الرسول إلى جانب طاعة الله ونفي الإيمان عن من لا يرضى بحكمه عن طيب نفسه أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى أن ما دعاهم إليه من الأحكام لم يكن بالأمر العسير ففيه منتهى التسامح والتيسير وضمان مصلحة الفرد والجماعة وفيه من الفوائد العظمى المعقولة ما لا يدرك إلا بتدبرها ومباشرتها وهذا فضل منه سبحانه وتعالى أو أنه يعلم أنها لو كانت شديدة وقاسية أو كانت غير معقولة المعنى لمن يتدبرها لأعرضوا عنها ولذا قال تعالى: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم﴾ في الكتاب من تلك الأحكام ﴿أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم﴾ لعز على نفوسهم قبول تلك الأحكام، ولقالوا: لم تؤمر بهذه الأحكام الشاقة من القتل والتعذيب ونحن لم نقترف ذنبًا وأي مصلحة في هذا والنتيجة المنتظرة لذلك هي أنهم ﴿ما فعلوه﴾ أي: الحكم المأمور به من هذا القبيل اللهم ﴿إلا قليل﴾ وقرئ «قليلًا» ﴿منهم﴾ ممن تمكن الإيمان في قلوبهم فآثروا رضاء الله على حظوظهم وشهواتهم ﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به﴾ من الأوامر والنواهي التي لم تصدر إلا لمصلحة الناس وضمان سعادتهم ممن هو أدرى بما يضرهم وما ينفعهم من غير بحث أسبابها وفوائدها ﴿لكان خيرًا لهم﴾ في دنياهم وآخرتهم ﴿وأشد تثبيتًا﴾ واقتناعًا بثبوتها عن تجارب ويقين ثابت لا يتزعزع، فالمؤمن المأمور بالمساهمة في أعمال الخير وبذلك الأموال في سبيل الله إذا التزم ذلك وعصى الشيطان الداعي إلى البخل لا بد وأن ينال ثمرة عمله ويتذوق ما في الإحسان إلى الغير من لذة تجعله يزيد يقينًا في الحكمة الإلهية التي من أجلها شرع الإحسان فيعظم تعلقه به وحرصه عليه وهكذا المؤمن المأمور بتجنب الخمر مثلًا إذا رأى ما يرتكبه السكير من إثم من غير قصد والمؤمن المأمور يترك المقامرة إذا رأى ما يتعرض له المقامر في كثير من الأحيان من
رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول في رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (لِلَّهِ) أي حكاما له في الأرض تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لا تراعون فيما تصدرون من أحكام غير مرضاته جل وعلا
<٣٥>
(شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) أي مراعين العهد في كل شيء إشفاقا على خلق الله من الوقوع فيما يترتب على عدم إقامة العدل في الحكم والشهادة من طغيان الظلم وفساد النظام الاجتماعي (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنكم (شَنَآنُ) أي عداوة (قَوْمٍ) لكم أو بغضكم لهم (عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) في الحكم بالشهادة لهم أو عليهم (اعْدِلُوا) فإن ذلك (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي لاتقاء عقاب الله وسخطه (وَاتَّقُوا اللَّهَ) بالحرص على أداء الشهادة على وجهها الصحيح (إِنَّ اللَّهَ) بأمره إياكم بالعدل (خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي مطلع على أعمالكم وما يترتب عليها من خير أو شر في الدنيا والآخرة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) من كل عمل يقصد به طاعة الله وخير الإنسانية بأن (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي تجاوز عن السيئات بإسقاط جزائها في الآخرة (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله كلهم أو بعضهم (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) التي أنزلت عليهم فلم يؤمنوا بأنّها من عند الله وأبوا أن ينصاعوا لما تدعوا إليه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الملازمين لها أو الذين خلقت الجحيم من أجلهم لأنهم جمعوا بين الكفر بالله وفساد العمل الذي لا يقصد به طاعة الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا) دائما في أنفسكم (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فإن تذكر النعم يسلتزم العمل بما يقابلها بمثلها من شكر الله وأبسط تلك النعم ما كان منه جل وعلا (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) وهم المشركون (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بقصد إذلالكم وتفريق كلمتكم وتحطيم دينكم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) وكتب لكم النصر عليهم حتى قوى الإسلام وعظمت
<٣٦>
شوكة المسلمين فليكن لكم من ذلك عبرة (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم فإن هذا مما يؤدي بكم إلى الثقة به والاتكال على نصرة أكثر من اتكالكم على قوتكم (وَعَلَى اللهِ
كلامه، كما تمثل لمريم بشرًا سويًا ﴿وللبسنا﴾ اللبس الاختلاط والتشابه في الأمور ﴿عليهم ما يلبسون﴾ أي لاشتبه الأمر عليهم ورفضوا أن يسلموا بأنه من الملائكة إذ هم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية، التي يتمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه ويصرون على طلب أن يكون معه ملك... وهكذا.
لقد أخبر الله رسوله بما سيكون من الكافرين والمعاندين. وكان طبيعيًا أن ينقم الرسول ﷺ منهم لما علمه من مبلغ عنادهم وجحودهم، وما يرتبون من أقوال يقصد إخراجه، وما يصادفه من أذاهم. فأراد السميع العليم أن يهدئ من روعه، فأخبره بأن من الأمم السابقة من لم يكتفوا برفض الدعوة، ومحاولتهم إخراج الرسل، بل تجاوزوا ذلك إلى السخرية والاستهزاء بأولئك الرسل. وقد نكل الله بهم من أجل ذلك فقال: ﴿ولقد استهزئ﴾ بكسر الزاي وضمها مع الوصل، والاستهزاء بالشخص احتقاره، وعدم الاهتمام بأمره والضحك عليه، مما لا يجعل مجالًا للاعتداد بآرائه ﴿برسل من قبلك﴾ فازدرتهم أممهم، ولم يقيموا لهم وزنًا، وقابلوا دعوتهم بالسخرية والاحتقار. وأول أولئك الرسل نوح عليه السلام إذ أرسله الله لهداية الناس ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين﴾ ﴿ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون﴾.
﴿فحاق بالذين سخروا منهم﴾ أي من أولئك الرسل ﴿ما كانوا به يستهزئون﴾ أي من العذاب، الذي كان الرسل يخوفونهم بنزوله. وقد وقى الله نبينا عليه الصلاة والسلام من مغبة الاستهزاء بقوله: ﴿إنا كفيناك المستهزئين﴾ ولذلك لم يجرؤ قومه على احتقاره بل كانوا يحفظون له كرامته، ويحسبون لدعوته حسابًا عظيمًا، ويحاولون استرضاءه، وجذبه إليهم، بمختلف الوسائل، وهو يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته». ومن أجل هذا لم يعجل الله العذاب لأمته، وجعلهم آخر الأمم، وأمره أن يدعوهم أولًا وقبل كل شيء إلى السياحة في الأرض للتأكد من صحة أقواله، وحصول القناعة التامة بمصير المكذبين فيتحاشوا الوقوع في مثل ما وقعوا فيه فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن لا يؤمن بصحة ما تقول ﴿سيروا في الأرض﴾ وتنقلوا في ديار أولئك
إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٧١) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (٨١) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨٥) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ
من جراء تشدد العلماء فيها إهمال الكثير من الناس بعض الواجبات كموضوع صبغ الشيب بالسواد فإنه من الأمور العادية المتعلقة بالزينة المباحة وقد تكلم الفقهاء فيه وجعلوه من أساس الدين حتى قال الشافعي بحرمته استنادًا على ما ورد في الصحيح من أن أبا قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جاء يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا فقال صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا واجتنبوا السواد» ويؤيدونه بحديث يدل نصه على أنه موضوع هو قوله: «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون ريح الجنة» فمن المعلوم أنه لا يروح ريح الجنة إلا الكافر والخطاب ما هو إلا من العادات التي لا علاقة لها بالدين بل لا يمكن أن يصل إلى درجة الكفر وحديث أبي قحافة إنما قصد به شخص أبي قحافة لأن صبغ شعره بالسواد لا يتلائم مع تحطم جسمه وكبر سنه ولذا أمر بتجنبه السواد وإلا فإن الصباغ في ذاته سنة مستحبة لأنه يبعث في نفس المسلم نشوة الشباب ونشاطه والرسول ﷺ يريد من أمته أن يكونوا أقوياء ليخيفوا أعداء الإسلام يدل على هذا ما ورد في الصحاح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وقوله: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم» أي السواد.
وبمناسبة وصف الرسول بالأمية لا يفوتني أن أشير إلى حادثة مرت بي في جزر الملايا وهي أني زرت في ٢٩ أغسطس ٩٣٧ سلطنة «نكرى سنبيلان» فوجدت القوم هناك يرمون الرسول ﷺ بالجهل لأن إمام السلطان وهو يحمل شهادة عالمية الغرباء من الجامع الأزهر يقول بهذا ويفسر الأمي بالجاهل ويقول إنه إن نطق بالحكمة فإنما هو حاك لها كالببغاء كما قال تعالى: ﴿لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ فاعترضت على هذه العقيدة فأوصلوا الخبر إلى السلطان الذي طلب أن أزوره في الساعة العاشرة من يوم الثلاثاء ٣١ أغسطس وتحدثت معه في هذا الخصوص وأفتيته بكفر من يرمي الرسول بالجهل فأعرب عن رغبته في عقد اجتماع عام في ساحة قصره لمناظرة إمامه في هذا الأمر فوافقت فحدد لذلك الساعة الثالثة من الخميس ١٦ ديسمبر ٣٧ أي بعد ثلاثة أشهر ونصف ليتسنى له دعوة أكبر عدد ممكن من العلماء من سائر جزر ملايا وأندونسيا فرحبت بذلك وسافرت إلى سومطرا وجاوا وأندونسيا وعدت في الموعد المحدد فوجدت المكان مكتظًا بالعلماء ومختلف طبقات الشعب ولم تكن حجة إمامه إلا أن قال بأن الفقهاء
وتوًا ثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم – وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة، معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها – وما كاد ينتهي من كتابة هذه المعاهدة وقبل أن توقع إذ أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو سفير قريش يرسف في الحديد فارًا بدينه إلى الرسول وكان قد أسلم من قبل فنكلت قريش به وهو يقول – احمني يا رسول الله – فلما أبصره أبوه صعق وقال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال النبي صدقت فقام إلى ابنه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وصار يجذبه ويجرده ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ويقول يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني فأثر قوله في المسلمين وودوا لو استنقذوه من يد أعداء الله فأخذ الرسول ﷺ يهدئ من روعه ويقول «اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا أما قد عقد بيننا وبين القوم صلح وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم» فوثب عمر بن الخطاب ومشى إلى جانبه شاهرًا سيفه وهو يدني من أبي جندل قائم السيف وهو يقول اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون لا دم لهم قال عمر – رجوت أن يأخذ أبو جندل السيف من يدي فيضرب به أباه غير أنه ضن بأبيه ونفذت القضية.
ولما تم استنساخ صورة أخرى للمعاهدة أشهد الرسول رجالًا من المسلمين ورجالًا من المشركين. ثم قام رسول الله ﷺ إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق فتواثب الصحابة ينحرون ويحلقون وقفل راجعًا إلى المدينة وبينما هو في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة إذا بالوحي يأتيه مهنئًا بذلك الفتح المبين الذي فتح به عليه في إملاء تلك المعاهدة التي ستكون سببًا في غفران الذنوب وإتمام النعم والهداية إلى الصراط المستقيم ومقدمة لنصر عزيز منه جل وعلا. حيث قال تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا * وينصرك الله نصرًا عزيزًا﴾.
وكيف لا يكون إملاء هذه المعاهدة فتحًا عظيمًا وفيها من الفوز السياسي الباهر على قريش ما أوضحناه سابقًا وفيها من المزايا القيمة ما عددها عز وجل والتي كان في مقدمتها غفران
بعد أن أمر الله العباد بعبادته وأوضح لهم مصيرهم بعد الموت وأكد لهم أن مرجعهم ليجزي كلًّا بعمله وعدد نعمه عليهم وبسطها لهم أخذ يشرح مصير الناس يوم القيامة: ﴿إن الذين لا يرجون﴾ أي لا يؤملون أو لا يريدون: ﴿لقاءنا﴾ أي الرجوع إلى الله بمعنى ينكرون البعث ولا يطمعون فيما أعد في الآخرة من نعم ولا يخافون مما هنالك من نقم: ﴿ورضوا بالحياة الدنيا﴾ أي قنعوا بهذه الحياة الدنيا واكتفوا بها وحصروا كل همهم وأعمالهم في نيل أكبر قسط من نعيمها: ﴿واطمأنوا بها﴾ أي ارتاحت قلوبهم بشهواتها وملذاتها: ﴿والذين هم عن آياتنا غافلون﴾ لا يصغون إليها ولا يتدبرون ما جاء فيها من حكم ومواعظ وأوامر ونواهي ليعملوا في الحياة على هديها: ﴿أولئك﴾ أي كلا الفريقين: ﴿مأواهم﴾ في الآخرة: ﴿النار﴾ نار جهنم: ﴿بما كانوا يكسبون﴾ أي جزاء على ما اقترفوا من الخطايا والسيئات في حياتهم الدنيا، نتيجة طبيعة لإنكارهم للبعث وانغماسهم في الشهوات وعدم الاتعاظ بآيات الله والعمل بما جاء فيها، وهذا برهان قاطع على بطلان قول من يقول إن العمل لا ينفع والقوى والطبائع والأسباب لا تؤثر وإنما هو الله يخلق الأثر عندها لا بها والواقع غير ذلك فالنار تحرق والعين تبصر بما أودع الله فيها من طبائع وقوة: ﴿إن الذين آمنوا﴾ بالله ولقائه: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ابتغاء مرضاته: ﴿يهديهم ربهم بإيمانهم﴾ أي بسبب هذا الإيمان المنبعث من نفوسهم الذي حبب إليهم الأعمال التي تنيلهم في الآخرة خير الجزاء ولو أنهم كفروا بالله لما هداهم لأنه تعالى صرح في كتابه أنه لا يهدي القوم الكافرين: ﴿تجري من تحتهم﴾ أي تحت مقاعدهم: ﴿الأنهار في جنات النعيم﴾ كحق مكتسب لهم وفق ما اقتضته رحمة الله التي جعلت الإيمان والعمل الصالح سببًا لدخول الجنة: ﴿دعواهم فيها﴾ أي في جنات النعيم: ﴿سبحانك اللهم﴾ ما أعظم رحمتك التي جعلت لأعمالنا كل هذا الشأن الذي أدى بنا إلى ما نحن فيه من نعيم ولولاها لما كان لنا أن نطمع في شيء منها: ﴿وتحيتهم﴾ لكل من يصادفون من الملائكة والإنس والجان: ﴿سلامٌ﴾ أي لا بغض ولا خصام ولا انتقام بل صفاء وسلام: ﴿وآخر دعواهم﴾ أي دعاؤهم وعبادتهم في تلك الدار: ﴿أن الحمد لله رب العالمين﴾ أي لا حديث ولا شغل لهم غير تعداد نعم الله وشكرها حيث لا تكاليف تطلب منهم ولا رغائب يرجون الحصول عليها فكل شيء في الجنة ميسور وقد قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وفسر هذا الحديث
فيعود هذا عليكم بوبال عظيم: ﴿إني أراكم بخير﴾ أي بسعة في الرزق يجب أن تحملكم على الترفع عن دناءة النفس والتجاوز على حقوق الناس بما تنقصونه من المبيع لهم من مكيل أو موزون لا يسمن ولا يغني من جوع: ﴿وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط﴾ أي عذاب يوم محيط ما يقع فيه من العذاب بكم وهو يوم القيامة جزاء على ما أكلتموه من ذلك القدر البسيط من المال على المشترين الذين ائتمنوكم وخنتموهم فالله سبحانه وتعالى لا يضيع في حسابه قدر ذرة: ﴿ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط﴾ هذا تنبيه إلى أنه لا يكفي في الأمر عدم تعمد النقص بل لا بد من تحري الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص وإن كان ولا بد فإن الزيادة من جانب البائع أفضل لأنها تعد حسنة يؤجر عليها عند الله: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ أي تنقصوا أموال الناس أو مواهبهم ما تستحق من تقدير كأن تعيبوا سلعهم وتقدروا لها أثمانًا بخسة لا تتفق مع ما تستحق: ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ أي لا تبالغوا أو تمعنوا في الفساد بحيث تسيئون به إلى غيركم أو إلى الصالح العام كقطع الطرق وتهديد الأمن والخروج على السلطان: ﴿بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ﴾ حتى أحفظكم من مثل هذه المعاصي التي لا يدركها ويشعر بها غير مرتكبها وما أنا إلا نذير وناصح أمين ولما كان شعيب كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا عليه وكان كلما دعاهم إلى التوحيد وترك البخس في الميزان: ﴿قالوا﴾ أي القوم استهزاء أو سخرية: ﴿يا شعيب أصلاتك﴾ بالإفراد وقرئ «صلواتك» بالجمع أي هذه الأعمال المخصوصة التي أنت مشتغل بها: ﴿تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا﴾ وهذا كما إذا رأيت معتوهًا يطالع كتبًا ثم يذكر كلامًا فاسدًا فتقول له أهذا من مطالعة تلك الكتب: ﴿أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء﴾ من تصرفات من شأنها أن تنمي ثروتنا ولو كانت عن طريق النصب والاحتيال، وهذا حجز على حريتنا وتحكم في أمورنا الشخصية: ﴿إنك لأنت الحليم﴾ الذي لا يتعجل في الأمور قبل وزنها بميزان العقل والتأكد من صحتها: ﴿الرشيد﴾ كامل العقل الذي لا يأمر إلا بالمستطاع وهل في الاستطاعة أن يترك الإنسان مصلحته البادية استجابة لأمر غير معقول أو لا يؤمن به: ﴿قال يا قوم أرأيتم﴾ أي أخبروني ماذا ترون في أمري معكم: ﴿إن كنت على بينة من ربي﴾ أي إن كنت عارفًا بربي واثقًا من وحيه لي بما دعوتكم إليه وما أمرتكم به: ﴿ورزقني منه رزقًا حسنًا﴾ جنيته عن طريق الكسب
لهم في الحياة وبعد الممات: ﴿أم﴾ أنهم: ﴿جعلوا﴾ معبوداتهم: ﴿لله شركاء﴾ في العبادة لأنهم يعتقدون أنهم: ﴿خلقوا﴾ خلقًا: ﴿كخلقه﴾ أي كخلق لله دون أن يعرفوا ما هو ذلك الخلق: ﴿فتشابه الخلق عليهم﴾ أي فاختلط الأمر عليهم ولم يميزوا بين خلقهم وخلق الله فجعلوهم شركاء له من أجل ذلك: ﴿قل﴾ أيها الرسول لتصحيح هذه العقيدة الفاسدة: ﴿الله خالق كل شيء﴾ وغيره لم يخلق شيئًا بالمرة ولو أنه خلق شيئًا لعرفتموه ولما التبس عليكم أمره: ﴿وهو الواحد﴾ الذي لا يمكن أن يكون له شريك كما قال تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» وهو: {القهار﴾ الذي غلب العباد على أمرهم وسخرهم لاتباع سننه لا منازع له في سلطانه.
بعد أن أمر الله رسوله بدعوة المشركين إلى الإيمان بالله بأسلوب حكيم يلزمهم الحجة ويقيم لهم البرهان العقلي القاطع على وحدانيته وشمول قدرته وأنه لا رب غيره ولا معبود سواه: ﴿خالق كل شيء وهو الواحد القهار﴾ أردف ذلك بشرح سننه في خلقه التي بمقتضاها يتميز الخير من الشر والحق من الباطل والإيمان من الكفر مع أن الأصل في الجميع واحد وكلها بأمر الله ووفق إرادته فقال: ﴿أنزل﴾ الله بقدرته: ﴿من السماء﴾ أي من السحاب: ﴿ماء فسالت﴾ بالماء: ﴿أودية﴾ جمع واد وهو الموضع المنخفض الذي يسيل فيه الماء النازل من السماء: ﴿بقدرها﴾ أي بمقدار تلك الأودية في الصغر والكبر: ﴿فاحتمل السيل﴾ الذي حدث من ذلك الماء: ﴿زبدًا﴾ وهو ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة: ﴿رابيًا﴾ أي عاليًا مرتفعًا فوقه وطافيًا عليه لا يلبث أن يتبدد في الأطراف ولا ينتفع به أحد: ﴿وبما يوقدون﴾ وقرئ «توقدون» بالتاء بدل الياء: ﴿عليه في النار﴾ أي ومن المعادن التي يطرحها الناس في النار كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك: ﴿ابتغاء حلية﴾ أي لأجل أن تتخذوا منه حليًا للزينة: ﴿أو متاع﴾ للاستعمال كالأواني والآلات ومختلف الأدوات اللازمة للإنسان: ﴿زبد مثله﴾ أي له زبد يعلوه أثناء غليانه مثل الماء: ﴿كذلك﴾ أي بمثل ما يحصل من تصاعد الزبد من الماء أثناء السيل ومن المعادن أثناء الغليان: ﴿يضرب الله الحق والباطل﴾ أي يحركهما ويجعلهما يتدافعان: ﴿فأما الزبد﴾ الذي يعلو السيل وما يوقد في النار كالباطل: ﴿فيذهب جفاء﴾ أي أنه يرتفع لحظة ثم يتلاشى: ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ من جوهر الماء والمعادن والحق الذي لا مراء فيه: ﴿فيمكث في الأرض﴾ للاستفادة منه إذ ينبت الماء الزرع وينتفع به الناس والحيوان ونصنع من المعادن ما نحتاج إليه ونتخذ من الحق ما فيه نجاتنا من عذاب الله:
إليك} يا خاتم النبيين: ﴿الذكر﴾ أي القرآن لقوله: ﴿وهذا ذكر مبارك﴾ ولأن الرسول ﷺ قد أمر بالتذكير به في قوله: ﴿وذكر بالقرآن من يخاف وعيد﴾ كما أمر بإيضاح مقاصده ومراميه حيث قال: ﴿لتبين﴾ بإرشادك وعملك: ﴿للناس﴾ أجمعين: ﴿ما نزل إليهم﴾ فيه من الأحكام والشرائع وغير ذلك مما هو سبيل السعادة والشقاء في هذه الحياة وبعد الممات، وما قضت به مشيئة الله الأزلية من أحكام قضائية، لا دخل لإنسان فيها، وأحكام قدرية ترك الله الأمر فيها إلى اختيار العبد وكسبه: ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ في حقائق ما أنزل إليهم من حكم التشريع ومقاصد الآيات وتعداد نعم الله ليخلصوا له العبادة ويبتعدوا عما يجر إلى الهلاك، وهنا أراد تعالى أن يهدد المعرضين عن الاهتداء بهدي القرآن بما لديه من القوى الخفية التي لا قبل لهم على الوقاية منها فقال: ﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ أي الذين يدبرون السوء في الخفاء ولا يهتدون بهدي القرآن: ﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ التي يعيشون على سطحها ويدفنهم بجوفها في لحظة واحدة، وهذا من أبسط ما عند الله من عذاب أنزله الله بقارون نتيجة غروره وطغيانه، والثاني قوله: ﴿أو يأتيهم العذاب﴾ من السماء منصبًا عليهم كما صنع بقوم لوط وثمود: ﴿من حيث لا يشعرون﴾ أي في حال غفوتهم كالصواعق والريح العقيم، والثالث قوله: ﴿أو يأخذهم﴾ بوباء عام مفاجئ ينزل بهم: ﴿في تقلبهم﴾ أي وهم أقوياء بكامل صحتهم وانصرافهم إلى أعمالهم اليومية: ﴿فما هم بمعجزين﴾ فالله الذي خلقهم تدريجيًا لا يعجزه أن يبيدهم عن آخرهم في لحظة واحدة، الرابع قوله: ﴿أو يأخذهم على تخوف﴾ أي يرميهم بمختلف الأمراض التي يخافونها ويعملون لمعالجتها والوقاية منها فلا يفيدهم ذلك شيئًا إلى أن يهلكوا عن آخرهم: ﴿فإن ربكم﴾ القدير على هذه الأنواع الأربعة من العذاب: ﴿لرؤوف رحيم﴾ أي من شأنه أن يمهل الظالمين ولا يعاجل بعذابه الماكرين المسيئين: ﴿أو لم يروا﴾ أي أولئك الذين يمكرون السيئات وقرئ «تروا» للمخاطبين: ﴿إلى ما خلق الله من شيء﴾ أي من كل شيء: ﴿يتفيأ﴾ أي يتحولون ويرجعون وقرئ بتأنيث الفعل: ﴿ظلاله﴾ إلى ظله: ﴿عن اليمين والشمائل﴾ أي جميع الجمادات من جبل وشبحه وبناء وجسم قائم: ﴿سجّدًا لله﴾ أي خاضعات لما أراد الله منها وخلقها من أجله: ﴿وهم داخرون﴾ أي صاغرون: ﴿ولله يسجد﴾ أي يخضع وينقاد: ﴿ما في السموات وما في الأرض من دابة﴾ أي من كل متحرك من جميع الحيوانات فإنها خاضعة لله
بعد أن أمر الله العباد بعبادته وأوضح لهم مصيرهم بعد الموت وأكد لهم أن مرجعهم ليجزي كلًّا بعمله وعدد نعمه عليهم وبسطها لهم أخذ يشرح مصير الناس يوم القيامة: ﴿إن الذين لا يرجون﴾ أي لا يؤملون أو لا يريدون: ﴿لقاءنا﴾ أي الرجوع إلى الله بمعنى ينكرون البعث ولا يطمعون فيما أعد في الآخرة من نعم ولا يخافون مما هنالك من نقم: ﴿ورضوا بالحياة الدنيا﴾ أي قنعوا بهذه الحياة الدنيا واكتفوا بها وحصروا كل همهم وأعمالهم في نيل أكبر قسط من نعيمها: ﴿واطمأنوا بها﴾ أي ارتاحت قلوبهم بشهواتها وملذاتها: ﴿والذين هم عن آياتنا غافلون﴾ لا يصغون إليها ولا يتدبرون ما جاء فيها من حكم ومواعظ وأوامر ونواهي ليعملوا في الحياة على هديها: ﴿أولئك﴾ أي كلا الفريقين: ﴿مأواهم﴾ في الآخرة: ﴿النار﴾ نار جهنم: ﴿بما كانوا يكسبون﴾ أي جزاء على ما اقترفوا من الخطايا والسيئات في حياتهم الدنيا، نتيجة طبيعة لإنكارهم للبعث وانغماسهم في الشهوات وعدم الاتعاظ بآيات الله والعمل بما جاء فيها، وهذا برهان قاطع على بطلان قول من يقول إن العمل لا ينفع والقوى والطبائع والأسباب لا تؤثر وإنما هو الله يخلق الأثر عندها لا بها والواقع غير ذلك فالنار تحرق والعين تبصر بما أودع الله فيها من طبائع وقوة: ﴿إن الذين آمنوا﴾ بالله ولقائه: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ابتغاء مرضاته: ﴿يهديهم ربهم بإيمانهم﴾ أي بسبب هذا الإيمان المنبعث من نفوسهم الذي حبب إليهم الأعمال التي تنيلهم في الآخرة خير الجزاء ولو أنهم كفروا بالله لما هداهم لأنه تعالى صرح في كتابه أنه لا يهدي القوم الكافرين: ﴿تجري من تحتهم﴾ أي تحت مقاعدهم: ﴿الأنهار في جنات النعيم﴾ كحق مكتسب لهم وفق ما اقتضته رحمة الله التي جعلت الإيمان والعمل الصالح سببًا لدخول الجنة: ﴿دعواهم فيها﴾ أي في جنات النعيم: ﴿سبحانك اللهم﴾ ما أعظم رحمتك التي جعلت لأعمالنا كل هذا الشأن الذي أدى بنا إلى ما نحن فيه من نعيم ولولاها لما كان لنا أن نطمع في شيء منها: ﴿وتحيتهم﴾ لكل من يصادفون من الملائكة والإنس والجان: ﴿سلامٌ﴾ أي لا بغض ولا خصام ولا انتقام بل صفاء وسلام: ﴿وآخر دعواهم﴾ أي دعاؤهم وعبادتهم في تلك الدار: ﴿أن الحمد لله رب العالمين﴾ أي لا حديث ولا شغل لهم غير تعداد نعم الله وشكرها حيث لا تكاليف تطلب منهم ولا رغائب يرجون الحصول عليها فكل شيء في الجنة ميسور وقد قال تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وفسر هذا الحديث
اليهود الذي أنزلت عليهم التوراة وآمنوا بها ولكنهم لم يعملوا بما تدعو إليه من الإيمان بالله والاهتداء بهديه فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا﴾ بتشديد الميم وقرئ بتخفيفها أي كلفوا بالحمل: ﴿التَّوْرَاةَ﴾ أي أمروا بما فيها: ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ أي لم يعملوا بها ولم يفهموها فهمًا صحيحًا ولم يؤدوها حقها: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ جمع سفر وهو الكتاب الكبير أي أن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبًا علمية ثقيلة لا يعقل ما فيها ولا ينتفع بها وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل: ﴿بِئْسَ﴾ هذا المثل: ﴿مَثَلُ الْقَوْمِ﴾ من سائر الأمم في كل وقت: ﴿الَّذِينَ﴾ أنزلت عليهم من الله كتب كالإنجيل والقرآن أمروا بوعيها وتدبر معانيها والعمل بما فيها فآمنوا بها ولكنهم: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ﴾ التي احتوتها تلك الكتب فلم يأخذوا بأحكامها ولم يهتدوا بهديها واكتفوا بتلاوتها وحملها لمجرد البركة فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا: ﴿وَاللَّهُ﴾ في نظامه ودستوره: ﴿لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم برفضهم سلوك سبيل الهداية الذي سنه الله لها والذي رسمه تعالى لعباده في تلك الآيات: ﴿قُلْ﴾ يا أيها الرسول لأولئك القوم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها يعني اليهود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ﴾ بانتمائكم إلى هذا الدين: ﴿أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ﴾ أي محبين لديه: ﴿مِن دُونِ النَّاسِ﴾ وقد حكى الله عنهم في آية أخرى قولهم: ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾.: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ فلا أحب إلى الابن أن يلقى أباه ولا أحب إلى المحبوب من أن ينعم في كنف محبه: ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تزعمونه بمعنى إذا كنتم تعتقدون بقلوبكم حقًّا هذا الذي تزعمون بألسنتكم: ﴿وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ﴾ أي الموت: ﴿أَبَدًا﴾ أي طوال حياتهم وذلك: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي بسبب ما أقدموا عليه من الكذب على الله وتحريف الآيات ولأنهم يعلمون أنهم غير صادقين فيما يزعمون: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ الظلم وضع الشيء في غير محله بمعنى المستعملين حواسهم ومواهبهم في غير ما خلقت له من اتباع الحق والاهتداء بهدي ربهم وخالقهم: ﴿قُلْ﴾ أيها الرسول لأولئك الذين يتمنون الموت بسبب ما قدمت أيديهم: ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ ولا تتمنونه: ﴿فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ لا محالة فهو أمر لا بد منه: ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾ أي ترجعون بعده: ﴿إِلَى﴾ الله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ غاب الشيء اختفى واستتر، وشهد الشيء عاينه واطلع عليه: ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من خير وشر في السر والجهر وما دام الأمر كذلك فاربؤوا بأنفسكم عن الكذب على الله خير لكم من الاستمرار فيما تكذبكم عليه شواهد الحال وهنا وجه سبحانه وتعالى الخطاب إلى
وتوعد الكافرين بأنواع العذاب في الآخرة مع قدرته تعالى على التعجيل به في هذه الحياة وضرب الأمثال على هذا بقصة نوح وقومه ثم أخذ سبحانه وتعالى في هذه السورة يبين ما للقرآن من تأثير عظيم في نفوس سامعيه من الإنس والجن وكل من رام لنفسه الهداية إلى آخر الزمن إذ هو كلامه القديم تنزيل من حكيم عليم وقد جعله لله سبيل الهداية إلى الطريق المستقيم الذي ينشده كل منصف حكيم فيصغي لكلماته ويتدبر معانيه ويحكم عقله وضميره النزيه في ما حواه من حجج وآيات بينات لا تتفق والشعوذة والخرافات التي لا يقرها من جرد نفسه عن التعصب لما كان عليه الآباء أو ما نسب كذبًا إلى الأنبياء فقال: ﴿قل﴾ يا أيها الرسول إنه: ﴿أوحي إليَّ﴾ خبر ما كنت أعلمه لولا أن أخبرني الله به وهو: ﴿أنه استمع نفر من الجن﴾ إلى هذا القرآن وقد اختلف الناس قديمًا وحديثًا في ثبوت الجن ونفيهم وذهبوا في تعريفهم وبيان حقيقتهم مذاهب شتى والحقيقة التي لا مراء فيها والتي أثبتها العلم هي أن الله تعالى الخالق للمخلوقات المادية قد خلق إلى جانبها عدة مخلوقات من ذوات الروح منها ما دق حتى لا يمكن أن نراه بالعين المجردة ومنها ما لطف وصفًا حتى لا تكاد تصل العقول إلى معرفة حقيقته ومن هذه المخلوقات خلق يقابل الإنسان يقال له «الجان» قال تعالى: ﴿خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار﴾ وهما المعنيان بقوله تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيها الثقلان﴾ فلا محل لإنكارهم بعد أن أثبت الله وجودهم وإنما سميت الجن جنًّا لاجتنانهم واختفائهم عن الأبصار كما سميت الجنة جنة لستر ما فيها وسمي الجنين جنينًا لستره في بطن أمه وقد عرفهم لنا الرسول ﷺ بقوله «الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وخشاش الأرض» إشارة إلى أنه يطلق على كل مضر ومؤذ من المخلوقات الخفية ودلنا عليهم بتأثيرهم المحسوس في حياتنا المادية حيث قال «الطاعون وخز أعدائكم الجن وهو لكم شهادة» الأمر الذي لم نكن نتصوره من قبل حتى كشف لنا العلم الحديث عن عالم الميكروبات التي تتولد من المائعات والفواكه وتسبب التغيرات والاختمارات وتؤدي إلى الأمراض والأوبئة التي منها الطاعون والكوليرا مما لا يدع مجالًا للشك في وجود الجن ومدى تسلطهم في جسم الإنسان وحسبنا أن نصفهم بما وصفهم به الله من أنهم عالم كعالم الإنسان لهم نفوس كنفوس البشر إن منهم من هو محل الطاعة والعصيان يسمعون أحاديث الناس ويأخذون بأقوالهم وأقوال أنبيائهم كما أوحى الله لنبيه بذلك في صدر هذه السورة في معرض التدليل على قوة تأثير هذا
﴿وَفِرْعَوْنَ﴾ حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام: ﴿ذِي الأَوْتَادِ﴾ أوتاد الأرض جبالها أي الذي أقام في الأرض أهرامات تضاهي الجبال: ﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ﴾ أي تكبروا وتمردوا على الله فأنكروا قدرته وسلطانه عليهم واعتدُّوا بأنفسهم فلم يخضعوا لأوامره ولم يصدقوا رسله: ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ بارتكاب كل أنواع المنكرات دون أن يكون لهم من أنفسهم وازع ولا من خوف الله رادع: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ﴾ أي أفرغ وأنزل عليهم في الدنيا: ﴿رَبُّكَ سَوْطَ﴾ السوط ما يضرب به العصاة في الدنيًا تأديبًا لهم: ﴿عَذَابٍ﴾ وهو كل ما شق على الإنسان أي أن مشيئة الله قد قضت بإنزال أنواع من العقوبات على الطغاة المفسدين جزاء طغيانهم وفق دستوره الذي جعل الجزاء مقابلًا للجرم فالمتكبر لا بد أن يذله الله والظالم لا بد أن يبلى بأظلم وهو سبحانه يعامل كلًّا بما يستحق سواء أظهر للناس كما عرف عن قوم عاد وثمود وفرعون ومن نحا نحوهم من الملوك المستبدين أم لم يظهر للناس ولكنه لا يخفى على الطغاة أنفسهم إذا ما حاسبوا أنفسهم واستعرضوا ماضيهم وتذكروا سيئاتهم ومساوئهم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وإن نسوها أو تناسوها وقد فصل الله في سورة الحاقة ما حاق بعاد وثمود إذ قال: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾، وقال عن فرعون وقومه وأضرابهم في سورة الأنفال: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾، وبمقتضى هذا فقد يتطرق إلى بعض الأذهان أن عدم انتقام الله من بعض الظالمين أو إمدادهم من الحياة بأنواع من النعم دليل على حب الله لهم وكرامتهم عنده فأراد سبحانه أن يصحح هذه الأفكار الخاطئة بما يشير إلى أن نعيم الدنيا وعدمه ما هو إلا ابتلاء من الله لعباده وأنه سبحانه وتعالى قد سن للحياة سننًا كونية مطردة وأنظمة اجتماعية خفية يترتب عليها سعادة للناس وشقاؤهم في هذه الحياة فقال: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ اختبره ليتبين مبلغ تقديره لنعمة الله عليه بأدائه ما عليه من واجبات: ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ في الحياة بمختلف أنواع الإكرام والنعم: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ أي يحسب أن ما ناله دليلًا على كرامته عند الله فيذهب مع هواه ويتبع لذاته ويحسب أنه سوف لا يعذب على أعماله: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أي


الصفحة التالية
Icon