من مثله ﴿ولن تفعلوا﴾ لاستحالة هذا عليكم لأنه من كلام الخالق ولا يمكن للبشر أن يضاهوه وقد تحديتكم بهذا فعجزتم ﴿فاتقوا﴾ أي احذروا من ﴿النار﴾ التي أنذرتكم بها في القرآن وهي التي ﴿وقودها الناس﴾ الذين يتخذون من دون الله أندادًا ﴿والحجارة﴾ وهي الأصنام التي يعبدونها والتي هي أظهر المعبودات عند العرب كاللات والعزى وغيرهما وقد ﴿أعدت﴾ تلك النار ﴿للكافرين﴾ لإحراقهم وتدميرهم، ولتصيرهم لها وقودًا. وقد دعا الله الناس بهذه الآيات إلى الإيمان بالقرآن والرسول الذي أنزل عليه القرآن وأقام الأدلة والبراهين على ذلك بأنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله وعقب الدليل على صحة قوله بتهديد المعاندين والمكابرين بنار يصلونها حامية في يوم القيامة ليسترعي الأذهان والنفوس إلى ضرورة التيقظ والالتفات والتنبه وما أن انتهى جل جلاله من تهديد المكذبين للقرآن بالعذاب يوم القيامة حتى وجه سبحانه الخطاب إلى نبيه ﷺ وأمره أن يدخل السرور إلى قلوب عباده بما يجذبهم إليه ويرغبهم فيما أعد لديه سبحانه من أنواع النعيم في الآخرة فقال ﴿وبشر الذين آمنوا﴾ بالله وآياته ورسله ﴿وعملوا الصالحات﴾ مما أمروا به من الطاعات ﴿أن لهم﴾ في الآخرة ﴿جنات﴾ مثل الجنات التي كلفوا بحبها والحنين إليها في هذه الحياة ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ بشكل أجل وأعظم مما يخطر على البال، بحيث لا يجدون هناك فروقًا بين الحياتين إلا أن الحياة الدنيا كانت مشمولة بالشقاء، مشوبة بالتعب والنصب، مهددة بالفناء والزوال وتلك الأخرى هي محل الاستقرار والهدوء محل الراحة والاطمئنان على الدوام ﴿كلما رزقوا منها﴾ من تلك الجنات في الآخرة ﴿من ثمرة رزقًا﴾ فرحوا به ﴿قالوا هذا الذي رزقنا من قبل﴾ فالحمد لله الذي أطعمنا في هذه الحياة ما كنا نلتذ به في الدنيا ولا نكاد نجده إلا بشق الأنفس وفي مواسم مخصوصة وها نحن أولاء نجده الآن ميسورًا في كل آن ﴿وأتوا به﴾ أي فجاءهم الرزق ﴿متشابهًا﴾ لكمال هناءتهم فلولا هذا التشابه بين ثمار الآخرة وثمار الدنيا لما أعجبوا به كل هذا الإعجاب ولما وجدوا به منتهى السرور والارتياح فالنفس ميالة إلى حب ما تعودته وألفته ولو كان مرًّا ومن شأنها أنها تنفر مما لم تألفه ولو كان مرًّا ومن شأنها أنها تنفر مما لم تألفه ولو كان شهيًا شهدا ﴿ولهم فيها أزواج﴾ فالمرأة تجد لها بعلًا والرجل يجد له زوجة ﴿مطهرة﴾ من كل عيب خلقي وجسماني ﴿وهم فيها خالدون﴾ أي وسيظلون على تلك الحال في
الترهب لله في زمن قصير محدود لا يحول دون العمل للدنيا ففي الحج أتعاب وفيه تقشف وفيه صبر عن متع الحياة وزينة الدنيا مع بذل الأموال بغير مقابل محسوس سوى رضاء علام الغيوب.
وعلى ذكر حلق الرأس تحللًا من قصد الحج في حالة الإحصار أراد الله أن يوضح للمؤمنين الحالات التي يجوز فيها الحلق أو إتيان شيء من محظورات الإحرام دون أن يكون ذلك الحاج متحللًا من حجه فقال ﴿فمن كان منكم مريضًا﴾ مرضًا يتكلف معه الاستمرار في إحرامه ﴿أو به أذى من رأسه﴾ كأن علقت به هوام تؤذيه مثلًا ﴿ففدية﴾ فينبغي عليه منع الضرر عن نفسه بالتخلي عن لباس الإحرام وحلق رأسه بفدية ﴿من صيام﴾ وقد أجمع الفقهاء على أن الصوم المطلوب هو ثلاثة أيام ﴿أو صدقة أو نسك﴾ أي ذبيحة: وتتحقق الفدية بواحد من هذه الثلاثة والصدقة إن كانت من القمح فثلاثة أصواع وإن كانت من التمر فستة أصواع على ستة مساكين والنسك تجزئ فيه شاة واحدة وكل هذا مأخوذ من السنة ﴿فإذا أمنتم﴾ أي فإذا كنتم أمن من كل ما ذكر من الإحصار والمرض والأذى ﴿فمن تمتع بالعمرة إلى الحج﴾ فمن تمتع بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة بأن أتمها وتحلل وبقي متمتعًا بتلك المحظورات إلى زمن الحج ليحج من مكة ﴿فما استيسر﴾ أي سهل ﴿من الهدي﴾ فعليه دم جبر للإساءة وأقله شاة لأنه أحرم بالحج من غير الميقات ﴿فمن لم يجد﴾ الهدي لعدم تيسيره لسبب ما أو لعدم وجود المال الذي يشتري الهدي به ﴿فصيام ثلاثة أيام في الحج﴾ في زمن الحج ﴿وسبعة إذا رجعتم﴾ من الحج إلى بلادكم ﴿تلك عشرة كاملة﴾ هي مجموع ما هو مطلوب منكم من الصوم ﴿ذلك﴾ الجزاء على التمتع بالهدي أو بدله من الصوم ﴿لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ لأن الآفاقي إذا تمتع يحرم بالحج من غير ميقاته فيكون حجه ناقصًا يجبر بالهدي أو بدله بخلاف أهل المسجد الحرام فإن مكة ميقات لهم فلا دم ولا صوم عليهم ﴿واتقوا الله﴾ بالمحافظة على أمثال هذه الأوامر والنواهي ﴿واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ على من يتهاون بحدود الله أو يتلاعب فيها بتحويرها وتبديلها.
بعد أن حذر الله الناس من تعاطي الربا وهو ذو علاقة بالدّين والبيع ولا بد لهم منهما وحضهم على التقوى وهي قد تجعل الإنسان يحاذر الوقوع فيما لا يرضي الله فيفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها كأن يتسامح في عمل الاحتياطات التي تحفظ ماله مع أن الواجب يحتم عليه صيانته وعدم إهماله أو تعريضه للضياع فالإنفاق في سبيل الله لا يتسنى إلا لمن أحكم حفظه أخذ سبحانه وتعالى يسن نظامًا خاصًا بالمعاملات أجمله في قوله (يا أيها الذين آمنوا) بالله وأطاعوا أوامره ويهمكم معرفة حكمه في هذا الباب (إذا تداينتم) وتعاملتم (بدين) وهو عام يشمل القرض والسَّلم – ما كان فيه المبيع مؤجلًا والثمن عاجلًا – وبيع الأعيان إلى أجل معلوم (إلى أجل مسمى) بينكم (فاكتبوه) ولا تتصوروا أن في هذه الكتابة ما يقلل من أجر القرض عند الله أو أن التساهل مما يزيد في ثوابه (وليكتب) صيغة العقد (بينكم كاتب) مختص بتوثيق العقود موصوف (بالعدل) ولا تكتفوا بكتابة هذه العقود فيما بينكم وبين أنفسكم لما يخشى من ترككم لبعض أمور تجهلونها وهي ضرورية لصحة العقد أو لصيانة المال من الضياع (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) ولا ينبغي لكل من آتاه الله العلم بالكتابة والأحكام الشرعية والشروط المرعية والاصطلاحات العرفية أن يضن بمعلوماته أو أن يمتنع عن الكتابة بين الناس (فليكتب) بل يجب أن يكتب بما لديه من معلومات في هذا الباب (وليملل الذي عليه الحق) أي وعلى المدين أن يعترف أمام الكاتب العدل بالدين ومقداره والموعد الذي تعهد بالسداد فيه وما يترتب على الإخلال بشرط من شروط العقد المتفق عليها (وليتق الله ربه) فلا ينوي في قلبه عدم السداد (ولا يبخس منه) من إملائه وإقراره (شيئًا) كأن يختصره أو يوهم فيه أو يتناسى بعض أمور ينبغي الإشارة إليها تمهيدًا لإضاعة الحق أو المماطلة فيه عند حلول الأجل المضروب (فإن كان الذي عليه الحق) وهو المدين (سفيهًا) ناقص العقل مبذرًا في ماله لا يصلح التعامل معه (أو ضعيفًا) في العقل كالصبي والمجنون أو في الذاكرة كالشيخ الهرم (أو لا يستطيع أن يمل هو) إما لجهله أو لِلكَنٍ أو خرس به (فليملل وليه) الذي يتولى أموره أو من له عليه حق القوامة شرعًا (بالعدل) بما يضمن مصلحة الجانبين ولا يضر أحد الطرفين (واستشهدوا) ولا تكتفوا بمجرد الإقرار بذلك أمام الكاتب العدل بل اطلبوا للشهادة على أنفسكم بما تضمنه عقد الدَّيْنِ رجلين (شهيدين) اثنين فأكثر (من رجالكم) المؤمنين البالغين الأحرار (فإن لم يكونا رجلين) لم يتيسر لكم إيجادهما (فرجل
وقرئ "مضعفة" وهو المسمى بربا النسيئة أو الفوائد المركبة لما فيه من أضرار عظيمة – انظر ما سبق من بحث الربا – أما ربا الفضل فقد ورد تحريمه في السنة حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الوَرِقَ بالوَرِقِ - أي الفضة – إلا مثلاً بمثل، سواء بسواء ولا تشفوا أن تخلطوا بعضه على بعض إني أخشى عليكم الرماء» والرماء هو الربا ﴿واتقوا الله﴾ في عباده من ذوي الحاجة فلا تثقلوا كواهلهم بهذه الفوائد المركبة المتراكمة التي ينوءون تحت أعبائها ولا قدرة لهم على سدادها فتحملهم على بغضكم والحقد عليكم والعمل على التخلص منكم ﴿لعلكم﴾ بهذه التقوى والكف عن تعاطي الربا ﴿تفلحون﴾ لما في ذلك من ميل القلوب إليكم بالود والرحمة والتعاون المشروع فتستقيم أموركم في الحياة الدنيا وتنعمون بطيب العيش وتمام السعادة ﴿واتقوا النار﴾ التي هي نار جهنم في الآخرة إذ لم تنتهوا عن أكل ما حرم من الربا ﴿التي أعدت للكافرين﴾ الجاحدين لنعمة الله الذين يضعون الأموال في غير مواضعها وينصرفون بها في غير سبيلها المشروع ﴿وأطيعوا الله والرسول﴾ فيما نهى عنه من أكل الربا، وما أمر به من مساعدة المعوزين بالقرض والصدقة ﴿لعلكم﴾ بهذه الطاعة ﴿ترحمون﴾ تستجلبون رحمة الله لكم، فقد ورد في الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». ﴿وسارعوا﴾ وقرئ "سارعوا" بغير واو العطف بما ذكر من تقوى الله وطاعته ﴿إلى﴾ نيل ﴿مغفرة﴾ تتنزل عليكم ﴿من ربكم﴾ لعلكم تحشرون في عداد المتقين ﴿و﴾ تكونوا أهلاً لسكنى ﴿جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين﴾ وهم من تتحقق فيهم الصفات الآتية:
١ - ﴿الذين ينفقون﴾ أموالهم ﴿في السراء﴾ أي رغد العيش وسعته ﴿والضراء﴾ أي العسرة والضيق في كل حالة بحسبها وعلى قدر ما يفضل معهم ابتغاء مرضاة الله.
٢ - ﴿والكاظمين الغيظ﴾ بالصبر على ما يسوء، رضاء بقضاء الله.
٣ - ﴿والعافين عن الناس﴾ بالتجافي في تطاول المعتدي وترك مؤاخذته مع القدرة عليه اعتمادًا على عدل الله، وهو عين المسامحة المرجوة من المؤمنين.
٤ - ﴿والله يحب المحسنين﴾ إلى من أساء إليهم تقربًا إلى الله، فالإحسان إلى المسيء من أعظم صفات المتقين ولهذا أفردهم الله بهذه الصفات دلالة على علو شأنهم بكونهم محبوبين عند الله.
ضياع ماله بين عشية وضحاها لا شك أنه يقدر مزايا اتباعه لأحكام ربه فيزيد إيمانه به ويقينه في فضائل أحكامه ﴿وإذا لآتيناهم﴾ علاوة عما نالهم من خير للبدن وتثبيت للنفس بحسن اليقين ﴿من لدنا﴾ من محض كرمنا فوق ما أعده الله من ثواب لتلك الأعمال ﴿أجرًا عظيمًا﴾ وذلك لأن من سمع بما أعده الله من جزاء للمصلين فصلى لنيل ذلك الجزاء فقد حدد لنفسه الغاية التي يرمى إليها أما من أمره الله بالصلاة فصلى إطاعة للأمر من غير منظر لما أعده للمصلين من جزاء ففضل الله أعظم من أن يحدده له بما وعد به بل سيكون أعظم بكثير من ذلك ﴿ولهديناهم﴾ بإلهام منا ﴿صراطًا مستقيمًا﴾ لا اعوجاج فيه بوصلهم إلى غاياتهم من أقرب الطرق.
بعد أن وعد الله المطيعين بالأجر العظيم أراد جل شأنه أن يثبت لهم مكانة عالية عنده فقال تعالى ﴿ومن يطع الله والرسول﴾ لما قرره الله سابقًا من أن طاعتهما في حد سواء من حيث إيثار حكمهما على حكم الطاغوت ﴿فأولئك﴾ يحشرون يوم القيامة ﴿مع﴾ أي: في معية وصحبة ﴿الذين أنعم الله عليهم﴾ بالاصطفاء والرضوان في هذه الدنيا وهم من اتصفوا بواحدة من صفات أربع فصلها الله بقوله ﴿من النبيين﴾ الذين اصطفاهم الله من خلقه فمنحهم منه النبوة وهي العلم بشيء من شئون الغيب أو ما يتعلق بالله جل وعلا ﴿والصديقين﴾ جمع صديق وهو كثير الصدق كالسكير لمن هو كثر السكر أو هو بمعنى من جاء بالصدق وصدق به أي حقق ما أورده قولًا بما أيده عقيدة وعملًا ﴿والشهداء﴾ جمع شهيد الأمين في شهادته أو الثابت على شهادة أن لا إله إلا الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان ولذا سمى القتيل في سبيل الله شهيدًا لبذل نفسه في نصرة دينه الحق ﴿والصالحين﴾ جمع صالح وهم من لم يتطرق الفساد إلى
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) إلى جانب ما يعدونه من العدة التي أمرهم بإعدادها سبحانه وتعالى بقوله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
بعد أن أمر الله المؤمنين في الآيات السابقة بأن يذكروا نعمته عليهم وميثاقه وأمرهم بالعدل في الحكم والشهادة الذي هو الأساس الذي تبنى عليه سعادة الناس في هذه الحياة وبدونه تعم الفوضى ويختل النظام الاجتماعي للبشر أخذ جل وعلا يضرب الأمثال عل ما نجم عن مخالفة اليهود والنصارى لميثاق الله من نتائج وخيمة اقتضتها سنن الله في الخلق حيث قال (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يعملوا بشريعة موسى عليه السلام وإتباع ما جاء في التوراة (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) نقيب القوم: هو الذي ينقب عن أحوالهم أي يستقصي أخبارهم وأسرارهم، يروى أن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطا فأمر الله نبيه موسى أن يختار من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وكفيلا عليهم (وَقَالَ اللهُ) لهم على لسان نبيه موسى (إِنِّي مَعَكُمْ) أسمع وأرى وقد أخذت على نفسي عهدا لكم لن أخلفه أبدا (لَئِنْ) هذا قسم من الله تبارك وتعالى (أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) التي فرضتها عليكم بالتوجه إليَّ بالدعاء كما أمرتكم (وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) لمستحقيها من الفقراء والمساكين (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) الذين أرسلتهم إليكم من بعد موسى كداود وسليمان وزكريا ويحي وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي ونصرتموهم وسمي ما دون الحد من التأديب تعزيزا لأنه نصرة للحق وقمع للمعزَّر عما يضر (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي بذلتم من
<٣٧>
المال في أوجه الخير فوق ما أوجبه الله عليكم ثقة منكم بأن الله سيرده إليكم أضعافاً مضاعفة كما وعد (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) هذا جواب للقسم أي لأمحو بسبب تلك الحسنات الخمس -الصلاة والزكاة والإيمان بالرسل وتعزيزهم والقرض الحسن- أثر السيئات من نفوسكم في هذه الحياة بحسب ما قضت به سنة الله من أن الحسنات يذهبن السيئات كما يطهر الماء القاذورات (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ) يا بني إسرائيل (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي السبيل السوي الذي يؤدي بسالكه إلى إصلاح قلبه
القرون الذين مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أمثال قوم فرعون وعاد وثمود وتأملوا فيما كان لهم من قوة وبأس ﴿ثم انظروا﴾ أي ابحثوا عن الآثار لتعلموا ﴿كيف كان عاقبة المكذبين﴾ برسالة الرسل من هلاك ودمار سببه لهم تكذيبهم لرسل الله فكيف يكون حال المستهزئين منكم الساخرين بخاتم رسله؟ لا ريب إنهم أحق بالهلاك. إذًا فليرتقب كل مستهزئ الهلاك ولو بعد حين.
بعد أن أمر الله رسوله بدعوة الناس أجمعين إلى التأكد بأنفسهم من صحة أقواله عن طريق السياحة في الأرض ومشاهدة آثار المكذبين ليحذروا أن ينالهم ما نال غيرهم في القرون السابقة أخذ يلقنه بعض البلاغات الرسمية بأسلوب قوي في إلزام الناس بالحجة القاطعة على التسليم بصحة ما يدعو إليه من توحيد الله، وهو أسلوب السؤال والجواب في موضع فصل الخطاب. البلاغ الأول عن التوحيد ويشتمل على سؤال وخمس إجابات: أما السؤال فقوله ﴿قل﴾ أيها الرسول للناس كافة ﴿لمن ما في السماوات والأرض﴾ من جميع المخلوقات العلوية والسفلية العاقل منها وغير العاقل أي من هو الخالق لها فإن لم يجيبوا على سؤالك عنادًا منهم ومكابرة للحقائق فأجب عنهم الجواب الأول الذي لا يستطيعون إنكاره ولا يجحدونه في دخيلة أنفسهم ولا يسعهم إلا التسليم به وهو قوله: ﴿قل لله﴾ رب العالمين الذي خلق السموات والأرض وما ذكر بعد ذلك في أول هذه السورة من الأعمال والتصرفات وهذا الجواب لتقرير توحيد الربوبية.
الجواب الثاني وما بعده لتقرير توحيد الألوهية بقوله: ﴿كتب على نفسه الرحمة﴾ فهو سبحانه لم يخلق الإنسان إلّا ليرحمه، وخلق له ما في الأرض جميعًا رحمة به، ويسر له سبل الهداية إلى ما يستجلب رحمة ربه، وقال عز من قائل: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي».
ورد في الحديث القدسي عن الله جل وعلا قوله: «وما غضبت على أحد كغضبي على مذنب أذنب ذنبًا فاستعظمه في جنب عفوي» وهذا الجواب لغرس حبه تعالى في القلوب، وحمل الناس على طاعته، والرجوع إليه في كل وقت بالتوبة. فهو القائل: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾. والجواب
كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (٩٧) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
قد أجمعوا على وجوب الاعتقاد بأن النبي ﷺ كان أميًا أي متصفًا بها حتى وفاته فهو جاهل حتى أن رجلًا قال إنه كتب في صلح الحديبية فلم يحسن الكتابة فقال عنه أهل نيسابور أنه زنديق ففصلت لهم أنه ليس المراد بالأمية الجهل بل إنها بمعنى عدم تلقي العلم على يد أستاذ كما هي العادة أما نبينا ﷺ فقد كان أميًا حقًّا قبل الرسالة أما بعدها فإنه قد دخل مدرسة تلقي العلم فيها ونال شهادة العالمية ونال إجازة التدريس، وبذلك انتفت عنه الأمية فبهت الإمام من قولي وقال من أين لك كل هذا قلت من كتاب الله وألقيت فيهم محاضرة قلت فيها إن مدرسة الرسول غار حراء ومدرسه هو جبريل الذي عهد إليه تعالى بتعليمه إذ قال: ﴿علمه شديد القوى﴾ أي أنه معلم له قوة ومقدرة على التعليم لا إنه قوي العضلات وقد جاءه فعلًا في غار حراء وقال: «اقرأ» قال: «ما أنا بقارئ» فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله وقال: «اقرأ» قال: «ما أنا بقارئ» فغطه الثالثة حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله وقال: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم﴾ ومعنى هذا أني آمرك بالقراءة باسم ربك الخالق ولا تتعجب من طلبي هذا فإن الذي خلق الإنسان من علق لا يعجزه أن يجعل من الأمي قارئًا في أقل من لحظة وربك الأكرم الذي علم الناس القراءة عن طريق الكتابة بالقلم لا يعجزه أن يعلمك القراءة من غير كتابة ولا قلم، والذي علم الإنسان ما لم يعلم لا يعجزه أن يجعل منك عالمًا بكل شيء ومعلمًا لما يريد أن يعلمه لعباده من سائر العلوم بوضع أسسها وطرق استعمالها، ولم تكن تلك الغطات التي كان يغط بها جبريل الرسول ﷺ إلا وسائل عملية يوحى بواسطتها إلى نفسه ما أوحى الله به إليه ليعلمه ما لم يكن يعلم، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله فيما بعد: ﴿إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ أي فأوحى جبريل إلى محمد ما أوحى به الله إليه بل لقد تفضل الله جل جلاله فأخبرنا بأنه تعالى هو المعلم الحقيق لنبيه حيث قال: ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا﴾ ومن تلك اللحظة انتفى عنه الجهل وأصبح عالمًا في مقدمة العلماء العظام بشهادة رب العزة الذي قرر في كتابه الكريم بأن جبريل ذلك المعلم القدير على التعليم إنما كان يوحي من قبله تعالى إلى عبده وأنه جل وعلا هو الذي منحه العلم بكل ما لم يكن يعلم من سائر العلوم بوسيلة غير القراءة والكتابة
الذنوب لأنها كانت سببًا في حقن دماء المسلمين وصيانتهم من انتهاك حرمة الأشهر الحرم وتجنيبهم سخط العرب أجمعين لو انتهكوا حرمتها.
ومن مزاياها إتمام نعم الله على عبده بإذعان قريش لإرادته وتسليمها بمطالبه من غير حرب وهي صاغرة.
ومن مزاياها هدايته إلى طرق سليمة لنشر دعوته عن طريق اختلاط صناديد قريش بالمسلمين والخلوة بأهلهم في المدينة والإصغاء إلى الرسول حتى تتفتح قلوبهم للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة حتى أسلم كثير منهم قبل فتح مكة ولولا تلك المعاهدة لما تسنى لسليمي النية من قريش أن يحضروا إلى المدينة ويسلكوا سبيل الرشد. ومن مزاياها أنها كانت مقدمة لنصر عزيز هو فتح مكة من غير إراقة دماء بل عن طريق ألد أعدائه حامل لواء العصيان فيها أبي سفيان كما سنأتي بذلك فيما بعد.
وما إن نزلت هذه الآية الكريمة حتى ثبت اليقين في قلوب أصحاب الرسول أجمعين وأدركوا مبلغ خطئهم في استعجال الحوادث وأصبحوا ينتظرون النصر العزيز الذي وعدوا به وبينما هم على ذلك إذ قدم أبو بصير عتبة بن أسيد بن عارية بن عوف ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله ﷺ وبعثا رجلًا من بني عامر بن لؤي ومعه مولى لهم فقدما على رسول الله ﷺ بكتاب الأزهر والأخنس فقال الرسول ﷺ «يا أبا بصير إنا أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا فانطلق إلى قومك» قال يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني قال «يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا». فانطلق معها حتى إذا كان بذي الحليفة وهي قرية تبعد عن المدينة سبعة أميال جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه فقال أبو بصير أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر فقال نعم قال انظر إليه إن شئت قال فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله وخرج المولى سريعًا حتى أتى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول الله ﷺ طالعًا قال إن هذا الرجل قد رأى فزعًا فلما انتهى إلى رسول الله قال ويحك ما لك قال قتل صاحبكم صاحبي وما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا بالسيف حتى وقف على
القدسي بقوله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» نسأله تعالى أن يمن علينا بذلك من كرمه وبمحض رحمته.
بعد أن أكد الله للناس أن مرجعهم إليه لنيل الجزاء أو العقاب ثم شرح ما سيناله الكافرون والمؤمنون إذ ذاك أخذ يشير إلى مبلغ فضله ولطفه بعباده في هذه الحياة إذ يحول سبحانه وتعالى في كثير من الأوقات دون حلول الشر بمن يأتي من الأعمال والأقوال ما من شأنه أن يستدعي إصابته بمختلف الرزايا والآفات، ويكشف الضر عمن يلجأ إليه في طلب العون عند الشدة وإن كفر به في حال الرخاء فقال: ﴿ولو يعجل الله للناس الشر﴾ وهو اسم جامع للرذائل والخطايا وكل مكروه بمعنى يوقعه بهم بمجرد مباشرتهم لأسبابه من ظلم وفساد وفسق: ﴿كاستعجالهم بالخير﴾ أي كما يرجون حصول الخير لهم بمزاولة الأسباب المؤدية إليه: ﴿لقضي إليهم أجلهم﴾ بالبناء للمفعول وقرئ بالبناء للفاعل أي لهلكوا قبل الوقت المحدد لانتهاء آجالهم فكم من رجل يقع في خطر يؤدي إلى موت محقق فيلطف الله به وينجيه من ذلك بأعجوبة ليتم الأجل المحدد له، وكم من كافر معاند يبارز ربه بمختلف المعاصي التي يستحق عليها الهلاك فيمهله الله ولا يعاجله بالعذاب رحمة به لعله يتذكر أو يخشى: ﴿فنذر الذين لا يرجون لقاءنا﴾ أي فنترك ولا نعاجل بالعذاب من لا أمل لهم في الآخرة: ﴿في طغيانهم﴾ أي كفرهم وتكذيبهم: ﴿يعمهون﴾ أي يترددون ويتحيرون ليأخذوا حظهم من السعادة الدنيوية حسبما تمليه عليهم أهواؤهم ما داموا سيحرمون من نعيم الآخرة الذي رفضوه بعدم طمعهم فيه كما قال في آية أخرى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾.: ﴿وإذا مس الإنسان الضر﴾ هو ضد النفع من شدة وضيق أو جوع وغرق أو مرض وسوء حال: ﴿دعانا﴾ إما حالًا أو بعد اليأس من جميع وسائل النجاة: ﴿لجنبه﴾ أي مضطجعًا على جنبه: ﴿أو قاعدًا أو قائمًا﴾ أي في حالات العجز عن السير ملحًا في كشف ما به ولم يتعرض لحاله أثناء سعيه وأخذه بأسباب النجاة لأنه قلما يذكر ربه أو يعتمد عليه في مثل تلك الحالة: ﴿فلما كشفنا عنه ضره﴾ الذي دعانا لكشفه في حال شعوره بعجزه واستجبنا لدعائه وأزلنا ما به من ضر لا يقدر عليه أحد سوانا – كما يحصل كثيرًا – نسي أن ذلك كان بسر دعائنا وفضل منا و ﴿مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍ مسه﴾ أي ومضى على طريقته الأولى
الحلال دون تطفيف مكيال ولا ميزان ولا بخس لأحد حتى أصبحت لدي خبرة تامة بمزايا عدم التطفيف هل في استطاعتي أن أكتم ذلك عنكم أو أقصر في واجب أداء الرسالة إليكم: ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه﴾ أي أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستأثر بها دونكم بل أريد لكم ما أريد لنفسي: ﴿إن أريد﴾ أي ما أريد بدعوتي لكم: ﴿إلا الإصلاح﴾ العام فيما آمر به وأنهى عنه: ﴿ما استطعت﴾ أي ما دمت أستطيع ذلك وليس لي هوى في ذلك ولا منفعة شخصية: ﴿وما توفيقي﴾ التوفيق ضد الخذلان وهو الفوز والفلاح في إصابة الإصلاح وكل عمل صالح وسعي حسن: ﴿إلا بالله﴾ أي بمعونة الله وفضله وما يؤتيني من القدرة على إنجاز ما أسعى إليه: ﴿عليه توكلت﴾ في أداء ما كلفني بتبليغه لكم لا على حولي وقوتي: ﴿وإليه أنيب﴾ أي أرجع إليه في كل ما نابني من أمور الدنيا والجزاء على أعمالي في الآخرة فأنا لا أرجو منكم جزاء ولا أخاف منكم ضرًّا: ﴿ويا قوم لا يجرمنكم﴾ بفتح الياء وكسر الراء وقرئ بضم الياء من جرم الذنب أو المال بمعنى كسبه: ﴿شقاقي﴾ الشقاق شدة الخلاف الذي يكون فيه أحد المختلفين في شق غير الذي يكون فيه الآخر: ﴿أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح﴾ أي لا تحملنكم مشاقتكم وعداوتكم لي على الإصرار على معاندتي مما يؤدي إلى إصابتكم بمثل ما أصاب مكذبي الرسل من قبلكم كقوم نوح أو هود أو صالح من عذاب الخزي والاستئصال: ﴿وما قوم لوط منكم ببعيد﴾ زمنًا ولا مكانًا ولا إجرامًا: ﴿واستغفروا ربكم﴾ أي اطلبوا منه المغفرة لما أنتم عليه من الشرك والمعاصي: ﴿ثم توبوا إليه﴾ بالعزم على عدم العودة إلى ذلك: ﴿إن ربي رحيم﴾ يغفر للمستغفرين: ﴿ودود﴾ يتودد إلى عباده بما يواليه عليهم من وافر النعم. وهنا كبر على القوم تلويح نبيهم لهم بما أصاب قوم نوح وهود وصالح ولوط: ﴿قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول﴾ أتريد أن تهددنا وتخيفنا حتى نؤمن لك: ﴿وإنا لنراك فينا ضعيفًا﴾ أي في حين أنك في نظرنا أحقر من أن تبلغ بك الجرأة إلى حد تهديدنا وتخويفنا: ﴿ولولا رهطك﴾ الرهط جماعة من الثلاث فما فوق من العشيرة والأقربين أي لولا حرمتهم عندنا باعتبارهم على ملتنا وموضع التقدير والاحترام في نظرنا: ﴿لرجمناك﴾ بالحجارة حتى تموت جزاء على تهديدك لنا: ﴿وما أنت﴾ بشخصك: ﴿علينا بعزيز﴾ فمن السهل علينا جدًّا رجمك والتنكيل بك: ﴿قال يا قوم أرهطي أعز﴾ وأكرم: ﴿عليكم من الله﴾ بمعنى أنكم
﴿كذلك يضرب الله الأمثال﴾ التي يوضح الله للناس ما أشكل عليهم من الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر ومزية كل منهما قال صلى الله عليه وسلم: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به فعلم وعلَّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».
﴿للذين استجابوا لربهم﴾ أي آمنوا به وبرسله وصدقوا ما أنزل عليهم من ربهم فاتبعوهم فمثلهم كمثل الماء الجاري في طريقه الذي رسمه الله للنفع، جزاؤهم: ﴿الحسنى﴾ أي المثوبة التي وعد الله بها عباده العاملين في الجنة ونعيمها الدائم، جعلنا الله منهم بكرمه: ﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ أي لم يؤمنوا به ولم يصدقوا رسله وأبوا الانقياد لأوامره فمثلهم كمثل الزبد الذي يطغى على أصله ويتخبط في سيره لا يلبث أن يخمد ويتلاشى ويحرم من ثواب الطاعة ويستحق العذاب: ﴿لو أن لهم ما في الأرض جميعًا﴾ من أنواع الثروة: ﴿ومثله معه لافتدوا به﴾ أنفسهم من ذلك العذاب ولكنه لا فداء: ﴿أولئك لهم سوء الحساب﴾ إذ يناقشون على الجليل والحقير بلا هوادة ولا رحمة: ﴿ومأواهم﴾ بعد الحساب: ﴿جهنم وبئس المهاد﴾ المهاد: الأرض المنخفضة أي يظلون في طبقات جهنم، وهنا أشار جل جلاله إلى أن ما يناله كل من الفريقين لم يكن حكمًا تعسفيًا بل هو مبني على قواعد عقلية وسنن مضطردة لأنه تعالى لا يصدر في جميع أحكامه إلا عن حكمة تتفق مع مقتضى العدل فقال: ﴿أفمن يعلم﴾ بما آتاه الله من نعمة العقل فأدرك: ﴿أنما أنزل إليك من ربك الحق﴾ الذي يضمن سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم ولذلك نراه يسير في الحياة على هديه ويحرص كل الحرص على تطبيق أحكامه ليصل إلى السعادة التي رسم طريقها رب العزة: ﴿كمن هو أعمى﴾ البصيرة وهو من لا يحكم عقله فيما أنزل إلى الرسول أهو حقًّا من عند الله أم لا ويظل سابحًا في ظلمات الجهل والضلال وقد سمى الله الكافر أعمى لأنه لو كان ذا بصيرة حقًّا لتلا كلام الله وتدبر آياته واهتدى بها فإعراضه عن ذلك دليل على عماه ولذا ختم الله الآية بقوله: ﴿إنما يتذكر أولو الألباب﴾ أي لا يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها إلا أصحاب العقول السليمة والآراء الصائبة لا من هو كالحيوان الأعجم سليم النظر فاقد العقل والتفكير.
بحركتها التي لا تستطيع التوقف عنها: ﴿والملائكة﴾ أيضًا في تنقلاتها خاضعة لأمر ربها: ﴿وهم﴾ أي الملائكة مع عليائهم: ﴿لا يستكبرون﴾ عن عبادته والسجود له: ﴿يخافون ربهم﴾ خوف إجلال من عظم معرفتهم له لا خوفًا ناشئًا عن ارتكاب المعاصي فهم معصومون منها بقدرة الله فكلما عظمت معرفة المخلوق لخالقه اشتد خوفه منه كما قال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾.: ﴿من فوقهم﴾ هذا إشارة إلى أن فوقية الله ثابتة على جميع مخلوقاته بما فيهم ملائكته وحملة عرشه: ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ به من تسجيل أعمال العباد وتثبيت قلوب المؤمنين وتبليغ رسالة الله للنبيين إلى غير ذلك بحيث لا يتصور منهم الإهمال أو عدم الانقياد.
بعد أن أيد الله رسالة رسوله ﷺ وتوعد المعرضين عن الاهتداء بهدية وأشار إلى أن كل ما سوى الله من جماد وحيوان وملك خاضع لجلال الله وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وما يقتضيه ذلك من وجوب الإيمان بوحدانيته والخوف منه وأن كل ما سواه فهو ملك له وأنه مصدر النعم كلها فقال: ﴿وقال الله﴾ لعباده في جميع كتبه وعلى لسان سائر أنبيائه: ﴿لا تتخذوا إلهين اثنين﴾ تعبدوهما وتدعونهما في الشدائد، وقد ذكر العدد مع أن صيغة التثنية تغني عنه للدلالة على أن النهي منصب على التعدد المنافي للوحدانية التي دعي إليها بقوله: ﴿إنما هو إله واحد﴾ فتعدد الآلهة أمر لا يسلم به العقل السليم لما يترتب على ذلك من تنازع السلطة بينهما مما يؤدي إلى الفساد كما قال تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ وحيث ثبت أن لا إله إلا الله لجميع الكائنات والمتصرف فيها كيف يشاء ولا منازع له وأنه تعالى هو المتكلم بهذا الكلام الآمر بعدم اتخاذ الشركاء حسن أن يعدل من الغيبة إلى الحضور فوجه خطابه تعالى إلى سائر عباده لإلقاء المهابة في القلوب وقال: ﴿فإياي فارهبون﴾ أي إن الخوف يجب أن لا يكون من أحد غيري، وهذا لا يعني بحال من الأحوال عدم المبالاة بما أودعه الله في الأشياء من خواص ضارة أو أسباب تؤدي الهلاك بحسب سنن الله إذ الوقاية منها في الواقع إنما هي خوف من الله المقدر لها: ﴿وله ما في السموات والأرض﴾ من كل صامت وناطق وحيوان وجماد هو الذي أوجدهم من العدم وتتكفل برزقهم منذ الأزل وبيده حياتهم وفناؤهم: ﴿وله الدين﴾ وهو اسم لجميع ما يتعبد به: ﴿واصبًا﴾ أي ثابتًا فهو سبحانه الذي شرع العبادات وهو الذي يستحقها: ﴿أفغير الله تتقون﴾ أي إنه بعد علمكم بهذا كله هل يعقل أن تحذروا غيره كحذركم منه جل وعلا: {وما
القدسي بقوله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» نسأله تعالى أن يمن علينا بذلك من كرمه وبمحض رحمته.
بعد أن أكد الله للناس أن مرجعهم إليه لنيل الجزاء أو العقاب ثم شرح ما سيناله الكافرون والمؤمنون إذ ذاك أخذ يشير إلى مبلغ فضله ولطفه بعباده في هذه الحياة إذ يحول سبحانه وتعالى في كثير من الأوقات دون حلول الشر بمن يأتي من الأعمال والأقوال ما من شأنه أن يستدعي إصابته بمختلف الرزايا والآفات، ويكشف الضر عمن يلجأ إليه في طلب العون عند الشدة وإن كفر به في حال الرخاء فقال: ﴿ولو يعجل الله للناس الشر﴾ وهو اسم جامع للرذائل والخطايا وكل مكروه بمعنى يوقعه بهم بمجرد مباشرتهم لأسبابه من ظلم وفساد وفسق: ﴿كاستعجالهم بالخير﴾ أي كما يرجون حصول الخير لهم بمزاولة الأسباب المؤدية إليه: ﴿لقضي إليهم أجلهم﴾ بالبناء للمفعول وقرئ بالبناء للفاعل أي لهلكوا قبل الوقت المحدد لانتهاء آجالهم فكم من رجل يقع في خطر يؤدي إلى موت محقق فيلطف الله به وينجيه من ذلك بأعجوبة ليتم الأجل المحدد له، وكم من كافر معاند يبارز ربه بمختلف المعاصي التي يستحق عليها الهلاك فيمهله الله ولا يعاجله بالعذاب رحمة به لعله يتذكر أو يخشى: ﴿فنذر الذين لا يرجون لقاءنا﴾ أي فنترك ولا نعاجل بالعذاب من لا أمل لهم في الآخرة: ﴿في طغيانهم﴾ أي كفرهم وتكذيبهم: ﴿يعمهون﴾ أي يترددون ويتحيرون ليأخذوا حظهم من السعادة الدنيوية حسبما تمليه عليهم أهواؤهم ما داموا سيحرمون من نعيم الآخرة الذي رفضوه بعدم طمعهم فيه كما قال في آية أخرى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾.: ﴿وإذا مس الإنسان الضر﴾ هو ضد النفع من شدة وضيق أو جوع وغرق أو مرض وسوء حال: ﴿دعانا﴾ إما حالًا أو بعد اليأس من جميع وسائل النجاة: ﴿لجنبه﴾ أي مضطجعًا على جنبه: ﴿أو قاعدًا أو قائمًا﴾ أي في حالات العجز عن السير ملحًا في كشف ما به ولم يتعرض لحاله أثناء سعيه وأخذه بأسباب النجاة لأنه قلما يذكر ربه أو يعتمد عليه في مثل تلك الحالة: ﴿فلما كشفنا عنه ضره﴾ الذي دعانا لكشفه في حال شعوره بعجزه واستجبنا لدعائه وأزلنا ما به من ضر لا يقدر عليه أحد سوانا – كما يحصل كثيرًا – نسي أن ذلك كان بسر دعائنا وفضل منا و ﴿مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍ مسه﴾ أي ومضى على طريقته الأولى
المؤمنين يعلمهم كيف يحرصون على أداء فرائضه بدقة ونظام ويرسم لهم سبيل العمل للآخرة والدنيا فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبما جاء من عنده: ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ﴾ التي فرضت عليكم بمعنى حان وقتها: ﴿مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ وهي الصلاة التي حدد لإقامتها أول الوقت واشترط فيها الجماعة وأن تؤدى بركعتين مضافة إلى خطبتين: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ أي بادروا إلى إجابة داعي الله لتسمعوا موعظة الإمام وليس المراد بالسعي الإسراع بالمشي إليها فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون – أي تسرعون- وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».
﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ الذي هو وسيلة الربح وغيره من باب أولى بمعنى اتركوا العمل للدنيا عندما يحين الوقت لإجابة داعي الله أو لأداء ما فرض عليكم: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ في دينكم ودنياكم: ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حقائق الأمور ذلك أن من عمل للآخرة ورجا ثواب ربه أعانه سبحانه على أمور دنياه ويسر له سبل الرزق من حيث لا يحتسب وآتاه في الآخرة أضعاف ذلك ومن عمل للدنيا واعتمد على نفسه وكسب يده وكله الله إلى جده واجتهاده فلا يحصل من الرزق إلا على قدر ما بذل في دنياه فقط وهو ضعيف فلا ينال من الخير إلا الشيء القليل ولن ينال شيئًا في آخرته، وبعبارة أخرى إن الله قد جعل في العبادة أسرارًا لشفاء الأمراض النفسية كما جعل سبحانه في الأعشاب خواص لشفاء الأمراض البدنية: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾ أي صليتم فريضة الجمعة: ﴿فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ﴾ أي ليذهب كل منكم إلى عمله: ﴿وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ﴾ أي أعملوا لنيل الرزق الذي تفضل الله فأعده لكم وأمركم بالسعي لاكتشاف مواضعه والحصول عليه بمختلف السبل: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ﴾ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا وألهمكم طرق الاستفادة من كل شيء ومنحكم منه الحياة والقدرة على العمل: ﴿كَثِيرًا﴾ أي في سركم وجهركم وفي أثناء العمل بطلب العون منه وعند الراحة بالحمد والشكر: ﴿لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي تفوزون بما تؤمنون من سعادة الدنيا والآخرة وهنا أخبر الله رسوله بما عليه حال معظم الناس إزاء طاعة الله حتى في عهده عليه الصلاة والسلام فقال: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ تخطب فيهم وتعظهم أو تصلي بهم إمامًا وهذا أشد قبحًا ممن لا يذر البيع عندما يدعو الداعي إلى الصلاة ولذا أمر الله نبيه أن ينهاهم عن ذلك ويقنعهم بخطئهم في تصرفهم هذا حيث قال: ﴿قُلْ مَا عِندَ اللهِ﴾ من
القرآن في النفوس حتى إن بعض الجن على ما عرف عنهم من تمرد لما سمعوا القرآن الكريم وعلموا أنه من كلام الله اهتدوا به وظهر لهم من دراسته الحقائق الآتية التي حكاها الله بقوله: ﴿فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا﴾ أي خارجًا عن أشكاله ونظائره مما سبقه من الكتب السماوية: ﴿يهدي﴾ بأسلوبه وآياته وأدلته العقلية القاطعة: ﴿إلى الرشد﴾ وهو الإيمان بوحدانية الله الخالق لجميع الكائنات والمدبر لشئونها: ﴿فآمنا به﴾ أنه كلام الله الذي يسمو عن كلام البشر: ﴿ولن نشرك بربنا أحدًا﴾ أي بعد ما جاء فيه من أدلة تثبت ذلك ولا تقبل الريب ولا تبقي في النفوس أي شك.
الحقيقة الثالثة قولهم: ﴿وأنه تعالى جد ربنا﴾ الجد أبو الأب وأبو الأم وأن علا والرب: المالك والمعبود بمعنى أنه أصل الأصول ومصدر الربوبية ورب الأرباب أو الرب الأصلي الذي تنسب إليه جميع الأرباب مع أنه: ﴿ما اتخذ صاحبة﴾ حتى يأتي بالولد: ﴿ولا ولدًا﴾ إذ هو ليس في حاجة إليه.
الحقيقة الثالثة قولهم: ﴿وأنه كان يقول سفيهنا﴾ السفه الجهل ورداءة الخلق نقيض الحلم وحسن الخلق: ﴿على الله شططًا﴾ الشطط مجاوزة الحد في الظلم بمعنى أنهم كانوا لا يعرفون شيئًا عن ذات الله وصفاته وكانوا يحسبونه شخصية مجسمة أو عينًا من الأعيان المادية فلا يدركون عظمته ولا يتصورون سلطانه ويخوضون في الكلام عنه بأقوال كثيرة ولكنهم عند ما سمعوا القرآن آمنوا بأنه ليس كمثله شيء وعرفوه بصفاته وآلائه فأيقنوا أن كل ما كان يقال عنه جل وعلا ما هو إلا شطط مرده إلى جل بالحقائق وضلال مبين وعدم معرفة بالله رب العالمين.
الحقيقة الرابعة قولهم: ﴿وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبًا﴾ أي أنهم ما كانوا يتصورون إمكان إقدام أحد من مخلوقات الله على الكذب على خالقه فلما سمعوا القرآن علموا أن من عباد الله من تجرأ عليه ومن أجل هذا جاء القرآن متوعدًا لهم بالعذاب الأليم.
الحقيقة الخامسة قولهم: ﴿وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادهم رهقًا﴾ أي أن هناك صلات ما بين الإنس والجن تحمل بعض بني الإنسان على الاستعانة ببعض الجن في استخدامهم والاستعانة بهم لاكتشاف الأسرار وقضاء بعض المصالح وكان هؤلاء بدورهم يكذبون عليهم ويوهمونهم أنهم قادرون على قضاء مصالحهم ولما سمعوا القرآن وآمنوا بأنه لا
قلل عليه الرزق ليختبر مبلغ صبره ولجوئه إلى الله في طلب المزيد: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ أي يعتبر ذلك إهانة موجهة من الله إليه فيناصب ربه العداء ويجحد ما له عليه من نعمة السمع والبصر والصحة والعلم وغيرها من الآلاء،: ﴿كَلاَّ﴾ أي ليس الأمر كما يتصورون فليست الثروة والجاه معيارًا لحب الله للخلق يكرم الله بها من يصطفي من عبيده ويحرم منها من يغضب عليه فكل هذا خطأ في الفهم بل إن هناك من الأنظمة الاجتماعية الخفية ما جعلها الله أسبابًا حقيقية للسعادة والهناءة في هذه الحياة وتعد هذه الأسباب في مقدمة الأسس العمرانية في نظام الحياة الاجتماعية والسبيل الوحيد للوصول إلى السعادة الحقيقة للإنسان وهي إنما تتحقق بقواعد عليا إذا ما طبقت نالت الأمم سعادتها وهناءتها وشعرت بلذة عيشها ورفاهيتها وزال عنها كل أسباب الشقاء وما يولد لها المتاعب والأزمات، فبها يقدم كل شخص ما استطاع لخدمة المجتمع عن رغبة ورضا وبها تتوفر الثقة التي من شأنها أن تغرس الحب في النفوس وتؤدي إلى تداول الثروة بين الناس فيعمل الجميع في جو مشبع بالود والإخلاص حتى ينمو ويستفيض ويغمر جميع الطبقات فلم يعد متركزًا في طائفة دون أخرى ولم يبق فارق بين الرأسماليين والعمال حيث يقضي على ما بينهم من روح البغض والشحناء وينتزع من صدورهم غريزة القسوة والاستبداد وتحل محلها رحمة الإنسان بأخيه الإنسان، هذه القواعد العليا التي ربط الله بها السعادة والشقاء في الحياة الدنيا وجعل تفاوت الأفراد في تطبيقها سبيلًا إلى الثروة وعلو الدرجات بين الشعوب تنقسم إلى أربعة أقسام: اثنان موجبان، واثنان سالبان، فأما السالبان فهما عدم إكرام اليتامى وعدم عون من هو في حاجة إلى العون وقد أشار إليهما الله بقوله: ﴿بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ وأما الموجبان فهما منع الحقوق عن أصحابها وحبس الأموال عن التداول فيما خلقت له وقد أشار إليهما بقوله: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾. فالرزق لا يكثر والسعادة لا تتم إلا عند إكرام اليتامى وعون المساكين ولا يقل المال وتنتفي السعادة الحقة إلا باغتصاب حقوق الآخرين والتكالب على جمع المال واكتنازه، ولتحقيق الغرض الأول عني الإسلام في مواضع كثيرة بأمر اليتامى وأوضح سبيل إكرامهم بإصلاح أمورهم وعدم التعالي عليهم حيث قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾.