الجنة لا يخرجون منها ولا هي تفنى فيزولون بزوالها. جعلنا الله في زمرتهم وكتبنا فيهم ومنهم بفضله وكرمه.
وبعد أن أثبت الله سبحانه أن هذا القرآن قد نزل من عنده، وتحدى الجميع على الإتيان بسورة من مثله قرر حقيقة أخرى هي أنه لا يطعن في فصاحته وبلاغته أنه جاء مليئًا بالأمثال فقال: ﴿إن الله لا يستحي أن يضرب﴾ في القرآن ﴿مثلًا ما بعوضة﴾ أي بالبعوضة ومثيلاتها كالذباب أو العنكبوت ﴿فما فوقها﴾ أي ما فاقها في مرتبة الصغر والحقارة ﴿فأما الذين آمنوا﴾ بأنه من عند الله ﴿فيعلمون أنه﴾ ما جاء بهذه الأمثال إلا لزيادة الإيضاح والتبيان، وليخاطب الناس على قدر عقولهم، ويقرب الأمر إلى أذهانهم فهو ﴿الحق﴾ الذي لا مراء فيه ﴿من ربهم﴾ فيحملهم هذا العلم على التفكير في حقائق الأشياء والتأمل في بدائع المخلوقات فيزدادون إيمانًا ﴿وأما الذين كفروا﴾ بالقرآن وجحدوا تنزيله من عند الله ﴿فيقولون﴾ لقصر نظرهم ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلًا﴾ أي ما هو الداعي لهذا المثال؟ ولو سلمت نفوسهم من الريب لتركوا الاعتراض، وأيقنوا بأن ذلك لا يخلو من حكمة، ولعل في ذكر مثل هذه الأمثال في القرآن ما يمتحن الله به قلوب عباده حيث تثبت به قلوب المؤمنين وتزيغ منه قلوب الضالين الفاسقين وبمثل هذا ﴿يضل به كثيرًا﴾ نتيجة اعتراضهم وريبتهم ﴿ويهدي به كثيرًا﴾ جزاء إيمانهم وتسليمهم ﴿وما يضل﴾ الله ﴿به﴾ أي بما ذكر من الأمثال ﴿إلا الفاسقين﴾ فسق: خرج عن طريق الحق والفاسق هو الذي يستحل لنفسه ما حرم الله وقد وصف الله الفاسقين بصفات ثلاث هي نقض العهد، وقطع ما يجب أن يوصل، والإفساد في الأرض، وسجل عليهم بذلك الخسران المبين فقال هم ﴿الذين ينقضون عهد الله﴾ الذي أخذه عليهم بواسطة الرسل والأنبياء من حفظ حواسهم واستعمال مواهبهم فيما خلقت لها والوفاء للناس فيما عاهدوهم عليه ﴿من بعد ميثاقه﴾ ودعمه بالإيمان بالله وتصديق رسله وكتبه أو تأكيده للناس بالحلف بالله لما يترتب على نقض العهد الأول من اختلال النظام الكوني وعموم الفوضى في جميع الشئون، ويترتب على نقض العهد الثاني من انتزاع الثقة بين الناس في جميع معاملاتهم وفقدان التعاون في المحافظة على مرافق الحياة ﴿ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل﴾ من روابط المودة والإخاء بين المسلمين عامة والأقربين من ذوي الرحم والجيرة خاصة لما يترتب على ذلك من التقاطع بينهم وحلول العداء محل الوئام والولاء ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بارتكاب المحرمات التي لم يمنع الله من إتيانها إلا لما
وعلى ذكر الحج، ولما كان أهل الجاهلية يتخذونه في أي شهر من أشهر العام ثم جاء الإسلام بتنظيمه في أوقات مخصوصة قال تعالى ﴿الحج أشهر معلومات﴾ أي إن الوقت الذي يؤدي فيه الحج هو أشهر مخصوصة، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ﴿فمن فرض﴾ على نفسه ﴿فيهن الحج﴾ بالنية أو بالشرع في أعماله ﴿فلا رفث﴾ بفتح الثاء وقرئ برفعها فيجب أن يمتنع عن الرفث ويراد به الجماع لأنه يتنافى مع خلوصه من ملذات الحياة وانصرافه لمحض طاعة الله فهو مفسد للحج ﴿ولا فسوق﴾ بفتح القاف وقرئ برفعها ويجب أن يمتنع أيضًا عن الفسوق ويراد به محرمات الإحرام من الطيب والزينة ولبس المخيط لأن ذلك لا يتفق ومقصد المحرم ﴿ولا جدال﴾ بفتح اللام وقرئ برفعها أي ويجب أن يمتنع أيضًا عن الجدال ويراد به كل ما من شأنه أن يستفز النفوس ويولد العداء ويؤدي إلى القتال ولو كان ذلك عن حق لأنه مما يتنافى مع الغاية التي يرمي إليها الحج من التساوي والتسامح وحسن الخلق ﴿في الحج﴾ كل ذلك مما لا ينبغي أن يكون في الحج ﴿وما تفعلوا من خير﴾ من الإكثار من الصدقات ﴿يعلمه الله﴾ فيجزيكم عليه خير الجزاء ﴿وتزودوا﴾ للحج بكل ما تحتاجونه في تلك الديار قبل مجيئكم، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم هناك فأنزل الله تعالى ﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى﴾ أي فإن خير الزاد طاعة الله، وهي بأن تكفوا في هذا المقام وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وأن تلاحظوا أن الحج لم يفرض إلا على المستطيع وأن تكفلكم الحج مع السؤال والظلم معصية تتنافى مع التقوى ﴿واتقون﴾ بأداء الواجبات وترك المحظورات ﴿يا أولي الألباب﴾ فيجب أن تحكموا عقولكم في الأمر يا أصحاب العقول الراجحة فإذا كان القصد من الحج هو الطاعة فليس من الصواب أن تأتوا به متلبسين بحالة لا ترضي الله ولا تنطبق على معنى الاستطاعة.
لما نهى الله قاصد الحج عن الرفث والفسق والجدال وأمره بالتزود للحج وأخبره أن خير الزاد التقوى أراد دفع ما قد يتوهم من أن أيام الحج أيام عبادة وبر فقط فلا ينبغي أن تشغل بالتجارة التي هي من أعمال الدنيا فقال
وامرأتان) فلا بأس في هذه الحالة من الاكتفاء باستشهاد رجل واحد وامرأتين على شرط أن يكونوا (ممن ترضون من الشهداء) الحائزين لصفات العدالة الذين تثقون بنباهتهم وعدم تحيزهم إلى أحد الجانبين. وهنا أراد الله جل شأنه أن لا يجرح إحساس المرأة فبين السبب في قيام المرأتين مقام الشاهد الثاني فقال (أن) بفتح الهمزة وقرئ بكسرها (تضل إحداهما) أي تخطىء في ضبط الموضوع لما ينتابها من آلام الحمل والوضع ومعالجة شؤون الأطفال التي من شأنها أن تسبب لها النسيان، وضعف الذاكرة (فتذكر) بتشديد الكاف وقرئ بتخفيفها (إحداهما الأخرى) أي كل واحدة منهما صاحبتها فيما نسيت من الشروط التي حصل عليها الاتفاق (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) أي كما إن من واجب الكاتب العدل أن لا يرفض الكتابة كذلك من واجب الشاهد أن لا يرفض تحمل الشهادة وأداءها حرصًا على عدم إضاعة الحقوق بين الناس (ولا تسأموا) ولا تتكاسلوا بالضجر والتبرم من (أن تكتبوه) أي الدَّين (صغيرًا) كان (أو كبيرًا) مهما بلغ من قلة القيمة أو الكثرة (إلى أجله) أي كتابة موعد السداد فمن لا يحرص على حفظ القليل لا يهتم بصيانة الكثير، ومن قصد الوفاء حرص على تحديد الميعاد والوقت الذي يغلب في يقينه القدرة على السداد فيه (ذلكم) اتباع ما ذكر من الأحكام (أقسط عند الله) أعدل عند الله فإنه يعين المدين على سداد الحق المطلوب منه متى علم منه صدق نيته على الوفاء كما في الحديث «من أخذ أموال الناس يريد سدادها سدد الله عنه دينه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله» (وأقوم للشهادة) فإنه يعين الشهود على تحملها وأدائها كما ينبغي (وأدنى ألا ترتابوا) فإنه لا يجعل محلًا للنسيان ولا يترك منفذًا للشك مع وجود الشهود فيما إذا حدث خلاف بين المتداينين (إلا أن تكون) المعاملة التي بينكم (تجارة) بفتح التاء الأخيرة وقرئ بضمها (حاضرة) لا تأجيل فيها (تديرونها بينكم) بأن يأخذ المشتري المبيع والبائع الثمن في الحال فلا حرج في هذه الحالة من ترك كتابتها لأنه لا يخشى في ذلك من تولد الارتياب المؤدي إلى التنازع والخصام وما وراء ذلك من المفاسد (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم) أي وإنما يلزمكم في التجارة الحاضرة مجرد الإشهاد دون الكتابة لإتمام صفة البيع شرعًا ليعلم مصدر السلعة فلا يدعي آخر ملكيتها فيتهم مشتريها بالسرقة وذلك ضمانًا لصيانة الحقوق وسلامة التعامل من الاشتباه (ولا يضار) وقرئ «يضارر» بكسر الراء الأولى وفتحها (كاتب ولا شهيد) ولا ينبغي لأصحاب المعاملات أن يلحقوا بالكاتب
يروى أن بعض السلف غاظه غلامه غيظًا شديدًا فهمَّ بالانتقام منه فذكره الغلام بقول الله تعالى ﴿والكاظمين الغيظ﴾ فقال كظمت غيظي! فقال ﴿والعافين عن الناس﴾ فقال عفوت عنك، قال ﴿والله يحب المحسنين﴾ فقال اذهب فأنت حر لوجه الله.
٥ - ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ يتعدى أثرها إلى الغير كالغيبة والزنا وما شاكلهما من الكبائر ﴿أو ظلموا أنفسهم﴾ بارتكاب ذنب يقتصر ضرره على فاعله كشرب الخمر مثلاً ﴿ذكروا﴾ أن ﴿الله﴾ كان مطلعًا عليهم ساعة ارتكاب الذنب وخافوا عقابه ﴿فاستغفروا﴾ الله ﴿لذنوبهم﴾ وندموا على ما فرط منهم ﴿ومن يغفر الذنوب إلا الله﴾ هذه جملة معترضة يؤكد الله بها قبول توبة التائبين، فكأنه يقول وكان حقًا على الله أن يقبل استغفارهم، فمن سواه جل وعلا يملك غفران ذنوبهم ﴿ولم يصروا﴾ بعد ذلك الاستغفار ﴿على ما فعلوا﴾ من الذنوب ﴿وهم يعلمون﴾ أي حالة كونهم على علم سابق بها فالمراد من العلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاث: الناسي والمخطئ والمكره» ﴿أولئك﴾ أي الذين اتصفوا بما ذكر ﴿جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ وهذا وعد من الله لن يخلفه يستطيع كل إنسان أن يطبقه على نفسه ليتبين مصيره في الآخرة منذ الآن ﴿ونعم﴾ هذا الأجر ﴿أجر العاملين﴾ لبلوغ تلك المراتب العلية.
بعد أن أمر الله المؤمنين بما أمر وحضهم على الطاعة وتجنب العصيان، أتبع ذلك بما يحملهم على الحرص على ما ذكر فأمرهم بدراسة ما سنه الله من سنن وإمعان النظر فيما أصاب الأمم السابقة من هلاك ودمار نتيجة مخالفتهم لتلك السنن دون أن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، فقال تعالى: ﴿قد خلت من قبلكم﴾ في أحوال الأمم السابقة وما انتهت إليه ﴿سنن﴾ هي جديرة بالتأمل والاعتبار ﴿فسيروا في الأرض﴾ ابحثوا ونقبوا عن آثار تلك الأمم وما كانوا عليه من علم وعرفان وعظمة وسلطان وما انتهوا إليه من فناء ودمار ﴿فانظروا﴾ بعد ذلك ﴿كيف كان عاقبة المكذبين﴾ لآيات الله ورسوله في هذه الحياة الدنيا، هل أغني عنهم كل ما كان لهم من الله شيئًا؟ فهؤلاء الفراعنة الذين بلغوا من السطوة والقوة ما ادعوا به الربوبية، لقد أصبحوا الآن هم وآثارهم عرضة للأنظار وعبرة لكل معتبر، وهؤلاء قوم عاد وثمود أصبحت ديارهم قاعًا
أعمالهم أو هم من تغلب حسناتهم على سيئاتهم بحيث لا يصرون على الذنب وهم يعلمون ﴿وحسن أولئك﴾ من ذكر ممن اصطفاهم الله أو الذين أهلوا أنفسهم لرضوانه ﴿رفيقًا﴾ أي: من يرافقون من أصحاب المقامات العالية عند الله نتيجة اقتدائهم بهم واقتفائهم لآثارهم وقد روى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها أنه جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإني ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإني ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلتها خشيت أن لا أراك فلم يرد النبي ﷺ عليه شيئًا حتى نزل جبريل بهذه الآية وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أمرين الأول أن العبرة في الحب بالطاعة والاقتداء في الأفعال لا بمجرد العاطفة والشوق. والثاني: أنه ما دامت العبرة بالطاعة فمن شأنها أن تلحق التابع بالمتبوع في الإكرام والتقدير ﴿ذلك الفضل﴾ الأجر العظيم للطائعين وإلحاقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴿من الله﴾ لا من غيره ﴿وكفى بالله عليمًا﴾ بخفايا المقاصد وخالص الأعمال يقدر لكل حالة قدرها ويثيب عليها من واسع كرمه وجوده.
بعد أن أمر الله الذين آمنوا بالتزام واجب الطاعة كأساس لاتحاد المسلمين حول غاية واحدة هي رضاء الله بالاحتكام إلى كتبه المتعاقبة والتي انتهت بالقرآن الكريم المنزل على خاتم أنبيائه الذي فوض إليه الحكم بين الناس بما أراه الله وشدد النكير على من رغب عن حكمه إلى حكم غيره من أهل الطغيان ونفى الإيمان عن من لا يحكمه
وتزكية نفسه في الدنيا ومنتهى السعادة في الآخرة (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) أي بسبب نقضهم (مِيثَاقَهُمْ) الذي واثقناهم به بسلوكهم السبيل المؤدي إلى غضب الله (لَعَنَّاهُمْ) أي أغضبونا فاستحقوا لعنتنا والبعد من رحمتنا التي لا ينالها إلا من يطلبها (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وقرئ «قسيّة» بتشديد الياء نتيجة لمخالفتهم لتلك الأحكام التي هي بمثابة وصفة طبية لعلاج النفس فالصلاة التي هي الصلة بين الله والعبد من شأنها أن تحد من كبرياء النفس وتخضعها لأوامر باريها كما أن الزكاة التي هي صلة التراحم بين الناس من شانها أن تروض النفس على التخلي عن جزء من المال الذي هو أحب شيء لديها ابتغاء مرضاة الله. والإيمان بالرسل وتعزيزهم إذعان لله وحده بالألوهية واعتراف لهم بالرسالة وهذا من شأنه أن يوحد الأديان ويجمع الكلمة على طاعة الله دون سواه والإقراض لله دليل على كمال الثقة به واليقين الكامل بصحة وعده وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إخلاص الأعمال كلها لله والتفاني في حبه والتقرب منه فلما نقض بنوا إسرائيل الميثاق وأهملوا استعمال تلك الوصفة الطبية أو العلاج الروحي لنفوسهم قست قلوبهم بفطرتها فبعدت عن الله ولم تعد تخضع لأحكامه ولم تعمل لرضاه وكان هذا بتقدير الله الذي جعل لتلك الأحكام ما ذكر من خواص وهذا مما جنوه على أنفسهم ولا يعني أن الله قد قضى عليهم باللعنة وقسوة القلب من غير ذنب وقد ترتب على ذلك أنهم أصبحوا
<٣٨>
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي يبيحون لأنفسهم أن يتصرفوا فيما أنزل عليهم من التوراة زيادة ونقصاً في اللفظ والمعنى ولا أدل على هذا من التوراة التي كتبها موسى وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل بحفظها قد فقدت باتفاق مؤرخي اليهود والنصارى عند سبي البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها كما كان المسلمون يستظهرون القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى فيها خبر كتابة التوراة وأخذ العهد عليهم بحفظها ولا شك أن هذا ليس منها قطعاً وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع وفي هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح من الزمن طويل كما أن فيها كثيراً
الثالث: قوله تعالى: ﴿ليجمعنكم﴾ في هذه الحياة الدنيا قرنًا بعد قرن لتعمروها بالأعمال الصالحة التي تنفعكم في الآخرة حتى إذا ما كثرتم وتم جمع أشلائكم بداخل الأرض ﴿إلى يوم القيامة﴾ وفي هذا إشارة إلى أن الحياة الدنيا لم تكن مقصودة لذاتها بل لتكون وسيلة لتكاثر النسل وسبيلًا لصالح الأعمال التي تنفع الناس في ذلك اليوم الذي ﴿لا ريب فيه﴾ وقد أعلن الله الملأ بما سيكون هنالك من حساب وجزاء ليغرس خوفه في القلوب.
الجواب الرابع: قوله ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ بعدم التحكم فيها وإخضاعها لأوامر الله والاهتداء بهديه، بمعنى من تغلبت عليهم نفوسهم الشهوانية فأطاعوها ﴿فهم﴾ الذين قضى الله في دستوره أنهم ﴿لا يؤمنون﴾ وهذا الإعلان عن عدل الله. فهو لم يفرض الإيمان فرضًا على عباده، ولم يحكم بحرمان أحد منه رغبة في إضلالهم. بل إنه تعالى مهد للناس طريق الخير والشر ونبههم إلى ذلك وقضى بعدم إيمان كل من حكمته نفسه وزينت له شهواتها وأوردته موارد الخسران.
الجواب الخامس: قوله ﴿وله﴾ ينسب فعل ﴿ما سكن في الليل والنهار﴾ أي ما لا حركة له بمعنى أنه تعالى لا يؤاخذ على فعل الجامدات فإذا ما وقع حجر مثلًا من تلقاء نفسه على رجل فقتله فيعد هذا قضاء الله الذي لا يؤاخذ أحدًا عليه. أما غير الساكن من الأحياء المتحركة فإنها مسيرة بقدر الله وفق سننه، فلا تنسب أعمالها إليه تعالى، بل إلى من وهبت له الحركة ليعد مسئولًا عنها. ولذا قال تعالى: ﴿وهو السميع﴾ لكل حركة تصدر في الكون ﴿العليم﴾ بمصدرها والغاية منها قبل حدوثها ليجزي عليها. وفي هذا إنذار من الله بمسئولية الإنسان الشخصية عن جميع تصرفاته وأعماله، لأن العلم لا يوجب حصول المعلوم. وعلم الله ليس صفة تأثير كالقدرة، وإنما هو صفة انكشاف وإحاطة. البلاغ الثاني: لمنع الشرك، وهو يشتمل على سؤال وجواب ذي شقين. أما السؤال فقوله ﴿قل﴾ لمن يحاول أن يصرفك عن طريق الهدى ويأبى إلا أن تترك دعوتك وتتبع أهواءهم ﴿أغير الله﴾ تريدون أن ﴿أتخذ وليًا﴾ الولي: النصير، وكل من ولي أمر أحد فهو وليه. أي أتريدون أن أكل أموري لغير الله ﴿فاطر﴾ فطر الأمر: اخترعه وابتدأه وأنشأه ﴿السماوات والأرض﴾ من الأساس بمحض إرادته ومن غير تأثير مؤثر ولا شفاعة شفيع ﴿وهو﴾ الذي ﴿يطعم﴾ بضم الياء وكسر العين. الناس بخلقه كل ما هم في حاجة إليه من غذاء
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ
الذين تتوقف عليهما معرفة سائر العلوم وبدونهما لا يحصل التعليم عادة. ألا وهي وسيلة الحفظ لكل ما يلقيه إليه ربه حيث قال تعالى: ﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ فكان ﷺ يقرأ القرآن مئات المرات دون أن يغلط فيه أو تشتبه عليه آياته وكان يصدر في كل شيء عن علم لدني غير مكتسب وهدى من ربه إلى سواء السبيل. أجل من تلك اللحظة وبمقتضى شهادة الله انتقل النبي محمد إلى مصاف العلماء في كل شيء إذ العلم والجهل ضدان لا يجتمعان كما أن التعليم ينفي الأمية ثم أنه تعالى اصطفاه ﷺ لأن يكون أعظم معلم للناس أجمعين إذ قال: ﴿كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ وهذه شهادة له بالعالمية وإجازة بالتدريس ولا شك بعد هذا كله أن من يرمي الرسول ﷺ بالجهل فإنما يرميه بمنتهى النقائص وفي هذا إيذاء لرسول الله ﷺ أيما إيذاء وقد قال تعالى: ﴿والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم﴾ وأما من قال عنه من أهل نيسابور إنه زنديق فلأنه زعم أن النبي كتب ولم يحسن الكتابة مع أن الرسول لم يكتب ولو كتب لأحسن الكتابة فما كان من الحاضرين في نهاية محاضرتي إلا أن تألبوا على الإمام يوجهون إليه قارص الكلم ويحكمون بجهله وأقبلوا يهنئونني على انتصاري لرسول الله والقضاء على هذه الفتنة ونشروا محاضرتي في جميع الصحف آنذاك وخرجت ظافرًا منصورًا بمدد من الله جل وعلا.
بعد أن أمر الله نبيه أن يعلن عن نفسه أنه هو ذلك الرسول الذي بشرت برسالته الكتب السابقة وأن يدعو الناس إلى الإيمان بالله واتباعه أخذ ينبهه إلى سنة من سنن الله في طبائع الأمم وهي أنه لا يخلو أفرادها من الصالح والطالح حتى أن بني إسرائيل أنفسهم الذين عدد الله سيئاتهم برغم غضب الله عليهم وطبعهم بطابع الذلة من هذه الحياة لا يخلو أفرادها من أقلية ضئيلة صالحة حيث قال ﴿ومن﴾ هي للتبغيض والقلة ﴿قوم موسى أمة يهدون﴾ الناس ﴿بالحق﴾ الذي جاءهم من عند الله ﴿وبه﴾ أي باهتدائهم بهدى الحق ﴿يعدلون﴾ أن يكونوا عادلين منصفين وهذا كما قال تعالى: ﴿ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا﴾ ولما كانت الأقلية من قوم موسى هي التي تهدي بالحق وبه تكون عادلة أصبحت الأكثرية منهم ضالة ولذا بسط الله السبب في ضلالهم وهو كفرانهم لنعم الله عليهم التي كان من واجبهم أن يشكروها وعددها بقوله: ﴿وقطعناهم﴾ بتشديد الطاء وقرئ بتخفيفها
رسول الله فقال يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي فقال رسول الله «ويل أمه مسعر حرب - (يعني موقد حرب ومهيجا) - لو كان معه رجال» ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله لأبي بصير: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص فاجتمع إليه منهم قريب سبعين رجلًا فضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت قريش إلى رسول الله بأرحامها إلا آواهم. فلا حاجة لها بهم فدعاهم رسول الله وآواهم عنده وكفى قريشًا بأسهم.
وهكذا أقام الرسول الأعظم الدليل القاطع أنه لم يكن ينوي شرًّا من رحلته وأنه يحرص على السلم جهد طاقته ولو أدى به الأمر إلى التجاوز عن كثير مما تتطلبه النفوس من الأنفة والكبرياء أو ما يقتضيه واجب الاحتفاظ بالعزة والكرامة في سبيل الوصول إلى الغاية النبيلة من غير سفك دماء.
كما ضرب رسول الله ﷺ المثل الأعلى للوفاء بالعهد بمجرد رضائه به حتى قبل كتابته وتدوينه غير آبه لما يقوله الناس عن ذلك وما يرمونه به من ضعف واستسلام فأين هذا مما وصلت إليه حالة الناس في العهد الحاضر الذي أصبحت فيه المعاهدات الدولية أشبه بقصاصات الورق تمزق عند اللزوم ولا حرج ولا تثريب.
ولقد برهن عليه الصلاة والسلام بهذه المعاهدة على أنه رجل سياسة كما هو رجل دين وأنه على جانب عظيم من الحنكة السياسية التي جعلته يحصل من قريش على كل ما يريد دون أن يعطيها شيئًا بالمرة.
أجل فلقد جاء إلى قريش معتمرًا ولم يشهر عليها سيفًا ولم يهاجمها بعتاده في ديارها ومع ذلك غلبها على أمرها واستخلص منها الاعتراف له بكل تلك الحقوق التي لا تنال عادة إلا بحد السيف وبعد نيل النصر ولم تحصل قريش منه مقابل ذلك على شيء اللهم إلا أن يكف عن دخوله عليها في ذلك العام والإسلام لا يحتم زيارة البيت الحرام في عام مخصوص بل إن الرسول أوشك أن يعود من تلقاء نفسه إثر ما اقترحته قريش عليه على لسان عثمان. أما أن يكف عن العدوان
من الغفلة عن ربه كأن الحال لم يتغير عليه أو كأنه لم يمس بضر ولم يدعنا لكشفه عنه: ﴿كذلك﴾ أي على هذا النحو مما اقتضته سننًا من أنا نذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وما يصيبهم من الغفلة عن الله وعدم الشعور بالحاجة إليه إلا في حال الشدة: ﴿زين للمسرفين﴾ في ملذاتهم: ﴿ما كانوا يعملون﴾ من مساوئ وسيئات لا يشعرون بخطرها ولا يخشون من نتائجها.
بعد أن بين الله شأنه في الناس وشأنهم معه قفا عليه بما اقتضاه عدله في الحكم عليهم بعد ذلك ليكون فيه عبرة لمن يأتي بعدهم ويعني بهم أمة محمد ﷺ التي هي آخر الأمم فقال: ﴿ولقد أهلكنا القرون﴾ أي الأمم في السنين الماضية: ﴿من قبلكم لما ظلموا﴾ أي عندما ظلموا بحسب سنن الله الاجتماعية وهذا الظلم قسمان الأول ظلم الأفراد لأنفسهم بالإسراف في الفسق والشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق حتى تتلاشى وتهلك والثاني ظلم الإنسان لأخيه الإنسان الذي بسبب ضعف الأمة وفساد حال المجتمع ويؤدي إما إلى إذلالها واستعمار بلادها والقضاء على كيانها وإما إلى حلول غضب الله عليها والأمر باستئصالها نتيجة لإصرارها على معاندة الرسل وتكذيبهم وتحدي أفرادها للقدرة الإلهية كقولهم: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾.: ﴿وجاءتهم رسلهم بالبينات﴾ الدالة على صدق رسالتهم وأن ما جاؤوا به حق لا مراء فيه: ﴿وما كانوا ليؤمنوا﴾ بالله وبصحة ما أنزل عليهم بل استمروا في ضلالهم وتكذيبهم فاستحقوا الهلاك: ﴿كذلك﴾ أي مثل ما ذكر من الهلاك وفق سنن الله الاجتماعية نتيجة ظلم الإنسان لنفسه ولغيره: ﴿نجزي القوم المجرمين﴾ أي مرتكبي الجرائم وهي كبائر الذنوب: ﴿ثم جعلناكم﴾ أمة خير البرية: ﴿خلائف﴾ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي خلفاء لمن سبقكم من الأمم: ﴿في الأرض من بعدهم﴾ تحكمون وتنصرفون فيها بكامل الحرية في حدود ما نخوله لكم من حقوق تبلغكم بها رسلنا: ﴿لننظر كيف تعملون﴾ أي لنرى ونسجل عليكم أعمالكم أثناء خلافتكم هل تتبعون رسولنا وتطيعون أوامرنا وتسلكون في الحياة من السبل ما يرضينا أم تظلمون أنفسكم باستعمال مواهبكم في غير ما خلقت له فتعرضوا أنفسكم لمثل ما حل بمن قبلكم.
تحترمونهم وتراعون اعتبارهم أكثر من عظمة الله وجلاله: ﴿واتخذتموه وراءكم ظهريًّا﴾ أي جعلتموه كالشيء المهمل الذي ينبذ وراء الظهر لهوانه وعدم الحاجة إليه فلم تحسبوا له حسابًا ولم تقيموا له وزنًا في نظركم: ﴿إن ربي بما تعملون محيط﴾ علمًا وسيحاسبكم على هذا ويجزيكم عليه ما تستحقون من نكال: ﴿ويا قوم اعملوا على مكانتكم﴾ أي استعملوا كل ما لكم من قوة ونفوذ لإيقاع ما تريدون إيقاعه بي من رجم وخلافه ولا تراعوا حرمة رهطي فلست بخائف منكم: ﴿إني عامل﴾ على طلب النجدة والعون عليكم من ربي و ﴿سوف تعلمون من﴾ هو الذي: ﴿يأتيه عذاب يخزيه﴾ المعتز بقوته أم المعتز بربه: ﴿ومن هو كاذب﴾ في تهديده ووعيده، ذلك أن الله قد حكى عنهم إنذارهم له بقوله: ﴿قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا﴾ وهذا تعريض بكذبهم في تهديدهم وإشعار لهم بأنهم سوف لا يقدرون على تنفيذه ولذلك دعاهم إلى التريث وانتظار ما سيحيق بهم حيث قال: ﴿وارتقبوا﴾ أي انتظروا ما سيحل بكم من العذاب من عند الله: ﴿إني معكم رقيب﴾ أي إن العذاب سوف لا يكون مني ولذلك فإن موقفي لم يكن سوى ترقب أمر الله فيكم: ﴿ولما جاء أمرنا﴾ أي حل الموعد المحدد لعذابهم الذي أنذروا به: ﴿نجينا شعيبًا والذين آمنوا معه برحمة منا﴾ أي بمعجزة خاصة قائمة على أساس الرحمة ومن غير جهد ولا اعتماد على الأسباب: ﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة﴾ أي صوت عظيم لعله أقوى من صوت الصواعق حتى ماتوا من الهلع والخوف: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ أي منكبين على وجوههم: ﴿كأن لم يغنوا فيها﴾ أي كأنه لم يكن لهم سابق وجود في تلك الديار: ﴿ألا بعدًا لمدين﴾ عن رحمة الله: ﴿كما بعدت ثمود﴾ من قبل عن رحمة الله.
وهنا ختم الله قصص الرسل السابقين مع أقوامهم بموجز من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه وما أصابهم من عذاب الخزي واللعنة فقال: ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا﴾ أي المعجزات التي أجريناها على يده لإثبات رسالته عنا وقد حددها الله في سورة الإسراء بتسع آيات خمس منها تتعلق بفرعون وملئه وأربع تتعلق بقومه بني إسرائيل، فأما الخمسة فأولها انقلاب عصاه إلى حية تلقف ما جاء به السحرة أمام فرعون وثانيها أنه نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين وثالثها أخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ورابعها إرساله
بعد أن بيّن الله الفارق العظيم بين من علم بأن ما أنزل على رسوله هو الحق فاهتدى به وعمل بمقتضاه ومن عمي عن إدراك ذلك فظل سابحًا في ظلمات الجهل والضلال وقال: ﴿إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ وصفهم بتسع صفات الصفة الأولى قوله: ﴿الذين يوفون بعهد الله﴾ الذي عاهدهم به حين كانوا في صلب آدم وجعله سجية وطبعًا فطريًا لهم وهو أن يعترفوا بتوحيد الربوبية كما أخبرنا الله عن هذا بقوله: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ الصفة الثانية قوله: ﴿ولا ينقضون الميثاق﴾ الذي قطعه الله على ذاته العلية وجعل للناس حق الخيار في التزامه أو عدمه وهو ما جاءت به كافة الرسل من توحيد الألوهية وطاعة الله وقد أشار إليه تعالى بقوله لآدم في سورة البقرة: ﴿فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ وفي سورة طه: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾ الصفة الثالثة قوله: ﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ من حبال الود بين ذوي الرحم خاصة والمؤمنين عامة وذلك بالإحسان إليهم والشفقة عليهم ونصرتهم وإفشاء السلام وعيادة المرضى ومراعاة حق الأصحاب والجيران والخدم إلى غير ذلك مما يؤدي لتضامن الأمة ووحدة كلمتها، الصفة الرابعة قوله: ﴿ويخشون ربهم﴾ الخشية خوف ناشئ عن معرفة وعلم ويقين بما يخشى منه أي أنهم يؤمنون بقدرة الله على إيقاع الأذى بهم فيخشون أن يحل بهم عذابه في كل وقت مما يؤدي إلى تجنب كل ما لا يرضيه، الصفة الخامسة قوله: ﴿ويخافون سوء الحساب﴾ الخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء توقع أمر محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة أي أنهم يخافون سوء الحساب ولهم شيء من الأمل في نجاتهم منه برحمة الله، الصفة السادسة قوله: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم﴾ الصبر حبس النفس عن نيل ما تحب أو على تحمل ما تكره نزولًا على أمر الله وطمعًا في رضاه، والصفة السابعة قوله: ﴿وأقاموا الصلاة﴾ أي أدوها بأركانها وواجباتها على وجهها المطلوب من التوجه إلى الله بالقلب وخشوع الجوارح، والصفة الثامنة قوله: ﴿وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية﴾ أي أخرجوا جانبًا مما أنعم الله به عليهم من الأموال ابتغاء مرضاة الله سرًّا فيما بينهم وبين أنفسهم وعلانية على مرأى ومسمع من الناس وسواء كان ذلك الإنفاق واجبًا كالزكاة والنفقة على الزوجة والولد والأقارب أم مندوبًا كالذي ينفق على الفقراء
بكم من نعمة فمن الله} أي أن جميع ما ينعم به الإنسان في هذه الحياة من النعم الظاهرة والباطنة الحسية والمعنوية كلها من الله خالقها ومقدرها وواهبها.
فنعمة السمع والبصر مثلًا من الله ولو شاء اسلبها من الحيوان لا معارض له وكذلك الرزق من الله أرشد الحيوان إلى طريقة نيله ولولا ذلك لما حصل عليه. وحتى نعمة الإيمان فهي من الله الذي خلق العقول وهداها إليه عن طريق كتبه ورسله: ﴿ثم إذا مسكم الضر﴾ بزوال شيء من النعم: ﴿فإليه تجأرون﴾ أي لا ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدعاء إلا له جل وعلا لعلمكم بأنه ليس في مقدور أحد أن يكشف عنكم الضر ويعيد إليكم تلك النعم غيره: ﴿ثم إذا كشف الضر عنكم﴾ واستجاب لدعائكم: ﴿إذا فريق منكم بربهم يشركون﴾ أي أنه في حال الشدائد يجمع الناس بفطرتهم على الرجوع إلى الله وأما في حال اليسر وكشف الضر يفترقون فمنهم من يقدر لله نعمه ويبالغ في شكرهم ومنهم من يزعم بأن ما ناله كان بتأثير الأسباب التي زوالها كما هو شأن أكثر الناس في عصرنا هذا، وهذا منتهى الضلال، ذلك لأن تأثير السبب في المسبب أو خاصية العلاج في الشفاء لم يكن إلا بقدر الله ولولاه لما كان ذلك التأثير أو الشفاء فالمؤثر الحقيقي والشافي هو الله وحده: ﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ أي وما كان ذلك الإشراك منهم إلا لإنكار نعم الله عليهم ومخالفتهم لمقتضى الفطرة الأصيلة: ﴿فتمتعوا﴾ أيها المشركون الكافرون بنعم الله عليكم وإن جحدتم واهبها لكم: ﴿فسوف تعلمون﴾ عاقبة أمركم بما يحيق بكم من العذاب يوم القيامة.
بعد أن أعلن الله لعباده بأن النعم كلها من الله وأخبرنا بأنه تعالى قد فطر الناس على اللجوء إليه في حال الشدة ليتم نعمه عليهم بكشف الضر عنهم وترك لهم الخيار في شكر النعم أو جحودها في حال اليسر ونبههم إلى وجه من أوجه الكفر بنعم الله وذلك بأن يشرك الإنسان الأسباب مع الله في تفريج الكرب أو شفاء الأمراض أخذ يعدد أنواعًا من الكفر بالله التي كان عليها العرب في الجاهلية الأولى قوله: ﴿ويجعلون﴾ أي الذين هم بربهم يشركون: ﴿لما لا يعلمون﴾ أي إنهم يثبتون النفع والرزق لما لم يكن لديهم علم بحقيقة أمره من الأصنام وأشباهها ممن يزعمون أنها تنفعهم وتشفع لهم: ﴿نصيبًا مما رزقناهم﴾ من الزرع والأنعام التي منّ الله بها عليهم إذ يقولون إنها ببركتهم مع أنه لا علاقة لهم بخلقها ولا بما يأتي منها: ﴿تالله لتسألن عما كنتم تفترون﴾ أي إن
من الغفلة عن ربه كأن الحال لم يتغير عليه أو كأنه لم يمس بضر ولم يدعنا لكشفه عنه: ﴿كذلك﴾ أي على هذا النحو مما اقتضته سننًا من أنا نذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وما يصيبهم من الغفلة عن الله وعدم الشعور بالحاجة إليه إلا في حال الشدة: ﴿زين للمسرفين﴾ في ملذاتهم: ﴿ما كانوا يعملون﴾ من مساوئ وسيئات لا يشعرون بخطرها ولا يخشون من نتائجها.
بعد أن بين الله شأنه في الناس وشأنهم معه قفا عليه بما اقتضاه عدله في الحكم عليهم بعد ذلك ليكون فيه عبرة لمن يأتي بعدهم ويعني بهم أمة محمد ﷺ التي هي آخر الأمم فقال: ﴿ولقد أهلكنا القرون﴾ أي الأمم في السنين الماضية: ﴿من قبلكم لما ظلموا﴾ أي عندما ظلموا بحسب سنن الله الاجتماعية وهذا الظلم قسمان الأول ظلم الأفراد لأنفسهم بالإسراف في الفسق والشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق حتى تتلاشى وتهلك والثاني ظلم الإنسان لأخيه الإنسان الذي بسبب ضعف الأمة وفساد حال المجتمع ويؤدي إما إلى إذلالها واستعمار بلادها والقضاء على كيانها وإما إلى حلول غضب الله عليها والأمر باستئصالها نتيجة لإصرارها على معاندة الرسل وتكذيبهم وتحدي أفرادها للقدرة الإلهية كقولهم: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾.: ﴿وجاءتهم رسلهم بالبينات﴾ الدالة على صدق رسالتهم وأن ما جاؤوا به حق لا مراء فيه: ﴿وما كانوا ليؤمنوا﴾ بالله وبصحة ما أنزل عليهم بل استمروا في ضلالهم وتكذيبهم فاستحقوا الهلاك: ﴿كذلك﴾ أي مثل ما ذكر من الهلاك وفق سنن الله الاجتماعية نتيجة ظلم الإنسان لنفسه ولغيره: ﴿نجزي القوم المجرمين﴾ أي مرتكبي الجرائم وهي كبائر الذنوب: ﴿ثم جعلناكم﴾ أمة خير البرية: ﴿خلائف﴾ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي خلفاء لمن سبقكم من الأمم: ﴿في الأرض من بعدهم﴾ تحكمون وتنصرفون فيها بكامل الحرية في حدود ما نخوله لكم من حقوق تبلغكم بها رسلنا: ﴿لننظر كيف تعملون﴾ أي لنرى ونسجل عليكم أعمالكم أثناء خلافتكم هل تتبعون رسولنا وتطيعون أوامرنا وتسلكون في الحياة من السبل ما يرضينا أم تظلمون أنفسكم باستعمال مواهبكم في غير ما خلقت له فتعرضوا أنفسكم لمثل ما حل بمن قبلكم.
وسائل الرزق وإمداد العبد بالتوفيق والعون ومنن عظمى لا تعد ولا تقدر كصحة الجسم وراحة الضمير: ﴿خَيْرٌ﴾ لكم: ﴿مِّنَ اللَّهْوِ﴾ وهو ما يلتذ به الإنسان ويشغله من هوى أو طرب تنتهي فيه اللذة بانتهاء ذلك اللهو: ﴿وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ التي قد تربح وقد تخسر بخلاف ما يقدمه الإنسان من عمل لله فإنه مضمون الجزاء والربح والخير الكثير: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ الزرق كل ما ينتفع به والرزاق من يعطي الرزق وما من معط إلا يرجو ثوابًا ما عدا الله فإنه سبحانه وتعالى يعطي عباده من محض فضله وهو الغني عن العالمين ولذا قال إنه خير الرازقين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المهتدين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سورة المنافقون
مدنية وآياتها إحدى عشر
(بسم الله الرحمن الرحيم)
إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (٥) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١١)سورة المنافقون: بعد أن ثبَّت الله في السورة السابقة الإيمان في قلوب المؤمنين وعرَّض باليهود الذي أنزلت عليهم التوراة فلم يعملوا بها وأمر المؤمنين بالحرص على أداء ما أمروا به وتقديم طاعة الله
يعلم الغيب إلا الله وأنه لا قوة إلا بالله ولا يقضي الحوائج أحد سواه آمنوا بأن ذلك القليل من الجن إنما زاد بصنيعه بعض الإنس إثمًا وضلالًا.
الحقيقة السادسة قولهم: ﴿وأنهم ظنوا كما ظننتم﴾ أيها الكفار من الإنس: ﴿أن لن يبعث الله أحدًا﴾ أي أنهم أنكروا البعث والحساب والعقاب ولكنهم لما سمعوا القرآن آمنوا بصحته من الأدلة المتعددة المذكورة فيه.
الحقيقة السابعة قولهم: ﴿وأنا لمسنا﴾ لمس الشيء طلبه واتصل به: ﴿السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا﴾ الحرس اسم مفرد في معنى الحارس كالخدم في معنى الخادم ولذلك وصف بشديد أي الذي يتولى حراسة أجواء السماء ويحول دون تسرب الأخبار منها: ﴿وشهبًا﴾ جمع شهاب وهو كل مضيء متولد من النار بمعنى أنهم لاحظوا ازديادًا في عدد الحراس وكثرة في الأضواء أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس أنه قال «كان للشياطين مقاعد في السماء يستمعون فيها الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعًا فأما الكلمة فتكون حقًّا وأما ما زادوا فيكون باطلًا فلما بعث رسول الله ﷺ منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ﷺ قائمًا يصلي بين جبلين بمكة فأتوه فأخبروه فقال هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض».
الحقيقة الثامنة قولهم: ﴿وأنا كنا﴾ فيما مضى: ﴿نقعد عنها﴾ أي من السماء: ﴿مقاعد للسمع﴾ أي في أماكن خاصة نسترق منها الأخبار: ﴿فمن يستمع الآن﴾ أي فمن رام الدنو من تلك الأماكن بقصد الاستماع: ﴿يجد له شهابًا رصدًا﴾ الرصد: جمع راصد وهو من يقعد بالمرصاد للرقابة بمعنى أنه يجد أمامه من قوة الإضاءة ويقظة الحراس ما يحول دون أمنيته.
الحقيقة التاسعة قولهم: ﴿وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا﴾ أي أنهم لا يعلمون السر في زيادة الحراسة وكثرة الأضواء والحيلولة دون تسرب الأخبار من العالم غير المنظور إلى العالم المنظور وبعبارة أخرى إخفاء أمر الغيب عن بني الإنسان هل يقصد به إضرارهم ووقوعهم في المصائب والويلات على غرة من حيث لا يشعرون: ﴿أم أراد بهم ربهم رشدًا﴾ الرشد ضد الغي أي الاستقامة على طريق الحق بمعنى أن الله تبارك وتعالى بإخفائه أمر العلم بالمغيبات عن عباده إنما أراد بهم اتباع ما يدعوهم إليه من الصراط السوي الذي فيه خيرهم ونجاحهم
وخوّف الناس من التعدي على حقوقهم وامتهانهم حيث قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾، وقال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، ولا شك أن العمل بهذا المبدأ أكبر دعامة في رقي الأمة لأنه ينطوي على روح المساواة في الحقوق والعمل على إنهاض الطبقة المستضعفة في الأمة وتبادل التقدير والمحبة بين الجميع، وليس من إكرام اليتامى في شيء أن نتصدق عليهم ونعودهم على الكسل والاعتماد على الآخرين أو ننبذهم ولا نعتني بشئونهم وما يؤهلهم لأن يكونوا عضوًا عاملًا في المجتمع الإنساني بل إن الخير كل الخير في تثقيفهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من مختلف الصنائع والأعمال التي يستطيعون بها خدمة بلادهم وأمتهم وتأمين عيشهم بجدهم واجتهادهم من أفضل الطرق المشروعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى»، وكفالة اليتيم أن يسويه المرء بابنه ويؤهله لما يحب لنفسه وقد أخاف الله من الاعتداء على أموالهم حيث قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، ولتحقيق الغرض الثاني حض الله جل وعلا في مواضع كثيرة من القرآن على إطعام المساكين وتوعد المقصر في هذا الواجب بسوء المصير كما يشير إليه قول الله تعالى يوم الحساب: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ﴾. والمسكين هو من لا قدرة له على الكسب أو من سدت في وجهه أبواب العمل فأصبح من طائفة العاطلين الذين وصفهم الله بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾. وعرفه الرسول ﷺ بقوله: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم يسأل الناس»، وقد فرض الله لهم قسطًا في أموال الأغنياء وحض على إطعامهم ومعاونتهم حتى لا تضطرهم الفاقة إلى إراقة دماء الوجه ولا يستفزهم الفقر إلى الإجرام والإخلال بالأمن، والإطعام أعم من أن يكون بطريق الصدقة أو إيجاد وسائل العمل الشريف لهم