فيها من المضرات اللاحقة بالنوع البشري فيعم الخراب والدمار، وتسود الفوضى يختل نظام العمران ﴿أولئك﴾ الذين يتصفون بتلك الصفات الثلاث ﴿هم الخاسرون﴾ الذين خسروا الدنيا وما فيها، فلا يحسون بنعمة الراحة، ولا يتذوقون معنى للسعادة، وخسروا الآخرة لأنهم لم يتزودوا لها بمعدات التقوى وبعد أن أمر الله رسوله بأن يبشر الذين آمنوا بما أعد لهم في الآخرة من عذاب عظيم، وينبههم إلى أن القرآن من الأمثال أو الآيات ما يكون سبيلًا لإيمان الإنسان أو كفره كل بحسب نظرته إليه ومدى تأثره به؛ وأكد جل وعلا أنه لا يمكن أن يضل به إلا الفاسقين الذين يعملون بعكس ما يدعو إليه القرآن، أمره أن يوجه إلى الفاسقين شيئًا من التوبيخ والتفريع على صنعهم ويذكرهم بآلاء الله عليهم ويعرفهم بعظمته وجلاله وكمال علمه لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويرجعون عن غيهم وكفرهم فقال ﴿كيف تكفرون بالله﴾ أيها الفاسقون وإنما وصفهم بالكافرين إشارة إلى أنه ليس المراد بالكفر عدم الإيمان بالله فقط بل إنه يشمل نقض عهده واستحلال ما حرم ﴿وكنتم﴾ من قبل ﴿أمواتًا﴾ أي لا وجود لكم فخلقكم في بطون أمهاتكم من نطفة لا ترى ثم أحالها إلى علقة ثم سواكم لحمًا وعظمًا ﴿فأحياكم﴾ بنفخ الروح فيكم ثم أخرجكم إلى هذه الحياة الدنيا ﴿ثم يميتكم﴾ بانتزاع الروح من أجسادكم عند انتهاء آجالكم ﴿ثم يحييكم﴾ حياة نفسية أخرى برزخية في العالم غير المنظور ﴿ثم إليه﴾ يوم القيامة ﴿ترجعون﴾ بأنفسكم وأجسامكم لتنالوا جزاء أعمالكم فإذا كنتم لا تنكرون هذا فما بالكم لا تقدرون نعمه ولا تخافون بأسه وعقابه ﴿هو الذي﴾ كان من تمام فضله عليكم أنه عند خلقه لكم لم يترككم هملًا بل ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعًا﴾ من أخضر ويابس وذي روح وغير ذي روح كلها مسخرة لمصالحكم ومهيأة لاستفادتكم منها بمختلف الوسائل التي يلهمكم بها سبحانه عن طريق الفكر والاختراع ﴿ثم استوى إلى السماء﴾ استوى إلى الشيء: قصده أي توجهت إرادته لخلق السماء بعد خلقه للأرض ﴿فسواهن﴾ أي صنعهن ﴿سبع سماواتٍ﴾ طباقًا لمصالحكم ومنفعتكم أيضًا فهي تكيف لكم الحرارة والبرودة وفيها من الكواكب وما تستضيئون به وتهتدون في ظلمات الليل البهيم؛ إلى غير ذلك من المنافع التي أنعمت عليكم فإنه تعالى الخالق لها يعلم ثمراتها ومزاياها، وهو القدير على أن يكشف لكم جانبًا من أسرارها شيئًا فشيئًا كلما أمعن الإنسان في البحث وتقدم بالعلم نحو الكمال ﴿وهو بكل شيءٍ﴾ يحدث فيها أو في الأرض ﴿عليمٍ﴾ أي فما يكون لكم أن تكفروا به
تعالى ﴿ليس عليكم﴾ أيها المأمورون بالحج ﴿جناح﴾ أي إثم فقد رخصت لكم في أثناء حجكم ﴿أن تبتغوا فضلًا من ربكم﴾ أن تتطلبوا زيادة الزرق من الله بوسائله المشروعة من التجارة والصناعة أثناء حجكم ﴿فإذا آفضتم﴾ أي اندفعتم في السير ﴿من عرفات﴾ وهو جبل على بعد اثني عشر ميلًا من مكة يقف الحجاج فيه في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة ﴿فاذكروا الله عند المشعر الحرام﴾ فإذا بلغتم المكان الذي خصصه لكم رسول الله ﷺ وهو مزدلفة فحطوا الرحال وانصرفوا إلى ذكر الله الذي أكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة ورضي لكم الإسلام دينًا ﴿واذكروه كما هداكم﴾ وبالغوا في ذكره ذكرًا يقابل هدايته لكم إلى سنة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه وذلك بقولكم: لبيك اللهم لبيك – أي نشهدك إنا أتينا إليك طائعين ولدعوتك ملبين مذعنين أنه لا شريك لك ﴿وإن كنتم من قبله﴾ من قبل هذا الهدى ﴿لمن الضالين﴾ عن سنة إبراهيم لتقادم الزمن عليها فأرسل لكم نبيه محمدًا ﷺ لإحيائها ولإرشادكم إليها ﴿ثم أفيضوا﴾ من مزدلفة ﴿من حيث أفاض الناس﴾ واسلكوا الطريق الذي سلكه من كان قبلكم، ولعل منهم إبراهيم وقومه وهو الطريق إلى منى ولا تيمموا طريقًا غير طريق الجماعة فإن السير مع الجماعة معنى لا يخفى على ذوي البصائر النيرة ﴿واستغفروا الله﴾ من كل ما صدر منكم من مخالفة أو تقصير في تتبع مناسك إبراهيم التي رسمها لكم رسول الله ﷺ وقال لكم: «خذوا عني مناسككم» ﴿إن الله غفور﴾ لمن استغفره ﴿رحيم﴾ لمن كان مستحقًّا للرحمة.
ولما كان من عادة العرب أنهم إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة ذكروا آباءهم وأشادوا بمفاخرهم أراد الله منهم أن يبطلوا تلك العادة وأن يستبدلوها بذكر الله فقال ﴿فإذا قضيتم مناسككم﴾ التي أمركم الله بها من أعمال الحج ﴿فاذكروا الله﴾ على آلائه ونعمه ﴿كذكركم آباءكم﴾ أي كما كنتم تذكرون مفاخر آبائكم ﴿أو أشد ذكرًا﴾ لأن فضائل آبائكم لم تكن لتعود عليكم بشيء أما فضائل الله فإنكم تتقلبون فيها ولا تحصونها وبعد أن دعا الله الناس إلى ذكره أراد أن يفهمهم ما يترتب على ذكر الله من إجابته سبحانه وتعالى لدعائهم وتحقيقه
والشاهد أي ضرر مادي أو معنوي بسبب ما قاما به من تنفيذ ما أمر الله به وذلك كأن يخاصم المدين والشاهد إذا هو أدى ما لديه من شهادة أو يحقد في قلبه على الكاتب لما وضعه من قيود تحول دون إفلاته من أداء الدين الذي التزم به (وإن تفعلوا) ما نهيتم عنه من إضرار الكاتب أو الشاهد (فإنه فسوق) خروج عن طريق الحق وإخلال بطاعة الله ضرره حالٌ (بكم) حتما لما يسببه من التقاطع بين الناس، فالشاهد إذا أصابه حرج بسبب الشهادة لا يشهد، وكذلك الكاتب لا يكتب وصاحب المال إذا لم يجد الشاهد أو الكاتب لا يعطي ماله فيقف دولاب العمل وتشل الحركة التجارية ويعود الضرر على مجموعة الأمة (واتقوا الله) بتحري الأهداف التي ترمي إليها أحكامه والعمل على تطبيق أوامره في جميع أعمالكم ومعاملاتكم بكل دقة فمن ترك أمرًا من أمور الشرع أحوجه الله إليه (و) بذلك (يعلمكم الله) الحكمة وسداد الرأي ويهبكم من النور ما يضيء لكم سبل الخير ويضمن لكم الفلاح والنجاح وفقًا لقول الرسول ﷺ «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» (والله) ذو علم واسع غير محصور إذ هو (بكل شيء عليم) أما علوم غيره فإنها محدودة ضمن دائرة المرئيات والمجربات، وما وضعه الله من الأحكام وما سنه تعالى من أنظمة الكائنات كفيل بسلامة العواقب في جميع الأمور، والله أعلم.
بعد أن وضح الله للناس طريقة المحافظة على أموالهم في حالة المداينة بالمكاتبة والإشهاد أخذ يبين لهم طريقة أخرى للتوثق لحفظ المال وأتى بها في معرض تعذر الاستشهاد والمكاتبة حيث قال (وإن كنتم على سفر) لا تستفيدون فيه بشهادة الشهود عند حلول الأجل في حال الامتناع عن أداء الدين لبعد المسافة عن محل التقاضي (ولم تجدوا كاتبًا) عدلًا ملمًا بالأحكام الشرعية والشروط المرعية لتوثيق العقود وحفظ الحقوق (فرهان) جمع رهن وقرئ «فرُهُن» بضم الراء والهاء (مقبوضة) فخير لكم وأضمن أن تأخذوا مقابل الدين رهنًا تستطيعون بيعه عند حلول الأجل واستقطاع دينكم من ثمنه في حال التناكر مع الحرص على تقويم المرهون من غير ما بخس (فإن أمن بعضكم بعضًا) بأن دفع الدائن الدين للمدين في الحال أو دفع المدين بالرهن للدائن بدون كتابة ولا إشهاد (فليؤد الذي اؤتمن) وقرئ «ايتمن» بقلب الهمزة ياء كل من الدائن وصاحب الرهن (أمانته) المبلغ الذي أخذه بلا كتابة ولا إشهاد (وليتق الله ربه) الذي كان شاهدًا عليهما ومطلعًا على حقيقة أمرهما ونياتهما، وإن لم يكن ثمت شاهد غيره فهو سبحانه قادر على إحقاق
صفصفًا أثرًا بعد عين، ولم يبق لتلك الأمم الغابرة إلا ما احتسبوه عند الله من عمل صالح سينالون جزاءه يوم القيامة ﴿هذا﴾ كتاب الله بين أيديكم فيه ﴿بيان﴾ بما وقع من حوادث الأمم السابقة ﴿للناس﴾ عامة الذين يريدون السير في الأرض لاستقصاء الحوادث وتطبيقها على الشواهد ﴿و﴾ فيه ﴿هدى وموعظة للمتقين﴾ الذين يراقبون الله في كل شيء ويعلمون أنه تعالى المتصرف في جميع الكائنات، وأن له جل شأنه سننًا لا تخطئ فيسيرون في الحياة وفق هديها ويأخذون من عبر التاريخ موعظة لهم تحملهم على تجنب الوقوع فيما وقع فيه أسلافهم، أما غير المتقين ممن لا ينظرون إلى الأشياء إلا نظرة سطحية ولا يعدون الحوادث إلا أمورًا طبيعية فإنهم لا يحاولون الهداية إلى الحق عن طريق التأمل والتفكير في حقائق السنن وواضعها سبحانه وتعالى، ولا يأخذون لهم من ذلك عبرة لهم فلا يهتدون ولا يعتبرون، ﴿ولا تهنوا﴾ أي حذار أن يداخلكم الوهن وهو الضعف فيما إذا رأيتم لدى أعدائكم قوة أو كثرة في العدد والعدة ﴿ولا تحزنوا﴾ إذا أحسستم من أنفسكم ضعفًا فهذا من دواعي اليأس والهزيمة بل اعملوا للتفوق عليهم ﴿وأنتم﴾ في الواقع ﴿الأعلون﴾ الفائزون لأن الله معكم ومن يثق بنصر الله له فلن يخاف ولن يخذل ولئن قتل فإنه سيرقى إلى الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ بوعود الله المتكررة وبحقيقة الإيمان الذي يحتم عليكم الاعتقاد بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وهذا يقتضيكم العمل لإدراك ذلك باتخاذ الأسباب ومجاراة السنن والاعتماد على الله وحده في منح النصر وهو القائل: ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾. وكونوا على ثقة بأنه ﴿إن يمسسكم﴾ في الحياة ﴿قرح﴾ بفتح القاف وقرئ بضمها وهو أثر الجراحة أو هزيمة ﴿فقد مس القوم قرح مثله﴾ إذ طالما هزموا هم أيضًا فهذه من سنن الله في خلقه ﴿وتلك الأيام﴾ قد قضت إرادتنا أن ﴿نداولها بين الناس﴾ فيومًا نشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين، ومرة تكون الدولة للمحق وأخرى للمبطل لتحقيق العدالة الإلهية بين الناس في هذه الحياة، وكل ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى ﴿وليعلم الله﴾ علمًا يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء بعد وقوعه، إذ أن العلم بالشيء قبل وقوعه ثابت لله جل وعلا ﴿الذين آمنوا﴾ اتصفوا بحقيقة الإيمان فلم يفرحوا بما آتاهم الله ولم يحزنوا على ما فاتهم فهم في حال الشدة والرخاء والنصر والهزيمة فرحون صابرون مغتبطون بما قاموا به من واجب وما أدوه من طاعة ﴿و﴾ لأجل أن ﴿يتخذ﴾ الله ﴿منكم شهداء﴾
ويرضى بحكمه عن طيب نفس أخذ سبحانه وتعالى يوجه المسلمين إلى ما يحفظ كيانهم ويرفع شأنهم بين الأمم ويرهب الأعداء منهم فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم﴾ الحَذَرُ والحِذْر بمعنى واحد يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحتذر من المخاوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو بأخذ الأهبة والاستعداد لقتاله واتقاء أذاه في جميع الأوقات وبكل الوسائل ومنها التعرف بحال العدو ومدى استعداده ونواياه ومنها العلم بسائر فنون الحرب وأنواع الأسلحة وسبل المواصلات فكل ذلك يخيف أعداءكم منكم ويحملهم على عدم التفكير في قتالكم أو التعرض لكم بسوء ﴿فانفروا﴾ ساعة الحاجة أو عندما يدعوا داع الجهاد ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا» ﴿ثبات﴾ من ثبت على الأمر إذا داومه وواظب عليه فهو ثابت لا يتزعزع والثابت الشجاع الصادق الحملة أي لبوا داع الجهاد بعزيمة صادقة وشجاعة فائقة ﴿أو انفروا جميعًا﴾ الجميع ضد المتفرق أي متحدين متكاتفين على قلب رجل واحد والمعنى أن إجابة الداعي إلى الجهاد واجب على الإنسان فردًا كان أو جماعة فلا يعذر عن الإجابة بتقاعس غيره أو لا تخلوا مسئولية الفرد بقصور الأمة ﴿وإن منكم﴾ من المؤمنين فرق ﴿لمن ليبطئن﴾ يتقاعس عن النفرة تكاسلًا وجبنًا ﴿فإن أصابتكم مصيبة﴾ خذلتم في ساحة الحرب وخسرتم المعركة ﴿قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا﴾ أي نسب تقاعسه إلى الله واعتبره نعمة من الله الذي اختاره لذلك وجعله يتقاعس فلم يشهد ما شهد القوم من الهزيمة وما هذا في الواقع إلا جهل وافتنات على الله الذي أمره بالنفور ثبات لا يمكن أن يختار له التقاعس وربما كان تقاعسه وأمثاله عن شهود المعركة سببًا لما حل بالمسلمين من مصيبة ﴿ولئن أصابكم فضل من الله﴾ بنصر كسبتموه أو غنيمة حصلتم عليها ﴿ليقولن﴾ هذا الفريق ﴿كأن﴾
من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي. لكل هذا حقق الكثير من مؤرخي الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون كتبها عزرا الكاهن بعد أن أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) في التوراة وهو الإيمان بمن يأتي من رسل الله ولو أنهم ذكروا ذلك لوجدوا في القرآن ما يغنيهم عن هذه التوراة المحرفة أو الشكوك في مطابقتها للأصل الذي كانت عليه قبل الفقدان (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ) أيها النبي (عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي وإنك لترى الخيانة كمينة في نفوسهم بالتوراة حتى اليوم فمن نقض ميثاق الله لا يمكن أن يؤمن له (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا في إسلامهم وهم كالشاذ النادر والنادر لا حكم له ولذلك فلا تنظر إليهم كنظرك إلى العرب الذين جبلوا على الوفاء فإن بدا لك منهم ما لا يرضيك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) ولا تعاملهم بما يستحقون فذلك ناشئ عن طبع متأصل فيهم (وَاصْفَحْ) عن إيقاع أشد العقوبات بهم ابتغاء مرضاة الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وعملاً بهذا الأمر الإلهي لما نقض بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة عهد رسول الله وهموا بقتله وحل له قتلهم رجح جانب السلم وأمر بطردهم وبعث إليهم «أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني وقد أجلتكم عشراً فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه»
<٣٩>
فرفضوا الخروج وأقاموا على حصونهم فحاصرهم الرسول إلى أن ألقوا سلاحهم فلم يشأ الرسول أن يقضي عليهم بالقتل بعد حربهم بل اكتفى بإبعادهم عن البلاد وكان من الواجب أن يكونوا أسرى حرب (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) أي ومن القوم الذين قالوا بألسنتهم أنهم أنصار الله وسموا أنفسهم بهذا الاسم ولم يكونوا كذلك بالفعل (أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) أي سجلنا عليهم عهدهم هذا (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي أنهم لم ينقضوا ذلك الميثاق كما فعل اليهود ولكنهم نسوا جانبا منه وهو الإيمان بالرسول الأمي الذي يأتي من بعده اسمه أحمد (فَأَغْرَيْنَا) أي أوقعنا بسبب نسيانهم ذلك الحظ الذي ذكروا به (بَيْنَهُمُ) أي بين أولئك الذين قالوا إنا نصارى (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إذا اختلفوا في جوهر الشريعة المسيحية وهو التوحيد وإن في تعدد أناجيلهم وما كتب عنها من كبار أتباع الدين
يحفظ لهم حياتهم وهم عاجزون عن خلقه وإيجاده لأنفسهم ﴿ولا يطعم﴾ بفتح العين. لأنه منزه عن الحاجة إلى الطعام. فسيقول لسان حالهم بالإيجاب. والجواب على هذا يقسم إلى شقين: الأول في وجوب التسليم وهو قوله ﴿قل﴾ أيها الرسول إنكم إذًا لضالون معاندون في عدم إيمانكم بالله ولا سبيل لإقناعكم بصحة ما جئتكم به من ربكم من الآيات الدالة على وجوب إفراد الله بالعبادة وعدم اتخاذ غيره وليًا. وحسبي أن أحتفظ لنفسي بالإيمان بالله وما أنزل عليّ وأخطركم ﴿إني أمرت أن أكون أول المسلمين﴾ أي أعتنق شريعة الإسلام واستسلم لأحكامه. وقد ألقي إليَّ قول الله ﴿ولا تكونن من المشركين﴾ الذين ينسبون لأحد من المخلوقات كائنًا ما كان تأثيرًا لذاته مع الله، حتى الأسباب التي جعل الله لها شيئًا من التأثير في المسببات لا يمكن أن ينفذ تأثيرها إلا بإذن الله. فالمؤثر الحقيقي في كل شيء هو الله. ونسبة النفع أو الضر لأحد بذاته من دون الله شرك به جل وعلا. والشق الثاني من الجواب يشتمل على ثلاث فقرات: الأولى تتعلق بنفي المحاباة عن الله وهو قوله ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿إني﴾ أشهد أنه لا إله إلا هو ولا نافع ولا ضار سواه وأثق بوعده ووعيده وأؤمن كل الإيمان بعدله، ولذلك فإني لا أرجو غيره ولا أحسب أن مجرد صلتي بالله واصطفائه لي كاف لنجاتي من عذابه في حالة ما إذا قصرت في أداء ما فرض عليّ من واجبات و ﴿أخاف إن عصيت ربي﴾ بارتكاب شيء مما نهاني عنه ﴿عذاب يوم عظيم﴾ أي أن علمي بعصمة الله لي لا يغريني على ترك الحذر من موجبات الزلل ظنًّا مني بأن الله قد يغير سننه ويلغي أحكامه القضائية من أجلي. الأمر الذي يحتم على كل مسلم أن يقدم الخوف على الرجاء، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب. الفقرة الثانية: تتعلق بحقيقة الرحمة وكيف تنال، وقد أشار إلى ذلك بقوله ﴿من يصرف﴾ بالبناء للمفعول وقرئ بالبناء للفاعل أي من يدفع ﴿عنه﴾ العذاب ﴿يومئذ﴾ أي في ذلك اليوم العظيم الذي وصف الرسول ﷺ أهوال عذابه بقوله «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب في الأرض عرقهم سبعين ذراعًا فإنه يلجمهم حتى يبلغ آذانهم» وتلا قوله تعالى: ﴿ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ ثم قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك اليوم مقداره خمسون ألف سنة». قال الصحابة ما أطول هذا اليوم فقال صلى
سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً
﴿اثنتي عشرة أسباطًا﴾ السبط بكسر السين ولد الولد وقد يختص بولد البنت وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة وقد أكثر الله نسلهم بحيث جعلهم ﴿أممًا﴾ أي جماعات متفرقة في سائر الأقطار لا تربطهم ببعضهم جنسية واحدة وذلك لتحقيق ما كتبه الله عليهم من الذلة في هذه الحياة الدنيا ﴿وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه﴾ أي عندما أصابهم القحط وطلبوا منه أن يدعو الله لهم أن ينزل لهم الغيث في صحراء التيه ﴿أن اضرب بعصاك الحجر﴾ أي أن الله تعالى أراد أن يثبت الإيمان في قلوب بني إسرائيل فأمره أن يضرب الصخرة بعصاه التي كانت معجزته أمام فرعون لتكون معجزة له أمامهم ففعل ﴿فانبجست﴾ أي تشققت وتفتحت ﴿منه﴾ أي من الحجر ﴿اثنتا عشرة عينًا﴾ بعدد الأسباط الاثنى عشر شربوا منها في الحال من غير كد ولا عناء مع بقائهم متفرقين كما شاء لهم ربهم ﴿قد علم كل أناس مشربهم﴾ أي أخذ كل سبط عينًا اختص بها ﴿وظللنا عليهم الغمام﴾ وهو السحاب أي أن الله قد سخر لهم السحاب يقيهم من لفح حرارة الشمس في تلك الصحراء المحرقة ﴿وأنزلنا عليهم المن﴾ أي عندما جاعوا ولم يجدوا طعامًا يأكلونه أنزل الله عليهم المن وهو مادة بيضاء تنزل من السماء حلوة الطعم تشبه العسل ومتى جفت تصبح كالصمغ ولا يزال ينزل في أنحاء العراق حتى اليوم ويتخذونه حلوى ﴿والسلوى﴾ وهو طير السمان المعروف كان يدفعه الله من أفريقيا ويصل إلى سيناء متعبًا فيسقط من شدة الجوع والعطش فيأخذه بنو إسرائيل باليد ويأكلونه وقلنا لهم ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ من غير تعب أو نصب ﴿وما ظلمونا﴾ بكفر معظمهم لهذه النعم أي أن جحودهم لنعم الله لا ينفي وجودها فعلًا ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ إذ يكابرون في الحقائق وهم بعملهم هذا سينالون جزاء الظلم ولا يضرون إلا أنفسهم وهكذا كل من يجحد نعم الله لا بد أن ينال عذابه قال تعالى: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد﴾.
بعد أن نبه الله رسوله إلى أن من سننه تعالى في طبائع الأمم ألا يخلو أفرادها من الصالح والطالح وأن المهتدين من بني إسرائيل أقلية ضئيلة أما الأكثرية فضالة وأشار إلى أن السر في ذلك هو كفرانهم بالنعم التي عددها مبتدئًا بما أنعم عليهم عندما كانوا في صحراء التيه التي ظلوا فيها أربعين سنة يتيهون في الأرض لرفضهم دخول الأرض المقدسة، وذلك بتفجير المياه لهم ليسقوا وإنزاله المن والسلوى عليهم ليأكلوا فلم يشكروها. أخذ يخبر رسوله بما بدا منهم بعد انقضاء تلك
عليها، فالإسلام بمبادئه لا يسمح له بالعدوان حيث يقول تعالى: ﴿ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ وأما عدم رد قريش لمن جاءها من المسلمين، فالمسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق بالمشركين هم أولى به منه حيث يقول تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾.
وأما رد النبي لمن يجيئه من قريش بغير إذن وليه فإن ذلك من دواعي الفتنة التي لا يكمل إيمان المسلم إلا بها حيث يقول تعالى: ﴿الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون﴾ فمن رد إلى المشركين وأمكن لهم فتنته فلا خير فيه ومن كان قوي الإيمان فلا خوف عليه منهم.
هذه هي الحنكة السياسية التي أظهرها النبي ﷺ لا ما يتصورها رجال العصر الحاضر من المكر والخداع حيث يقولون إن السياسة لا مذهب لها ولا دين.
زيارة البيت الحرام
وما كاد يحين الوقت المحدد لزيارة البيت الحرام حتى أخذ الرسول ﷺ يتأهب لذلك ليتملى من مشاهدته ويقضي العمرة التي تحلل منها في العام الماضي وما إن حان اليوم المعين في ذي القعدة سنة سبع الموافق فبراير ٦٢٩ لسفره عليه الصلاة والسلام حتى تجمع المسلمون حوله وبلغ عددهم ألفين بعد أن كانوا في العام الماضي ألفًا وأربعمائة وأخذوا معهم سلاحهم خوفًا من قريش وغدرها وعدم تنفيذها لبنود المعاهدة. وما إن بلغوا ياجج وهو موضع على ثمانية أميال من مكة حتى علم رسول الله ﷺ أن قريشًا قد وفت بوعدها وأخلت له مكة واعتصمت بجبالها فأمر بالسلاح أن يلقى في ذلك الموضع وجعل عليه مائتين من أصحابه ودخل هو وأصحابه من غير سلاح وكان عبد الله بن رواحة آخذًا بخطام ناقته حتى إذا أقبل على البيت الحرام ترجل واستلم الركن وصعد بلال على الكعبة وأذن بصوته الجهوري وكانت ملأى بالأصنام فلم يعترضها ثم طاف وسعى في عز وشجاعة وقريش تنظر إلى محمد وأصحابه والحقد يأكل قلوبها وقد أخذ منها العجب غايته وهم لا يكادون يصدقون ما يرون هذا محمد بن عبد الله الذي حاربوه وأخرجوه من ديارهم وحيدًا طريدًا يرجع إليهم على رأس هذا الجمع الغفير من المسلمين الذين اعتنقوا دينه وأحبوه كل هذا الحب وساروا في ركابه. كيف تم له هذا؟ وهل من سبيل لهم لمحاربته والقضاء عليه أو ردّه إلى دينهم بعد أن بلغ إلى هذه الرتبة من
بعد أن أوضح الله ما اقتضاه عدله في الحكم على الظالمين لأنفسهم بمعاندتهم للرسل وتكذيبهم أردف ذلك بذكر أمثلة من تلك المعاندة التي اتصف بها من لا يؤمن بيوم الحساب تعريفًا بهم فقال: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ﴾ ظاهرة واضحة تدل بأسلوبها وفصاحتها على أنها ليست من كلام البشر بل هي من كلام رب العالمين: ﴿قال الذين لا يرجون لقاءنا﴾ ممن ذكروا من قبل وقد جاءهم بالقرآن معجزة تحداهم بالإتيان بسورة من مثله فعجزوا ولم يجدوا موضعًا للطعن فيه فما وسعهم إلا أن قالوا: ﴿ائت بقرآنٍ غير هذا أو بدله﴾ وهذا قول ظاهر العنت فما هو الداعي لإلغائه والإتيان بغيره أو تبديله اللهم إلا ما يجدون فيه من تزييف لمعتقداتهم الفاسدة ودعوتهم إلى التوحيد الخالص منهي عما كان عليه آباؤهم من عادات وتقاليد جاهلية: ﴿قل﴾ جوابًا على قولهم هذا أيها الرسول: ﴿ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي﴾ أي إن هذا هو كلام الله الذي أوحى به إليّ وليس من حقي أن أتصرف فيه بإلغاء أو تبديل: ﴿إن أتبع﴾ بوصفي رسولًا من الله: ﴿إلا ما يوحى إليّ﴾ فأبلغه للناس بنصه المنزل عليّ دون زيادة أو نقص: ﴿إني أخاف إن عصيت ربي﴾ بتبديل وتحريف: ﴿عذاب يومٍ عظيمٍ﴾ هو يوم القيامة وفي هذا تحذير شديد لمن يحاول تبديل أحكام القرآن بما يستبيحه من الأمور المنافية لعقيدة التوحيد أو المخلة بأسس التشريع الإسلامي: ﴿قل لو شاء الله ما تلوته عليكم﴾ أي لولا أن مشيئة الله الأزلية قد قضت بتلاوة هذا القرآن بنصه الكامل عليكم لما أوحى به إليّ لما أمكن أن يصدر على لساني: ﴿ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله﴾ أي مكثت بين ظهرانيكم عمرًا طويلًا قدره أربعون سنة أعمل في رعي الغنم وأعمال التجارة ولم أعرف بينكم من الشعراء وأولي الفصاحة والبلاغة ولم أتل عليكم طوال المدة سورة أو آية تشبه آيات القرآن وكلما عرف عني أني أمين فلا يمكن أن يتصور صدور الكذب مني: ﴿أفلا تعقلون﴾ إذ العقل لا يسلم أن رجلًا تجاوز سن الصبا ولم يتلق العلم على أستاذ حتى بلغ الأربعين يأتي بين عشية وضحاها بكتاب مثل الذي أتيتكم به ويؤكد لكم وهو الأمين بينكم أنه من عند ربكم فلا تصدقونه في دعواه وتنسبون إليه الكذب وأنتم تعلمون أنه لو وافقكم على رأيكم وغير أو بدل في آيات الله لدل على أنه لم يكن صادقًا في نسبة ذلك إلى الله ويكون بعمله هذا أظلم منكم: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا﴾ أي إن أشد أنواع الظلم أن يكذب العبد على ربه
عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وخامسها إنزال الرجز وهو الطاعون بهم وهو آخر الآيات التي أنزلها الله بفرعون وملئه حتى اضطرهم إلى اللجوء إلى موسى قائلين: ﴿يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾ وأما الأربعة المتعلقة بقومه بني إسرائيل فأولها أنه فرق بهم البحر وأغرق فرعون وملئه وهم ينظرون، وثانيها أنه عندما أصابهم القحط وسألوا موسى أن يستسقي لهم أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه الحجر: ﴿فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم﴾ وثالثها أنه عندما جاءوا ولم يجدوا طعامًا يأكلونه في صحراء سيناء أنزل عليهم المن والسلوى، ورابعها أنه عندما عز إقناعهم بالدين عن طريق الدليل والبرهان وتمادوا في الكفر والفساد استعمل معهم سلاح القوة والإرهاب إذ قال: ﴿وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون﴾ كل هذه آيات بينات ومعجزات باهرات أجراها الله على يد نبيه موسى لإثبات رسالته بما لا يدع مجالًا للشك في دعواه: ﴿وسلطان مبين﴾ أي قدرة على تبليغ أمر الله بكل جرأة لإنقاذ بني إسرائيل: ﴿إلى فرعون وملئه﴾ أي كبار قومه ورجال دولته: ﴿فاتبعوا﴾ أي الملأ من قومه: ﴿أمر فرعون﴾ من جمع السحرة لإبطال معجزته وقتل السحرة الذين آمنوا به وتشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم وغير ذلك مما هو مفصل في باقي الآيات: ﴿وما أمر فرعون برشيد﴾ أي أنه لا يستند إلى عقل وروية وإنما يقوم على محض الغي والضلال والظلم والفساد مما تكون نتيجته يوم القيامة أنه: ﴿يقدم قومه يوم القيامة﴾ أي يتقدمهم ويكونون تبعًا له في ذلك اليوم أيضًا: ﴿فأوردهم النار﴾ أي أنه بإغوائه إياهم قد جعلهم مستحقين للدخول في النار: ﴿وبئس الورد المورود﴾ شبه الله تعالى فرعون بالراعي الذي يتقدم الماشية الواردة إلى الماء لتسكين عطشها فلا تجد إلا حتفها: ﴿وأُتبعوا في هذه لعنة﴾ أي حفت عليهم في الدنيا لعنة الله التي إذا حلت بقوم لا يوفقون لأعمال الخير التي يستحقون عليها ثوابًا، ولذا قال: ﴿ويوم القيامة بئس الرفد المرفود﴾ أي العطاء الذي سينالونه من رب العالمين بمعنى أنه سبحانه وتعالى سوف لا يشملهم برحمته التي وسعت كل شيء لإيثارهم اتباع أمر فرعون عن اتباع أمره، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا وجد
وذوي الحاجة، الصفة التاسعة قوله: ﴿ويدرؤون بالحسنة السيئة﴾ أي يقابلون إساءة الناس بالإحسان إليهم فإذا حرموا رضوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا ويتبعون السيئة بالحسنة لتمحها: ﴿أولئك﴾ أي أولو الألباب المنعوتون بهذه النعوت: ﴿لهم عقبى الدار﴾ أي الذين سينالون عاقبة هذه الحياة الدنيا وما يؤول إليه أمرها في الآخرة وقد فصل الله هذه العقبى بقوله: ﴿جنات عدن يدخلونها﴾ بفتح الياء وضم الخاء وقرئ بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله أي يأوون إليها هم: ﴿ومن صلح﴾ أي ومن سار على نهجهم: ﴿من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ أي إن الله سيتم نعمه عليهم بجمعهم وتعريفهم بمن أحبوا من أهلهم الصالحين: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب﴾ مهنئين بدخول الجنة والإقامة في دار السلام قائلين لهم: ﴿سلام عليكم بما صبرتم﴾ أي أنكم اليوم في أمان دائم من كل مكروه جزاء على ما احتملتم من المشاق في حياتكم الدنيا من أجل نيل رضا ربكم: ﴿فنعم عقبي الدار﴾ أي فنعمت العقبى ما حصلتم عليه وهنا انتقل إلى ذكر من يقابلهم من أصحاب العقول الضالة التي لم تهدهم إلى الخير بسبب عنادهم فوصفهم بثلاث صفات هي الكفر بالله وقطع الصلات الإنسانية والفساد في الأرض فقال: ﴿والذين ينقضون عهد الله﴾ الذي عاهدهم به: ﴿من بعد ميثاقه﴾ أي من بعد علمهم به من وجود الله ووحدانيته التي دعت إليها سائر الرسل: ﴿ويقطعون ما أمر به أن يوصل﴾ من حبال الود والإخاء بين ذوي الرحم خاصة والإنسانية عامة: ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بإشاعة الظلم بين الناس والاعتداء على حقوق الغير وإثارة الفتن والإخلال بالأمن وإفساد حال المجتمع: ﴿أولئك﴾ الذين لم يستعملوا عقولهم فيما أنزل عليهم ممن اتصفوا بهذه الصفات: ﴿لهم اللعنة﴾ من الله بطردهم من رحمته ورضوانه: ﴿ولهم سوء الدار﴾ في الآخرة وهو عذاب جهنم جزاء ما اقترفوه من هذه السيئات.
بعد أن وصف الله أولي الألباب بأنهم هم الذين هدتهم عقولهم إلى التزام ما التزموه من الأعمال الصالحة التي تؤدي بهم إلى الجنة ونعيمها ووصف أرباب العقول الضالة وبين مصيرهم أراد جل وعلا أن يبين حقيقة يجب أن يعرفها الناس أجمعين وهي أنه تعالى أخذ على نفسه ورزق العباد جميعهم وفق دستور سنه لذلك لا يحابي فيه تعالى المؤمن من أجل إيمانه ولا يضغط فيه على الكافر ليحمله على الإيمان كرهًا ولا علاقة لأحدهما بالآخر فقال: ﴿الله﴾ في معاملته لكلا الفريقين في
الله سيسألكم يوم القيامة من أين لكم هذا فالقول بأن رزق الله لعباده متوقف أو مرتبط بشفاعة الشافعين محض افتراء يؤاخذ الله عليه يوم القيامة، الثاني من أنواع الكفر بالله قوله: ﴿ويجعلون لله البنات﴾ أي وينسبون إلى الله ما يأتيهم من البنات ولذلك يكرهونها أو أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله: ﴿سبحانه﴾ فهو منزه عن أن يكون له نسل: ﴿ولهم ما يشتهون﴾ من البنين إذ يفاخرون بنسبتهم إليهم مع أن خالق الأنثى هو خالق الذكر والكل من عند الله: ﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى﴾ أي وقد بلغت بهم الحماقة حدًّا يجعل الرجل منهم إذا أخبر بولادتها: ﴿ظل وجهه مسودًا﴾ من الحزن والحياء من الناس: ﴿وهو كظيم﴾ أي يكتم غيظه: ﴿يتوارى﴾ أي يستخفى: ﴿من القوم من سوء ما بشر به﴾ من أنه رزق بنتًا إذ يعتبرها في نظره من أعظم المسبات لا يدري ماذا يفعل: ﴿أيمسكه﴾ أي أيحتفظ بما بشر به من الأنثى: ﴿على هون﴾ وقرئ «هوان» أي ذل وخجل بين الناس: ﴿أم يدسه﴾ أي يخفي ما بشر به: ﴿في التراب﴾ بالوأد: ﴿ألا ساء ما يحكمون﴾ إذ ينسبون إلى الله ما يخجلون من نسبته إليهم: ﴿للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء﴾ وهو احتياجهم إلى الولد وكراهيتهم الإناث خوف العار: ﴿ولله المثل الأعلى﴾ وهو تنزيهه سبحانه عن الولد وسائر الصفات الذميمة: ﴿وهو العزيز﴾ الذي لا ينال: ﴿الحكيم﴾ الذي لم ينزل بهم العذاب رغم تماديهم في الضلال ونسبتهم إلى الله أسوأ الصفات.
بعد أن عدد الله بعض قبائح المشركين ونسبتهم إلى الله ما هو منزه عنه ووصف ذاته العلية بالعز والحكمة أخذ يوضح ما اقتضته حكمته تعالى لعمار هذا الكون من إمهال الظالمين وعدم تعجيل عذابهم فقال: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس﴾ عمومًا ألا المشركين على الخصوص: ﴿بظلمهم﴾ أي بسبب ما يقترفونه من ذنوب: ﴿ما ترك عليها من دابة﴾ أي لحبس عنهم المطر وجفت مياه الآبار وبذلك ينقطع النبات فتموت الحيوانات وكل حي في الوجود من شدة الظمأ: ﴿ولكن﴾ قضت سنة الله أن: ﴿يؤخرهم﴾ أي يؤجل عذاب الظالمين منهم: ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي إلى انقضاء المدة التي قدرها لحياتهم ليتوالدوا ويعمر بهم الكون: ﴿فإذا جاء أجلهم﴾ المسمى: ﴿لا يستأخرون﴾ عن ذلك الأجل: ﴿ساعة ولا يستقدمون﴾ حيث يكون هلاكهم إذ ذاك لانتهاء آجالهم لا عقابًا على الظلم فإنه متروك إلى ما بعد الحساب يوم القيامة، والثالث من أنواع الكفر: ﴿ويجعلون لله﴾ أي وينسبون إلى الله جل جلاله: ﴿ما يكرهون﴾ لأنفسهم فإذا ما أصيبوا بمصيبة أو حلت بهم
بعد أن أوضح الله ما اقتضاه عدله في الحكم على الظالمين لأنفسهم بمعاندتهم للرسل وتكذيبهم أردف ذلك بذكر أمثلة من تلك المعاندة التي اتصف بها من لا يؤمن بيوم الحساب تعريفًا بهم فقال: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ﴾ ظاهرة واضحة تدل بأسلوبها وفصاحتها على أنها ليست من كلام البشر بل هي من كلام رب العالمين: ﴿قال الذين لا يرجون لقاءنا﴾ ممن ذكروا من قبل وقد جاءهم بالقرآن معجزة تحداهم بالإتيان بسورة من مثله فعجزوا ولم يجدوا موضعًا للطعن فيه فما وسعهم إلا أن قالوا: ﴿ائت بقرآنٍ غير هذا أو بدله﴾ وهذا قول ظاهر العنت فما هو الداعي لإلغائه والإتيان بغيره أو تبديله اللهم إلا ما يجدون فيه من تزييف لمعتقداتهم الفاسدة ودعوتهم إلى التوحيد الخالص منهي عما كان عليه آباؤهم من عادات وتقاليد جاهلية: ﴿قل﴾ جوابًا على قولهم هذا أيها الرسول: ﴿ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي﴾ أي إن هذا هو كلام الله الذي أوحى به إليّ وليس من حقي أن أتصرف فيه بإلغاء أو تبديل: ﴿إن أتبع﴾ بوصفي رسولًا من الله: ﴿إلا ما يوحى إليّ﴾ فأبلغه للناس بنصه المنزل عليّ دون زيادة أو نقص: ﴿إني أخاف إن عصيت ربي﴾ بتبديل وتحريف: ﴿عذاب يومٍ عظيمٍ﴾ هو يوم القيامة وفي هذا تحذير شديد لمن يحاول تبديل أحكام القرآن بما يستبيحه من الأمور المنافية لعقيدة التوحيد أو المخلة بأسس التشريع الإسلامي: ﴿قل لو شاء الله ما تلوته عليكم﴾ أي لولا أن مشيئة الله الأزلية قد قضت بتلاوة هذا القرآن بنصه الكامل عليكم لما أوحى به إليّ لما أمكن أن يصدر على لساني: ﴿ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله﴾ أي مكثت بين ظهرانيكم عمرًا طويلًا قدره أربعون سنة أعمل في رعي الغنم وأعمال التجارة ولم أعرف بينكم من الشعراء وأولي الفصاحة والبلاغة ولم أتل عليكم طوال المدة سورة أو آية تشبه آيات القرآن وكلما عرف عني أني أمين فلا يمكن أن يتصور صدور الكذب مني: ﴿أفلا تعقلون﴾ إذ العقل لا يسلم أن رجلًا تجاوز سن الصبا ولم يتلق العلم على أستاذ حتى بلغ الأربعين يأتي بين عشية وضحاها بكتاب مثل الذي أتيتكم به ويؤكد لكم وهو الأمين بينكم أنه من عند ربكم فلا تصدقونه في دعواه وتنسبون إليه الكذب وأنتم تعلمون أنه لو وافقكم على رأيكم وغير أو بدل في آيات الله لدل على أنه لم يكن صادقًا في نسبة ذلك إلى الله ويكون بعمله هذا أظلم منكم: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا﴾ أي إن أشد أنواع الظلم أن يكذب العبد على ربه
على جميع الأعمال الدنيوية وأخبر رسوله بما عليه حال معظم الناس إزاء طاعة الله أخذ ينبهه سبحانه وتعالى أيضًا في هذه السورة إلى ما هنالك من أقوام يظهرون غير ما يبطنون ويشهدون برسالته ويضمرون العداء له ولدعوته ويحاربونها ويكيدون لها ومن أجل هذا فإنه تعالى يحذره منهم ويأمره بأن لا يخدع بأقوالهم فقال: ﴿إِذَا جَاءكَ﴾ أيها الرسول: ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾ أي الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر: ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ﴾ فتخدع بهم وتعتبرهم بذلك من المسلمين: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ أي في حين أن الله يعلم إنك لرسوله فشهادتهم وعدم شهادتهم على حد سواء وإنما المهم أن يعلموا بما تقتضيه هذه الشهادة فيخلصوا لك ويتبعوا ما جئت به وهذا ما لم يخطر لهم على بال ولذا قال تعالى: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما شهدوا به أمامك إنهم: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ والمراد بها الشهادة إذ هي تجري مجرى الحلف في التأكيد فيقول الرجل أشهد وأشهد بالله: ﴿جُنَّةً﴾ أي سترًا لما يخفونه من كفر: ﴿فَصَدُّوا﴾ أي صرفوا ومنعوا البسطاء والسذج: ﴿عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ أي عن طاعة الله ورسوله تحت ستار الإيمان بالله والشهادة بالرسالة: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ﴾ أي بئس: ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فلم يكفهم أن كفروا بالله حتى عملوا على التمويه على المسلمين وحملهم على عصيان خالقهم: ﴿ذَلِكَ﴾ أي الذي دعاهم إلى الصد عن سبيل الله: ﴿بِأَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ بالله: ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ برسالتك بقلوبهم وإن شهدوا بها أمامك ليخدعوك: ﴿فَطُبِعَ﴾ الطبع أن تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة والدراهم وهو أعم من الختم وأخص من النقش والمعنى فثبت وسجل: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وما وقر فيها من كفر بالرسالة: ﴿فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ شيئًا من أسرار التشريع ومقاصد الإسلام وما داموا لا يؤمنون برسالتك: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ وتحسب أن في داخل هذا الجسم السليم عقلًا سليمًا: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ وقرئ «يسمع» بالبناء للمجهول أي تصغي إليهم بمعنى تهتم بما يقولون فتنجلي حقيقة أمرهم ويظهرون بمظهرهم الحقيقي: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ﴾ بضم الشين وقرئ بسكونها وهي ما غلظ من العيدان: ﴿مُّسَنَّدَةٌ﴾ أي معتمدة على غيرها بمعنى أنهم أجسام بلا عقول كأنهم أشباح بلا أرواح: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ صاح صوت بشدة أي أنه كلما سمعوا زجرًا أو إنذارًا بعذاب حسبوه موجهًا إليهم لما يعرفون من أنفسهم من أنهم يستحقون ذلك فهم يتوقعون هتك أستارهم وكشف أسرارهم والإيقاع بهم ساعة فساعة: ﴿هُمُ﴾ أي المنافقون: ﴿الْعَدُوُّ﴾ الحقيقي
والحيلولة دونهم ودون كل ما يشوش عليهم ويزعزع عقائدهم ويضعف إيمانهم من أكاذيب الكاذبين وضلال المضلين.
الحقيقة العاشرة: قولهم: ﴿وأنا منا الصالحون﴾ أي الملازمون جانب الصلاح: ﴿ومنا دون ذلك﴾ أي غير كاملين في الصلاح ويدخل فيهم المقتصدون والكافرون: ﴿كنا طرائق قددا﴾ طرائق جمع طريقة وهي السيرة أو المذهب والقدد جمع قدة: الفرقة من الناس تختلف أهواؤهم بمعنى أنه تبين من دراسة القرآن أن منهم كان على حق وصلاح من أمره ومن هم فرق مختلفة الأهواء والمذاهب سيحكم الله بينهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون.
الحقيقة الحادية عشرة: قوله: ﴿وأنا ظننا﴾ الظن: الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ويستعمل في اليقين: ﴿أن لن نعجز الله في الأرض﴾ بمعنى آمنا بضعفنا أمام قدرة الله فلا نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها: ﴿ولن نعجزه هربًا﴾ أي ولن نعجزه إن أردنا الهرب من الأرض إلى السماء أو من قضائه الذي يقضي به علينا.
الحقيقة الثانية عشرة: قولهم: ﴿وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسًا ولا رهقًا﴾ البخس: النقص. والرهق: الجهل. وحمل ما لا يطاق بمعنى أنهم آمنوا بالله بمجرد سماعهم لآيات القرآن من دون أن يحملوا أو يرغموا عليه وأنهم وثقوا بصحة ما جاء في القرآن من وعد ووعيد ثقة كاملة جعلتهم يطمئنون إلى عدل الله الذي لا يبخس الناس ثواب أعمالهم ولا يكلف كل نفس إلا وسعها.
الحقيقة الثالثة عشرة: قولهم: ﴿وأنا منا المسلمون﴾ أي ثبت لديهم أن منهم من اعتنق شريعة الإسلام حقًّا وآمن بكل ما جاء به محمد بن عبد الله واتبعوه وائتمروا بأوامره وانتهوا عن نواهيه: ﴿ومنا القاسطون﴾ القاسط. من يحيد عن الحق، وأن حكم الله في هذين الفريقين هو: ﴿فمن أسلم فأولئك تحروا﴾ تحرى: طلب ما هو أحرى بالاستعمال: ﴿رشدًا﴾ أي هداية واستقامة بمعنى أنهم عرفوا الحق فاتبعوه فكانوا من الفائزين: ﴿وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا﴾ جزاء على انحرافهم عن طريق الحق بتأويلهم لآيات الله وعدم اتباعهم لأحكام القرآن هذه حقائق اهتدى بها بعض الجن بمجرد سماعهم لآي الذكر الحكيم الذي نزل به جبريل على نبينا ﷺ وهذه هي اعترافاتهم في أنفسهم التي علم الله بها وأمر رسوله أن يحيط الناس بها علمًا
أو إقراضهم مالًا يكون منه رأس مال يرتزقون منه بما ينشلهم من ذل الفقر والحاجة، ولا شك أن العمل بهذا المبدأ التعاوني مما يؤدي إلى تضافر الجهود وكثرة الأيدي العاملة ووفرة الإنتاج وتبادل الإخلاص والود بين الجميع خصوصًا وقد حث الله الإنسان على الإنفاق من أحب شيء لديه حيث يقول: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ولتحقيق الغرض الثالث نهى الله الناس عن الاعتداء على حقوق الآخرين وأكل أموالهم بعير حق ولا رضا منهم، ولما كان أبسط شيء في هذا الباب تسلط بعض ورثة الميت على التركة وهضم حقوق باقي المستحقين خصوصًا إذا كانوا غائبين خصهم الله بالذكر في قوله: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أي ولا تراعون ما للآخرين من حقوق، ويدخل في هذا الباب كل استيلاء على حق الآخرين بدون علم منه ورضا به كالنصب والاحتيال والغش والخداع والتضليل والاعتداء والحيف في أمر الوصية وتجنب العدل بين الأولاد والزوجات وما إلى ذلك من الطرق غير المشروعة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تَصُرّوا الإبل والغنم». والمراد بتلقي الركبان شراء السلع من أصحابها بأثمان بخسة قبل نزولها إلى السوق تغريرًا بهم، والمراد ببيع البعض على بيع الآخر عرض السلعة على مشتر قد اشترى مثلها بثمن أرخص ليفسد على البائع الأول صفقته، والتناجش معناه مزج السلعة بغير حقيقتها مخادعة للمشتري، أو أن يدفع فيها ثمنًا أكثر من قيمتها وليس في نفسه شراؤها، وبيع الحاضر للبادي، معناه أن يأخذ الحاضر من البادي السلعة ويطلب منه أن يتركها عنده لئلا يكثر العرض فترخص الأسعار للناس.
وقد سئل ابن عباس عن معنى هذا فقال: أي لا يكون الحضري للبدوي سمسارًا «ومر رسول الله ﷺ بالسوق على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: يا رسول الله أصابته السماء، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس وقال: من غشنا فليس منا». وروي أن رجلًا أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيه رجلًا من المسلمين فنزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ مسلم أن يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا


الصفحة التالية
Icon