وتجحدوا نعمه التي أسبغها عليكم. بعد أن أمر الله نبيه ببشارة المؤمنين وتقريع الفاسقين وتذكيرهم بآلاء الله عليهم وكيف كانوا أمواتًا فأحياهم وخلق لهم ما في الأرض والسموات أمر رسوله أن يذكر لهم أيضًا أساس نشأتهم وتكوينهم وما حصل بينه تعالى وبين الملائكة من حوار من أجلهم أدى إلى إظهار الحكمة من خلقهم ليسجل عليهم مننه من مبدأ التكوين فقال ﴿وإذ قال ربك﴾ في يوم من الأيام بعد خلقه للأرض والسموات ﴿للملائكة﴾ وهو خلق من المخلوقات الخفية أصحاب قوى عظيمة اتخذهم الله رسلًا لتبليغ أوامره وتنفيذ أحكامه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴿إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة﴾ ينوب عني في الحكم بالعدل بين المتخاصمين، وإقامة الحدود على المجرمين، ونشر السلام بين العالمين؛ فأدرك الملائكة من هذا أنه لا بد وأن يكون على البسيطة ظلمة سفاحون يحتاجون إلى من يقيم العدل بينهم ولذلك ﴿قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها﴾ بالظلم ﴿ويسفك الدماء﴾ بالاعتداء ﴿ونحن﴾ قد خلقنا من قبل ﴿نسبح بحمدك﴾ ولا نزال نسبح في سرنا وجهرنا ﴿ونقدس لك﴾ نعمك وعظيم فضلك ولا نعصي لك أمرًا، ولسنا في حاجة إلى خليفة يقضي بيننا في شأن من الشئون فلماذا تخلق خلقًا غيرنا في الأرض يسير على غير نهجنا ويحتاج إلى نصب خليفة يقيم العدل ويردع الظالم ﴿قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ لأنني أنا الخالق أعلم بإرادتي وأعرف ما أرمي إليه. ولي في كل ذلك حكمة فلولا الظلم لما كان العدل ولولا الذنب لما تجلب ثمرة الغفران وهذه المخلوقات جميعًا ما خلقت إلا لمصلحة الإنسان ولا يستطيع استخدامها أحد سواه ولأجل أن يبين سبحانه وتعالى مزية الإنسان وأهميته في الوجود، ويقنع الملائكة بخطئهم فيما قالوه عمد إلى آدم فعلمه كل شيء حيث قال ﴿وعلم﴾ الله ﴿آدم﴾ بعد خلقه بالفطرة والإلهام النفسي ﴿الأسماء كلها﴾ الدالة على جميع الكائنات وما فيها من أسرار وحكم، والعلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول بصفته وحقيقته وخواصه ﴿ثم عرضهم﴾ أي هذه المخلوقات ﴿على الملائكة﴾ مستفهمًا عن مجرد أسمائها ﴿فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاء﴾ المسميات ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيما تحسبونه لأنفسكم من مكانة علمية جعلتكم تستنجون من تنصيب الخليفة إيجاد المفسدين السفاحين وسوغت لكم الاستيضاح عن حقيقة ما أريد وقد عجز الملائكة عندئذ عن معرفة أسماء تلك المسميات لأن الله لم يجعل لهم ملكة هذه المعرفة فأدركوا أخطاءهم فيما صدر منهم وأنابوا إلى الله و ﴿قالوا سبحانك﴾ ربنا تبنا إليك ﴿لا علم لنا إلا ما علمتنا﴾ ومعرفتنا محصورة
لآمالهم فقال ﴿فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة﴾ المال والجاه منة وفضلًا ﴿وما له﴾ أي وليس له ﴿في الآخرة من خلاق﴾ أي نصيب لأنه لم يطلب لنفسه شيئًا فيها بل كان يعرض عن ذكرها ﴿ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا﴾ ما نريده من السعادة ﴿حسنة﴾ منك وفضلًا ﴿وفي الآخرة﴾ من خير ما أعددت لعبادك ﴿حسنة﴾ منك وفضلًا ﴿وقنا عذاب النار﴾ فإنا مشفقون منها ولا ينجينا من آلامها غير رحمتك وإحسانك ﴿أولئك﴾ كلا الفريقين ﴿لهم نصيب مما كسبوا﴾ مما عملوا لأنفسهم فمن عمل للدنيا نال قسطًا منها ومن عمل للدنيا والآخرة نال قسطًا منهما ﴿والله سريع الحساب﴾ يسجل أنواع دعواتهم ويحقق لهم ما جدوا في طلبه وفاء بوعده السابق، وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من رجل يدعو الله تعالى إلا استجاب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل يقول دعوت فلم يستجب لي».
لقد كان من عادة الجاهلية رمي الجمار في أيام منى فأقرهم الإسلام على ذلك وسن لهم رسول الله ﷺ التكبير عنده وعند ذبح الأضاحي والصلوات وغير ذلك حتى صح عن رسول الله ﷺ أنه كان يكبر بمنى في تلك الأيام على فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه ولذا قال تعالى ﴿واذكروا الله في أيام معدودات﴾ هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهي أيام التشريق وقد بينها لنا رسول الله ﷺ حيث نادى مناد «الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» وأيام منى ثلاثة أيام ﴿فمن تعجل في يومين﴾ فاقتصر على ذكر الله عند هذه الأعمال التعبدية على يومين فقط وترك منى إثرها ﴿فلا إثم عليه﴾ لتركه اليوم الثالث ومن تأخر عن اليوم الثالث إلى اليوم الرابع ولم ينفر مع عامة الناس ﴿فلا إثم عليه﴾ لتخلفه ﴿لمن اتقى﴾ الإثم في حالة التأخير من الوقوع في شيء من محظورات الإحرام بأن يكون قد طاف وسعى وفك الإحرام، وأما من لم يكن قد أدى الواجبات فإنه يأثم بالتأخير لأنه يكون عرضة للوقوع فيما قد يأثم عليه
الحق بطريق يعلمها سبحانه (ولا تكتموا) أيها المسلمون (الشهادة) إذا حاول المدين إنكار الدين (ومن يكتمها) عند طلبه لأدائها (فإنه آثم قلبه) بضم الباء وقرئ بفتحها وقد أسند الذنب للقلب لأنه سلطان الأعضاء ومحل لإخفاء الحقيقة ولما ينجم عن ذلك من الحقوق وإلحاق الضرر بالناس (والله بما تعملون) من أفعال القلوب والجوارح (عليم) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
بعد أن بين الله للمؤمنين نظام المعاملات وأمرهم بمراقبته وتقواه في كل شيء وأخبرهم أنه سيعاقبهم حتى على أعمال القلوب ككتمان الشهادة وهو سبحانه لا يخفى عليه شيء مما يعملون، عقب ذلك بما يشعرهم بموقفهم منه سبحانه وتعالى في هذا فقال (لله ما في السموات وما في الأرض) من جميع المخلوقات والقوى الخفية التي تسير العالم طبقًا لما وضعه من سنن وقواعد ثابتة تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات وتجعل للنفس البشرية القدرة الكاملة على التصرف في كثير من المخلوقات والاستفادة من معظم القوى وتستخيرها فيما تريد فكل ما في السموات والأرض هو ملك له ومنبعث من قوته جل وعلا والإنسان في هذه الحياة الدنيا إنما يسعى ويبطش بما لديه من قوة الروح التي مكنته من ذلك والتي هي من أمر الله وقد وهبها له سبحانه ليتمكن من أداء مهمته في الحياة ويساهم بنصيبه في عمارة الكون. وإرادة العبد مؤثرة في عمله كتأثير الأسباب في المسببات وخواص الأعشاب في الأمراض تأثيرًا غير لازم من نفسها بل مستمد من عطاء الله ومشيئته الذي ربط الأسباب ببعضها واقتضت إرادته العلية الذاتية أن يكون للنفس كامل الحرية في اختيار ما تريد وتنفيذ ما تشاء بما منحها من ملكة العقل الذي تستطيع بواسطته التمييز بين الحق والباطل وتملك القيام بعمل الخير والشر وهي مدار التكليف وسبيل الثواب والعقاب (و) لذا اقتضت إرادته فيكم أنكم (إن تبدوا ما في أنفسكم) بإتيان عمل السوء الذي نهاكم الله عنه (أو تخفوه) بأن تعقدوا النية على إتيانه إذا سنحت لكم الفرصة، ولا يندرج في هذا ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس وأحاديث النفس التي لا عقد ولا عزيمة فيها، إذ التكليف حسب الوسع (يحاسبكم به الله) أي بمقتضى أعمالكم وفق ما أنزله من الشرائع التي وضعها سبحانه لاستقامة شؤون العالم وضمان عمارة الكون على أحسن حال والتي تنص على بيان ما هو نافع وما هو ضار بالأمر والنهي والتحليل والتحريم والجزاء والعقاب لئلا تسود الفوضى
يجاهدون في سبيله ويعملون لإعلاء كلمته فيحصلون على مرتبة الشهادة، وإنما سمي هؤلاء المقتولون شهداء لأنه مشهود لهم بالجنة والنعيم المقيم منذ وفاتهم في قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ إلخ ﴿والله﴾ من صفات عدله ﴿لا يحب الظالمين﴾ وليس في تغلب المشركين على المؤمنين دليل على حب الله لهم ﴿و﴾ كذلك ﴿لـ﴾ أجل أن ﴿يمحص﴾ محص الشيء اختبره ﴿الله﴾ قلوب ﴿الذين آمنوا﴾ أي يمتحن قوة صبرهم وثقتهم بالله فيطهرهم من الذنوب والآثام ﴿ويمحق﴾ ويستأصل ما قد يكون من القوم ﴿الكافرين﴾ بقدرة الله وعظيم سلطانه وانفراده بالألوهية والوحدانية.
بعد أن بين الله في الآية السابقة بعض الأسباب الموجبة لمداولة الأيام بين الناس في هذه الحياة أخذ يشير إلى ما يكون سببًا في الحصول على سعادة الآخرة فقال ﴿أم حسبتم﴾ أيها المؤمنون ﴿أن تدخلوا الجنة﴾ بمجرد إيمانكم وتصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحن ﴿ولما يعلم الله﴾ بوقوع الجهاد من المؤمنين علمًا يترتب عليه الجزاء والعقاب لا علم إحاطة فذلك حاصل من قبل ﴿الذين جاهدوا منكم﴾ بأموالهم وأنفسهم للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمة الله ﴿ويعلم﴾ بفتح الميم وقرئ بسكونها صبر ﴿الصابرين﴾ أي القادرين على مجاهدة النفس والشيطان ابتغاء مرضاة الله ﴿ولقد كنتم﴾ والخطاب موجه إلى العرب المسلمين ﴿تمنون الموت﴾ ولا تتهيبونه لحماية الذمار والأخذ بالثأر وغير ذلك من عادات العرب السابقة قبل الإسلام ﴿من قبل أن تلقوه﴾ مشروعًا ﴿فقد رأيتموه﴾ بعد الإسلام بأمر من الله لغاية شريفة تكسبكم العزة والسلطان، هي الجهاد لإعلاء كلمة الله ﴿وأنتم﴾ يا هؤلاء ﴿تنظرون﴾ تتأملون فيما رأيتموه وتفكرون في علاقته بشئونكم: أي فما بالكم لا تسارعون إلى ما كنتم تحبون وتتمنون فمن يتمنى الشيء لا ينبغي له أن يحجم عنه أو يتردد في لقائه.
بعد أن أمر الله عباده المؤمنين بأن لا يهنوا ولا يحزنوا وأخبرهم أن تداول الأيام بين الناس سنة من سننه تعالى في خلقه يمتحن بها قلوب عباده، أخذ سبحانه يسرد عليهم جانبًا من القواعد المقررة التي اقتضتها حكمته جلّ وعلا وأصبحت من ضمن سننه في خلقه ليزيدهم بذلك إيمانًا وتثبيتًا، وهي كما يأتي:
وقرئ «كان» ﴿لم تكن بينكم وبينه مودة﴾ أي: كأنه لم تكن له صلة سابقة بكم ولم يعلم بما خرجتم من أجله من الجهاد ﴿يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا﴾ وهذا القول لا يصدر إلا من أجنبي بعيد وإلا لقيل له وما منعك من أن تكون معهم. ولهذا تولى الله الرد عليه من طرف خفي بقوله ﴿فليقاتل في سبيل الله﴾ وسبيل الله هو إعلاء كلمة ونشر دعوة الإسلام وتأييد شريعته وتنفيذ أحكامه وإقامة حدوده ﴿الذين يشرون الحياة الدينا﴾ برغبتهم في البقاء بها ﴿بالآخرة﴾ التي أمروا ببذل النفس في سبيل نيل سعادتها ﴿و﴾ لهم علينا وعد لا نخلفه أبدًا هو أنه ﴿من يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا﴾ فأجرهم حاصل على كل من التقديرين، والحزن والندامة يجب أن تغشى نفس المتقاعسين في كلتا الحالتين، وفي هذا دليل على أن التقدم إلى ميدان القتال من أشرف الأعمال التي يثاب عليها الإنسان في حال حياته وموته وفي نصره وهزيمته بل وصحوه ونومه فالغاية حاصلة والنتيجة مضمونة والأمل في إدراك ذلك من الله كبير.
لقد أمر الله المؤمنين بأخذ الحذر من أعداء الله وأن يكونوا دائمًا في حالة استعداد كامل لإجابة داعي الله وندد بضعاف النفوس من المؤمنين الذين يتكاسلون عن تنفيذ أوامر الله ثم ينسبون ما ترتب عن قصورهم تارة إلى الله وأخرى إلى أنفسهم فيلومونها وهذا وهم خاطئ أراد جل وعلا أن يقطع دابره من قلوب المؤمنين بما أمرهم به صراحة من القتال في سبيل الله الذي يعد التقاعس عنه بمثابة إيثار للحياة الفانية على الحياة الخالدة، ولذلك وعدهم بالأجر على إجابة داعي القتال من غير نظر إلى ما يترتب عليه من نصر أو خذلان وهنا أراد جل وعلا أن يستنفر نفوس المؤمنين ويحثها على
المسيحي نفسه لدليل على تساقطها وقد أدى بهم هذا الاختلاف إلى ما نراه من أن العداوة والبغضاء بين فرقهم الدينية كالبرستنت والكاثوليك لم ينقطع ذلك في زمن من الأزمان حتى الآن بخلاف حالة المسلمين فإنهم متحابون مهما بعدت ديارهم واختلفت مذاهبهم وتباينت لغاتهم فهم متحدون حول كتاب واحد ونبي واحد ودين واحد هو الإسلام (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) يوم القيامة (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) من أعمال الظلم والعدوان التي لا يقرها دينهم ويبرأ منها رسولهم عيسى عليه السلام.
بعد أن ضرب الله الأمثال بما نجم عن مخالفة اليهود والنصارى لميثاق الله من نتائج وخيمة اقتضتها سنته عقب ذلك بدعوتهم إلى الإيمان بخاتم رسله فقال (يَا أَهْل الْكِتَابِ) ممن يزعمون التمسك بالتوراة والإنجيل وقد أصابهما ما أصابهما من تحريف وتبديل (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) وخاتم أنبيائنا (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) من الأحكام والمسائل التي أنكرتموها ولم تلتزموا العمل بها كحكم الرجم وما
<٤٠>
كان منصوصاً عليه في كتبكم من صفات النبيّ والبشارات به وإن في بيانه لذلك لبرهان على رسالته (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي ومع ذلك فإنه لم يظهر الكثير مما تكتمون لئلا يعلن فضائحكم (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) وهو الإسلام الذي يضيء القلوب ويشرح الصدور (وَكِتَابٌ) هو القرآن (مُبِينٌ) أي مظهر وموضح لما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم من سنن الكائنات وسبيل سعادة الداريين (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي أنه تعالى قد جعل هذا القرآن سبيل الهداية لكل (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) أي من كانت غايته من تلاوته فهم مقاصده والعمل بما جاء فيه وفق تعاليمه ومن كان هذا شأنه فالله سبحانه وتعالى لابد أن يهديه (سُبُلَ السَّلَامِ) أي الطرق التي تؤدي إلى السلام وطمأنينة النفس في هذه الحياة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ) كلما وقعوا في مشكلة أو ضائقة وأظلمت الدنيا في أعينهم فلم يجدوا لها حلا في نظرهم (إِلَى النُّورِ) بأن تنفتح أمامهم المسالك وتتبدد الغيوم ويجعل الله لهم من ضيقهم فرجا ومخرجا (بِإِذْنِهِ) أي أن ما ذكر أمر لا بد منه لأنه قائم على أساس إذن الله وتصريح منه سبحانه الذي ربط بين الأسباب والمسببات وجعل لكل أمر غاية وفي كل شيء خصوصية وثمرة (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ
الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».
﴿فقد رحمه﴾ الله بإنجائه من هول ذلك الموقف الرهيب. أي إن الرحمة من الأمور المتعلقة بذات الله، فلا تنال إلا بمحض كرمه لا بشفاعة الشافعين، ولا تعلم إلا في الآخرة بصرف الله العذاب عمن يريد حيث ﴿يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا﴾ ﴿وذلك﴾ أي نيل الرحمة من الله هو ﴿الفوز المبين﴾ لأن رحمة الله بعبده تستوجب دخول الجنة والخلود فيها. الفقرة الثالثة: تتعلق بعظيم قدرة الله وهي قوله و ﴿إن يمسسك﴾ ألمس: أعم من اللمس ويطلق على ما يصيب الإنسان من الأمور التي يحس بها في نفسه ﴿الله بضر﴾ الضر اسم للألم والحزن والخوف، وليس بمعنى الشر، فالله لا يفعل الشر. وما يصيب الإنسان من مرض أو فقر ليس هو في الحقيقة شرًّا، بل هو تربية واختبار له. وإذا وقع في شدة أو ضيق نفس وسوء حال فإن ذلك لم يكن إلا من الله لينبهه إلى ذكره والرجوع إليه ﴿فلا كاشف له﴾ أي للضر بمعنى ليس من يقدر على تفريج الكرب وإزالة الألم والحزن من النفس ﴿إلا هو﴾ أي الله المسيطر على النفوس دون غيره من الأولياء أو الشفعاء. وإذا كان في الأحياء من ينفع بتقديم شيء من المعونات المادية فإنها لا يمكن أن تزيل أثر الألم من النفس إلا بفضل الله ﴿وإن يمسسك بخير﴾ الخير: كل ما فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة وليس بمعنى ما يرغب فيه الإنسان بدليل قوله تعالى: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم﴾، ﴿فهو على كل شيء قدير﴾ أي فليس ثمّت ما يقف في طريقة ما يريده تعالى لأحد من عباده. الفقرة الرابعة: تتعلق بكمال سلطان الله وهي قوله: ﴿وهو القاهر﴾ الشامخ في عليائه فلا يغلب أبدًا ﴿فوق عباده﴾ بمعنى المذل لهم. فهم جميعًا تحت قبضته، وحياتهم مستمدة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يتصرف فيهم بما هو متصف به من صفات الكمال ﴿وهو الحكيم﴾ الذي يضع الأمور في مواضعها، ولا يفعل شيئًا إلا عن حكمة ﴿الخبير﴾ يسوس ملكه ويدبر شئون خلقه وفق ما فيه مصلحتهم.
البلاغ الثالث: يتعلق بالإنذار والتخلي من المسئولية. وهو يشتمل على سؤالين وثلاثة أجوبة. أما السؤال فقوله: ﴿قل أي شيء أكبر شهادة﴾ شهادة الشيء: حضوره ومشاهدته والشهادة به الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على اليقين الثابت الذي لا شك فيه.
نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (١٦٢) واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ
المدة التي حرم عليهم دخول الأراضي المقدسة في أثنائها فقال ﴿وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية﴾ وهي بيت المقدس وقيل «أريحا» وقد كان فيها قوم جبارون من بقية عاد يقال لهم العمالقة رأسهم عوج بن عنق، وقد امتنعوا قبلًا من دخولها خوفًا منهم حتى فتحها الله لهم بيد موسى وبعض من آمن به حق الإيمان حببها الله إليهم بقوله ﴿وكلوا منها﴾ أي من ثمارها وطعامها ﴿حيث شئتم﴾ أي من جميع نواحيها لا يزاحمكم فيها أحد ﴿وقولوا﴾ عند إقبالكم عليها كاملة سهلة موجزة هي ﴿حطة﴾ أي مغفرة لذنوبنا ﴿وادخلوا الباب﴾ أي باب القرية ﴿سجدًا﴾ أي خاضعين مطأطئين رؤوسكم مخبتين لله شكرًا على إخراجكم من التيه ﴿نغفر لكم خطيئاتكم﴾ وقرئ «تغفر لكم خطيئاتكم» بضم التاء وفتح الفاء ورفع خطيئاتكم وقرئ «حطيئتكم» بكسر تائها بالإفراد وهو بمعنى الجميع لأنه مضاف فيفيد العموم ﴿سنزيد المحسنين﴾ في قولهم حطة بأن يكون طلب الغفران صادرًا من صميم القلب والسجود مقرونًا بالخشوع والخضوع للواحد الديان ﴿فبدل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم﴾ أي أنهم بدلا من الإحسان في القول لم يتمسكوا بحرفية ما أمروا به بل جاءوه بكلام حسبوه أبلغ من كلام الله اجتهادًا منهم وربما كان فيه ما لا يرضيه جل وعلا ﴿فأرسلنا عليهم رجزًا﴾ أي عذابًا ﴿من السماء﴾ من حيث لا يشعرون ﴿بما كانوا يظلمون﴾ الظلم وضع الشيء في غير موضعه أي بسبب ظلمهم وتبديل ما أمروا بالنطق به إذ لا اجتهاد في مورد النص ومن هذا يتبين ضرورة المحافظة على اتباع الرسل في الأقوال والأعمال التعبدية فلا يجوز مثلًا زيادة ركعة أو سجدة في الصلاة كما لا أن يبدل التكبير بالتسبيح في أثنائها مثلًا وكل عبادة لم ترد عن رسول الله فهي بدعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار».
بعد أن أخبر الله رسوله بما حاق بالذين ظلموا من بني إسرائيل بسبب تبديلهم القول الذي أمروا به أمره ﷺ أن يسألهم عن بعض حوادث لم تذكر في كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم ولا يستطيعون جحودها ليتأكدوا من رسالته وأن الله لم يخف عليه شيئًا من أمرهم فقال ﴿واسألهم عن القرية﴾ أي عن خبرها وما جرى على أهلها ﴿التي كانت حاضرة البحر﴾ أي قريبة منه ومشرفة على شاطئه وهي «إيلة» بين مدين والطور وقيل «مدين» وقيل «طبرية» والله أعلم والمهم أن رسول الله عندما تعرض لهذه المسألة لم ينكروها ولم يبهتوه صلى
العزة والسلطان وقد استصغروا أنفسهم حياله ولكنه لا يسعهم إلا أن يظهروا الجلد ويصروا على العناد.
وكأنما أدرك رسول الله ﷺ ذلك منهم فأراد أن يشعرهم بمبلغ قوته فصار يرسل كل يوم مائتين من أصحابه إلى بطن ياجج ليظلوا على السلاح ويحضر من كان قائمًا على حراسته كما أراد أن يلوح لهم بغصن الزيتون ويجدد معهم أواصر الرحم بعد أن تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان فأعرب عن رغبته في زواج ميمونة بنت الحارث الهلالية خالة خالد بن الوليد البطل الشهير الذي حاربه في غزوة أحد فوافقت هي على ذلك وزوجه عليها العباس بن عبد المطلب وأصدقها أربعمائة درهم وطلب من قريش أن يمدوا له في مدة إقامته في مكة عن ثلاثة أيام حتى يتم زواجه بها ويحضروا وليمة زفافه فرفضوا وقالوا له لا حاجة لنا في طعامك اخرج عنا فخرج رسول الله ﷺ عند نهاية المدة وترك أبا رافع مولاه ليأتي له بميمونة فأدركه بها في (سرف) موضع من ضواحي مكة وبنى عليها هنالك.
واستمر في سفره إلى المدينة وكان لزواج النبي بميمونة أثره الطيب في نفس خالد بن الوليد فقد حمله ذلك على أن يفكر في الإسلام وفي أمر محمد ودعوته وما كان لها من الأثر العظيم في نفوس ذلك الجمع الذي جاء بهم إلى مكة فأخذ يتحدث إلى الناس عن عظمة محمد ومزاياه ويذكر بإعجاب ما سمعه من آيات القرآن التي يتلوها الرسول بأعلى صوته في الصلاة أمام البيت الحرام وكان مما قاله: «لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر وأن كلامه من كلام رب العالمين فحق لكل ذي لب أن يتبعه» ثم خرج إلى المدينة وأعلن إسلامه وانضم إلى صفوف المؤمنين.
فتح مكة
لقد كانت بين خزاعة وبني بكر حزازات ودماء قديمة منعوا عنها عندما دخلت خزاعة في عهد رسول الله ودخلت بنو بكر في حلف قريش فلم يجرؤ أحد منهما على الاعتداء على الآخر.
وما كاد ينتشر خبر انسحاب جيش النبي من مؤتة في البادية بعد أن قتل ثلاثة من قواده حتى قيل لجماعة من بني بكر إن محمدًا قد ضعف سلطانه وإن الفرصة سانحة لهم للأخذ بثأرهم من خزاعة فأغاروا عليهم عند ماء يقال له (الوتير) فقتلوا منهم نحوًا من عشرين شخصًا فهرعت
وينسب إليه ما لم يصدر منه وهو ما اقترحه المعاندون عليه صلى الله عليه وسلم: ﴿أو كذب بآياته﴾ وهو ما اجترحوه بإجرامهم: ﴿إنه لا يفلح المجرمون﴾ أي لا يفوز المجرمون الذين يطلبون من رسول الله الكذب وقول الزور.
بعد أن عرف الله من لا يؤمن بيوم الحساب برغبتهم في تبديل القرآن أو تغييره أتى بذكر مثل آخر من عناد من لا ينكر البعث ولكنه يحاول أن يطعن في طريقة التقاضي في يوم الحساب فقال: ﴿ويعبدون﴾ يحسب الكثير من الناس أن المراد بالعبادة أعظم أنواع التعظيم من الأعمال التعبدية كالصلاة والصوم والحج وقد وضحنا خطأ هذا بأن الأمور التعبدية تختلف في سائر الديانات في أشكالها ومظاهرها في الخارج وتتفق في شيء واحد فقط هو الدعاء الذي يعبر عن عجز الإنسان عن بلوغ الغاية وحاجته إلى من يملك تحقيقها ولذلك يدعونه فإن فاقد الشيء لا يعطيه وقد صرح الرسول ﷺ بهذا إذ قال: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية «الدعاء هو العبادة» وسياق هذه الآية يدل صراحة على أن السبب في ضلال أولئك القوم هو أنهم كانوا يدعون: ﴿من دون الله﴾ لكشف الضر وقضاء الحوائج في حال الشدة: ﴿ما لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ من الجمادات وسائر المخلوقات ما لا يملك النفع والضر حتى ولو كانوا من الأنبياء أو الأولياء والصالحين إذ المخلوق حيًّا كان أو ميتًا عاجز عن نفع نفسه أو ضرها كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾ فما بالك بغيره من الناس والأصنام والأشجار، ويمعن أولئك القوم في الإثم إذ يبررون دعاء ما لا ينفع أو يضر من المخلوقات ويأتون بما هو أدهى وأمر إذ يطعنون في طريقة حكمه تعالى بين العباد بزعمهم أنه قائم على أساس المحابات وشفاعة المقربين والصالحين لا على أساس العدل والإنصاف: ﴿ويقولون هؤلاء﴾ الذين ندعوهم لا نعتقد بأنهم آلهة أو أنهم يضرون أو ينفعون ولكن لأنهم: ﴿شفعاؤنا عند الله﴾ إذ لهم من الجاه عند الله ما يؤهلهم للشفاعة لنا أو يحمل المولى على تحقيق غاياتنا وكشف الضر عنا من أجلهم وقد أخبرنا الله بما يكون منهم يوم القيامة بقوله: ﴿وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون﴾ لأنا لم نكن نسمعكم ولم نقركم عليه وإن مما يؤسف له أن الكثير من
في الأمة فراعنة يغوون الناس ويستعبدونهم فيطيعونهم كطاعة العبيد للسادة دون اتعاظ بهداية الله فإنهم سيقودوهم في الآخرة إلى النار كما قادوهم في الدنيا إلى الغي والفساد.
بعد أن أخبر الله تعالى رسوله بما كان من إرساله الرسل لهداية الأمم السابقة ودعوتهم إلى ما هو كفيل بسعادتهم من الإيمان بهم والاهتداء بهديهم وتحذيرهم من المخالفة التي جرت عليهم أنواع العذاب الذي نالوه فعلًا أخذ يبين له الغاية من ذكره لتلك القصص وهي إشعار الناس بأن تلك سنة من سننه تعالى في معاملة الظالمين ليكون فيها عبرة وموعظة على مدى الأزمان فقال: ﴿ذلك﴾ ما قصصناه عليك أيها الرسول: ﴿من أنباء القرى﴾ والمدائن من قوم نوح ومن بعدهم: ﴿نقصه عليك﴾ في هذه السورة أو في هذا القرآن لتتلوه على الناس نيابة عنا: ﴿منها﴾ أي من تلك القرى ما هو: ﴿قائم وحصيد﴾ أي منها ما له بقايا ماثلة وآثار باقية يمكن اكتشافها للمنقبين على ممر السنين لتثبت لهم صدق قولنا كقرى قوم صالح وفرعون وملئه، ومنها ما هو كالزرع المحصود الذي لم يبق له أثر كقرى لوط التي لم يعلم مقرها حتى الآن: ﴿وما ظلمناهم﴾ أي وكل أولئك لم يكن هلاكهم برغبة منا في إهلاكهم ظلمًا من غير جرم اقترفوه: ﴿ولكن ظلموا أنفسهم﴾ برفضهم ما أرشدناهم إليه من سبل الهدى ووسائل النجاح وإصرارهم على الكفر بالله وعبادة غيره من الأصنام: ﴿فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك﴾ أي فما نفعتهم تلك الآلهة التي كانوا يدعونها أو يعتقدون فيها النفع ويرجون منها أو بواسطتها وشفاعتها تحقيق المطالب وكشف المصائب: ﴿وما زادوهم﴾ أي تلك الآلهة: ﴿غير تتبيب﴾ أي غير هلاك وتخسير باعتقادهم أنهم هم الذين آذوا الرسل حتى اعتراهم شيء من الجنون كما قال بعضهم: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾.
﴿وكذلك﴾ أي إن ما أصاب من سبق من الأمم لم يكن قاصرًا عليهم بل: ﴿أخذ ربك﴾ أي عذابه: ﴿إذا أخذ القرى﴾ أي إذا أراد تعذيب أهل القرى وقرئ: ﴿إذ أخذ﴾ بألف واحدة: ﴿وهي ظالمة﴾ أي في حال ظلم جميع أفرادها في كل زمان ومكان: ﴿إن أخذه﴾ أي عذابه لم يكن مطابقًا لعذابهم في النوع والشكل بل يتحد معهم في أنه: ﴿أليم﴾ أي موجع قاس: ﴿شديد﴾ لا هوادة فيه ولا مفر منه، وقد علم مما تقدم أن الله تعالى لا يهلك الأمة في جملتها ما دام فيها أحد
الدنيا قد سن دستورًا: ﴿يبسط﴾ أي يوسع بمقتضاه: ﴿الرزق لمن يشاء﴾ البسط من عباده بالسعي لكسبه بمختلف الوسائل والتفكير في اكتشاف شتى الطرق لتنميته واتساع دائرته: ﴿ويقدر﴾ أي ويضيق على من أراد لنفسه التضيق بالبطالة والكسل وعدم السعي أو الاكتفاء بالعمل المحدود، ولا دخل في ذلك لإيمان الناس أو كفرهم: ﴿وفرحوا﴾ أي من بسط الله لهم الرزق: ﴿بالحياة الدنيا﴾ التي لا تستحق الفرح لأنها وكل ما فيها من الملذات قصير الأجل: ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة﴾ أي والحال أن الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الأخرى ما هي: ﴿إلا متاع﴾ وهو ما ينتفع به انتفاعًا قليلًا غير باق: ﴿ويقول الذين كفروا﴾ بالله وما جاء به الرسل وأفسدوا في الأرض: ﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ تقهرنا على الإيمان به والاهتداء بهديه إن كان هو حقًّا رسول الله وقد أمر الله ورسوله أن يجيب على هذا أيضًا بقوله: ﴿قل إن الله﴾ الذي منح لعباده الحرية في النية والقول والعمل قد قضى في دستوره أنه تعالى: ﴿يضل من يشاء﴾ الضلالة لنفسه بالإعراض عن القرآن الذي أنزله الله هدى للعالمين: ﴿ويهدي إليه﴾ أي يرشد إلى سلوك سبل الخير التي تستجلب رضاه كل: ﴿من أناب﴾ أي رجع عن ضلاله وناب عن ذنوبه وهؤلاء هم: ﴿الذين آمنوا﴾ بالله: ﴿وتطمئن قلوبهم بذكر الله﴾ أي تخشع قلوبهم عند تلاوة كلام الله: ﴿ألا بذكر الله لتطمئن القلوب﴾ أي أن الله قد جعل للقرآن تأثيرًا في قلوب المؤمنين لما يضفيه عليها من نور الإيمان بالله والثقة بعظيم كرمه ووافر رحمته والعمل بما يرضيه فهم في بشر دائم وسعادة مستمرة لثقتهم بما وعدهم به الله في قوله: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم﴾ في هذه الحياة الدنيا: ﴿وحسن مآب﴾ أي مرجع في الآخرة التي أخبرنا عنها الرسول ﷺ بقوله «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
بعد أن أعلن الله لعباده أنه يرزق الجميع بمحض كرمه وفق دستور سنه لذلك وأنه لم يجعل من الرزق وسيلة للتأثير عليهم ليؤمنوا به فلا علاقة لأحدهما بالآخر كما أن أمر الهدى والضلال عائد إليهم أيضًا وفق دستور خاص يعود لهم أمر تطبيقه وبين ما أعده من جزاء لكل من المؤمن والكافر أخذ يوضح لرسوله موقفه من قومه وموقفهم منه والمهمة التي عهد بها إليه لئلا يشعر بالقصور فيما إذا لم يستطع هدايتهم فقال: ﴿كذلك أرسلناك﴾ كما أرسلنا من قبلك من الأنبياء: ﴿في أمة قد خلت من قبلها أمم﴾ تلاشت وحلت بدلًا منها أمتك التي هي آخر الأمم وأنت أحد
نازلة نسبوها إلى الله وقالوا قضى بها وقدرها عليهم وتناسلوا ما صدر منهم من أعمال كانت هي السبب فيها: ﴿وتصف ألسنتهم الكذب﴾ أي ويكذبون على الله إذ يزعمون: ﴿أن لهم الحسنى﴾ أي ينسبون إلى أنفسهم كل حسن فيقولون إنما نلنا هذا الخير والرزق بسواعدنا ونتيجة جدنا واجتهادنا ويتناسون فضل الله بما وهبهم من القوى التي مكنتهم من الحصول على ذلك: ﴿لا جرم﴾ أي لا بد ولا محالة: ﴿أن لهم النار﴾ جزاء على كفرهم بنعم الله ونسبتها لأنفسهم: ﴿وأنهم مفرطون﴾ بفتح الراء أي متروكون فيها وقرئ بكسر الراء وتشديدها من التفريط في الطاعة: ﴿تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك﴾ مثل ما أرسلناك به تدعوهم إلى الحق: ﴿فزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ القبيحة وصدهم عن الإيمان بالله: ﴿فهو﴾ أي الشيطان: ﴿وليهم﴾ أي الذين يعملون بإرشاداته: ﴿اليوم﴾ في هذه الحياة: ﴿ولهم عذاب أليم﴾ في الآخرة: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب﴾ أي القرآن: ﴿إلا لتبين لهم﴾ أي للناس الأمر: ﴿الذي اختلفوا فيه﴾ من حقيقة التوحيد ومعنى القضاء والقدر وسائر الأحكام: ﴿وهدى ورحمة﴾ أي وليكون سبيلًا لهداية الناس إلى ربهم ويستوجب رحمته: ﴿لقوم يؤمنون﴾ بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
بعد أن حصر الله مهمة رسوله في أن يبين للناس ما اختلفوا فيه من الكتاب من حقيقة التوحيد وما يعد شركًا من أقوالهم أخذ يملي عليه طرفًا من دلائل الألوهية أولها قوله: ﴿والله﴾ الذي يجب الإيمان بوجوده ووحدانيته وإخلاص العبادة له هو الذي: ﴿أنزل من السماء ماء﴾ بأمره في أي وقت يريده وفي أي جهة يختارها سبحانه وتعالى دون أن يكون للإنسان دخل في هذا. وثاني الدلائل قوله: ﴿فأحيا به﴾ لا عنده كما يزعمه بعض الجامدين: ﴿الأرض بعد موتها﴾ أي أنه تعالى هو الذي قدر في أزله أن يكون الماء سبيل إحياء الأرض وذلك بإنبات العشب فيها ولولا ذلك لما أنبتت: ﴿إن في ذلك﴾ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به دون غيره من سائر المائعات: ﴿لآية﴾ أي دليل حسي قاطع على وجود الله وأنه وحده خالق الأسباب والمسببات: ﴿لقوم يسمعون﴾ أي أن كل من يسمع هذا القول لا يسعه إلا أن يؤمن بصحته لما يشاهده من عدم إمكان غير الله من إتيان مثل ذلك، وثم دليل عقلي ثالث على قدرة الله يتجلى في قوله: ﴿وإن لكم في الأنعام لعبرة﴾ تتعظون بها ولا يستطيع العقل البشري أن يجحدها أو يكابر في صحتها وهي أنا: ﴿نسقيكم﴾ بضم النون وقرئ بفتحها أي جعلناه في كثرته كالسقيا بالماء: {مما في
وينسب إليه ما لم يصدر منه وهو ما اقترحه المعاندون عليه صلى الله عليه وسلم: ﴿أو كذب بآياته﴾ وهو ما اجترحوه بإجرامهم: ﴿إنه لا يفلح المجرمون﴾ أي لا يفوز المجرمون الذين يطلبون من رسول الله الكذب وقول الزور.
بعد أن عرف الله من لا يؤمن بيوم الحساب برغبتهم في تبديل القرآن أو تغييره أتى بذكر مثل آخر من عناد من لا ينكر البعث ولكنه يحاول أن يطعن في طريقة التقاضي في يوم الحساب فقال: ﴿ويعبدون﴾ يحسب الكثير من الناس أن المراد بالعبادة أعظم أنواع التعظيم من الأعمال التعبدية كالصلاة والصوم والحج وقد وضحنا خطأ هذا بأن الأمور التعبدية تختلف في سائر الديانات في أشكالها ومظاهرها في الخارج وتتفق في شيء واحد فقط هو الدعاء الذي يعبر عن عجز الإنسان عن بلوغ الغاية وحاجته إلى من يملك تحقيقها ولذلك يدعونه فإن فاقد الشيء لا يعطيه وقد صرح الرسول ﷺ بهذا إذ قال: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية «الدعاء هو العبادة» وسياق هذه الآية يدل صراحة على أن السبب في ضلال أولئك القوم هو أنهم كانوا يدعون: ﴿من دون الله﴾ لكشف الضر وقضاء الحوائج في حال الشدة: ﴿ما لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ من الجمادات وسائر المخلوقات ما لا يملك النفع والضر حتى ولو كانوا من الأنبياء أو الأولياء والصالحين إذ المخلوق حيًّا كان أو ميتًا عاجز عن نفع نفسه أو ضرها كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾ فما بالك بغيره من الناس والأصنام والأشجار، ويمعن أولئك القوم في الإثم إذ يبررون دعاء ما لا ينفع أو يضر من المخلوقات ويأتون بما هو أدهى وأمر إذ يطعنون في طريقة حكمه تعالى بين العباد بزعمهم أنه قائم على أساس المحابات وشفاعة المقربين والصالحين لا على أساس العدل والإنصاف: ﴿ويقولون هؤلاء﴾ الذين ندعوهم لا نعتقد بأنهم آلهة أو أنهم يضرون أو ينفعون ولكن لأنهم: ﴿شفعاؤنا عند الله﴾ إذ لهم من الجاه عند الله ما يؤهلهم للشفاعة لنا أو يحمل المولى على تحقيق غاياتنا وكشف الضر عنا من أجلهم وقد أخبرنا الله بما يكون منهم يوم القيامة بقوله: ﴿وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون﴾ لأنا لم نكن نسمعكم ولم نقركم عليه وإن مما يؤسف له أن الكثير من
لكل إنسان حيث يخدعه بمعسول كلامه حتى ينال ثقته بينما هو يترقب الفرص ليطعنه من خلفه في الصميم: ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ أي لا تأمن لهم أن يغدروا بك ما داموا يضمرون لك البغض والعداء ويتوقعون العذاب عن طريقك: ﴿قَاتَلَهُمُ اللهُ﴾ هذا دعاء عليهم بأن يتولى الله قتالهم: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل ومن الصدق في المقال إلى الكذب ومن الجميل في الفعل إلى القبيح منه بمعنى أما كان الأحرى بهم وهم يتوقعون إنزال العذاب بهم أن يكفوا عن نفاقهم ويأمنوا على أنفسهم من كل سوء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ بعد أن افتضح أمرهم وتجلى نفاقهم: ﴿تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ﴾ عما بدر منكم: ﴿لَوَّوْا﴾ بالتشديد وقرئ بالتخفيف أي أمالوا: ﴿رُؤُوسَهُمْ﴾ بمعنى رفضوا طلب الاستغفار وقالوا لا نذهب إليه ولا نريد أن يستغفر لنا: ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ أي يعرضون عن قبول النصح: ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ أي حال كونهم مستكبرين عن طلب الاستغفار ثم أنه تعالى نبه رسوله إلى ما اقتضته سننه أو دستوره في مثل هؤلاء بقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ ذلك لأن الله في دستوره لا يغفر إلا لمن كان راغبًا في الغفران بذاته لا لمن يطلب الغفران له غيره فمن لم يطلب الغفران أو لم يعمل له يعد مستنكفًا عنه فلا يستحقه ويحرم منه: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ الفاسق هو الخارج عن طريق الحق الذي رسمه الله لصلاح عباده فما دام هؤلاء قد ارتكبوا جريمة النفاق ثم استنكفوا عن طلب الغفران ولم يسلكوا سبله فلا غرو إذا ما حرموا منه ولن يظفروا به ولقد عرف الله لرسوله المنافقين بصفتين الأولى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا﴾ أي يتفرقوا من حوله ويمتنعوا عن تأييده ومؤازرته وفي قراءة «حتى ينفضوا» من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم بمعنى أنهم كل من يدعو إلى عدم مساعدة المؤمنين الصادقين ومقاطعتهم اقتصاديًّا حتى يضطروا إلى التخلي عن دين الإسلام: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ﴾ جمع خزانة وهي المكان الذي يدخر ويجمع فيه المال والقوت: ﴿السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو سبحانه الخالق للماء الذي هو إكسير الحياة وهو الخازن له في السماء والأرض: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ﴾ إذ يظنون لأنفسهم تأثيرًا في أرزاق الناس ويحسبون أنهم بعدم إنفاقهم على من عند رسول الله أو المؤمنين به أو بعدم تعاونهم معهم يجوعون ويهلكون وفاتهم أن من بيده خزائن المواد الأسياسية لجميع الأرزاق لا يعجزه أن يمنحها للناس متى أراد من غير جهد، الصفة الثانية من صفات المنافقين هم
ليأخذوا لهم منها درسًا في الحياة وسبيلًا لنيل رضاه بعد أن أمر الله رسوله بأن يخبر قومه بما أوحى به إليه من خبر الجن وكيف أنهم تأثروا من سماعهم لآي الذكر الحكيم واستنتجوا منه ما استنتجوه من أن العباد على ثلاثة أنواع مؤمن ومسلم وقاسط فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسًا ولا رهقًا ومن أسلم فقد تحروا رشدًا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا أخذ يملي سبحانه على رسوله أيضًا بعض الحقائق التي يجب أن يحاط الناس بها علمًا من الأمور الاعتقادية فقال أولًا: ﴿وأن لو استقاموا﴾ أي سائر العباد: ﴿على الطريقة﴾ أي الشريعة التي أنزلت عليهم بمعنى عملوا بها: ﴿لأسقيناهم ماءً غدقًا﴾ الغدق: الكثير بمعنى أنه ينزل لهم من الماء ما يروي الأرض ويصلح الزرع ويشبع المواشي ويدر عليهم الرزق ويصلح الزرع ويشبع المواشي ويدر عليهم الرزق الكثير فلا يشكون القحط أو تعطل الأسباب وذلك: ﴿لنفتنهم فيه﴾ أي لنختبر مبلغ إيمانهم وشكرهم لله مصدر النعم: ﴿ومن يعرض عن ذكر ربه﴾ بمعنى لا يعترف في نفسه بأن ما يصيبه من الرزق وسائر النعم إنما هو من فضل الله بل يظنه من عمل يده وعرق جبينه ولا دخل لله فيه: ﴿يسلكه﴾ أي يدخله ربه وقرئ بالنون بدل الياء مفتوحة ومضمومة: ﴿عذابًا صعدًا﴾ أي يزداد طولًا بمعنى أنه كلما أمعن في كفران النعم تضاعف عليه العذاب.
وقال ثانيًا: ﴿وأن المساجد لله﴾ المساجد جمع مسجد وهو كل موضع تعبد فيه الإنسان وقد قال ﷺ «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا».: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ أي مادامت الأرض كلها مواضع عبادة فلا تعبدوا معه عليها غيره بمعنى يجب أن يفرد الإنسان الله بالدعاء فالدعاء مخ العبادة وهي لا تكون إلا لله لأنه لا يسمع النداء ويحقق الآمال أحد سواه.
وقال ثالثًا: ﴿وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا﴾ لبدًا بكسر اللام وضمها جمع لبدة وهي الصوف المتلبد أو الشعر المجتمع بين كتفي الأسد والمعنى أنه لما أفرد الرسول الله بالدعاء وحارب عبادة الأصنام تظاهر الإنس والجن على محاربة دعوته حتى كادوا يشكلون لبدًا تحيط به لتخمد صوته وتحول دون نشره ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله ولكنهم فشلوا ولم تتحد قلوبهم على هذا وأبى الله إلا أن ينصره على أعدائه ويظهر دينه على الدين كله.
وقال رابعًا: ﴿قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدًا﴾ أي أني أشعر بضعفي وحاجتي إلى الله في كل شيء فأحصر أملي فيه واعتمادي عليه وأفرده وحده بالدعاء فلا أسأل غيره ولا أستعين بأحد سواه
أخبر به، لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعًا من تمر»، وفي رواية «من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسك وإن شاء ردها ومعها صاع من تمر».
ولتحقيق الغرض الرابع نهى الله الناس عن التكالب على حب المادة حبًا يبلغ بهم درجة العبادة فيرتكب الإنسان في سبيل جمع المال مختلف الجرائم مما يؤدي إلى الشح به حتى على نفسه فيكون في الواقع فقيرًا وإن كان في نظر الناس من الأغنياء وفي مثل هذا يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾، ومن أجل هذا جاء الإسلام داعيًا إلى عدم اتخاذ المال غاية في الحياة بل لا بد من اعتباره وسيلة لاستجلاب رضاء الله ومحبة عباده في هذه الحياة وسببًا لنهوض الأمة ورفعة شأنها وقد دلتنا التجارب على أن التغالي في جمع المال واكتناز الثروة قد أدى بالناس إلى التحاسد والتقاطع وكل شر وفتنة، وكثيرًا ما كان عاملًا قويًّا من عوامل الإجرام وإيصاد أبواب الخير في وجوه العباد، وسببًا رئيسيًا من أسباب عرقلة المشروعات النافعة والمصالح العامة وتزايد عدد العاطلين في العالم ونقمتهم من الرأسمالية في جميع الأنحاء بل ربما كان هو الدافع الأول لاعتناق البسطاء للمذهب الشيوعي في عصرنا الحاضر ولهذا أنذر الله الذين يحبون المادة أكثر من حبهم لله ولا يوجهونها إلى ما شرعت له من الأعمال الصالحات بشر المصير إذ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾، وأخبرنا الله جل وعلا أن من أكبر مضار الغنى إفساد النفوس وحملها على الطغيان واحتقار الإنسان لأخيه الإنسان إذ يقول: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، وأمرنا تعالى بالإنفاق في مواضع كثيرة من القرآن وبين ما له من شأن عظيم عند الله إذ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾،: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾، ويقول: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ


الصفحة التالية
Icon