ضمن الدائرة التي حددتها لنا ﴿إنك أنت العليم﴾ بمقاصدنا ﴿الحكيم﴾ الذي لا يوجد شيئًا إلا عن حكمة ﴿قال﴾ الله ﴿يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ أي أسماء هذه المسميات ﴿فلما أنبأهم﴾ آدم ﴿بأسمائهم قال﴾ الله للملائكة ﴿ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض﴾ وها أنا قد ميزت آدم عنكم بالعلم بأسرار هذه المخلوقات وخواصها وقد عجزتم عن إدراك أسمائها فقط ومن هذا تعلمون ثمرة خلق آدم وما أريده من عمار الكون عن طريقه ﴿وأعلم ما تبدون﴾ من ظاهر ما قلتم ﴿وما كنتم تكتمون﴾ من حب الاستطلاع والرغبة في معرفة حكمة جعلي الخليفة وخلقي للإنسان. وما إن انتهى الله من ذكر قصة خلق آدم وتميزه عن الملائكة بالعلم حتى ثنى بذكر منة أخرى له عليه هي تفضيله عليهم في المقام حيث قال ﴿وإذ قلنا للملائكة﴾ بعد أن قامت الحجة عليهم واعترفوا بقصر نظرهم ﴿اسجدوا﴾ سجود إجلال وحرمة لا سجود عبادة فإن ذلك لا يكون إلا لله ﴿لآدم﴾ الذي هو أصل السلالة البشرية ﴿فسجدوا﴾ جميعًا له ﴿إلا إبليس﴾ لقد استدل المفسرون من هذا على أن إبليس كان من الملائكة وقال بعضهم إنه كان من كبارهم وإنه ما ترك شبرًا في الأرض إلا سجد لله فيه. وهذا خلاف الحقيقة لأن الله قد وصف الملائكة بأنهم ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ وإبليس قد عصاه فهو ليس منهم وقد صرح الله في سورة الكهف بأنه ﴿كان من الجن ففسق عن أمر ربه﴾ ولذلك فمن رأيي أن إبليس كان من فصائل الجن أي واحدًا من المخلوقات الخفية التي سمعت أمر الله للملائكة بالسجود فكان عليه أن يسجد معهم باعتباره أحط درجة منهم، فقد خلقوا من النور وخلق من النار، ومتى أمر الشرفاء بالسجود كان وجوب السجود على العامة من باب أولى ولكنه خالف ليعرف و ﴿أبى﴾ إطاعة الأمر ﴿واستكبر﴾ أي أخذته عزة النفس أن يسجد لمخلوق يراه في نظره أحقر أصلًا وأحط درجة منه ﴿وكان﴾ بتمرده وعصيانه ﴿من الكافرين﴾ المعاندين وهو أول من سن سنة الاعتداد بالنفس والعصبية العنصرية، وأطلق عليه وعلى ذريته اسم الشياطين لما جبلوا عليه من الأذى وبقي اسم الجن يطلق على من لم يكن من الملائكة ولا من الشياطين بل من عالم الجان أي الخفي المقابل لعالم الإنس الظاهر، وهؤلاء منهم الصالحون ومنهم الطالحون، كالإنسان تمامًا، وكان من نعم الله التي عددها على الناس أيضًا أنه أعد لآدم جنة ذات ثمار وأزهار ومياه جارية ومناظر خلابة ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ ولعل في قوله اسكن ولم يقل ادخل إشارة إلى أن أساس خلقه كان في تلك الجنة التي كان
أو قد يحبط عمله ﴿واتقوا الله﴾ في جميع أحوالكم ﴿واعلموا أنكم إليه تحشرون﴾ فإنكم ستجمعون وتساقون إليه في يوم القيامة فيجزيكم على أعمالكم صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها.
بعد أن وصف الله الناس بأن منهم من يذكر الله طلبًا لسعادة الدنيا ومنهم من يذكره طلبا لسعادة الدارين أردف ذلك ببيان صنف ثالث هو الذي يتظاهر بالزهد في الدنيا وطلب الآخرة بينما يكون في الواقع عكس ذلك، وقد أشار الله سبحانه بقوله ﴿ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا﴾ فيذمها لك ويزعم أنه زاهد فيها راغب في الآخرة عامل لها يحب السلم ويمقت الجدل ﴿ويشهد الله على ما في قلبه﴾ بأن يقول الله يشهد بأن الأمر كما قلت ﴿وهو﴾ ﴿ألد الخصام﴾ أشد خصومة قوي الحجة مجادلًا بالباطل فاقد العمل يربأ الصدع ويرتق الفتق وينقض الجبل ﴿وإذا تولى﴾ وأسند إليه أمر من أمور الدنيا ﴿سعى في الأرض ليفسد فيها﴾ ويعمل على إشعال نار الفرقة بين الناس مما يؤدي إلى تبرؤ بعضهم من بعض فتنقطع الأرحام وتسفك الدماء وتطغى المظالم ويعم الفساد ﴿ويهلك الحرث﴾ أي الأرض التي تنبت الزرع ﴿والنسل﴾ أي الذرية فقد قضت سنة الله في خلقه أن البلاد التي يغشى فيها الظلم يغشاها الفساد وترفع البركة منها وتصاب زراعتها وتقل حاصلاتها وتفنى ماشيتها ﴿والله لا يحب الفساد﴾ في الأرض لما يترتب عليه من أضرار لا يرضاها لعباده ﴿وإذا قيل له اتق الله﴾ في أمر من الأمور أو قدمت له نصيحة لله ﴿أخذته العزة﴾ أي الأنفة بأن يصور له كبرياؤه أن الناصح ليس أهلًا لنصحه ﴿بالإثم﴾ فيرفض ما قدم له من نصح ويدعوه كبرياؤه إلى الكيد لمن حثه على مراقبة الله في عمله. ﴿فحسبه جهنم﴾ فمصيره إلى جهنم وكفاه عذابها جزاء على كبريائه ﴿ولبئس المهاد﴾ جهنم دارًا يجد المرء فيها العذاب والعقاب الشديد ولا يرى فيها ساعة من هناءة ﴿ومن الناس﴾ صنف آخر لا يدعي الزهد في الدنيا ولا يزعم العمل للآخرة ولكنه في الواقع من ﴿من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله﴾ فيجود بها فعلًا في سبيل الله عندما يدعو الداعي إلى نصرة الضعيف وإقامة الحق وإعلاء كلمة الله ﴿والله رؤوف بالعباد﴾ إذ يؤيد أمثال هذا
وتتحكم الأهواء (فيغفر) بضم الراء وقرئ بإسكانها سبحانه لا محالة (لمن يشاء) لقد أعاد المفسرون جميعًا الضمير هنا إلى الله وبني الفقهاء على هذا قولهم أن له تعالى أن يعذب الطائع ويثيب العاصي ولكني أعارض في هذا لما فيه من نسبة الاستبداد لله وعدم التقيد بالعدالة وأجزم أن الضمير عائد إلى من يعني العبد وأن المعنى أن الله من محض عدله وكرمه قد أخذ على نفسه عهدًا لمن يخلفه هو أنه تعالى يغفر لكل من استغفره وأناب إليه برًا بوعده في سورة طه إذ يقول «وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى» وقوله في سورة النساء «إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا» وقد ترك الله لعباده بعد هذا الوعد الصريح الخيار المطلق في أن يعملوا للمغفرة فينالوها حتمًا إذ يبدل الله سيئاتهم حسنات ويتغمدهم بواسع رحمته، والعلماء سامحهم الله قد اشترطوا في حصول الغفران شروطًا قاسية أبسطها التوبة من جميع الذنوب وأداء الفرائض والإكثار من السنن ومع ذلك علقوا أمر قبولها إلى إرادة الله إن شاء قبلها وإن شاء رفضها فلم يعد هناك اطمئنان إلى النجاة أو ثقة في نيل غفران الله مع أن الباحث في آيات القرآن وأحاديث الرسول ﷺ يجد الأمر على عكس ذلك. فالله سبحانه قد سن طريق الخير وطريق الشر وأرشدنا إلى سبل السعادة وتحقيق الرغبات ودعا عبادة إلى طلب الغفران منه ووعد به كل راغب ولم يشترط لذلك أكثر من الرجوع إلى الله بطلب الغفران حيث أخبرنا جل جلاله في القرآن أن غفران ذنب آدم وحواء إنما كان نتيجة لكلمات تلقاها من ربه وهي «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» كذلك سيدنا موسى عندما وكز عدوه فقضى عليه «قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له أنه هو الغفور الرحيم». وهذا أكمل درجات الاستغفار لأنه لا يقتصر على مجرد الاعتراف بالذنب وطلب غفران بل إنه ليعبر عن ظلم الإنسان لنفسه بحملها وهو بكامل الاختيار على ارتكاب الذنوب واتباعه للشيطان مخالفًا في ذلك أمر ربه وبمقدار ما يكون الإثم عظيمًا يكون الاعتراف به فضيلة والتجاوز عنه أكبر، وفضل الله واسع ورحمته لا تحد. كذلك لما استغفر دواد ربه وخر راكعًا وأناب قال تعالى «فغفرنا له ذلك وأن له عندنا لزلفى وحسن مآب» ذلك لما يحمله الاستغفار في ذاته من معنى كبير هو الإيمان بالله واليقين الكامل بصحة ما جاء في كتبه من عذاب العصاة وأنه تعالى الذي شرع العذاب قد أخذ على ذاته العلية أن يغفر للمستغفرين
القاعدة الأولى: ﴿وما محمد إلا رسول﴾ من البشر جاءكم لتبليغ الرسالة ولم يدّع لنفسه الألوهية قط، ﴿قد خلت من قبله الرسل﴾ العديدون المماثلون له، فموته لا يؤثر ولا يغير في المرسل به ﴿أفإن مات﴾ هذا الرسول كما مات موسى وعيسى وغيرهما من الرسل ﴿أو قتل﴾ كما قتل زكريا ويحيى مثلاً ﴿انقلبتم على أعقابكم﴾ رجعتم إلى ما كنتم عليه من ضلال وتركتم الطريق الذي رسمه لكم وأعرضتم عن تعاليم الدين الذي جاءكم به من عند الله ﴿ومن ينقلب على عقبيه﴾ ويمتنع عن الاستمرار في السير وفق الخطة التي رسمها لهم ذلك الرسول ﴿فلن يضر الله شيئا﴾ بتصرفه الممقوت وإنما ضرره عائد على نفسه فهو سبحانه عندما أرسل الرسل وأنزل الكتب لم يرد بذلك غير هداية الناس إلى الحق وسبيل الفلاح وسعادة الدنيا والآخرة فإذا ما اهتدوا وساروا في طريقهم فإنهم سيبلغون الغاية ويفوزون بالسعادة وإذا هم عادوا من منتصف الطريق ورجعوا إلى ما كانوا عليه من ضلال فإنما وزرهم على أنفسهم والضرر عائد عليهم، ﴿وسيجزي الله﴾ ويكافئ بالإحسان من عباده ﴿الشاكرين﴾ لنعمة الهداية إلى الحق بمتابعتهم السير وفق شريعته التي جاء بها ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
﴿و﴾ القاعدة الثانية ﴿ما كان لنفس﴾ حية في الوجود ﴿أن تموت إلا بإذن الله﴾ فقد قدر الله للموت أسبابًا كالغرق بالماء والاحتراق بالنار مثلاً ولكنه تعالى علق تنفيذ مقتضى الأسباب على إذنه جل وعلا فإن وافق ذلك الموعد الذي حدده الله له في أزله حصل الموت نتيجة لذلك السبب وإلا فلا ولن تستطيع أعظم قوة في العالم أن تفقده الحياة، ﴿كتابا مؤجلا﴾ حتى تحين الساعة التي قضى الله بموته فيها أي وفق الأجل المدون في أم الكتاب عنده لا يتقدم بالتعرض لأسباب الوفاة الظاهرة ولا يتأخر بفقدانها وقد قلت في هذا:
@والموت ليس يرده حذر ولا
#يدنو بأخطار وحد ظبات
@فمتى دنا أجل الفتى يمضي وإن هو
#قد تحصن في ذرى الذروات
القتال فقال: ﴿وما لكم﴾ أي: ماذا أصابكم في أنفسكم الأبية التي كانت لا ترضى الضيم ولا تصبر على الهوان في عهد الجاهلية قبل الإسلام حتى جبنتم وأصبحتم بعده ﴿لا تقاتلون في سبيل الله﴾ خالقكم وهاديكم وقد كنتم من قبل أصحاب نخوة وحمية وعصبية جاهلية تأخذون بالثار وتزهقون أرواحكم في سبيل الشهوات والاعتزاز بالأحساب والأنساب ﴿والمستضعفين﴾ أي: ولا تقاتلون في سبيل إنقاذ المستضعفين ﴿من الرجال والنساء والولدان الذين﴾ استذلهم أهل مكة ونالوا منهم بالعذاب والقهر وحالوا دونهم ودون الهجرة ليفتنوهم عن دينهم ويردوهم إلى ملتهم وقد فقدوا النصير ولم يعد لديهم شيء من وسائل القوة إلا حصر الأمل في الله جل وعلا أن يمدهم بقوة غيبية تخلصهم مما هم فيه إذ ﴿يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية﴾ مكة المكرمة ﴿الظالم أهلها﴾ وهم قريش بما يرفعونه بالمسلمين من أذى وما يحكمون به من طاغوت وعادات جاهلية ﴿واجعل لنا من لدنك وليُّا﴾ يلي أمورنا من إخواننا المؤمنين ﴿واجعل لنا من لدنك نصيرًا﴾ ينكل بأعدائنا الكافرين ويذيقهم أنواع الذل والهوان، ومن ثم أراد الله جل وعلا أن يبين فضيلة القتال المطالبين به، ويوضح الفارق بينه وبين القتال في عهد الجاهلية، من حيث القصد والغاية فقال: ﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله﴾ لتحقيق ما يرمي إليه الإسلام من مبادئ سامية وغايات نبيلة تعود على المجتمع باليمن والسعادة والأمن والرخاء والحرية الكاملة ﴿والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت﴾ لتحقيق أغراض شخصية ومنافع ذاتية تؤدي إلى الطغيان ومجاوزة حدود الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر ﴿فقاتلوا﴾ بإضعاف النفوس من المؤمنين ﴿أولياء الشيطان﴾ الذين يصدوكم عن الإيمان ويزينوا لكم الكفر ﴿إن كيد الشيطان﴾ الذي يلقيه في نفوس أوليائه ﴿كان﴾ من أساسه ﴿ضعيفًا﴾ لا يستند على منطق صحيح ولا يؤدي إلى نتيجة
يوفقهم إلى كل عمل صالح فيه نجاتهم من عذابه يوم القيامة وهو القادر على أن يعطل سبحانه مفعول الأسباب الظاهرة ويأتي بحل من عنده ويشملهم برحمته على حد قوله تعالى (ومن يتق الله يهد قلبه) (ومن يتق الله يجعل له فرقانا) (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) إذ يوفقهم إلى كل عمل صالح فيه نجاتهم من عذابه يوم القيامة.
بعد أن دعا الله أهل الكتاب للإيمان برسوله عاد فوجه الخطاب إلى نبيه وأخبره عن السر في كفر النصارى مع أنهم يؤمنون بالله ولا ينكرون ألوهيته فقال (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فالعمدة عندهم ما جاء في أول
<٤١>
عبارة من إنجيل يوحنا وهي «في البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة» ولذلك فهم يطلقون لفظ الكلمة على المسيح ومعنى هذا أن المسيح هو الله وقد صرح «الدكتور بوست» في تاريخ الكتاب المقدس عند الكلام على لفظ الجلالة ما نصه: الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء فالثلاثة في حكم الواحد. ووجه الكفر في هذا هو أنهم اعتقدوا بأن الله قد حل في شخص المسيح وأصبح شيئاً ماديا والله منزه عن المادية (قُلْ) أيها الرسول للقائلين بهذا المتجرئين على مقام الألوهية إذا كان الأمر كما زعمتم وكان الله هو المسيح (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) تقول العرب ملك فلان على أمره إذا استولى عليه فصار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئاً إلا بإذنه أي فمن يستطيع أن يصرف الله الحقيقي الذي ندين به نحن المسلمين عن تنفيذ أمره (إِنْ أَرَادَ) سبحانه (أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) من سائر البشر ويدخل في عموم ذلك غيره من الأنبياء فإذا كان هو لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء ولماذا استغاث واستنجد عندما هم اليهود بشنقه إذ قال في إنجيل متى (٣٧ - ٤٦) «إلهي إلهي لماذا تركتني» والأناجيل كلها مجمعة على أن المسيح كان بشراً كسائر البشر فما جاز عليهم جاز عليه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) أي
والمعنى سل الناس عن أقوى الشهادات التي تطمئن إليها نفوسهم، فلا شك أنهم لا ينكرون أنها الشهادة التي تكون عن مشاهدة وحضور وعلم ومعرفة واعتقاد مبني على اليقين الثابت. والجواب على هذا السؤال قوله ﴿قل الله شهيد بيني وبينكم﴾ أني بلغت الرسالة وأديت الأمانة وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض ﴿وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به﴾ أي لمجرد الإنذار لا لإرغامه على الإيمان به ﴿ومن بلغ﴾ أي ولأنذر كل من بلغ إليه خبره وسمعه من سائر الأمم سائر الأوقات حتى قيام الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله» ولأجل إيصال هذا الإنذار إلى مسامع الجميع حمل الله سائر محطات الإذاعة في العالم اليوم على تلاوة القرآن دون غيره من التوراة والإنجيل في جميع الأوقات لتعم الدعوة ولينذر الكل به، فلم يبق لأحد عذر في عدم الاهتداء به، حتى من الأعاجم الذين يجهلون اللغة العربية، فإنهم لا يجرؤون على إنكار سماعهم له، وبلوغ خبره إليهم. الأمر الذي يحتم عليهم البحث عما يقول القرآن وتدبر معانيه باعتباره كلام الله الموجه إلى سائر العباد. فإن قصروا في ذلك فإنما جرمهم على أنفسهم، وهنا أمر الله رسوله بأن يوجه إلى المعارضين السؤال الثاني وهو قوله ﴿أئنكم﴾ وقرئ «أينكم» ﴿لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى﴾ أي هل عندكم من علم يقيني بوجود آلهة أخرى مع الله؟ إنهم بلا شك لا يحيرون جوابًا فأجب عنهم بجوابين: الجواب الأول: ﴿قل لا أشهد﴾ أي إني أنكر قولكم ولا أعترف به لأنه غير صحيح. الجواب الثاني: ﴿قل إنما هو إله واحد﴾ أي وأقر بوحدانية الله الذي لا رب غيره، ولا معبود سواه ﴿وإنني بريء مما تشركون﴾ أي وأبرأ من نسبة الشركاء له جل وعلا.
بعد أن لقن الله رسوله بعض البلاغات التي يجب أن يذيعها على الناس عن ذاته العليا واختتمها بقوله ﴿إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون﴾ أخذ يخبره بما سيكون لهذا من وقع في نفوسهم وما تقتضيه سنته ودستوره العادل في شأنهم فقال ﴿الذين آتيناهم الكتاب﴾ أي الذين آمنوا من قبل بالكتب المنزلة على موسى وعيسى ﴿يعرفونه﴾ أعاد المفسرون الإشارة إلى الرسول مع أنه لم يأت ذكره من قبل وسياق البحث يدل على عودته إلى الإله أي أن أهل الكتب يعرفون الله ولا ينكرون وجوده مما جاءهم في الكتب المقدسة ﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ فكما لا يستطيع أحد منهم أن ينكر أن له أبناء لا يجحد أن له ربًّا خالقًا. فأمر الربوبية أمر ثابت عندهم لا ريب
كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٢) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)}
الله عليه وسلم ﴿إذ يعدون في السبت﴾ أي يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد في يوم السبت وذلك العدوان بحبس الحوت في البحيرة يوم السبت تمهيدًا لصيده في اليوم التالي ﴿إذ﴾ كانت ﴿تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا﴾ أي كانت تظهر الحيتان وهي آمنة أمامهم فلم يتركوها وشأنها بل يحتالون على صيدها ﴿ويوم لا يسبتون﴾ أي لا يراعون حرمة يوم السبت بعدم الصيد فيه كما أمر الله ﴿لا تأتيهم﴾ الحيتان بالمرة، ولو أنهم راعوا حرمة الله ولم يحتالوا على صيدها فيه لاستمرت الحيتان تغدو وتروح في البحر فيصطادون منها كفايتهم ﴿كذلك﴾ وأي وبمثل هذا الجزاء من عدم مجيء الحيتان إليهم في غير يوم السبت ﴿نبلوهم بما كانوا يفسقون﴾ أي نريهم البلاء على فسقهم والمعنى أن سنة الله قد قضت بأن يكون الاحتيال في الدين فسق يحرم الله الناس بسببه مما أرادوا الاحتيال على نيله، ولأجل أن يثبت الله علم رسوله بكل ما كان من أولئك القوم أمره أن يشير إليهم بما جرى من حديث كأنه كان حاضرًا معهم فقال ﴿وإذ قالت﴾ أي واذكر لهم ما قالته ﴿أمة منهم﴾ أي من أصحاب تلك القرية للذين كانوا مهتدين إلى الحق وكانوا يعظونهم بعدم الإقدام على ذلك الاحتيال ﴿لم تعظون قومًا الله مهلكهم﴾ أي لماذا لا تتركونهم وشأنهم وتحاولون الوقوف أمام نفاذ قضاء الله فيهم بالهلاك كأنهم على علم بأن الله قد قضى بهلاكهم ﴿أو معذبهم عذابًا شديدًا﴾ دون الهلاك والاستئصال كأنهم بهذا يوصدون باب الأمل في رحمة الله وقد رُوِيَ عن رسول الله قوله: «إن رجلًا قال والله لا يغفر الله لفلان فقال الله من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك».
﴿قالوا﴾ أي قال الواعظون للآثمين ﴿معذرة﴾ بالنصب وقرئ بالرفع أي أنا لم نفعل ذلك إلا لنعذر أمام الله الذي أمرنا بأداء واجب النصيحة ﴿إلى ربكم﴾ فلا يؤاخذنا على السكوت على المنكر ﴿ولعلهم يتقون﴾ فمن يدرينا لعلهم يخافون الله ويكفون عن صنيعهم ونحن لا نيأس من هدايتهم متى شاءوا ﴿فلما نسوا﴾ أي فلما نسي العادون في السبت ﴿ما ذكروا به﴾ أي ما وعظهم به إخوانهم المتقون كليًا بحيث لم تترك تلك النصائح أثرًا في قلوبهم ﴿أنجينا﴾ من عذابنا ﴿الذين﴾ كانوا ﴿ينهون عن السوء﴾ ويؤدون النصح لله ﴿وأخذنا الذين ظلموا﴾ من المعتدين في السبت والمانعين المهتدين من القيام بواجب التناصح ﴿بعذاب بئيس﴾ من البؤس وهو الشدة والفقر في هذه الحياة الدنيا ﴿بما كانوا يفسقون﴾ أي بسبب فسقهم المستمر لا بظلم الاعتداء في السبت فقط ومعنى هذا أن عذاب
خزاعة إلى رئيسها في مكة بديل بن ورقاء يشكون إليه نقض بني بكر عهدهم مع رسول الله وسارع عمرو بن سالم الخزاعي متوجهًا إلى المدينة وأقبل على رسول الله في المسجد يقص عليه ما قد حصل فهدأ الرسول من روعه وقال له «نصرت يا عمرو بن سالم» وما لبث غير قليل حتى جاءه بديل بن ورقاء من مكة على رأس وفد من خزاعة بالخبر اليقين وذلك أن قريشًا هي المحرضة لبني بكر في الخفاء وقد حارب معهم من كبارها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو حتى إن الحارث بن هشام عندما أخبر أبا سفيان بما فعل القوم قال: «هذا أمر لم أشهده ولكنني لم أغب عنه وإنه لشر والله ليغزونا محمد ولقد حدثتني زوجتي هند بنت عتبة أنها رأت رؤيا كرهتها رأت ما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة فكره القوم ذلك» فغضب رسول الله للحادث أشد الغضب وأمرهم بالعودة إلى ديارهم وأيقن أن وفاء قريش بعهده لم يكن إلا عن خوف منه فلما توهمت ضعفه أخذت تعبث بمعاهدته إذًا فلا بد من إذاقتها وبال أمرها ولا بد من مقابلة نقضها العهد بانتزاع حكم مكة من يدها. فقوم لا يعرفون قيمة للعهد ليسوا أهلًا لأن يحكموا في أشرف بقعة في الأرض لذلك قرر في نفسه السير إلى مكة وبعث إلى كل من آمن به في الجزيرة يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة» دون أن يعلم أحد بالقصد من هذا الاجتماع وسارت الأحوال في المدينة في مجراها الطبيعي والمسلمون لا يعلمون بما يبيته رسول الله ولما تكامل جمعهم خرج بهم رسول الله قاصدًا مكة في العاشر من رمضان سنة ٨ (الموافق يناير سنة ٦٣٠) وكان عددهم إذ ذاك ما يقرب من ثمانية آلاف من المهاجرين والأنصار وبينما هو في الطريق إذ التقى بعمه العباس بن عبد المطلب فسر به وأدناه منه فلما أتوا (مرّ الظهران) قال العباس وا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك لقريش إلى آخر الدهر ولكنه لم يكاشف رسول الله بشيء من أمر أبي سفيان، ثم انسل على بغلة رسول الله البيضاء وخرج عليها حتى جاء (الأراك) يريد أن يرسل أحدًا إلى أبي سفيان يدعوه للحضور لأخذ الأمان من رسول الله ولكنه لم يعلم أن أبا سفيان لم يغمض له جفن من القلق بعد سفر العباس حتى إنه أخذ حكيم بن حزام ابن أخي خديجة أعز الناس عند رسول الله وبديل بن ورقاء رئيس خزاعة الذي أبلغ خبرهم لرسول الله وخرج بهما من مكة يستشفع بهما لدى رسول الله، وجمدوا عندما رأوا نيران جيش رسول الله
رجال العلم في عصرنا هذا يقولون مثل هذا القول تمامًا ويزعمون أن الدعاء لا يعد عبادة ولذا يبيحون لأنفسهم وللعامة أن يدعو من الأموات من يفترضونهم من: ﴿أولياء الله﴾ والله أعلم بحقيقتهم ويبررون عملهم هذا بقولهم: «إن من يسأل الأولياء حاجته لا يعتقد أنه هو الذي سيقضيها بل إن الله هو الذي سيقضيها بجاههم عنده»، ولما كان هذا القول يعد افتراء على الله وطعنًا في أساس حكمه تعالى أمر رسوله أن يرد على هذا الزعم بقوله: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض﴾ أي أتخبرون الله بشيء تعلمونه أنتم ولا يعلمه سبحانه وتعالى من أمر أولئك الذين تزعمون أن لهم حق الشفاعة عنده ولو صح زعمكم لما خفى عليه ذلك فكأنكم بقولكم هذا تفرضون عليه جاهًا لمن ليس له جاه وتزعمون أن حكمه يقوم على أساس الشفاعة مع أن حكمه لم يقم إلا على أساس العدل. والشفاعة والعدل ضدان لا يجتمعان: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ وقرئ: ﴿تشركون﴾ به من الوسطاء والشفعاء وما يزعمونه من أن لأحد من العباد عند الله جاهًا يخوله حق الشفاعة والتقرب بواسطته إليه.
بعد أن فصل الله مصير الناس بعد الموت وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين وما سينالهم من ثواب أو عقاب نتيجة أعمالهم ومعتقداتهم أخذ يتكلم عما كان عليه الجنس البشري منذ تكوينه وما حدث له من تطور بعد ذلك فقال: ﴿وما كان الناس﴾ في أول عهدهم بالحياة: ﴿إلا أمةً واحدةً﴾ تعيش على الفطرة عيشة ساذجة كأسرة واحدة حتى كثروا وتفرقوا في الأمصار فصاروا عشائر وقبائل: ﴿فاختلفوا﴾ أي تنوعت منافعهم وتعارضت مشاربهم وتنازعوا في الآراء والمعتقدات فبعث الله النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف فيما بينهم بما أنزله من الكتب السماوية: ﴿ولولا كلمةٌ سبقت من ربك﴾ تقضي بجعل جزاء الناس العام في الآخرة: ﴿لقضي بينهم فيما فيه يختلفون﴾ أي عجل الله سبحانه لهم العذاب في هذه الحياة: ﴿ويقولون﴾ أي المكذبون لرسالة نبيه محمد: ﴿لولا أنزل عليه آيةٌ من ربه﴾ أي لماذا لم يجر الله على يده معجزة خاصة بشخصه كمعجزات سائر الرسل الذين أرسلوا من قبله تميزه عن أمثاله من البشر: ﴿قل﴾ أيها الرسول جوابًا على قولهم هذا: ﴿إنما الغيب لله﴾ أي إن هذا من الأسرار الغيبية التي ليس لأحد دخل فيها فهو أدرى إن كان من المفيد إجراء أمثال تلك
من الصالحين إذ كان يخرج رسله وأتباعهم قبل هلاكهم وأما الأفراد فعذابهم بظلمهم في الدنيا على أنواع، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم تلا هذه الآية. وقد رأينا بأعيننا مصير الكثير من الملوك والحكام الظالمين البارزين وغيرهم من الأفراد المجهولين الذين انقرض نسلهم أو ذل أبناؤهم واندثرت آثارهم. ألا فليحذر الظالمون من نقمة الله وليثوبوا إلى رشدهم ويقلعوا عن ظلمهم وليستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
بعد أن أخبر الله رسوله بأن الغاية من ذكره لقصص من مر من الأمم السابقة إنما هي الإيذان بما اقتضته سننه تعالى في معاملة الظالمين ليأخذ الناس لهم من ذلك عظة وعبرة على ممر السنين فيؤمنوا بالله ويجانبوا الظلم بجميع أنواعه، قفا على ذلك بما اقتضته سننه تعالى أيضًا من أنه سوف لا يتعظ بما ذكر غير المؤمنين بالله حق الإيمان فقال: ﴿إن في ذلك﴾ أي في حدوث المصائب نتيجة لسلوك الناس السنن التي تؤدي إليها وفق قدر الله: ﴿لآية﴾ تدل على مبلغ عدل الله وعظيم سلطانه فالطوفان والصواعق والزلازل وغيرها من أنواع الوباء الذي ينشأ من بعض الحشرات كل هذه من أنواع العذاب التي أنذر الرسل بها أقوامهم قبل وقوعها إذا لم يؤمنوا بهم ويرجعوا عن ظلمهم وجاء القرآن منذرًا بمثلها الظالمين في سائر العصور والأزمان حيث قال: ﴿وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد﴾ وقوله: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ فهي والحالة هذه آية من الله تتجدد في كل وقت وتبدوا جلية: ﴿لمن خاف عذاب الآخرة﴾ أي لمن آمن بما جاء به الرسل من وعيد بالعذاب في الآخرة نتيجة لما ثبت لديهم من وقوع ما أنذروا به من عذاب الدنيا. أما من لم يؤمن بعذاب الآخرة فإنه لا ينظر إلى مثل ما حل بالأمم السابقة من أنواع العذاب إلا كأنه مجرد ظواهر طبيعية بسبب اتصال بعض الكواكب ببعضها ولا دخل فيها لإرادة الله وليست نذيرًا بنقمته على أعمال بني الإنسان: ﴿ذلك﴾ أي اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة: ﴿يوم مجموع له الناس﴾ أي يجمع له الناس كلهم لما يحدث فيه من الحساب الذي يترتب عليه الجزاء: ﴿وذلك يوم مشهود﴾ أي يشهده جميع الخلائق من إنس وجان وملائكة وحيوانات: ﴿وما نؤخره﴾ أي ذلك اليوم: ﴿إلا لأجل معدود﴾ هو الذي قدرناه لعمار هذه الدنيا وكل ما هو معدود محدود النهاية فهو قريب: ﴿يوم يأت﴾
أولئك الرسل: ﴿لتتلو عليهم﴾ هذا القرآن: ﴿الذي أوحينا إليك﴾ به: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾ أي والحال أنه بلغ بهم الكفر حدًّا أبوا معه أن يعترفوا لنا بأبرز صفاتنا وهي الرحمة التي لولاها لخسفنا الأرض بهم عندما قلت لهم في صلح الحديبية اكتبوا باسم الرحمن الرحيم فقالوا أما الرحمن فلا نعرفه فقلت اكتبوا ما تريدون فكتبوا باسمك اللهم كما كانت عادتهم من قبل: ﴿وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن﴾: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿هو﴾ أي الرحمن الذي أدعوكم لعبادته: ﴿ربي﴾ وربكم الذي خلقني وخلقكم: ﴿لا إله إلا هو﴾ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد لا رب غيره ولا معبود سواه: ﴿عليه توكلت﴾ أي فوضت إليه جميع أموري فهو المتصرف في جميع الكائنات كيف يشاء: ﴿وإليه متاب﴾ أي الذي يرجع إليه الناس بالتوبة فيقبلها ويعفو عن السيئات وهو وحده الذي يفرّج الكروب ويحقق الغايات أي أقنعهم بحقيقة التوحيد عن طريق العقل والتدبر في آيات الله فذلك أثبت في النفس من الإيمان بالله عن طريق خوارق العادات التي قد يعتريها الشك والالتباس على ممر الأيام: ﴿ولو أن قرأنًا سيرت به الجبال﴾ أي ولو أن مشيئة الله الأزلية قد قضت بأن يكون للكتب السماوية السابقة المنزَّلة من عنده من الخواص ما يجعل الجبال تسير من مكانها بسر تلاوتها باعتبارها من كلام الله: ﴿أو قطعت به الأرض﴾ أي أو أن الأرض تنشق وتجري بها الأنهار عيونًا بسر تلاوتها أيضًا: ﴿أو كلم به موتى﴾ أي أو أن الأموات تحيى وتجيب سائليها عند سماعها إذن لكان لهذا القرآن مثل ما كان لسابقيه وجعلكم تؤمنون به لمجرد سماعكم لآياته ولكنه تعالى لم يشأ ذلك بل شاء أن يكون تشريعًا للناس يهتدون به إلى سبل الخير والشر عن طريق تحكيم العقل لا أن يضطرهم إلى الهدى فقط كلا ثم كلا: ﴿بل لله الأمر جميعًا﴾ فهو سبحانه الذي خص ما شاء بما شاء من المزايا والثمرات وجعلهم أحرارًا في عقائدهم وأعمالهم: ﴿أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا﴾ أي ألم ييأس المؤمنون من هداية الناس أجمعين بعد ما علموه من أن الأمر لله جميعًا وأنه تعالى قد شاء للناس أن يكونوا أحرارًا في عقائدهم ولو شاءهم مقهورين على الطاعة ومسخرين للهدى لهداهم أجمعين وأن القرآن ما أنزل إلا للتشريع والعمل بمقتضاه لا لأن يكون فيه من الأسرار ما يحمل الناس على الهدى وأن الرسول ﷺ لم تكن مهمته إلا محصورة في مجرد تبليغ ما أوحى به إليه وأن من مقتضى ما ذكر أن يهتدي من الناس من شاء لنفسه الهداية ويظل في الضلال من رفض
بطونه} أي بطون الأنعام فالتذكير هنا لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع: ﴿من بين فرث﴾ وهو ما يبقي في الكرش من المأكولات: ﴿ودم﴾ يتولد من الأجزاء اللطيفة من الفرث ثم يصفيه الله ويجعله: ﴿لبنًا﴾ ناصع البياض مخالفًا للون الدم: ﴿خالصًا﴾ من الأدران والقاذورات التي توجد في الفرث: ﴿سائغًا للشاربين﴾ أي سهلًا لذيذ الطعم لا يأنف منه أحد بينما هم يأنفون مما كان أصلًا فيه وهو الفرث والدم فهذه القدرة التي جعلت في بطن الأنثى من الأنعام معملًا لتحويل الطعام إلى فرث ومنه إلى لبن مكرر معقم من جميع الميكروبات يختلف عن أصله في اللون والطعم ويجعل منه شرابًا لذيذًا سائغًا بعد أن كان شيئًا قذرًا لا شك إنها تشهد بوجود خالق عظيم ومدبر حكيم هو الله رب العالمين، وثم دليل رابع ظاهر للعيان هو قوله: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب﴾ أي وجعلنا لكم أيضًا عبرة من هاتين الثمرتين ما: ﴿تتخذون منه﴾ عصيرًا: ﴿سكرًا﴾ محرمًا وهو الخمر بعد أن كان مخلوقًا للتغذية: ﴿ورزقًا حسنًا﴾ كالعصير قبل أن يتخمر والدبس والخل أي إن الله هو الذي مكنكم من استخراج ما حرم وما حل من هاتين الفاكهتين ليكون لكم بذلك الخيار الكامل في اتخاذ ما تريدون منها: ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما قدره وأودعه سبحانه وتعالى في عصير هاتين الفاكهتين من خواص ومنافع جعلكم تهتدون إلى طريقة الاستفادة منها: ﴿لآية لقوم يعقلون﴾ أي إن كل عاقل لا بد وأن يعلم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها أحد سوى الله الحكيم القادر على كل شيء وثم دليل خامس على عظيم قدرة الله وسلطانه على جميع مخلوقاته هو قوله: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ أي إن الله قد ألقى في نفس النحل وهو ذلك الحيوان الأعجم أن يقوم بأعمال عجيبة يعجز عنها العقلاء من البشر هي قوله: ﴿أن اتخذي من الجبال بيوتًا﴾ تأوين إليها مسدسة من أضلاع متساوية على طراز واحد لا يزيد بعضها على بعض ولا يستطيع الإنسان أن يجاريها بمثل تلك الدقة إلا باستعمال الآلات: ﴿ومن الشجر ومما يعرشون﴾ أي ولك أن تتخذي مثل تلك البيوت في الشجر وفي ما يعرشه الناس من الخلايا ويعدونه لك: ﴿ثم كلي من كل الثمرات﴾ أي وكلي من كل ما طاب من الزهور والأثمار ولا تأكلي مما هو ضار: ﴿فاسلكي سبل ربك﴾ أي الطرق التي ألهمها الله لك في إخراج العسل: ﴿ذللًا﴾ هذا حال من السبل أي التي ذللها الله وسهلها لك كقوله تعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا﴾ أي من غير عناء: ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه﴾ هو
رجال العلم في عصرنا هذا يقولون مثل هذا القول تمامًا ويزعمون أن الدعاء لا يعد عبادة ولذا يبيحون لأنفسهم وللعامة أن يدعو من الأموات من يفترضونهم من: ﴿أولياء الله﴾ والله أعلم بحقيقتهم ويبررون عملهم هذا بقولهم: «إن من يسأل الأولياء حاجته لا يعتقد أنه هو الذي سيقضيها بل إن الله هو الذي سيقضيها بجاههم عنده»، ولما كان هذا القول يعد افتراء على الله وطعنًا في أساس حكمه تعالى أمر رسوله أن يرد على هذا الزعم بقوله: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض﴾ أي أتخبرون الله بشيء تعلمونه أنتم ولا يعلمه سبحانه وتعالى من أمر أولئك الذين تزعمون أن لهم حق الشفاعة عنده ولو صح زعمكم لما خفى عليه ذلك فكأنكم بقولكم هذا تفرضون عليه جاهًا لمن ليس له جاه وتزعمون أن حكمه يقوم على أساس الشفاعة مع أن حكمه لم يقم إلا على أساس العدل. والشفاعة والعدل ضدان لا يجتمعان: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ وقرئ: ﴿تشركون﴾ به من الوسطاء والشفعاء وما يزعمونه من أن لأحد من العباد عند الله جاهًا يخوله حق الشفاعة والتقرب بواسطته إليه.
بعد أن فصل الله مصير الناس بعد الموت وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين وما سينالهم من ثواب أو عقاب نتيجة أعمالهم ومعتقداتهم أخذ يتكلم عما كان عليه الجنس البشري منذ تكوينه وما حدث له من تطور بعد ذلك فقال: ﴿وما كان الناس﴾ في أول عهدهم بالحياة: ﴿إلا أمةً واحدةً﴾ تعيش على الفطرة عيشة ساذجة كأسرة واحدة حتى كثروا وتفرقوا في الأمصار فصاروا عشائر وقبائل: ﴿فاختلفوا﴾ أي تنوعت منافعهم وتعارضت مشاربهم وتنازعوا في الآراء والمعتقدات فبعث الله النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف فيما بينهم بما أنزله من الكتب السماوية: ﴿ولولا كلمةٌ سبقت من ربك﴾ تقضي بجعل جزاء الناس العام في الآخرة: ﴿لقضي بينهم فيما فيه يختلفون﴾ أي عجل الله سبحانه لهم العذاب في هذه الحياة: ﴿ويقولون﴾ أي المكذبون لرسالة نبيه محمد: ﴿لولا أنزل عليه آيةٌ من ربه﴾ أي لماذا لم يجر الله على يده معجزة خاصة بشخصه كمعجزات سائر الرسل الذين أرسلوا من قبله تميزه عن أمثاله من البشر: ﴿قل﴾ أيها الرسول جوابًا على قولهم هذا: ﴿إنما الغيب لله﴾ أي إن هذا من الأسرار الغيبية التي ليس لأحد دخل فيها فهو أدرى إن كان من المفيد إجراء أمثال تلك
كل من يضمر العداء للمسلمين ويود إذلالهم حتى يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم إذ: ﴿يَقُولُونَ﴾ في مجالسهم الخاصة والعامة: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾ بضم ياء يخرجن وفتحها وقرئ: ﴿لنخرجن﴾ بالنون ونصب الأعز والأذل ظنًّا منهم أنهم هم الأعزة والمؤمنون الأذلة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ أي القوة والغلبة: ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي بينما العزة لا تكون إلا لله مصدر جميع القوى والمهيمن على كل شيء ولرسوله المعتز به، وللمؤمنين المعتمدين على نصر الله وحمايته لهم أكثر من اعتمادهم على أنفسهم: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ باعتمادهم على قوتهم: ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أن عند الله من القوى الخفية ما هو كفيل بالتغلب على جميع القوى المادية وما لا يدخل تحت حصر: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾.
بعد أن عرف الله المنافقين بأنهم هم كل من يدعو إلى مقاطعة المؤمنين اقتصاديًّا ويطمع في إجلائهم عن ديارهم عن طريق إذلالهم، وسفه أحلامهم بما أخبر به من أن لله خزائن السماوات والأرض ولله العزة ولرسوله أراد أن يرسم للمؤمنين سبيل نيل ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذا أردتم الغنى والعزة في الأرض فعليكم بإحكام صلتكم بالله وذلك عن طريق الإيمان به والثقة بما عنده والاتكال عليه في كل وقت وفي جميع الحالات و ﴿لا تُلْهِكُمْ﴾ أي تشغلكم: ﴿أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ﴾ الذي هما زينة الحياة الدنيا: ﴿عَن ذِكْرِ اللهِ﴾ أي أداء ما فرضه عليكم وذلك بأن تذكروا أن هذه الأموال والأولاد ما هي إلا من محض فضل الله فلا ينبغي أن تشغلكم عن الاتصال بمانحها المتكرم بها عليكم: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ بمعنى تشغله مشاغل الحياة الدنيا التي أهمها المال والولد عن طاعة الله: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين أضاعوا أوقاتهم إرضاء لشهوة نفسية بينما خسروا لذة روحية عظمى وأرباحًا طائلة مضمونة لا ريب في الحصول عليها في الدنيا والآخرة: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾ من للتبعيض أي وخصصوا جانبًا من أموالكم لمعاونة ذوي الحاجة في هذه الحياة وادخروا ثواب ذلك في الآخرة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ فلا يستطيع أن ينفق شيئًا: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي اجعل لي فسحة في الحياة وأمدد لي في أجلي ولو قليلًا: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ ابتغاء مرضاتك وطمعًا فيما عندك: ﴿وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذاكرين لك في السر والجهر: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ أي وهو يعلم أن هذه الأمنية تتنافى وما قضى به الله تعالى من الأزل والذي أبلغ الناس به من قبل في قوله: {إذا جاء أجلهم لا يستأخرون
فهو وحده الذي يستجيب دعائي ويقضي حوائجي ويسخر لي الأنصار ويبلغني الآمال كافة فمن شاء أن يتبعني فليسر في الحياة على منوالي ويعتقد مثل عقيدتي.
وقال خامسًا: ﴿قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا﴾ الضر: ضد النفع، والرشد: ضد الغي والمعنى احذروا أن تظنوا أن لي من النفوذ أو الكرامة عند ربي ما يجعلني قادرًا على إيقاع الضرر بكم متى أردت أو أني أستطيع أن أهديكم إلى طريق الحق إذا كنتم لا تريدون ذلك أو إذا لم تساعدوني على أنفسكم باتباع أوامر الله.
وقال سادسًا: ﴿قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا﴾ الملتحد: الملجأ الحرز، والمعنى: اعلموا أن الله سبحانه وتعالى ملك الملوك وصاحب السلطان المطلق يتنزه في أحكامه عما يتصف به سائر الملوك المستبدين من التأثر بشفاعة الشافعين أو قرب المقربين فإذا قدر أني أسأت فلن يستطيع أحد أن يجيرني منه. كما أنني أعلم أنه ليس لأحد حق مكتسب عند الله حتى أظن أنه تعالى لا بد أن يرعاه فأجعله ملجأي ووسيلتي لديه: ﴿إلا بلاغًا من الله ورسالاته﴾ أي إلا أن يكون ذلك الملتحد بلاغًا من الله فهو الذي يصح الاعتماد عليه وعلى ما فيه من وعد كريم ونص صريح بأن الإيمان والعمل الصالح هما سبيل النجاة من عذابه سبحانه وتعالى فوعد الله حق والله لا يخلف الميعاد: ﴿ومن يعص الله ورسوله﴾ بجميع أنواع المعاصي التي منها الكفر بالله: ﴿فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا﴾ أي في حالة إصرارهم عليها واستحلالها من غير توبة ولما كان هذا الإصرار على جميع المعاصي لا يتصور ولا ينطبق إلا على الكفار قال تعالى: ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون﴾ به حقًّا يوم القيامة: ﴿فسيعلمون من أضعف ناصرًا وأقل عددًا﴾ أي هل هم المؤمنون الموحدون لله تعالى من الجن والإنس أم المشركون الذين لا ناصر لهم بالكلية؟
وقال سابعًا: ﴿قل إن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون أم يجعل له ربي أمدًا﴾ الأمد: الأجل. والمعنى أني متيقن من وقوع ذلك اليوم أما وقت وقوعه فغير معلوم عندي هل هو قريب أم بعيد أم أن الله سيحدده لي فيما بعد: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول﴾ لقد اختلف المفسرون في هذا الباب فقال صاحب الكشاف إن الآية تعني أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا من يرضاه من الرسل وفي هذا إبطال لكرامات الأولياء وإبطال لأقوال الكهنة والسحرة والمنجمين: وقال الواحدي إن هذا لا يمنع أن يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل
فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}، ويقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقد اشتد الله في توعد البخلاء بالويل والثبور وعظائم الأمور حيث يقول تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ذلك لأن البخلاء قوم جلبوا بجهلهم الشقاء على أنفسهم في الدنيا والآخرة فهم في هذه الحياة يكدون ويتألمون في جمع المال من حلال ومن حرام ولا يتمتعون بنعمة الغنى ولا يتنعمون بطيب العيش ولذائذ الحياة كما هو شأن غيرهم من عباد الله كلا ولا ينفقون أموالهم في أوجه الخير وأبواب الإحسان ليكون لهم بذلك قربى عند الله وحسن مآب وقد روي في حقهم عدة أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن».
﴿كَلاَّْ﴾ إن الأمر لا يقتصر على ما يصيبه الإنسان في هذه الحياة وفق دستورها الاجتماعي بل إن هناك عذابًا آخر ينتظره يوم القيامة: ﴿إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ أي هدمت هدمًا متتابعًا: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ - مجيئًا هو أعلم بحقيقته وإنما نؤمن بأنه ليس كمجيء البشر لأنه تعالى ليس ذاتًا مخلوقة كذواتنا: ﴿ليس كمثله شيء﴾ – ليقضي بين عباده حسب وعده: ﴿وَالْمَلَكُ﴾ بين يديه: ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ خاشعين خاضعين لأوامره: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ تبدو للعيان ليتأكد من شدة لظاها كل من كان ينكرها: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ﴾ ما أنذر به من هول هذا اليوم الذي لم يكن يصدق به وكأنه لا يعلم أن حياته الدنيا لم تكن إلا حياة مؤقتة فانية: ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ أي وماذا تفيده عند ذلك الذكرى وكل ما يملكه هو أن: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ﴾ في دنياي من الأعمال ما ينفعني: ﴿لِحَيَاتِي﴾ هذه الحقيقة الدائمة والتمني لا يفيد المرء شيئًا: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ﴾ الله بكسر الذال وقرئ يعذب بفتح العين للمبني للمجهول: ﴿عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ أي لا يعذب أحدًا عذابًا مثل عذابه لأنه كان لا يؤمن بالله ولا يصدق بوعده ووعيده: ﴿وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ بالسلاسل والأغلال وقرئ: ﴿يوثق﴾ بفتح التاء بالبناء للمجهول وهنا يقول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ أي التي كنت مطمئنة بذكر الله إلى فضله وكره وغفرانه ورحمته: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ أي ادخلي تحت لواء رحمته برًا بوعده في الحديث القدسي الذي يقول فيه: «أنا عندي ظن عبدي بي فليظن بي خيرًا»،:


الصفحة التالية
Icon