الخطاب فيها بمعنى اتخذاها محل إقامة دائمة لكما ﴿وكلا منها رغدًا﴾ العيش الرغد الطيب الذي لا عناء فيه ﴿حيث شئتما﴾ أي من كل ما امتدت إليه أيديكما من الثمار أو ما تريد أن أكله ﴿ولا تقربا﴾ بمعنى لا تدنوا من ﴿هذه الشجرة﴾ ولم يسم الله الشجرة فاختلف الظنون في حقيقتها وقال بعض المفسرين إنها الحنطة وقال آخرون إنها التفاح ولا دليل لهم على ذلك وأمسك الكثير من البحث فيها ولكني وأنا أتأمل في كلام الله يلوح أن المراد منها «شجرة السلالة البشرية» وقد منعهما الله من القرب منها بالاتصال الجنسي الذي يتم بواسطته دوام النسل والسيطرة على سائر المخلوقات كما يستنتج من مجموع الآيات الواردة في هذا الشأن فالله سبحانه إذ خلق آدم وأسكنه الجنة وحذره من طاعة إبليس قال في سورة طه ﴿إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى﴾ فدل هذا على أنه وزوجه كانا في الجنة مكسوين ولعل الله تبارك وتعالى عندما قال لهما ﴿لا تقربا هذه الشجرة﴾ إنما أشار إلى ما كان محجوبًا عنهما بالكساء من موضع السوءتين فاشتبه الأمر عليهما ولم يدركا المقصود من الشجرة فزين لهما إبليس بدافع حب الاستطلاع أن يتبين ماهية الشجرة المستترة حيث قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما﴾ أي أن أول عمل قام به إبليس هو أنه حبب إليهما أن يكشفا عن موضع الشجرة التي أشار إليها الله ليبدي لهما ما كان مخفيًا عنهما من السوءتين وما حولهما من منابت شعر العانة وعندئذ تحركت فيهما عاطفة الشهوة ونسيا تحذير الله لهما وبدأ الشيطان حديثه معهما ﴿وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة﴾ ولعله أشار إلى سوءتيهما وعلمهما طريقة الاتصال الجنسي ﴿إلا أن تكونا ملكين﴾ بكسر اللام في قراءة بمعنى حاكمين في الدنيا ﴿أو تكونا من الخالدين﴾ أي بدوام نسلكما وقد جاء في سورة طه قوله: ﴿فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى﴾ ولم يكن في قوله هذا كاذبًا فهذا هو سبيل دوام النسل ونيل الخلافة في الأرض وقد أدرك إبليس هذا من قوله تعالى للملائكة قبل خلق آدم ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ ولذا أكمل الله القصة في سورة الأعراف بقوله: ﴿وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾ وإن في قوله تعالى: ﴿فلما ذاقا الشجرة﴾ ما يشير إلى أن ما حصل منهما لم يكن أكلًا وإنما كان ذوقًا أو هو القرب المنهي عنه وقد كنى الله بالقرب عن الجماع في قوله: ﴿فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن﴾ كما كني رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصنف بنصره حتى يقضي على شرور من سبقه ويقيم العدل ويمنع الظلم ويرفع راية الحق ويعيد إلى العالم راحته وهناءته.
بعد أن بين الله تطور الناس في المقاصد والغايات والأخلاق والصفات خص المؤمنين بالدعوة إلى السلم والإقلاع عن التمرد والأخلاق السيئة فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم﴾ بكسر السين مشددة وقرئ بفتحها مشددة أي الاستسلام والطاعة ﴿كافة﴾ واعملوا على إزالة أسباب الخلاف وإحكام روابط المودة والإخاء بينكم جميعًا ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ التي كانت سبب سقوطه وطرده من الجنة، وهي الأنانية والغرور والكبرياء والحقد والحسد والكيد، فكل هذه الصفات من شأنها أن تولد البغضاء والعداوة وتفضي إلى النزاع وتفريق الكلمة وإثارة أسباب الخلاف والحرب ﴿إنه لكم عدو﴾ ومن شأن العدو أن لا يكون ناصحًا بل إنه يصور الباطل حقًّا والكذب صدقًا ﴿مبين﴾ تحققت عدواته لكم بما زينه لأبيكم آدم من العصيان ﴿فإن زللتم﴾ وحدتم عن السلم وعمدتم إلى ما يسبب تفرقكم وأمعنتم في السيئات ﴿من بعد ما جاءتكم﴾ من الله الآيات ﴿البينات﴾ التي تبين لكم الحلال من الحرام ومضيتم في سبيلكم بلا خوف ولا توبة ﴿فاعلموا أن الله﴾ الذي أوجب عليكم ذلك ﴿عزيز﴾ مقتدر لا يستهان بأمره ﴿حكيم﴾ يمهل ولا يهمل وله في تصريف الأمور حكمة ﴿هل ينظرون﴾ أي كل من زل من المؤمنين المخاطبين بالدخول في السلم ومن جحد وتجافى عن السلم من غيرهم ﴿إلا أن يأتيهم الله في ظلل﴾ أي قطع وقرئ «ظلال» ﴿من الغمام والملائكة﴾ بالرفع وقرئ بالجر فلا ينتهون عن عصيانهم إلا أن يجيئهم الله فجأة بقطع من الغمام الذي هو مظنة المطر وبشير الرحمة مصحوبًا بالملائكة الموكول إليهم أمر القضاء عليهم فيهلكون بغتة بأنواع المهلكات المدمرات من الصواعق والشهب وغيرها قبل أن يتداركوا الزلل ﴿وقضي الأمر﴾ في لحظة ﴿وإلى الله﴾ بعد ذلك ﴿تُرجَع﴾ بضم التاء وفتح الجيم بمعنى ترد وقرئ «تَرجِع» بفتح التاء وكسر الجيم بمعنى تصير ﴿الأمور﴾ في الآخرة فينال كل منهم جزاءه على ما اقترف في هذه الحياة الدنيا.
وكلما يطلبه تعالى من عبده هو أن يقر له بالذنب ويرجو عفوه في يقين بنيل هذا الغفران من واسع فضله ورحمته، والله عند حسن ظن عبده به، والغفران من النعم التي لا يملكها أحد غيره وقد وعد به المستغفرين بل واعتبرهم من ضمن عباده المتقين حيث قال «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين». واشتد غضب الله على من يوصد باب الغفران في وجه أحد من عباده ويحكم بكفر من شذ في اجتهاده لما روى الترمذي عن جندب أن النبي ﷺ حدث أن رجلًا قال والله لا يغفر الله لفلان وأن الله تعالى قال في الحديث القدسي «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت له وأحبطت عملك» وروى مسلم عن أبي هريرة رفعه «كان في بني إسرائيل رجلان متواخيان أحدهما مذنب والآخر في العبادة مجتهد وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول أقصر فوجده يومًا على ذنب فقال اقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبًا فقال له والله لا يغفر الله لك أو قال لا يدخلك الجنة فقبض الله أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال تعالى للمجتهد أكنت علي ما في يدي قادرًا وقال للمذنب إذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة «تكلم والله بكلمة أوبقت دنياه وآخرته» فلا غرو إذا ما قلت إن سبيل الغفران ميسور لكل طالب في كل وقت وأن إعادة الضمير في الآية يجب أن يكون لأقرب مذكور وهو «من» لا إلى الله فيكون المعنى. يغفر الله لمن يشاء المغفرة من عباده حيث أمر سبحانه الناس بطلبها منه في عدة مواضع من القرآن ويسر السبيل إلى نيلها وهو مجرد الشعور بالذنب والإنابة إلى الله بالخوف وطلب الغفران وحسن الرجاء فقد أمر الله رسوله في القرآن أن يقول «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم» وعدد لنا سبحانه مزايا الاستغفار في قوله «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا» الآية، وورد في الصحيحين قوله ﷺ «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون». وضرب لنا الرسول مثلًا للتوابين بقوله «أذنب عبد فقال اللهم اغفر لي
@أو كان ثمت في الحياة بقية
#لم ينتزعها السيف في الساحات
@فلربما في الحرب قد سلم الشجا
#ع ومات فيها صاحب الرعدات
@ولربما برز الصحيح لحتفه
#ونجا حليف السقم من هلكات
@ولربما قد فاز بالآمال مقـ
#دام وذو التدبير في حسرات
﴿و﴾ القاعدة الثالثة: هي أن ﴿من يرد﴾ أي ينوي بعمله في هذه الحياة ﴿ثواب الدنيا﴾ العاجل، فسنحقق له أمنيته و ﴿نؤته منها﴾ شيئًا من ثوابها فلكل مجتهد نصيب. ولا بد للعامل أن ينال أجر عمله ﴿ومن يرد﴾ أي ينوي بعمله ﴿ثواب الآخرة﴾ الذي وعد الله به عباده وهو الجنة ونعيمها ﴿نؤته منها﴾ شيئًا من ثوابها بحسب ما قصد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة للمقاتل في سبيل الله، في سبيل ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت، بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ثم يأمر الله به إلى النار» ﴿وسنجزي﴾ عدى ذلك بمحض كرمنا وإحساننا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿الشاكرين﴾ من عبادنا الذين لم يقصدوا بأعمالهم ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة وإنما عرفوا نعم الله عليهم فقصدوا بأعمالهم شكرنا ولم يكن همهم غير رضائه سبحانه وتعالى.
بعد أن ذكر الله لعباده تلك القواعد الثلاث التي هي من ضمن سننه في خلقه أخذ جل وعلا يضرب لهم الأمثال بمن كان قبلهم من الأمم وكيف جاهدوا وثبتوا وناضلوا مع أنبيائهم نتيجة إيمانهم الكامل بتلك الحقائق الثلاث فقال ﴿وكأين﴾ بتشديد الياء بمعنى كم وقرئ "كائن"
مرضيه فهو يزين لأصحابه الباطل والظلم وأنواع الشرور والأثام ويفهمهم بوسوسته أن فيها الخير لهم وفيها عزهم وصلاحهم بينما تكون في الواقع من دواعي خراب العالم وسوء حال المجتمع بأسره لأن ما ذكره من الأمور التي تأباها الفطرة السليمة والسنن العمرانية القويمة، وفي هذا إشارة إلى أن الله يريد من عباده المؤمنين أن يكونوا جادين في جهادهم معتمدين على الله في قتالهم لنصرة دينهم الذي اعتنقوا مبادئه عن إيمان ويقين وعقيدة ثابتة لا تتزلزل ولا تنهار فلا يحاربون من أجل شهواتهم وأغراضهم الدنيوية السافلة ولا يتأثرون بما يلقيه الشيطان في نفوسهم من خوف أعدائهم وما لديهم من قوة مادية ظاهرة لا قبل لهم بها لثقتهم التامة بأن الله تعالى يملك من القوى الخفية المنبئة في كل مكان والمهيمنة على جميع الموجودات ما هو كفيل بتحطيم أعظم القوى لنصر أوليائه وأنصاره أما غيره فلا يملك إلا ما وصل إليه من علم بالقوى المادية التي لا تلبث أن تتلاشى أمام قدرة الله تعالى التي توجد المعدوم وتخلق العجائب وتأتي في كل وقت بما كان يظن أنه من المستحيلات وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
بعد أن أمر الله ضعاف النفوس من المؤمنين بقتال أولياء الشيطان الذين يصدون عن الإيمان ويزينون الكفر لأن كيد الشيطان كان ضعيفًا أخذ جل وعلا يضرب الأمثال لرسوله على مكايد الشيطان وما يلقيه في نفوس المؤمنين حتى يثبطهم عن طاعة الله بما كان من موقف بعضهم مع الله ورسوله فقال: ﴿ألم تر﴾ أيها الرسول ﴿إلى﴾ أولئك القوم ﴿الذين﴾ كانوا قبل الإسلام في تنازع وتخاصم وحروب مستمرة لأتفه الأسباب حتى جاء الإسلام فمنع العدوان ونشر ألوية السلام و ﴿قيل لهم كفوا أيديكم﴾ عن القتال
والحال أن الله الذي أدعو إليه هو المتصرف في جميع الكائنات العلوية والسفلية أما السبب الذي دعاكم إلى تأليهه وهو أنه خلق من غير أب فقد رد الله عليه بأن هذا من أكبر الأدلة على قدرة الله إذ قال (يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) من جميع الأحياء بالصفة والوسيلة التي يريدها ما دام هو الخالق الفرد الصمد والمالك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الذي سن السنن
<٤٢>
وسبب الأسباب فلا يعجزه أن يغيرها ويوقف مفعولها في أي وقت يريد لا معارض لحكمه (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) ولقد أخذ رسول الله ﷺ يدعو أهل الكتاب إلى الله ويحذرهم نقمته فتصدى له جماعة منهم ابن أبي وبحري بن عمرو وشماس بن عدي وقالوا له ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه فأنزل الله فيهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وكان اليهود فعلا يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميزهم لذاتهم عن سائر البشر فهو لا يعاملهم إلا كما يعامل الوالد أبناءه ويعتقد النصارى أن المسيح قد فداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح ولذلك يخاطبون الله دائما بقلب الأب. ولذا أمر الله رسوله أن يرد على قولهم هذا بما يصحح هذه العقيدة فيهم عن طريق العقل والمنطق السليم فقال (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) الله (بذنوبكم) في هذه الحياة الدنيا كما تعلمون من تاريخكم الماضي وما ترون في تاريخكم الحاضر بل وكيف رضي بعذاب المسيح وهو ابنه كما تزعمون فالأب لا يعذب ابنه والمحب لا يعذب حبيبه فلستم إذًا أبناء الله ولا أحباءه ولم يكن عيسى ابنه أيضا (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) لا تفاضل بينكم وبين غيركم من سائر مخلوقات الله الذين سن لهم نظاما لا يخلفه هو أنه تعالى (يَغْفِرُ) في الآخرة (لِمَنْ يَشَاءُ) لنفسه المغفرة بطلبها في الدنيا عن طريق الإيمان بالله والعمل الصالح (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) لنفسه العذاب بالكفر بالله والإعراض عن طاعته وعدم الخوف من عذابه (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وجميع ذلك ملك لله تعالى فلا محل لأن يحابي أحداً على أحد فيلغي من أجله دستوره العام (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما) فلا حبيب ولا محبوب والكل عبيد الله خاضعون خاشعون بين يديه ولا بدّ
فيه. وإنما ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ أي الذين حكمتهم أنفسهم فلم يستطيعوا السيطرة عليها وإخضاعها لتدبر آيات الله ﴿فهم لا يؤمنون﴾ برسالتك ويأبون أن يصدقوا بما جئت به من عند الله لأن نفوسهم الأمارة تقف حائلًا دون هدايتهم، وتسول لهم الافتراء على الله، وتكذيب ما جاء من عنده. ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا﴾ أي وليس هناك أظلم ممن زعم أن له تعالى ولدًا أو شريكًا أو سيطًا يقرب إليه زلفى، أو يشفع له عنده، أو زاد في دينه ما ليس منه ﴿أو كذب بآياته﴾ الكونية الدالة على وحدانيته، أو التي يؤيد بها تعالى رسله. وقد قضى الله تعالى في دستوره ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ أي لا يظفر المفترون على الله أو المكذبون بآياته بغايتهم التي يعملون لها وهي طمس الحقائق وصد الناس عن دين الإسلام وإخماد نور الإيمان في قلوب المؤمنين. هذا في الدنيا ﴿ويوم نحشرهم﴾ في الآخرة ﴿جميعًا﴾ أي هم ومن ضل بضلالهم ﴿ثم نقول﴾ وقرئ «ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول» ﴿للذين أشركوا﴾ مع الله آلهة أخرى، ونسبوا إليهم القدرة على النفع والضر أو الشفاعة لهم ساعة الحساب والعقاب ﴿أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون﴾ في الدنيا أن لهم سلطانًا أو جاهًا عندنا فليتقدموا لإنقاذكم من عذابنا ﴿ثم لم تكن فتنتهم﴾ برفع التاء وقرئ بنصبها وقرئ «لم يكن فتنتهم» بنصب التاء. الفتنة الضلال. أي لم يكن لهم من جواب ﴿إلا أن قالوا﴾ ما كانوا يقولونه في الدنيا ليبرئوا أنفسهم ﴿والله ربنا﴾ بكسر الباء أي غير القسم بالله ربهم وقرئ بالفتح على النداء أي يا ربنا ﴿ما كنا مشركين﴾ في اعتقادنا لأننا ما كنا نعتقد في غيرك النفع والضر، وما كنا ندعوهم إلا لنتوسل بهم إليك، وليقربونا إليك زلفى. لأنا كنا نستصغر أنفسنا أن نتسامى إلى دعائك مباشرة من غير واسطة، إجلالًا لمقامك وتعظيمًا لك، كما يقول دعاة التوسل في عصرنا هذا ﴿انظر﴾ أيها الرسول ﴿كيف كذبوا على أنفسهم﴾ بهذا القول المنمّق الزائف الذي لا محل له إذ نسبوا إلى الله ما لم يقرهم عليه من وجود الوسائط والشفعاء ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ من أن للأنبياء أو الأولياء تأثيرًا في الواقع ونفس الأمر. ولولا ذلك لما وجهوا إليهم دعاء، ولما رجوا منهم مددًا وعونًا. وهذا أمر مشاهد بما يتفوهون به من أغلظ الإيمان، بينما هم في الواقع ونفس الأمر كانوا يعتقدون في سرهم أن لمن كانوا يدعونهم شيئًا من القدرة والنفوذ، وهذا أمر مشاهد اليوم في المسلمين فضلًا عن النصارى. وأذكر بهذه المناسبة أني عندما كنت شابًّا، جمعني مجلس بمكة المكرمة مع بعض العلماء، وكنا نطالع كتاب النظرات
لقد جاء من ضمن الوصايا العشر التي سبقت في نهاية السورة السابقة قوله تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه﴾ وقوله ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه﴾ ولما كانت هذه الأوامر من الله جل وعلا من شأنها أن تجعل للرسول ﷺ كثير الحذر شديد الرغبة في التأكد من أن ما يوحى به إليه هو عين الكتاب الواجب الاتباع من غير زيادة ولا نقص افتتح الله هذه السورة بما يطمئن قلبه من هذه الناحية فقال ﴿ألمص﴾ وتنطق هكذا. ألف. لام. ميم. صاد. ولقد جرى الكثير من المفسرين على أن هذه الكلمة وأمثالها أسماء للسور المبتدئة بها وقلنا إن الذي يغلب على الظن أنها أسماء مقسوم بها مع حذف أداة القسم كقوله تعالى: ﴿يس والقرآن﴾. ﴿ق والقرآن﴾. ﴿ن والقلم﴾. فهذه أسماء أردفت بمقسوم به بما يشعر بأنها مقسوم بها أيضًا فيكون المعنى أن الله تبارك وتعالى يقسم بالسر الذي أراده من ﴿المص﴾ بأن القرآن الذي أمر الناس باتباعه هو ﴿كتاب أنزل إليك﴾ من ربك ﴿فلا يكن في صدرك حرج﴾ أي ضيق ﴿منه﴾ إذ تقول ربما يكون هناك شيء لم ينقل إليك منه أو تقول ربما يكون شيء مما أوحي إليك ليس هو من كتاب الله أو تقول لعل جبريل قد نقله إليك بالمعنى دون اللفظ فكل ذلك غير وارد بل ثق تمامًا أنه هو بنصه ولفظه ومعناه كتاب الله الذي أنزل إليك ﴿لتنذر به﴾ الناس أجمعين من أهل الكتب السابقة وغيرهم إذ تبلغهم دين الله ودستوره السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿وذكرى للمؤمنين﴾ أي ولتذكر به من آمن بالله من أهل الكتاب خاصة فلتكن دعوتك للجميع أن تقول ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾ الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ أي لا تتبعوا من دون هذا الكتاب أولياء تتخذونهم هداة تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يستدعونه لكم من زيادات وبدع لم ترد فيه ظنًّا منكم أن في تقليدهم خيرًا لكم إذ هم في نظركم أعلم منكم بدين الله فمهمة العالم منحصرة في تبليغ كتاب الله وبيانه لا الابتداع والزيادة فيه ﴿قليلًا ما تذكرون﴾ بتخفيف الذال وتشديد الكاف وقرئ بتشديد الذال وقرئ «يتذكرون» بالياء بدل التاء أي قليل من الناس من يفطن إلى ما يترتب على اتباع المبتدعين في دين الله من أضرار والآية نص في عدم جواز طاعة أحد من العلماء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينًا فهذه أمور توقيفية جاء بها القرآن وليس لأحد أن يجتهد فيها بزيادة أو نقص فهذا هو الضلال المبين الذي أشار إليه تعالى بقوله: ﴿وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتاهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنًا كبيرًا﴾.
الله لا يحل بالأمم إلا متى غلب الفسق والظلم على أهلها ﴿فلما عتوا عن ما نهوا عنه﴾ العتو الاستكبار أي أنهم لما استكبروا عن الخضوع لأوامر الله وترك ما نهاهم عنه ﴿قلنا لهم كونوا﴾ في طبائعكم وأخلاقكم ﴿قردة﴾ أي أنه تعالى كتب عليهم السقوط عن درجة الكمال الإنساني إلى مستوى القردة الذين فقدوا صفات النبل والشهامة فلا يتورعون عن التضحية بشرفهم وكرامتهم في سبيل الحصول على المادة والانغماس في الشهوات البهيمية فجردوا عن عواطفهم الإنسانية فأنزلهم منزلتهم فقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى: ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا﴾ وقوله تعالى أيضًا: ﴿وجعلنا منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت﴾ وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره والصحيح أن المسخ معنوي صوري اعتباري ﴿خاسئين﴾ أي كونوا بحسب سنة الله في الطبائع والأخلاق كالقردة المستذلة الحقيرة في أعين الناس فلا يراكم كرام الناس أهلًا لمجالستهم ومعاملتهم.
بعد أن أخبر الله رسوله بما قضت به إرادته في بني إسرائيل عندما عتوا عن أمر ربهم من السقوط إلى مستوى القردة الذين فقدوا صفات النيل والشهامة بحيث لا يتورعون عن التضحية بشرفهم وبكرامتهم في سبيل المادة والانغماس في الشهوات البهيمية أخذ يخبره عليه الصلاة والسلام بما يترتب على ذلك من عقوبة في هذه الحياة بمقتضى ما سنه تعالى من نظامه الاجتماعي للبشر فقال ﴿وإذ تأذن﴾ أي واذكر إذ تأذن من الإيذان وهو الإعلام الذي يبلغ ليدرك بالأذن ﴿ربك﴾ أن أعلن للملأ كافة أنه سبحانه ﴿ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب﴾ أي أن الله سيسلط عليهم في جميع الأوقات من يذيقهم أنواع العذاب نتيجة تضحيتهم بالشرف الذي هو أغلى نعم الله على الإنسان في سبيل الحصول على المادة وبلوغ الشهوة ﴿إن ربك لسريع العقاب﴾ وصدق الله فها نحن أولاء الذين سمعنا بآذاننا ما أخذ الله على ذاته العلية من وعيدهم قد شهدنا بأعيننا تعذيب هتلر لهم وإقصائهم من بلادهم التي كانوا فيها آمنين في عيش رغد إلى حيث يذوقون آلام الجوع والعطش والترويع بخطر الحرب التي تهددهم في كل ساعة بالفناء بقوة الله وهل نعد هذا من عذاب سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحكم تدبيرك ﴿وإنه لغفور رحيم﴾ أي أنه تعالى لم يوصد باب مغفرته ورحمته في وجه من تاب منهم وأناب وعمل الصالحات، وهنا
موقدة وظلوا يتحدثون وبينما هم كذلك إذا بالعباس يسمع حديثهم ويعرف أبا سفيان من صوته فيدعوه ويسر أبو سفيان بلقائه ويستغني عن شفاعة من جاء بهما معه ويقول ما الحيلة يا أبا الفضل؟ فقال العباس: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ولكن اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ﷺ فأستأمنه لك فركب معه ورجع صاحباه حتى دخل إلى مخيم رسول الله فلما رآه عمر دخل على رسول الله قائلًا: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العباس ولكني قد أجرته يا رسول الله، ثم أخذ العباس برأس النبي وقال: «والله لا يناجيه الليلة دوني أحد وأسر إليه بما أسر إليه». ولعله أفضى إليه بمخاوفه من مكة من دخول جيش النبي لها فاتحًا واقترح عليه أن يتخذ من أبي سفيان وسيلة لبث الرعب في قلوب بني قومه من قريش حتى يسلموا له البلاد من غير حرب وتظل مكة حرامًا كما كانت وكما يجب أن تكون، ولا بد أن هذا الاقتراح قد صادف هوى في نفس رسول الله فتلك أقصى أمانيه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به»، فذهب به إلى رحله وبات عنده فلما أصبح أحضره إلى رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟» فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعده، قال رسول الله: «ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله». قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا وهنا تدخل العباس فقال: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فشهد شهادة الحق فأسلم فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا، قال «عم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن» فأسرع أبو سفيان يستبق الريح إلى مكة وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت زوجته هند بنت عتبة في وجهه تهزأ به فقال ويلكم لا تغرنكم هذه فإنه والله قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن داخل دار أبي سفيان فهو آمن قالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. ولما وصل رسول الله ذا طوى ورأى ما أكرمه الله به من فتح مكة بغير إراقة
المعجزات على يدي ومتى يكون ذلك أما أنا فلا علم لي بشيء إلا ما أوحاه الله إليّ: ﴿فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ لما يأمر به الله في هذا الشأن، وقد اقترح المشركون عليه أن يأتي لهم بشيء من ذلك: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن برقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا﴾. ثم أشار الله إلى العلة التي لم يجعل الله من أجلها معجزة رسوله مشابهة لمعجزات من سبقه من الرسل بقوله: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون﴾ أي أنه تعالى لو أنزل على رسوله مثل تلك المعجزات ورفضوها ولم يؤمنوا بها كما صرحوا بذلك في هذه الآية لأصابهم عذاب الاستئصال كما مضت به سنن الله في قوم عاد وثمود، أما ما ينسب إلى رسولنا ﷺ من خوارق العادات التي أجراها الله على يده فإنها لا تعد معجزات بل هي من باب الكرامات التي أكرم الله بها رسوله كما قد يكرم بأمثالها عباده الصالحين لأن معجزة الأنبياء هي التي يثبتون بها رسالتهم عن الله ويتحدون الناس بالإتيان بمثلها والرسول ﷺ لم يتحد الناس بشيء غير القرآن فهو معجزة الله الخالدة التي خص بها نبينا صلى الله عليه وسلم.
بعد أن تكلم الله عما كان عليه الجنس البشري منذ تكوينه وما حدث له من تطور بعد ذلك من اختلاف في آراء الناس ومعتقداتهم وقولهم لماذا لم يختص الله رسوله محمدًا بشيء من خوارق العادات التي أجراها على يد أنبيائه السابقين أخذ يضرب مثلًا آخر من مبلغ كفر الناس عمومًا ينعم الله وعدم تقديرهم لها بما تستحقه من التقدير وأنهم لا يعرفون الله إلا في حال الشدة فقط بل لا يذعنون له تعالى بالقدرة على النفع إلا عندما تقطع كافة الأسباب وتسد أمامهم الأبواب فقال: ﴿وإذا أذقنا الناس رحمةً﴾ من عندنا وبمحض كرمنا ومن دون طلب منا كما هو شأننا وسننا في الخلق أجمعين: ﴿من بعد ضراء مستهم﴾ كأن يكونوا في قحط وجدب فينزل الله عليهم مطرًا من السماء وينبت لهم العشب ويشبع الأنعام فينعموا ويسعدوا أو إذا هو غير لهم نوع معيشتهم بأحسن مما كانوا عليه فاغتنوا بعد أن كانوا معدمين: ﴿إذا لهم مكرٌ في آياتنا﴾ أي إذا هم يدبرون تدبيرًا خفيًا يراد به إنكار نعمتنا عليهم، وذلك بأن يتلمسوا لتلك
بحذف الياء وقرئ بإثباتها أي في الوقت الذي يحل فيه ذلك اليوم المعين: ﴿لا تكلم نفس﴾ من الأنفس الناطقة: ﴿إلا بإذنه﴾ أي لا يملك أحد فيه حق الكلام إلا أن يسمح الله تعالى له بالكلام حيث المقام مقام مستندات تقدم وتعرض وتنطق بإدانة من يستحق الإدانة وبراءة من يستحق البراءة كما قال تعالى: ﴿اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون﴾.
﴿فمنهم شقي وسعيد﴾ أي فمن الأنفس المكلفة التي تجمع فيه شقي يستحق العذاب بحسب ما يعرض من أعماله السيئة ومنهم سعيد لم يرتكب شيئًا من السيئات كثير المكلف من المجنون والأطفال أو من عمل من الصالحات ما يستحق عليها حسن الثواب: ﴿فأما الذين شقوا﴾ في الدنيا بالكفر وسيئ العمل: ﴿ففي النار﴾ مستقرهم ومثواهم: ﴿لهم فيها زفير وشهيق﴾ وهما صوتان يخرجان من الصدر عند شدة الكرب والحزن لما يجدونه من ضيق أنفاسهم وحرج صدورهم: ﴿خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض﴾ السماء كل ما علا والأرض كل ما سفل أي ما دام لهم أرض تقلهم وسماء تظلهم، وهذا بمعنى لا يبرحونها أو هو الخلد الذي صرح به الله في عدة آيات بقوله: ﴿خالدين فيها أبدًا﴾ لا كما يتصور بعضهم من أن المراد مدة مكثهم في الدنيا، فتلك مدة قصيرة لا تتفق مع معنى الخلود: ﴿إلا ما شاء ربك﴾ أي إلا المدة التي قضت مشيئة الله الأزلية أن تقتطع من عذاب من يشملهم الله برحمته فيخرجهم منها برحمته وكرمه، ولعلهم الذين ورد في الحديث أنهم آخر من يخرج من النار ويقال عنهم عتقاء الله الذين يدخلون الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه: ﴿إن ربك فعال لما يريد﴾ أي أنه تعالى إذا أراد أن يرحم الكفار وينهي مدة عذابهم رحمة منه أو إذا أراد أن يطفئ النار ويغلق أبواب جهنم فليس هناك ما يحول دون ذلك فهذا من الأفعال المتعلقة بمحض الإرادة والتي لم يقيد الله ذاته العلية في أمرها بشيء: ﴿وأما الذين سعدوا﴾ في الدنيا بأن كانوا من عداد الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ﴿ففي الجنة﴾ يدخلونها بما كانوا يعملون: ﴿خالدين فيها﴾ طبقًا لسابق وعد الله لهم: ﴿ما دامت السماوات والأرض﴾ أي ما دام لهم سماء تظلهم وأرض تقلهم وهي بلا شك غير سماء الدنيا وأرضها لقوله تعالى: ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات﴾.
العمل بالقرآن: ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ منقادين لأهوائهم مهددين بنقم الله: ﴿تصيبهم﴾ دائمًا: ﴿بما صنعوا﴾ أي بسبب سوء أعمالهم: ﴿قارعة﴾ أي داهية من مختلف المصائب التي تقرعهم في نفوسهم وأولادهم وأموالهم: ﴿أو تحل قريبًا من دارهم﴾ فيفزعون منها وبتطاير شررها إليهم: ﴿حتى يأتي وعد الله﴾ أي إلى أن ينجز لك الله ما وعدك به من النصر والفتح ودخول الناس أفواجًا فيه فيؤمن منهم من يؤمن ويقتل من يقتل: ﴿إن الله لا يخلف الميعاد﴾ بتعذيب من يستحق العذاب ولكنه يدرؤه بالعفو عمن رجع إليه وأناب، ورحمة من كتب على نفسه رحمتهم في أم الكتاب.: ﴿ولقد استهزئ برسل من قبلك﴾ عند دعوتهم بمثل دعوتك كما يستهزئ بك قومك اليوم: ﴿فأمليت للذين كفروا﴾ مع استهزائهم أي أمهلتهم كما يملي للبهيمة في المرعى فلم أنزل بهم العذاب بل تركتهم في أمان ودعة مدة من الزمن: ﴿ثم أخذتهم﴾ أي أنزلت بهم عذابي: ﴿فكيف كان عقاب﴾ أي تأمل أيها الرسول كيف اقتضت سنتي في العقاب أن يأتي متأخرًا بعد أن يتمادى القوم في الغي والضلال وأن يكون ذا أثر ظاهر ليعتبر به الناس: ﴿أفمن هو قائم﴾ أي رقيب ومهيمن: ﴿على كل نفس﴾ يجزيها: ﴿بما كسبت﴾ أي يحسب ما تعمل وفق مشيئة سابقة وسنن مضطردة يمكن أن يخلف نظامه وينزل عقابه على المستهزئين بك وهو سبحانه لم يعاجل بعذابه الذين كفروا به وبآبائه من قبل: ﴿وجعلوا له شركاء﴾ فلم يبطش بهم بل أرسل الرسل لهدايتهم وأمرك أن تتلو عليهم ما أنزل عليك من ربهم وأن تدعوهم إلى التوحيد وتناقشهم في عقائدهم الفاسدة وما جعلوه لله شركاء بالحكمة والموعظة الحسنة ولذلك: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿سموهم﴾ أي إن كانوا شركاء لله حقًّا كما تزعمون فاحصروهم لي بأسمائهم وما لهم من الصفات والمميزات التي تثبت شراكتهم لله واستحقاقهم للعبادة معه جل وعلا: ﴿أم﴾ إنكم لا تستطيعون تسميتهم وحصرهم فكأنكم بهذا: ﴿تنبئونه﴾ أي تخبرون الله: ﴿بما لا يعلم في الأرض﴾ أي بوجود شركاء له في الأرض يستحقون العبادة معه وهو سبحانه لا علم له بوجودهم وهذا باطل لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء: ﴿أم بظاهر من القول﴾ أي أنكم لا تجزمون بشراكتهم لله وإنما تظنون أنها تنفع وتضر ولذلك تتخذونها مع الله شركاء وهذا كما قال تعالى: ﴿إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾: ﴿بل﴾ إن واقع الأمر هو
العسل منه ما هو أبيض ومنه أصفر ومنه أحمر: ﴿فيه شفاء للناس﴾ من كثير من الأمراض ولذا نرى الطب اليوناني يستعمله في أغلب المعاجين وقد أثبت الطب الحديث نفعه في بعض الأمراض المستعصية كمرض «السكر».
﴿إن في ذلك﴾ أي ما ذكر من قيام النحل ببناء تلك البيوت المسدسة واهتدائها إلى الطيبات وعودتها إلى تلك البيوت لإخراج العسل في بطونها لمصلحة الإنسان: ﴿لآية﴾ قائمة للدلالة على وجود الله الذي ألهمها كل ذلك وجعلها مفطورة عليه: ﴿لقوم يتفكرون﴾ أي لأصحاب الآراء النيرة التي تبحث في حقائق الأمور فيتجلى لها مبلغ قدرة الله الذي ألهم هذا الحيوان الأعجم أن يقوم بمثل تلك الأعمال الدقيقة المشتملة على حسن الصنعة وانتظام السير وأداء مهمتها على أحسن حال لا يقدر عليه الإنسان إلا بعد علم ودراسة وجهد جهيد وقد توصل العلم إلى معرفة كثير من أحوال النحل وشؤونه الخاصة التي تدل على أنها جماعات كبيرة وتسكن كل جماعة منه في خلية خاصة تعيش فيه عيشة تعاونية وفق نظام دقيق وأنه يتألف من ثلاث فصائل ولكل فصيلة عمل خاص يقوم به، الفصيلة الأولى فصيلة الملكات وتسمى اليعاسيب وهي أكبرهم جثة وأمرها نافذ في الجميع وهي أم النحل ومهمتها أن تضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها، والفصيلة الثانية فصيلة الذكور ومهمتها تلقيح الملكات وليس لها عمل آخر، والفصيلة الثالثة تسمى الشغالات أو العاملات وهذه تعد بالألوف وهي التي تنطلق في المزارع لتأكل من رحيق الأزهار وتجمعه في كيس في بطنها فيتحول إلى عسل ثم تعود إلى الخلية فتفرز صفحات رقيقة صلبة من الشمع من بين حلقات بطنها ثم تمضغه بفيها حتى يلين فتبني منه بيوتًا ثم تخرج من فمها ما جاءت به من العسل وتخزنه فيها وكلما امتلأ بيت غطاه النحل بطبقة من الشمع حتى يأتي الإنسان فيستخرجه ويصفيه من الشمع ويستفيد به وبالشمع معًا.
بعد أن عدد الله دلائل ألوهيته فيما خلقه لمصلحة الإنسان من أمور غريبة تشهد بوجود الله ووحدانيته أخذ يسرد للناس ما اقتضته سنته الكونية في حياتهم من أحوال تشهد بعظيم قدرته تعالى وسلطانه على كافة شؤونهم ليؤمنوا بسلطانه عليهم وليحكموا صلتهم به وينالوا عن طريقه السعادة في الدنيا والآخرة فقال: ﴿والله﴾ الذي يجب أن تعبدوه هو الذي: ﴿خلقكم﴾ أي اقتضت مشيئته أن تخلقوا من تراب ثم من نطفة فصوركم في بطون أمهاتكم كيف يشاء وقدر
المعجزات على يدي ومتى يكون ذلك أما أنا فلا علم لي بشيء إلا ما أوحاه الله إليّ: ﴿فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ لما يأمر به الله في هذا الشأن، وقد اقترح المشركون عليه أن يأتي لهم بشيء من ذلك: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن برقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا﴾. ثم أشار الله إلى العلة التي لم يجعل الله من أجلها معجزة رسوله مشابهة لمعجزات من سبقه من الرسل بقوله: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون﴾ أي أنه تعالى لو أنزل على رسوله مثل تلك المعجزات ورفضوها ولم يؤمنوا بها كما صرحوا بذلك في هذه الآية لأصابهم عذاب الاستئصال كما مضت به سنن الله في قوم عاد وثمود، أما ما ينسب إلى رسولنا ﷺ من خوارق العادات التي أجراها الله على يده فإنها لا تعد معجزات بل هي من باب الكرامات التي أكرم الله بها رسوله كما قد يكرم بأمثالها عباده الصالحين لأن معجزة الأنبياء هي التي يثبتون بها رسالتهم عن الله ويتحدون الناس بالإتيان بمثلها والرسول ﷺ لم يتحد الناس بشيء غير القرآن فهو معجزة الله الخالدة التي خص بها نبينا صلى الله عليه وسلم.
بعد أن تكلم الله عما كان عليه الجنس البشري منذ تكوينه وما حدث له من تطور بعد ذلك من اختلاف في آراء الناس ومعتقداتهم وقولهم لماذا لم يختص الله رسوله محمدًا بشيء من خوارق العادات التي أجراها على يد أنبيائه السابقين أخذ يضرب مثلًا آخر من مبلغ كفر الناس عمومًا ينعم الله وعدم تقديرهم لها بما تستحقه من التقدير وأنهم لا يعرفون الله إلا في حال الشدة فقط بل لا يذعنون له تعالى بالقدرة على النفع إلا عندما تقطع كافة الأسباب وتسد أمامهم الأبواب فقال: ﴿وإذا أذقنا الناس رحمةً﴾ من عندنا وبمحض كرمنا ومن دون طلب منا كما هو شأننا وسننا في الخلق أجمعين: ﴿من بعد ضراء مستهم﴾ كأن يكونوا في قحط وجدب فينزل الله عليهم مطرًا من السماء وينبت لهم العشب ويشبع الأنعام فينعموا ويسعدوا أو إذا هو غير لهم نوع معيشتهم بأحسن مما كانوا عليه فاغتنوا بعد أن كانوا معدمين: ﴿إذا لهم مكرٌ في آياتنا﴾ أي إذا هم يدبرون تدبيرًا خفيًا يراد به إنكار نعمتنا عليهم، وذلك بأن يتلمسوا لتلك
ساعة ولا يستقدمون} ولذلك لم يجزم به حيث قال رب لو لا أخرتني: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي أنه تعالى يعلم أن الإنسان لو رد إلى الدنيا لم يتصدق ولم يعمل صالحًا بل يكون كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ولو ردوا لعادوا لما نُهوا عنه﴾ وفقنا الله لصالح الأعمال وتقبلها بفضله وكرمه.
سورة التغابن
مدنية وعدد آياتها ثماني عشرة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
وقال الفخر الرازي ليس المراد من هذه الآية أن لا يطلع الله أحدًا على شيء من المغيبات إلا الرسل بل المراد أنه تعالى لا يطلع على وقت وقوع القيامة أحدًا غير الرسل لأن الآية جاءت إثر قوله: ﴿وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون﴾ وأيد رأيه بما ثبت أن الله قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب كأقوال بعض الكهنة قبل عهد النبي وبعده وأقوال معبري الرؤيا وأصحاب الإلهامات الصادقة، وإن السحرة والمنجمين قد تطابق أقوالهم الواقع وإن كانوا يكذبون في كثير منها وإذا كان ذلك مشاهدًا ومحسوسًا فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن وذلك باطل، وعندي أن الآية صريحة في أن المراد هو إثبات علم الله بجميع المغيبات من كل ما وراء هذه المرئيات المحسوسة من مخلوقات حيوانية وقوى روحية وسنن طبيعية وأسرار ذرية وغير ذلك من العلوم الأخرى وليس في هذا ما يمنع أن يمنح الله أحدًا من خلقه مؤمنًا كان أو مشركًا شيئًا من العلم ببعض هذه المغيبات عن طريق البحث والاكتشاف كما حصل فعلًا مما هو مشاهد وغير منكور، يدل على هذا أنه تعالى لم ينف إظهار أحد من عباده على مطلق الغيب بل قال على غيبه أي ما اختص سبحانه ذاته العلية بعلمه في الأزل من المغيبات التي فصلها في سورة لقمان بقوله: ﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير﴾ فهذه المغيبات الخمسة التي اختص الله بها ذاته لا يظهرها جل وعلا إلا لمن ارتضى من رسول، ومن أجل هذا قال الله في آخر الآية السابقة: ﴿أم يجعل له ربي أمدًا﴾ وقد كان وحده الله الأمد وأظهره لرسوله الذي ارتضاه بما أخبر به عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة المتعددة المرتبة بعد أن كانت مجهولة على الناس وكانوا يتوقعونها في كل لحظة لقوله تعالى في صدر الآية: ﴿قل إن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون» وقال تعالى في سورة الأعراف: {لا تأتيكم إلا بغتة﴾.
﴿فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا﴾ أي أنه تعالى إذ يظهر رسوله على شيء من المغيبات الخاصة به يحوطه بسياج من الملائكة التي تحول دون تسرب ذلك السر إلى أحد سواه: ﴿ليعلم﴾ أي الرسول وقرئ: ﴿ليعلم﴾ على البناء للمجهول: ﴿أن قد أبلغوا رسالات ربهم﴾ أي أن أولئك الذين نقلوا إليه شيئًا من المغيبات الخمسة عن الله تعالى قد أدوا الرسالة وكانوا «أمينين» عليها: ﴿وأحاط بما لديهم﴾ أي أن الرسول قد علم بما لديهم من تلك الأخبار: ﴿وأحصى كل شيء﴾ نقلوه
﴿رَاضِيَةً﴾ يما ينعم به عليك الله: ﴿مَّرْضِيَّةً﴾ عن حسن ظنك وعظيم ثقتك وخالص عملك: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ أي انضمي إلى عبادي المعترفين بعبوديتهم لي والمؤمنين بربوبيتي عليهم: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ التي وعدهم بها فإني لا أخلف وعدي ولا أضن عليهم بما عندي من نعيم مقيم جعلنا الله منهم بمنه وكرمه آمين.
سورة البلد
مكية وعدد آياتها عشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾.
بعد أن وضح الله في السورة السابقة سننه في خلقه ونظامه الاجتماعي للحياة الدنيا وختمها بالأخبار بما سيناله الإنسان المكذوب يوم القيامة من الحسرة والندامة والعذاب الأليم وما تناله النفس المؤمنة المطمئنة من الانضواء تحت لواء رحمة الله ودخول الجنة أخذ سبحانه في هذه السورة يحارب الغرور في قلوب الناس الذي هو سر شقاء العالم ويرشدهم إلى ما ينفعهم في حياتهم الأخرى فقال: ﴿لا أُقْسِمُ﴾ أي لست في حاجة لأن أقسم: ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ وهو مكة المكرمة لأن السورة نزلت فيها: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ أي المقدس بحلولك فيه: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ أي ولا أقسم- بكل والد وما أنجب من ولد أي بالسلالة البشرية وكلاهما قسم عظيم – على صحة ما أقول لأنه أمر يحس به كل إنسان في نفسه ولا يستطيع أن يكابر فيه كما لا يستطيع أن ينكر وجوده فلا حاجة للقسم عليه وإنما قال هذا ليلفت النظر إلى الحقيقة التي سيقررها بقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ تعب ومشقة فهو في عمل متواصل منذ حداثة سنه في طلب العلم ومختلف


الصفحة التالية
Icon